الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

عن موضع النص ، وأصالة البراءة التي استند إليها ممنوعة لما عرفت من قيام الأدلة على النجاسة واشتراط إزالتها في صحة الصلاة خرج ما خرج بدليل واضح وبقي الباقي. وقولهم ان المتنجس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه مجرد تعليل عفلي لا يصلح لان يكون مستندا لتأسيس حكم شرعي فإن بناء الأحكام الشرعية طهارة ونجاسة وصحة وفسادا على ما علم من الشرع وثبت لا على الأدلة العقلية ، والى ما ذكرنا في المقام يميل كلام صاحب الذخيرة مع اقتفائه أثر صاحب المدارك غالبا كما لا يخفى على من تتبعه.

(الرابع) ـ أطلق جماعة من الأصحاب انه إذا أصاب الدم وجهي الثوب فان كان من التفشي من جانب الى آخر فهو دم واحد وإلا فدمان ، وفصل الشهيد في البيان فقال : لو تفشي الدم في الرقيق فواحد وفي الصفيق اثنان ، ونحو ذلك في الذكرى واستحسنه في المدارك ، ونص العلامة في المنتهى والتحرير على ان التفشي موجب للاتحاد في الصفيق ، وقال في المعالم بعد نقل الأقوال المذكورة : والتحقيق تحكيم العرف في ذلك إذ ليس له ضابط شرعي ولا سبيل إلى استفادة حكم اللغة في مثله فالمرجع حينئذ الى ما يقتضيه العرف. أقول : قد عرفت ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف من الإشكال في غير مقام مما تقدم بل الحق كما نطقت به اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) هو الوقوف ـ في كل قضية لم يعلم حكمها من الاخبار بعد التتبع والفحص ـ عن الفتوى فيها والأخذ بالاحتياط ان احتيج الى العمل بها.

(الخامس) ـ قال العلامة في النهاية : لو كان الدم اليسير في ثوب غير ملبوس أو في متاع أو آنية أو آلة فأخذ ذلك بيده وصلى وهو حامل له احتمل الجواز لعموم الترخيص والمنع لانتفاء المشقة. وذكر نحوه في المنتهى ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وفي كلا الوجهين نظر ، اما الأول فلان أدلة الترخص ليس فيها ما يتناول مثل هذا واما الثاني فلان اعتبار المشقة لو أخذ دليلا على الحكم لانتفت الرخصة في كثير من الصور لعدم المشقة فيها ، قال والحق ان الحكم بالعفو في موضع النزاع غير محتاج الى

٣٢١

تكلف تناول دليل العفو في أصل المسألة له بل يكفي فيه كونه مقتضى الأصل فإن إيجاب الإزالة والاجتناب تكليف والأصل براءة الذمة منه وانما احتاجوا في حكم الثوب الملبوس والبدن الى التمسك بغير هذا الوجه لقيام الدليل على منافاة النجاسة فيهما لصحة الصلاة كما مرت الإشارة إليه فيتوقف استثناء بعض النجاسات على الحجة ، ولولا ذلك لكان الأصل دليلا قويا في الجميع. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ان المتبادر من قولهم (عليهم‌السلام) (١) «لا يجوز الصلاة في النجاسة». و «لا تصح الصلاة في الذهب» (٢). انما هو ما كان ملبوسا من هذه الأشياء تحقيقا للظرفية فلا يدخل فيه المحمول ومرجع كلامه (قدس‌سره) الى ما ذكرناه ، وعلى هذا فلا وجه لتخصيص الكلام بالدم اليسير بل ولو كان أكثر من درهم والحال انه محمول غير ملبوس ، وإلا فلو لم يلحظ ما ذكرناه لكان للمناقشة فيه مجال فإنه ان سلم صدق الصلاة فيه في تلك الحال دخل تحت عموم الأدلة المانعة من الصلاة في النجاسة كالثوب الملبوس والبدن النجسين فيحتاج الاستثناء الى دليل ولا يمكنه التمسك هنا بالأصل ، وان منع ذلك كما ذكرنا تم ما ذكره من الاستناد الى الأصل لعدم دخوله تحت عموم الأدلة المانعة فيبقى على الإطلاق ويصح التمسك فيه بالأصل وتوقف الاجتناب على الدليل ، وبه يظهر لك انه لا فرق في المقام بين كون النجاسة المحمولة أقل من الدرهم وأكثر وكذا سائر ما دلت الاخبار على عدم صحة الصلاة فيه من الذهب والحرير ونحوهما إذا كان محمولا فإنه تصح الصلاة معه بالتقريب المذكور ، إلا ان كلامهم بالنسبة إلى المحمول وصحة الصلاة معه إذا كان مما لا تصح الصلاة فيه لا يخلو من اضطراب كما سيمر بك ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) هذا مضمون الأخبار الدالة على عدم جواز الصلاة مع النجاسة وليس حديثا خاصا واردا بهذا اللفظ.

