الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

أولا مشيا في كلامه على اثر الشيخ (قدس‌سره) في فرض المسألة والشيخ قد اقتفى أثر العامة في الفرض المذكور.

إذا عرفت هذا فاعلم ان ابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه قد اختارا ما ذهب اليه الشيخ في المبسوط من عدم الجواز ، واحتج له في المختلف بأنه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت النجاسة على ثوبه وبدنه ، وبان إيجاب تطهير الثوب والبدن لأجل الصلاة ووجوب تحريز المساجد التي هي مواطن الصلاة عن النجاسة يناسب البطلان هنا ، وبان الاحتياط يقتضي ذلك.

وأنت خبير بما في هذه الوجوه من التعسف : اما الأول فمع كونه مصادرة على المطلوب قد عرفت جوابه من كلام المحقق. واما استشهاده بوجوب التحرز من إدخال النجاسة إلى المساجد فهو مبني على رأيه من عدم جواز إدخال النجاسة إلى المساجد مع عدم التعدي وقد تقدم ما فيه. واما الاحتياط فهو ليس بدليل شرعي عنده.

وقال في المدارك بعد رد كلامه بنحو ما ذكرناه : ونحن نطالبه بالدليل على ان حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن ، وعلى ما ذكرناه فلا حاجة الى سد رأس القارورة بل يكفي الأمن من التعدي كما نبه عليه في الذكرى ، ثم نقل عبارته المتقدمة أقول : في كلام هؤلاء الاعلام في هذا المقام تأييد لما قدمناه من صحة الصلاة في المحمول مما لا يجوز الصلاة فيه ملبوسا كالنجاسة في الثوب والحرير والذهب ونحو ذلك.

(الرابع) ـ ذكر الشيخ في النهاية بعد نفي البأس عن الصلاة فيما إصابة نجاسة مما لا تتم الصلاة فيه ان ازالة النجاسة عنه أفضل ، وبنحو ذلك صرح السيد أبو المكارم ابن زهرة ، وقال المفيد في المقنعة : لا بأس بالصلاة في الخف وان كانت فيه نجاسة وكذلك النعل والتنزه عن ذلك أفضل. ولم أقف على من صرح بذلك غير هؤلاء (رضوان الله عليهم) والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك انما يدل على ما ذهب اليه الشيخ المفيد ، وهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق

٣٤١

(عليه‌السلام) (١) قال : «إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإنه يقال ذلك من السنة». وعن عبد الله بن المغيرة في الحسن (٢) قال : «إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإن ذلك من السنة». وربما كان التفات الشيخ وابن زهرة إلى الخبرين المذكورين وانه متى ثبت ذلك في النعل فغيره بطريق اولى وإلا فلم أقف على ما يدل على ما ذكراه من العموم.

(الخامس) ـ ذكر جماعة من الأصحاب انه إذا جبر عظمه بعظم نجس كعظم الكلب والخنزير والكافر وجب قلعه ما لم يخف التلف أو المشقة وادعى في الدروس عليه الإجماع ، واحتمل في الذكرى عدم الوجوب إذا اكتسى اللحم لا لتحاقه بالباطن واستوجهه في المدارك ، وجزم الشيخ في المبسوط ببطلان الصلاة لو أحل بالقلع مع الإمكان لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها ، واستشكله في المدارك بخروجها عن حد الظاهر ولأنها نجاسة متصلة كاتصال دمه فتكون معفوا عنها.

أقول : الظاهر هو ما صرح به الأكثر من وجوب القلع مع الإمكان وعدم المشقة ، وما اختاره في المدارك وفاقا لما في الذكرى ـ من التحاقه بالباطن وكذا ما ذكره في رد كلام الشيخ من خروجه عن الظاهر وانها نجاسة متصلة كاتصال دمه ـ لا يخفى ما فيه وان تبعه عليه صاحب الذخيرة ، فإن غاية ما يستفاد من الأدلة هو عدم تعلق التكليف بما في باطن البدن من النجاسات الخلقية كدمه الذي تحت جلده والغائط في البطن ونحو ذلك ما لم يظهر الى فضاء البدن لما في التكليف بذلك من العسر والحرج وتكليف ما لا يطاق ، وحمل ما ذكروه على ذلك قياس مع الفارق من حيث تعذر الإزالة في الأول وإمكانها في الثاني كما هو المفروض في كلام الأصحاب لأنهم إنما يوجبون الإزالة مع الإمكان وعدم المشقة ، وبالجملة فمجرد الصيرورة في الباطن كيف اتفق لا دليل على إسقاطه وجوب الإزالة. ويؤيده ما صرحوا به في غير موضع من ان

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب لباس المصلى.

٣٤٢

الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة ومثل هذه الفروض النادرة الشاذة لا تدخل تحت إطلاق البواطن التي رتب عليها العفو عن الإزالة إذ المتبادر منها ما كان من أصل الجسد واجزائه الخلقية.

ومثل ما ذكرناه يأتي أيضا في المسألة الآتية ان شاء الله تعالى من إدخال الدم النجس تحت جلده فإن الأظهر فيها ايضا وجوب الإزالة مع عدم الضرر ، ومما يؤكد ما ذكرناه ويؤيد ما أردناه أنه الأحوط في الدين والموجب للبراءة بيقين.

(فان قيل) ان الاحتياط ليس بدليل شرعي (قلنا) هذا الكلام على إطلاقه ممنوع وان زعموا صحته بناء على العمل بالبراءة الأصلية إلا ان المستفاد من الاخبار خلافه وهو ان الاحتياط في موضع اشتباه الحكم واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب ، ولا ريب ان المسألة عارية عن النصوص بالعموم والخصوص والحكم فيها لذلك محل اشتباه والحكم عندنا في الشبهات كما تقدم تحقيقه هو الوقوف فيها عن الفتوى والعمل بالاحتياط. والله العالم.

(السادس) ـ قال العلامة في التذكرة : لو ادخل دما نجسا تحت جلده وجب عليه إخراجه مع عدم الضرر واعادة كل صلاة صلاها مع ذلك الدم. قال في المدارك : ويشكل بخروجه عن حد الظاهر وبصيرورته كجزء من دمه واولى بالعفو ما لو احتقن دمه بنفسه تحت الجلد قال في الذخيرة بعد ذكره هذا الاستشكال : وبالجملة لقدر الثابت وجوب تطهير ظواهر البدن واما البواطن فليس في الأدلة ما يقتضي وجوب تطهيرها بل فيها ما يدل على العفو عنها فيكون أصالة البراءة على حاله ، وإطلاق الصلاة غير مقيد بشرط لا يدل عليه الدليل فيحصل الامتثال ، فظهر ضعف القول بوجوب إعادة الصلاة. انتهى.

أقول : فيه زيادة على ما عرفت في سابقه ان الأدلة الدالة على نجاسة البدن بما لاقاه من الدم والمني ونحوهما من النجاسات لا تخصيص فيها بباطن ولا ظاهر وان كان الغالب انما يقع بالظاهر خاصة والمتبادر كما عرفت من الباطن انما هو بالنسبة الى ما كان

٣٤٣

من أصل الجسد وخلقته لا الى ما يطرح فيه من غيره ، وكيف كان فالمسألة لما كانت عارية عن النصوص فهي داخلة تحت الشبهات التي يجب فيها الاحتياط كما سلف تحقيقه في مقدمات الكتاب.

بقي هنا شي‌ء وهو ان الدم لو خرج من الجسد لكن لم يبرز الى فضاء البدن بل احتقن تحت الجلد فالظاهر العفو عنه لان الخطاب بوجوب غسله مرتب على خروجه على الجلد ، ونقل عن الشهيد في البيان انه جزم بوجوب إخراجه وجعل حكمه حكم الدم الذي هو محل البحث وهو غير جيد ، إلا ان عندي في حمل عبارته على ما ذكروه نوع تأمل بل الظاهر انه انما أراد احتقان دم أجنبي تحت جلده وقد صرح بذلك في الدروس ايضا ، وعبارته في الدروس أظهر فيما قلناه فإنه قال في البيان : ولو شرب نجسا فالأقوى وجوب استفراغه إن أمكن ، وكذا لو احتقن في جلده دم أو جبر عظمه بعظم نجس أو خاط جرحه بخيط نجس ، ولو خيف الضرر سقط. وقال في الدروس : ولو شرب خمرا أو منجسا أو أكل ميتة أو احتقن تحت جلده دم نجس احتمل وجوب الإزالة مع إمكانها ولو عللت القارورة بأنها من باب العفو احتمل ضعيفا اطراده هنا ولأنه التحق بالباطن. انتهى. ولا يخفى ان تقييده الدم في هذه العبارة بالنجس ظاهر في كونه غير دم البدن ، والظاهر ان عبارته في البيان ايضا من هذا القبيل وان حصل الاشتباه فيها من ترك هذا القيد ، ويؤيده انه لم يتعرض لذكر دم الغير تحت جلده كما هو الدائر في كلام الأصحاب في هذا المقام.

(السابع) ـ قال العلامة في المنتهى : لو شرب خمرا أو أكل ميتة ففي وجوب قيئه نظر الأقرب الوجوب لان شربه محرم فاستدامته كذلك. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو أحوط وان كان في تعينه نظر ، وقال : ولو أخل بذلك لم تبطل صلاته وربما قيل بالبطلان كما في القارورة المشتملة على النجاسة وهو ضعيف. انتهى.

أقول : يمكن الاستدلال هنا على وجوب القي‌ء بما رواه في الكافي في الموثق

٣٤٤

عن عبد الحميد بن سعيد (١) قال : «بعث أبو الحسن (عليه‌السلام) غلاما يشتري له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بهما فلما اتى به اكله فقال مولى له ان فيه من القمار قال فدعا بطشت فتقيأ فقاءه». بقي الكلام في بطلان الصلاة لو أخل بقيئه وعدمه والأظهر الثاني لعدم الدليل عليه.

(المسألة الخامسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف العفو عن نجاسة ثوب المربية للصبي ذات الثوب الواحد إذا غسلته في اليوم مرة ، واستدل الفاضلان في المعتبر والمنتهى على ذلك بما رواه الشيخ عن ابي حفص عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص ولها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال تغسل القميص في اليوم مرة». وان تكرار بول الصبي يمنع التمكن من إزالته فجرى مجرى دم القرح الذي لا يمنع من استصحاب الثوب في الصلاة ، قال المحقق فكما يجب اتباع الرواية هناك دفعا للحرج فكذا هنا لتحقق الحرج في الإزالة. وقال في المعالم بعد نقل ذلك : وهذه الحجة بينة الوهن فإن الرواية ضعيفة السند فلا تصلح لتأسيس حكم شرعي ، واعتبار الحرج يقتضي إناطة الحكم بما يندفع معه لا بالزمان المعين والإلحاق بدم القرح قياس ، ووجوب اتباع الرواية هناك ليس باعتبار الحرج وانما هو لصلاحيتها لإثبات الحكم وجهة الحرج مؤيدة لها ، وحيث ان الصلاحية هنا منتفية فلا معنى لكون وجوب الاتباع هناك موجبا لوجوبه هنا. انتهى. وهو جيد وجيه بالنسبة إلى تعليل المحقق المذكور بعد الرواية فإن الأولى يجعله وجها للنص لا علة مستقلة لما ذكره في المعالم. واما رد النص فهو مبني على تصلب هذا القائل في هذا الاصطلاح ومثله صاحب المدارك حيث قال بعد الطعن في سند الرواية : والاولى وجوب الإزالة مع الإمكان وسقوطها مع المشقة الشديدة دفعا للحرج. والعجب منهما

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٤ من أبواب النجاسات.