(٢) هذا مضمون ما دل على مانعية الذهب من صحة الصلاة ولم نقف على حديث بهذا اللفظ.

٣٢٢

(السادس) ـ قال الشهيد في الدروس : لو اشتبه الدم المعفو عنه بغيره كدم الفصد بدم الحيض فالأقرب العفو ، ولو اشتبه الدم الطاهر بغيره فالأصل الطهارة. ولم يتعرض لبيان الوجه في الحكمين المذكورين ، وقد وجهه بعض بأنه مبني على القاعدة المقررة في اشتباه الشي‌ء بين المحصور وغيره وهي الإلحاق بغير المحصور من حيث ان الحصر على خلاف الأصل وفي موضع البحث لا حصر في الدم المعفو عما نقص عن الدرهم منه ولا في الدم الطاهر.

قال في المعالم : وهذا الكلام متجه بالنظر الى الحكم الأول حيث ان ما لا يعفى عن قليله من الدماء منحصر وما يعفى عنه غير منحصر كما ذكره ، واما في الحكم الثاني فواضح الفساد لان كلا من الدم الطاهر والنجس غير منحصر ، ثم نقل عن بعض من عاصره من مشايخه بأنه وجهه بأن أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم بل فيما لاقاه على معنى ان طهارته إذا علمت قبل ملاقاة هذا الدم المشتبه فالأصل بقاؤها الى ان يعلم المقتضى لنجاسته ومع الاشتباه لا علم ، ثم قال وله وجه غير ان لنا في المقام توجيها أحسن منه وهو انه لا معنى للنجس إلا ما أمر الشارع بإزالته واجتنابه ولا للطاهر إلا ما لا تكليف فيه بأحد الأمرين فإذا حصل الاشتباه كان مقتضى الأصل هو الطهارة بمعنى براءة الذمة من التكليف بواحد من الأمرين. انتهى.

وأنت خبير بأنه يمكن تطرق المناقشة إلى مواضع من هذا الكلام : (منها) ـ الاستناد في الطهارة والعفو في التوجيه الأول إلى القاعدة المذكورة المثمرة للظن بناء على ان إلحاق الفرد المذكور بالأغلب مظنون كما قيل ، وبناء الأحكام الشرعية الموقوفة على التوقيف من الشارع التي قد استفاضت الآيات والروايات بالمنع فيها عن القول بغير علم على مثل هذه القواعد التي لم يثبت لها مستند من الشرع مجازفة محضة وقول على الله عزوجل بلا حجة ولا بينة ، والبناء على مثل هذا الظن الغير المستند إلى آية أو رواية مشكل.

٣٢٣

و (منها) ـ التوجيه الثالث فان ما ذكره معارض بأنه قد قام الدليل على اشتراط صحة الصلاة بطهارة الثوب والبدن إلا ما استثنى فلا بد من العلم بالطهارة ويقين البراءة موقوف على ذلك ، والمشتبه المحتمل لكل من الأمرين لا يحصل فيه ذلك.