٣٤٥

(قدس‌سرهما) انهما في غير موضع قد وافقا الأصحاب في العمل بالخبر الضعيف متى كان اتفاق الأصحاب على العمل به ويتعللان بان المعتمد انما هو على اتفاق الأصحاب ، والحكم هنا كذلك فإنه لا مخالف فيه ولا راد له ، وكيف كان فالأظهر ما عليه الأصحاب من قبول الخبر المذكور والعمل بما دل عليه.

نعم يبقى الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ ظاهر الخبر المذكور شمول الحكم للصبي والصبية حيث عبر فيه بلفظ المولود الشامل لهما ، وبذلك ايضا صرح جملة من الأصحاب ، ونقله في المعالم عن الشهيدين وأكثر المتأخرين. أقول : وبه جزم في المدارك وهو الظاهر ، والذي صرح به المحقق في المعتبر والشرائع والنافع هو الصبي خاصة وكذا العلامة في المنتهى والإرشاد والشهيد في البيان ، وفي الدروس بعد ذكر الصبي ذكر الصبية إلحاقا كما ذكر المربي إلحاقا بالمربية ، نعم ظاهر كلامه في الذكرى العموم من حيث التعبير بلفظ المولود الوارد في النص ، ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب انه قال المتبادر من المولود هو الصبي ، ثم قال ولا يخلو من قرب. وكلام العلامة في النهاية مشعر بذلك ايضا حيث قال بعد ذكر الرواية : ان الحكم مخصوص بالذكر اقتصارا في الرخصة على المنصوص ، وللفرق فان بول الصبي كالماء وبول الصبية اصفر ثخين وطبعها أحر فبولها ألصق بالمحل. انتهى.

(الثاني) ـ مورد النص المذكور البول فلا يتعدى الى غيره اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النص ، وهو اختيار الشهيد الثاني في الروض وسبطه السيد السند في المدارك وابنه المحقق في المعالم ، واستشكل ذلك العلامة في النهاية والتذكرة ، والظاهر من كلام شيخنا الشهيد عدم الفرق وقربه بأنه ربما كني عن الغائط بالبول كما هو قاعدة لسان العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به. وفيه ان مجرد هذا الاحتمال لا يكفي في إخراج اللفظ عن معناه المتبادر منه وإثبات التسوية بينه وبين الغائط ، والتجربة شاهدة بعسر التحرز من اصابة البول لتكرره فإلحاق الغائط به بعيد.

٣٤٦

وأبعد منه غيره من النجاسات كالدم كما يفهم من إطلاق بعض العبارات.

(الثالث) ـ مورد الرواية المذكورة المربية والحق بعض الأصحاب بها المربي أيضا للاشتراك في العلة وهو وجود المشقة فيهما ، وأنكره آخرون وقوفا على مورد النص والتعليل المذكور في كلامهم ليس منصوصا وانما هو علة مستنبطة وعلى هذا يكون الإلحاق قياسا ، وهذا هو الأظهر ، وبالأول صرح العلامة في التذكرة والنهاية وتبعه الشهيد في كتبه الثلاثة ، وبالثاني جزم في المدارك وهو الذي عليه اقتصر المحقق في كتبه.

(الرابع) ـ الحق بعض الأصحاب بالمولود الواحد المتعدد للاشتراك في العلة وهي المشقة وزيادة فلا معنى لزواله. وفيه انه يمكن ان يكون التعدد لكونه مقتضيا لكثرة النجاسة وقوتها فمن الجائز اختصاص العفو بالقليل الضعيف منها دون الكثير القوى فلا وجه للإلحاق المذكور ، وبالأول جزم الشهيد في الذكرى والدروس ، ونقله في المعالم عن والده أيضا في بعض كتبه ثم قال وله وجه. أقول : ما نقله عن والده من إلحاق المتعدد قد صرح به في المسالك واما في الروض فظاهره التوقف للوجهين المذكورين.

(الخامس) ـ لو كان لها أكثر من ثوب واحد فان احتاجت الى لبس الجميع لبرد ونحوه فالظاهر كما صرح به في الروض ان الجميع في حكم الثوب الواحد وإلا فلا تلحقها الرخصة لزوال المشقة بإبدال الثياب ووقوفا مع ظاهر النص ، ولو أمكن ذات الثوب الواحد تحصيل غيره بشراء أو استئجار أو استعارة ففي وجوب ذلك عليها تردد ينشأ من إطلاق النص المتقدم فان ظاهره ان الحكم فيها مع وحدة الثوب ما ذكر وان أمكنها ذلك ، ومن انتفاء المشقة بتكرير الغسل. وظاهر الروض التوقف في ذلك ، ونقل في المعالم عن جماعة من المتأخرين أنهم استقربوا الثاني وكتب في الحاشية في تفسير الجماعة المشار إليهم : السيد حسن بن جعفر وشيخنا السيد علي ابن الصائغ ، ثم قال هو (قدس‌سره) وكأن الأول أقرب. وهو جيد وقوفا على ظاهر النص ونظرا الى ان هذه العلة التي يكررون الإشارة إليها ليست منصوصة كما قدمنا ذكره بل هي مستنبطة.