واما ما ذكره في المعالم من معنى النجس والطاهر فهو غير معلوم ولا ظاهر وانما معنى الطاهر هو ما لم يعلم نجاسته اي كونه من أحد الأعيان النجسة ولا ملاقاة النجاسة له على الوجه الموجب لذلك والنجس هو ما علم فيه أحد الأمرين ، وما ذكره من اللوازم لا انه معنى النجس والطاهر.

والتحقيق عندي في المقام اما بالنسبة إلى الدم فهو يرجع الى ما قدمنا من معنى المحصور وغير المحصور ، وذلك فإنه ان وقع الاشتباه في دمين أو ثلاثة مثلا بعضها طاهر وبعضها نجس كما لو افتصد مثلا وباشر دم السمك فرأى في ثوبه دما لا يدري هو من دم أيهما مع عدم احتمال غيرهما فان هذا يكون من قبيل المحصور يلحق حكم الطاهر منهما حكم ما اشتبه به من النجس ، وهكذا لو كان أحدهما معفوا عنه والآخر غير معفو عنه فإنه يلحق حكم المعفو عنه هنا حكم غير المعفو عنه ، ولو وقع اشتباه في الدماء مطلقا كأن وجد ثوبا أو شيئا عليه دم مع احتمال تطرق الدماء الطاهرة والنجسة إليه فهذا يكون من قبيل غير المحصور ويكون الأصل فيه الطهارة عملا بالقاعدة المنصوصة الكلية «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر» (١). و «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم» (٢). وقول ذلك القائل في الوجه الثاني ان أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم ليس في محله فان كل شي‌ء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس ووجد منه فرد لا يعلم انه من اي القسمين هو يجب فيه الحكم بأصالة الطهارة دما كان أو غيره ، هذا بالنسبة إلى الدم واما بالنسبة الى الثوب أو البدن الذي لاقى ذلك الدم فان كان ذلك الدم من قسم غير المحصور فلا إشكال في طهارة الملاقي للحكم بطهارة الدم كما عرفت ، وان كان من القسم الأول بني على الخلاف المتقدم في مسألة الإناءين بان

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من النجاسات.

٣٢٤

ما لاقى المشتبه في المحصور هل يحكم فيه بحكمه أم يكون باقيا على أصل الطهارة؟ قولان قد تقدم البحث فيهما ثمة. والله العالم.

(الموضع الرابع) ـ إطلاق النصوص المتقدمة بالعفو عن الأقل من الدرهم أو العفو عن الدرهم على القول الآخر شامل لدم الحيض وغيره من الدماء إلا ان المشهور بين الأصحاب من غير خلاف يعرف استثناء دم الحيض حيث قطعوا بعدم العفو عنه وأوجبوا إزالة قليله وكثيره عن الثوب والبدن للصلاة لرواية أبي سعيد عن ابي بصير (١) قال : «لا تعاد الصلاة من دم لم يبصره إلا دم الحيض فإن قليله وكثيره في الثوب ان رآه وان لم يره سواء».

قال المحقق في المعتبر بعد الاستدلال بالرواية المذكورة : لا يقال الراوي له عن ابي بصير أبو سعيد وهو ضعيف والفتوى موقوفة على ابي بصير وليس قوله حجة ، لأنا نقول الحجة عمل الأصحاب بمضمونه وقبولهم له فإن أبا جعفر بن بابويه قاله والمرتضى والشيخان وأتباعهما ، ويؤيد ذلك ان مقتضى الدليل وجوب ازالة قليل الدم وكثيره عملا بالأحاديث الدالة على ازالة الدم لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا سماء (٢) «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء». وما رواه سورة بن كليب عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «عن الحائض قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم». لكن ترك العمل بذلك في بعض

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢١ من أبواب النجاسات.

(٢) في سنن ابن ماجة ج ١ ص ٢١٧ عن أسماء بنت ابى بكر قالت : «سئل رسول الله (ص) عن دم الحيض يكون في الثوب ، قال اقرصيه واغسليه وصلى فيه». وفي سنن البيهقي ج ١ ص ١٣ عنها ايضا انه «ص» قال : «لتحته ثم لتقرصه بالماء ثم لتنضحه ثم لتصل فيه». وفي سنن ابى داود ج ١ ص ٩٩ عنها ايضا انه «ص» قال : «حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه».

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من أبواب النجاسات.

٣٢٥

الدماء لوجود المعارض فلا يجب العمل به في الباقي. انتهى.

وفيه ان ما ذكره في هذه الرواية من ان الفتوى موقوفة على ابي بصير وان تبعه فيه جملة ممن تأخر عنه كصاحبي المدارك والمعالم حيث انهم لم يقفوا في الرواية إلا على هذا الطريق إلا ان الشيخ قد رواها في موضع آخر وكذا صاحب الكافي عن ابي بصير عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) واما ما ذكره من جبر ضعفها بعمل الأصحاب فهو جيد إلا انه لم يقف عليه في غير موضع من كتابه كما قدمنا ذكره في غير مقام. واما ما ذكره من حديث أسماء فالظاهر انه من طريق العامة حيث انه لم يذكر في كتب أخبارنا فيما اعلم وبذلك صرح في المعالم ايضا ، واما قوله : ان مقتضى الدليل وجوب ازالة الدم قليله وكثيره. إلخ فجيد.

واما مناقشة صاحب المعالم هنا ـ بأنه ليس فيما وصل إلينا ونقله الأصحاب في كتبهم من الاخبار المعتمدة حديث مطلق في إيجاب إزالة الدم بحيث يصلح لتناول القليل من دم الحيض بل هي اما ظاهرة في الكثير أو مفروضة في غير دم الحيض ـ فهو مردود بما قدمناه في الفصل الرابع في نجاسة الدم من الاخبار الدالة بإطلاقها على نجاسة الدم قليلا كان أو كثيرا دم حيض كان أو غيره فارجع لها وتدبر ، على انه يكفي في المقام ان يقال ـ وبه اعترف أيضا في آخر كلامه ـ انه قد وردت الأخبار المعتبرة المعتضدة باتفاق الأصحاب بأنه يشترط في صحة الصلاة الطهارة من الدم في ثوب المصلي وبدنه وانه بالصلاة فيه عالما أو ناسيا تجب عليه الإعادة ، ومن البين ان دم الحيض وان قل موجب للنجاسة

وبالجملة فالحكم باستثناء دم الحيض من البين مما لا اشكال فيه وانما الإشكال فيما الحق به حيث عزى الى الشيخ إلحاق دم الاستحاضة والنفاس بدم الحيض في وجوب إزالة قليله وكثيره ، قال المحقق في المعتبر بعد نقل ذلك عن الشيخ : ولعله نظر الى تغليظ نجاسته لانه يوجب الغسل واختصاصه بهذه المزية يدل على قوة نجاسته على باقي الدماء فغلظ حكمه في الإزالة ، ثم قال وألحق بعض فقهاء قم دم الكلب والخنزير ولم يعطنا العلة ، ولعله

٣٢٦

نظر الى ملاقاته جسدهما ونجاسة جسدهما غير معفو عنها. انتهى.

وقد حكى العلامة في المختلف إلحاق دم الكلب والخنزير والكافر بالدماء الثلاثة عن القطب الراوندي وابن حمزة وحكى عن ابن إدريس المنع من ذلك مدعيا انه خلاف إجماع الإمامية ، ثم اختار العلامة الإلحاق ووجهه بان المعفو عنه انما هو نجاسة الدم والدم الخارج من الكلب والخنزير والكافر يلاقي أجسامها فتتضاعف نجاسته ويكتسب بملاقاة الأجسام النجسة نجاسة أخرى غير نجاسة الدم وتلك لم يعف عنها ، كما لو أصاب الدم المعفو عنه نجاسة غير الدم فإنه يجب إزالته مطلقا ، قال وابن إدريس لم يتفطن لذلك فشنع على قطب الدين بغير الحق. انتهى.