٣٤٧

(السادس) ـ قد صرح جماعة من الأصحاب بأن الحكم المذكور مختص بالثوب اما البدن فيجب غسله مع المكنة لعدم النص والمشقة الحاصلة في الثوب الواحد بسبب توقف لبسه على يبسه. قال في المعالم وربما صار بعض من تأخر إلى تعدية الرخصة إليه نظرا الى عسر الاحتراز عن الثوب النجس ومشقة غسل البدن في كل وقت. ثم قال وليس بشي‌ء وكتب في الحاشية في بيان ذلك البعض : السيد حسن. أقول : وهذا السيد أحد مشايخ شيخنا الشهيد الثاني وله (قدس‌سره) أقوال غريبة مثل قوله في هذه المسألة وقوله في تطهير المطر ولو بالقطرة الواحدة ونحو ذلك.

(السابع) ـ قد دل الخبر المذكور على تعين الغسل مع انه كما سيأتي ان شاء الله تعالى قريبا ان الحكم في بول الصبي الذي لم ينفطم انما هو الصب والمغايرة بينهما ظاهرة ، وبه يظهر المنافاة بين الحكمين مع اتفاق الأصحاب على كل منهما وبه يعظم الاشكال ، قال العلامة في النهاية : الأقرب وجوب عين الغسل فلا يكفي الصب مرة واحدة وان كفى في بوله قبل ان يطعم الطعام عند كل نجاسة. ومرجعه الى وجه جمع بين الأمرين بأن يقال ان الاكتفاء بالصب في بول الرضيع على ما سيأتي انما هو مع تكرير الإزالة كلما حصل منه البول بحسب الحاجة الى الدخول في العبادة واما مع الاقتصار على المرة في اليوم في هذه الصورة فلا بد من الغسل عملا بالخبر. ومرجعه الى تخصيص تلك الأخبار الدالة على الصب بهذا الخبر في هذه المادة المخصوصة وهي اتحاد الثوب ، ويؤيده الاعتبار وان كان العمل انما هو على النص من حيث ان تكرر حصول النجاسة من دون تخلل الإزالة بينهما يقتضي قوتها وتزايدها فيجوز اختلاف الحكم مع تحقق هذا المعنى وبدونه.

(الثامن) ـ قد ذكر كثير من الأصحاب ان المراد باليوم في الخبر ما يشمل الليل ايضا اما لإطلاقه لغة على ما يشمل الليل أو لإلحاق الليل به. والحكم موضع توقف لاحتمال ما ذكروه واحتمال اختصاص اليوم بالنهار خاصة والخروج عنه يحتاج الى دليل.

٣٤٨

(التاسع) ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأن الأفضل ان تجعل غسل الثوب آخر النهار لتوقع الصلوات الأربع على طهارة ، ولا بأس به ، والعلامة في التذكرة بعد ان ذكر أفضلية التأخير لذلك قال : وفي وجوبه إشكال ينشأ من الإطلاق ومن أولوية طهارات اربع على طهارة واحدة. وفي دلالة هذا التوجيه على الوجوب تأمل ، والأظهر الاستحباب. وهل يجب إيقاع الصلاة عقيب غسل الثوب والتمكن من لبسه متى اقتضت العادة نجاسته بالتأخير؟ فيه توقف. قيل ولو أخلت بالغسل فالظاهر وجوب قضاء آخر الصلوات لجواز تأخير الغسل الى وقته. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ الظاهر انه لا اشكال ولا خلاف في العفو عما يتعذر إزالته من النجاسة التي في البدن من اي نوع كانت ، وكأنه لما علم من اباحة الضرورات المحظورات لم يتعرض الأصحاب هنا للاستدلال على ذلك. ويمكن ان يستدل على ذلك بالأخبار الواردة في السلس والمبطون وقد تقدمت في المسائل الملحقة بالوضوء فإنها صريحة في الصلاة بالنجاسة لمكان الضرورة ، وفي حسنة منصور (١) «إذا لم يقدر على حبسه فالله تعالى اولى بالعذر». وفي موثقة سماعة (٢) «فليتوضأ وليصل فإنما ذلك بلاء ابتلى به». ونحو ذلك. وأيد ذلك بعضهم بأن الأدلة الدالة على شرطية الطهارة من الخبث في الصلاة غير متناولة لحال الضرورة فيبقى عموم الأوامر سالما عن معارضة ما يقتضي الاشتراط والتخصيص. وهو جيد.

وانما الخلاف في نجاسة الثوب فذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ وابن البراج وابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه وغيرهم ـ والظاهر انه المشهور كما في المدارك ـ الى عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا إلا ان يضطر الى لبسه فيجوز للضرورة ويصير مناط العفو انما هو الضرورة. وانفرد الشيخ من بينهم بإيجاب إعادة الصلاة فيه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٩ من نواقض الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٧ من نواقض الوضوء.