وظاهره في المعالم الميل الى ما ذكره العلامة في هذا المقام حيث قال بعد نقل كلام العلامة المذكور : قلت العجب من غفلة ابن إدريس عن ملاحظة هذا الاعتبار الذي حرره العلامة ونبه عليه المحقق مع تنبهه لمثله في ظاهر كلامه السابق في البحث عما ينزح لموت الإنسان في البئر حيث فرق في ذلك بين المسلم والكافر وأنكر عليه الجماعة فيه أشد الإنكار ونحن صوبنا رأيه هناك وأوضحنا المقام بما لا مزيد عليه ، فكيف انعكست القضية هنا فصار هو الى الإنكار ورجعوا هم الى الاعتراف والمدرك في المقامين واحد؟ وربما كان مراد ابن إدريس هنا خلاف ما أفهمه ظاهر كلامه الذي حكوه عنه ، وعلى كل حال فالحق أن الحيثية مرعية في جميع هذه المواضع والحكم منوط بها فان العفو الثابت في مسألتنا هذه على ما سيأتي بيانه متعلق بنجاسة الدم من حيث هي فإذا انضم إليها حيثية أخرى كملاقاة جسم نجس كان لتلك الحيثية المنضمة إليها حكم نفسها لو انفردت. انتهى.

أقول : لا يخفى ان صحة ما ذكره مبني على أمرين (أحدهما) اعتبار الحيثية التي ادعاها في المقام ولا دليل عليه ظاهرا فإن إطلاق الدم أعم من ذلك والحكم مترتب عليه. و (ثانيهما) ـ استفادة النجاسة بملاقاة نجاسة أخرى زيادة نجاسة على ما كانت عليه

٣٢٧

وهو محل غموض لا مدرك له من الاخبار وان كان جاريا في كلامهم ، وبذلك يظهر الاشكال فيما ذكره ووجه به كلام العلامة.

والذي يقرب عندي في هذا المقام اما بالنسبة إلى دم الاستحاضة والنفاس فالظاهر دخولهما في عموم اخبار العفو ، وما ذكروه ـ من استثنائهما إلحاقا بدم الحيض نظرا الى تساويهما في إيجاب الغسل فان النفاس حيض في المعنى والاستحاضة مشتقة منه ـ لا يخرج عن القياس ، وبناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة كما أشرنا إليه في غير مقام. واما دم الكافر وأخويه فالظاهر انه لا عموم في الاخبار المتقدمة على وجه يشمله إذ لا يخفى ان المتبادر من الدم فيها انما هو الأفراد الشائعة المتكاثرة المعتادة المتكررة الوقوع كما صرحوا به في غير مقام من ان إطلاق الأخبار انما ينصرف الى الافراد المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع مدة العمر ولو مرة واحدة. فالواجب هو الحمل على الافراد المتعارفة من دم الإنسان أو الحيوانات التي يتعارف ذبحها أو نحو ذلك ، وحينئذ يبقى على وجوب الإزالة وعدم الدخول تحت عموم اخبار العفو ولا ريب ان الاحتياط يقتضيه.

ويلحق بدم الحيض هنا في وجوب إزالة قليله وكثيره دم الغير لمرفوعة البرقي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس ، وان كان دم غيرك قليلا أو كثيرا فاغسله». ولم أقف على من تنبه ونبه على هذا الكلام إلا الأمين الأسترآبادي فإنه ذكره واختاره ، والى هذه الرواية أشار أيضا في كتاب الفقه الرضوي (٢) فقال : «واروي أن دمك ليس مثل دم غيرك». والله العالم.

(الموضع الخامس) ـ قد اشتملت الأخبار المتقدمة على تحديد القدر المعفو عنه من الدم وغير المعفو عنه بالدرهم ، وهي مجملة في ذلك تفسيرا وتقديرا إلا ان ظاهر

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢١ من النجاسات.

(٢) البحار ج ١٨ ص ٢١.

٣٢٨

الأصحاب الاتفاق على انه البغلي وهو المشار اليه بالدرهم الوافي في كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي الذي وزنه درهم وثلث.

قال المحقق في المعتبر : الدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث وسمي البغلي نسبة الى قرية بالجامعين. وفي كلام جماعة من الأصحاب انه على هذا التفسير مفتوح الغين مشدد اللام.

وقال ابن إدريس في السرائر : فهذا الدم نجس إلا ان الشارع عفى عن ثوب وبدن اصابه منه دون سعة الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث ، وبعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها بغل قريبة من بابل بينها وبينها قريب من فرسخ متصلة ببلدة الجامعين يجد فيها الحفرة والغسالون دراهم واسعة شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد تقرب سعته من سعة أخمص الراحة ، وقال بعض من عاصرته ممن له علم باخبار الناس والأنساب ان المدينة والدراهم منسوبة الى ابن ابي البغل رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما وضرب هذا الدرهم الواسع فنسب اليه الدرهم البغلي. وهذا غير صحيح لان الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قبل الكوفة. انتهى كلامه.

وقال الشهيد في الذكرى : عفى عن الدم في الثوب والبدن عما نقص عن سعة الدرهم الوافي وهو البغلي بإسكان الغين وهو منسوب الى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية وزنته ثمانية دوانيق ، والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام الكسروية فحدث لها هذا الاسم في الإسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق فلما كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ، وهذه التسمية ذكرها ابن دريد ، وقيل منسوب الى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة لتقدم الدراهم على الإسلام ، قلنا لا ريب في

٣٢٩

تقدمها وانما التسمية حادثة والرجوع الى المنقول اولى. انتهى. ومراده بالمنقول ما نقله عن ابن دريد.

ونقل في مجمع البحرين عن بعضهم انه كانت الدراهم في الجاهلية مختلفة فكان بعضها خفافا وهي الطبرية وبعضها ثقالا كل درهم ثمانية دوانيق وكانت تسمى العبدية وقيل البغلية نسبت الى ملك يقال له رأس البغل فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين متساويين فجاء كل درهم ستة دوانيق ، ويقال ان عمر هو الذي فعل ذلك لانه لما أراد جباية الخراج طلب بالوزن الثقيل فصعب على الرعية فجمع بين الوزنين واستخرجوا هذا الوزن. هذا ما ذكروه بالنسبة إلى تفسيره.

واما بيان سعته فقد تقدم في كلام ابن الجنيد ان سعته كعقد الإبهام الأعلى ، وفي كلام ابن إدريس المذكور هنا ما يقرب سعته من أخمص الراحة ، ونقل في المعتبر عن ابن ابي عقيل انه ما كان بسعة الدينار ، قال في المعتبر بعد تفسيره له بالوافي الذي وزنه درهم وثلث كما قدمنا نقله عنه ونقل قولي ابن ابي عقيل وابن الجنيد : والكل متقارب والتفسير الأول أشهر. هذه عبارته.

قال في المعالم : وقال بعض الأصحاب انه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف افراد الدرهم من الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كل واحد عن فرد رآه ، ثم قال بعد نقل ذلك : وهذا الكلام انما يتم لو لم يكن في التفسير خلاف وإلا فمن الجائز استناد الاختلاف في التقدير الى الاختلاف في التفسير ولم يعلم من حال الذين حكى كلامهم في التقدير انهم متفقون على أحد التفسيرين ، فان ابن الجنيد لم يتعرض في كلامه الذي رأيناه لذكر البغلي فضلا عن تفسيره ولم ينقل عنه أحد من الأصحاب في ذلك شيئا ، والكلام الذي حكاه المحقق عن ابن ابي عقيل خال من التعرض للفظ البغلي أيضا ، واما ابن إدريس فقد عزى اليه المصير الى التفسير الثاني وبناء التقدير عليه ، والعجب من جماعة من الأصحاب انهم بعد اعترافهم بوقوع الاختلاف هنا قالوا ان