٣٤٩

حال الضرورة ، وذهب الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيدان وجماعة من المتأخرين الى ان العفو ثابت اضطر الى لبسه أم لم يضطر وان المصلي مخير بين الصلاة فيه والصلاة عاريا ، وزاد الشهيدان وجماعة ان الصلاة فيه أفضل ، وبهذا القول صرح ابن الجنيد من المتقدمين في كتابه المختصر فقال : ولو كان مع الرجل ثوب فيه نجاسة لا يقدر على غسلها كانت صلاته فيه أحب الي من صلاته عريانا. وأوجب مع ذلك إعادة الصلاة إذا وجد ثوبا طاهرا فقال في موضع آخر من الكتاب : والذي ليس معه إلا ثوب واحد نجس يصلي فيه ويعيد في الوقت إذا وجد غيره ولو أعاد إذا خرج الوقت كان أحب الي. أقول : والأصل في هذا الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة كما ستقف عليه

احتج الشيخ على ما ذهب اليه من عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا مع عدم الضرورة بإجماع الفرقة ذكره في الخلاف ، وبان النجاسة ممنوع من الصلاة فيها ومن يجيزها فيها فعليه الدلالة ، وبما رواه سماعة (١) قال : «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي عريانا قاعدا ويومئ». هكذا في الكافي والتهذيب وفي الاستبصار «ويصلي عريانا قائما ويومئ إيماء» وما رواه محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) : «في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلا ثوب واحد فأصاب ثوبه مني؟ قال يتيمم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا ويصلي ويومئ إيماء».

واحتج على ما ذهب اليه من جواز الصلاة فيه بالنجاسة مع الضرورة ووجوب الإعادة حينئذ بما رواه عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «انه سئل عن رجل ليس معه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة».

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٦ من النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٥ من أبواب النجاسات.

٣٥٠

وأنت خبير بان هذه الرواية وان دلت على الإعادة إلا انها لا دلالة لها على الضرورة ، إلا ان يكون الحمل على ذلك لأجل الجمع بينها وبين الروايتين المتقدمتين وهو خلاف الظاهر من مدعاه ، ومع هذا فهي انما تدل على الإعادة في صورة التيمم دون الوضوء والمدعى أعم من ذلك.

ومما يدل على العفو مطلقا كما هو القول الآخر صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله أيصلي فيه أو يصلي عريانا؟ فقال ان وجد ماء غسله وان لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عريانا».

وصحيحة محمد بن علي الحلبي برواية الصدوق (٢) «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال يصلي فيه».

وفي الصحيح عن محمد الحلبي عنه (عليه‌السلام) (٣) «انه سأل عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله» قال في الفقيه بعد ذكر الخبر : وفي خبر آخر «وأعاد الصلاة».

وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا يقدر على غسله؟ قال يصلي فيه».

قال في الفقيه بعد ذكر هذا الخبر ايضا : وفي خبر آخر «يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله وأعاد الصلاة».

أقول : ان كان مراد الصدوق بالرواية الدالة على الإعادة هي رواية عمار المتقدمة فقد عرفت ما فيها واما غيرها فلم نقف عليه.

هذا ما وصل إلينا من اخبار المسألة المذكورة ، والشيخ قد جمع بينها بحمل هذه الاخبار الأخيرة على الضرورة من برد أو نحوه أو على صلاة الجنازة ، والثاني منهما بعيد لا ينبغي النظر اليه ، اما الأول فقد عرفت انه استدل عليه بموثقة عمار وقد عرفت

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٤٥ من أبواب النجاسات.

٣٥١

ما فيه. نعم ربما يمكن الاستدلال له برواية الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه إذا اضطر اليه». إلا ان الخبر غير صريح ولا ظاهر في المدعى إذ يمكن حمل الاضطرار اليه على معنى عدم وجود غيره كما هو محل السؤال ، وحاصل الجواب حينئذ انه يجوز له في الصورة المفروضة لمكان الضرورة بعدم وجود غيره ، وحينئذ فلا يمكن تخصيص إطلاق تلك الاخبار به ، والآخرون قد جمعوا بين الأخبار بالتخيير ، وبعضهم كما عرفت صرح بأفضلية الصلاة في الثوب النجس على الصلاة عاريا ، ويؤيده ـ زيادة على صحة الاخبار الدالة على الجواز ـ انه مع الصلاة في الثوب لا يلزم إلا فوات شرط واحد وهو طهارة الساتر ومع الصلاة عاريا يلزم فقد شروط وهو الساتر وترك القيام والركوع والسجود لانه يصلي قاعدا بإيماء كما صرحت به روايتا الصلاة عريانا إلا على رواية الاستبصار لحديث سماعة حيث صرح فيه بالقيام فإنه يبقى الاشكال بترك الركوع والسجود ، وبالجملة فرجحان هذا القول أظهر من ان يخفى.

وظاهر السيد السند في المدارك النظر في الجمع بين الاخبار بالتخيير مستندا إلى انه فرع حصول التعارض وهو خلاف الواقع لان روايات الصلاة في الثوب متعددة صحيحة الاسناد وتلك بالعكس من ذلك ، وهو جيد بناء على أصله المعتمد عليه عنده من العمل بهذا الاصطلاح الجديد ، إلا ان جملة أصحاب هذا الاصطلاح لم يعملوا على ذلك لاعتضاد تلك الأخبار بالشهرة بين الأصحاب حتى ادعى الشيخ في الخلاف الإجماع على ما دلت عليه ، ويؤيده ظاهر كلام العلامة في المنتهى فان ظاهره الإجماع على جواز الصلاة عاريا حيث قال فيه : لو صلى عاريا لم يعد الصلاة قولا واحدا. واقتصر البعض على التمسك بهذا الوجه في الخروج عن ظاهر هذه الاخبار قائلا انه لولاه لم يكن عن القول بتعين الصلاة في الثوب معدل واعترضه في المعالم بعدم صحة شي‌ء من الاخبار الأولة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤٥ من النجاسات.

٣٥٢

وعدم ثبوت الإجماع وان ادعاه الشيخ والعلامة قال واحتجاج الشيخ بالمنع من الصلاة في النجاسة وطلبه للدلالة ممن يجيزها فيها واضح الجواب ، فإن الأخبار التي ذكرناها صالحة للدلالة متنا وإسنادا فالمتجه العمل بما دلت عليه. انتهى.

أقول : وهو ظاهر الصدوق في الفقيه حيث اقتصر في الكتاب على نقل الروايات الدالة على الصلاة في الثوب ولم يتعرض لنقل شي‌ء من روايات الصلاة عاريا وهو بناء على قاعدته التي ينسبون بها المذاهب إليه في هذا الكتاب ظاهر في اختياره تعين الصلاة في الثوب كما جنح إليه في المعالم.

وكيف كان فان ملخص الكلام في المقام ان مقتضى العمل بهذا الاصطلاح الجديد هو ما ذكره في المعالم وقبله السيد في المدارك إلا ان ظاهره في المدارك التوقف ولم يجزم بذلك كما في عبارة المعالم حيث قال بعد رد تأويلات الشيخ بالبعد : ويمكن الجمع بينها بالتخيير بين الأمرين وأفضلية الصلاة في الثوب كما اختاره ابن الجنيد إلا ان ذلك موقوف على تكافؤ السند وهو خلاف الواقع ، وكيف كان فلا ريب ان الصلاة في الثوب اولى. انتهى. وهو ظاهر في التوقف حيث لم يجزم بشي‌ء وانما جعل الصلاة في الثوب اولى ، ومقتضى العمل بجملة الأخبار هو القول بالتخيير جمعا بينها دون ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) واما ما ذكره الشيخ من الإعادة وكذا ما ذكره ابن الجنيد ففيه ما تقدم في غير موضع من ان وجوب الأداء والقضاء مما لا يجتمعان بمقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية كما تقدم تحقيقه في باب التيمم والله العالم.

فروع

(الأول) ـ نقل في المعالم انه ذكر بعض أصحابنا المتأخرين ان لكل من البدن والثوب بالنظر الى تعذر الإزالة حكما برأسه فإذا تعددت النجاسة فيهما واختص التعذر بأحدهما وجبت الإزالة عن الآخر ، قال ولو اختصت بأحدهما وكانت متفرقة

٣٥٣

وأمكن إزالة بعضها وجبت ، وبتقدير اجتماعها فان كانت دما وأمكن تقليله بحيث ينقص عن مقدار الدرهم وجب ايضا وإلا ففي الوجوب نظر ، ثم قال وهذا التفصيل حسن ولا بأس به. أقول : ظاهر هذا الكلام التفرقة في صورة اختصاص النجاسة بأحدهما بين المتفرقة التي يمكن ازالة بعضها فإنه تجب الإزالة وبين المجتمعة التي إذا كانت غير الدم وأمكن تقليلها وازالة بعضها فإنه لا تجب بل هو محل نظر عنده ، ولا اعرف لهذه التفرقة وجها.

(الثاني) ـ قد عرفت ان الظاهر من الصدوق هو اختيار القول بالصلاة في الثوب إلا انه قد أشار كما عرفت في ذيل صحيحتي الحلبي وعبد الرحمن إلى رواية عمار الدالة على الإعادة ، ومنافاتها للأخبار المذكورة ظاهرة والأصحاب قد حملوها على الاستحباب جمعا ، وهو لم يتعرض للجواب عنها ولا الجمع بينها وبين تلك الأخبار ، وربما أشعر ذلك بقوله بمضمونها وتقييد إطلاق تلك الاخبار بها والظاهر بعده ، وربما احتمل التوقف حيث اقتصر على نقل الجميع ولم يتعرض لوجه الجمع ولعله الأقرب ، وقد وقع له أمثال ذلك في غير موضع : منها ـ خروج البلل المشتبه بعد الوضوء.

(الثالث) ـ انه على تقدير القول المشهور من وجوب الصلاة عاريا فهل يصلي جالسا مومئا برأسه للركوع والسجود مطلقا أو قائما مطلقا مومئا كذلك أو يفرق بين أمن المطلع وعدمه فيصلي على الأول قائما وعلى الثاني جالسا؟ أقوال أشهرها الثالث ، وسيجي‌ء تحقيق المسألة المذكورة في محلها ونقل اخبارها ان شاء الله تعالى وبيان المختار منها.

(الرابع) ـ لا خلاف في انه لو اضطر إلى الصلاة فيه لبرد ونحوه فان صلاته صحيحة وانما وقع الخلاف في وجوب الإعادة ، والظاهر ان مستنده موثقة عمار المذكورة وقد عرفت ما فيها من الاشتمال على التيمم أولا فيجوز ان تكون الإعادة مستندة الى ذلك كما تقدم في باب التيمم ، واما مع ظهور كون ذلك من حيث الصلاة في النجاسة فقد عرفت ما فيه من المخالفة لمقتضى الأصول الشرعية فيجب تأويلها البتة والله العالم.

٣٥٤

(المسألة السابعة) ـ قد ذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في الذكرى والدروس الى العفو عن نجاسة ثوب الخصي الذي يتواتر بوله إذا غسله في النهار مرة ، واحتجوا لذلك بالحرج والمشقة مع ما رواه الشيخ في الصحيح الى سعد ان بن مسلم عن عبد الرحيم القصير (١) قال : «كتبت الى ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) اسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة». واعترضهم بعض المحققين من متأخري المتأخرين بان في طريقها ضعفا لجهالة سعدان وعبد الرحيم ، وقال المحقق في المعتبر بعد نقل الخبر المذكور : والراوي المذكور ضعيف فلا اعمل على روايته وربما صير إليها دفعا للحرج. وظاهر قوله «صير» بالبناء للمجهول وجود قائل بمضمونها إلا ان العلة في ذلك هو الحرج دون الخبر ، ويحتمل ان يكون كناية عن ميله هو الى ذلك وتعليل الحكم بالحرج. واعترض عليه بان الاستناد في الحكم الى الحرج يقتضي جعل المناط في العفو ما تندفع معه المشقة والحرج ككثير من الأحكام التي يستندون فيها الى دفع الحرج دون الخصوصية المذكورة فإنها موقوفة على نهوض الرواية بها ، مع ان الرواية إنما تضمنت الصب لا الغسل كما ذكروه فالفرق بينهما ظاهر. والعلامة في المنتهى قد اقتصر على العمل بمضمون الرواية من غير تعرض للغسل فقال بعد ذكرها : وفي الطريق كلام لكن العمل بمضمونها اولى لما فيه من الرخصة عند المشقة. واستوجه في التذكرة بعد بيان ضعف الرواية وجوب تكرار الغسل فان تعسر عمل بمضمون الرواية دفعا للمشقة ، وهو كما ترى. والصدوق في الفقيه قد ذكر هذه الرواية مرسلة وظاهره العمل بها.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام ان يقال ان هذه الرواية لا تخلو من الإجمال فالاستناد إليها فيما ذكروه لا يخلو من الاشكال ، وذلك فإنه يحتمل ان يكون ذلك البلل بولا فأمره بالوضوء يعني غسل البول الذي

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من نواقض الوضوء.

٣٥٥

يخرج معتدلا والنضح مرة واحدة في نهاره لأجل هذا البلل ، وعلى هذا فيكون من قبيل المرأة المربية للمولود ذات الثوب الواحد ، وحينئذ فيجب حمل الصب على الغسل ويجب تقييده بأنه ليس له إلا ثوب واحد. والظاهر بعده فإنه على هذا التقدير يكون من قبيل صاحب السلس وحكمه شرعا كما تقدم في محله انه يضع ذكره في خريطة محشوة بالقطن ويصلي بعد التطهير من النجاسة. ويحتمل ان يكون هذا البلل غير معلوم كونه بولا بل يكون مظنونا أو موهوما فيكون النضح على ظاهر معناه الشرعي ونظيره في الأخبار غير عزيز ، فان من جملة مواضع النضح كما سيأتي ان شاء الله ما شك في نجاسته. ويحتمل انه أمر بالنضح وجعل الثوب رطبا ليمكن استناد البلل اليه ولا يتيقن كونه خارجا من الذكر ولا نجسا ويكون من قبيل الحيل الشرعية كما تقدم نظيره. ولا يخفى ان كلام الجماعة مبني على الاحتمال الأول وقد عرفت ما فيه ، فالأظهر هو طرح هذه الرواية لاشتباهها وعدم ظهور المعنى المراد منها والرجوع الى الأصول المقررة والقواعد المعتبرة في النجاسات وإزالتها. والله العالم.

البحث الثالث

في ما تزال به النجاسات

المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان المطهرات عشرة : الماء والشمس والأرض والنار والاستحالة والإسلام واستبراء الحيوان الجلال ونقص العصير والانقلاب والانتقال ، فالكلام هنا يقع في مطلبين :

(الأول) ـ في تطهير الماء وازالة النجاسة به وكيفية الإزالة وما يتعلق بذلك ويلحق به ، وفيه مسائل :

(الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب والبدن في غير بول الرضيع بل ظاهر المحقق في المعتبر

٣٥٦

انه إجماع حيث قال بعد ذكر الحكم المذكور : وهذا مذهب علمائنا. إلا ان الشهيد في الذكرى بعد ان اختار التثنية عزى الى الشيخ في المبسوط عدم مراعاة العدد في غير الولوغ وهو ظاهر في المخالفة ، وما عزاه الى الشيخ قد جزم به في البيان فقال ولا يجب التعدد إلا في إناء الولوغ. ونقل في المعالم عن العلامة أنه اكتفى فيه بالمرة صريحا إذا كان جافا وانه يظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها مطلقا حيث قال : ان الواجب هو الغسل المزيل للعين ، قال ومن البين ان زوال العين معتبر على كل حال وان مسمى الغسل يصدق بالمرة. انتهى. ومن ذلك يظهر ان الخلاف في المسألة والقول بإجزاء المرة مطلقا متحقق في كلام الأصحاب.

والأظهر ما هو المشهور من اعتبار المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب والبدن للأخبار الصحيحة الصريحة :

ومنها ـ ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله مرتين. وسألته عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي يعفور (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة». قال الجوهري : المركن الإجانة التي يغسل فيها الثياب.

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته

__________________

(١ و ٢ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ١ من النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢ من النجاسات.

٣٥٧

عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».

وعن أبي إسحاق النحوي في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن ابي نصر (٢) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول قال اغسله مرتين».

وفي الفقه الرضوي (٣) «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره».

وما تضمنه جملة من هذه الاخبار من وجوب المرتين في البدن مما لم يظهر فيه خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا من صاحبي المدارك والمعالم لمزيد تصلبهما في هذا الاصطلاح الجديد فردا روايتي الحسين بن ابي العلاء وابي إسحاق النحوي بضعف السند واكتفيا بالمرة في البدن لذلك. وفيه ان الاولى حسنة والثانية صحيحة أو حسنة ويعضدهما رواية ابن ابي نصر المنقولة في السرائر وهي صحيحة لأنها منقولة من أصله المشهور بلا واسطة وبذلك يظهر ضعف ما ذهبا اليه. واما ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح (٤) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن رجل يبول بالليل فيحسب ان البول اصابه فلا يستيقن فهل يجزيه ان يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه اصابه وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه. الحديث». فغايته ان يكون مطلقا فيجب تقييده بما ذكرناه من الاخبار.

واعتضد في المعالم فيما ذهب اليه من اجزاء المرة في البدن بأن العلامة في المنتهى قد اقتصر على الثوب في العبارة التي حكم فيها بوجوب المرتين وكذلك صنع في التحرير.

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب النجاسات.

(٣) ص ٦.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من النجاسات.

٣٥٨

وفيه ان عدم تعرضه لحكم البدن بالكلية لا يدل على حكمه بعدم التعدد والقول بالمرة فيه بل هو أعم من ذلك. واعتضد أيضا بأنه جزم في بحث الاستنجاء من المنتهى والنهاية بالاكتفاء فيه بالمرة إذا زالت العين وكذا في المختلف وحكى القول به عن ابي الصلاح وابن إدريس وقال انه الظاهر من كلام ابن البراج وهو قول سلار ايضا. وفيه انه من الجائز بل الظاهر ان مسألة الاستنجاء لها حكم غير هذه المسألة كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وكيف كان فان المدار عندنا على النصوص وقد عرفت دلالتها على المدعى لا على القائل قل أو كثر فإنه محجوج مع المخالفة بما ذكرناه من النصوص ايضا.

واما من ذهب الى الاكتفاء بالمرة مطلقا كما تقدم نقله عن المبسوط والبيان فلم نقف له على دليل في الاخبار ولا في كلام الأصحاب بل الدليل كما عرفت على خلافه مكشوف الحجاب ، إلا ان العلامة في المنتهى قد احتج على ما ذهب اليه من الاكتفاء بالمرة مع الجفاف بوجهين : (أحدهما) ان المطلوب من الغسل انما هو ازالة العين والجاف ليس له عين فيكتفى فيه بالمرة. و (الثاني) ان الماء غير مطهر عقلا لأنه إذا استعمل في المحل جاورته النجاسة فينجس وهكذا دائما وانما عرفت طهارته بالشرع بتسميته طهورا بالنص فإذا وجد استعمال الطهور مرة عمل عمله من الطهارة. وأنت خبير بما فيه من الوهن والضعف الذي لا يحتاج الى تنبيه فان النصوص المتقدمة مطلقة شاملة بإطلاقها للبول بقسميه يابسا ورطبا وتخصيصها بمجرد هذه التعليلات مجازفة محضة ، وما ذكره من ان المطلوب من الغسل ازالة العين والأثر دعوى لا دليل عليها في نص ولا خبر ، إلا ان في الذكرى نقل ذلك رواية فقال اما البول فيجب تثنيته لقول الصادق (عليه‌السلام) «في الثوب يصيبه البول اغسله مرتين : الأولى للإزالة والثانية للإنقاء». وقد تقدمه في ذلك المحقق في المعتبر وذكر هذه الزيادة في رواية الحسين بن ابي العلاء فقال بعد قوله : وعن الثوب يصيبه البول قال : «اغسله مرتين الأولى للإزالة والثانية للإنقاء» والظاهر انها من كلام صاحب المعتبر وتبعه من تبعه في ذلك ظنا انها من أصل الخبر ، وهذه الزيادة

٣٥٩

لا وجود لها في شي‌ء من كتب الاخبار وقد صرح بذلك أيضا في المعالم فقال : بعد نقل ذلك عن الذكرى والمعتبر : ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التصفح بقدر الوسع ، ولو ثبتت لأمكن تقييد إطلاق تلك الاخبار بها فيخص ما دل على المرتين بما له عين لكن الكلام في ثبوتها.

تنبيهات

(الأول) ـ إطلاق روايات الحسين بن ابي العلاء وابي إسحاق النحوي وابن ابي نصر المنقولة من السرائر شامل لمخرج البول فيجب فيه المرتان بمقتضى ذلك ، إلا انهم قد اختلفوا أيضا في مسألة الاستنجاء وقد تقدم البحث فيها في محله ، وقد بينا ان الظاهر من الاخبار المذكورة في تلك المسألة هو وجوب المرة خاصة كما هو اختيار جملة من الأصحاب ، وذكرنا وجه الجمع بين اخبار تلك المسألة على تقدير هذا القول الذي اخترناه والاخبار المذكورة هنا ، وذلك لان اخبار تلك المسألة بناء على ما اخترناه مطلقة بالنسبة إلى الغسل ومقيدة بالنسبة إلى المغسول واخبار هذه المسألة مطلقة بالنسبة إلى المغسول من كونه مخرج البول أو غيره من الجسد ومقيدة بالنسبة إلى الغسل بالمرتين ، فوجه الجمع بينها اما بتخصيص عموم اخبار هذه المسألة باخبار الاستنجاء فيقال بوجوب المرتين في غير موضع الاستنجاء أو بتقييد اخبار الاستنجاء بهذه الاخبار فيقال بوجوب المرتين في الاستنجاء ، لكن الظاهر ان الترجيح للأول لمنع شمول اخبار المرتين لموضع النزاع بل الظاهر منها انما هو ما عداه من سائر الجسد فان المتبادر من هذه الروايات انما هو عروض النجاسة من خارج وتطرقها الى الثوب أو الجسد.

وكلام الأصحاب في هذا الباب غير منقح في كون المسألتين من باب واحد أو متعددتين وكما اختلفوا هنا فقد اختلفوا هناك ايضا ، والمحقق في المعتبر قد ادعى الإجماع في هذه المسألة على التعدد كما قدمنا ذكره ولم يدعه هناك وانما استدل برواية

٣٦٠