٣٣٠

شهادة ابن إدريس في قدره مسموعة مريدين بذلك الاعتماد على التقدير الذي ذكره ، وكيف يستقيم ذلك وفرض كون كلامه شهادة مقتض لتوقف الحكم بمضمونها على التعدد كما هو شأن الشهادة ، ومع التنزل فهو مبني على تفسيره كما قلناه فلا بد من ثبوت التفسير أولا ولم يظهر من حال الجماعة الذين ذكروا هذا الكلام انهم معتمدون على هذا التفسير ، وبالجملة فالمصير إلى شي‌ء من التفسيرين والبناء على واحد من التقديرين مع عدم ظهور الحجة وانما هي دعا ومجردة عن الدليل دخول في ربقة التقليد ، والوقوف مع القدر الأقل هو الاولى ولعل القرائن الحالية تشهد بنفي ما دونه. انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى ان هذا البعض الذي أشار إليه بقوله : وقال بعض الأصحاب انه لا تناقض. إلخ انما هو والده في الروض حيث قال بعد ذكر المصنف التقدير بسعة الدرهم البغلي ما صورته : بإسكان الغين وتخفيف اللام منسوب الى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية فاشتهر به وقيل بفتحها وتشديد اللام منسوب الى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة وهو ما انخفض من باطن الكف ذكر ابن إدريس انه شاهده كذلك وشهادته في قدره مسموعة ، وقدر ايضا بعقد الإبهام العليا وهو قريب من أخمص الكف وقدر بعقدة الوسطى ، والظاهر انه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف افراد الدراهم من الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كل واحد عن فرده رآه. انتهى.

ثم أقول : لا يخفى ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على ان المراد بالدرهم في الاخبار المذكورة هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث كما اشتملت عليه عبارة ابن إدريس والمحقق والشهيد في الذكرى وبه صرح الصدوق في الفقيه والمفيد في المقنعة حيث قال : فإن أصاب ثوبه دم وكان مقداره في سعة الدرهم الوافي الذي كان مضروبا من درهم وثلث وجب عليه غسله بالماء ولم يجز له الصلاة فيه. الى آخره ، والعلامة في جملة من كتبه والشهيد الثاني في الروض وغيرهم

٣٣١

لان ظاهر جملة من علماء الخاصة والعامة ان غالب الدراهم التي في صدر الإسلام هي الدرهم البغلي الذي وزنه ثمانية دوانيق والطبري الذي وزنه أربعة دوانيق ، والأصحاب احترزوا هنا بقيد الوافي وان وزنه درهم وثلث عن الدرهم الآخر وهو الطبري ، وكلام ابن الجنيد وابن ابي عقيل ليس فيه ظهور في مخالفة ذلك وانما غاية ما فيه انه مطلق بالنسبة إلى تعيين الدرهم فيحمل على كلام الأصحاب المذكور جمعا وان المراد به الدرهم الوافي الذي هو البغلي ، والاخبار التي قدمناها وان كانت مطلقة أيضا إلا ان كلام الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي صريح في إرادة الدرهم الذي ذكره الأصحاب ، وحينئذ فالواجب حمل مطلق الأخبار عليه ، وبما ذكرنا يحصل اتفاق الأخبار وكلمة الأصحاب على ان المراد بالدرهم هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث دون الدرهم الطبري الذي هو الدرهم الآخر ودون الدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام أخيرا وهو الذي وزنه ستة دوانيق ، وعلى هذا فلا اشكال ولا خلل فيما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في الروض من انه لا تناقض بين هذه التقديرات. الى آخر ما تقدم نقله عنه ، فإنه متى ثبت ان المراد بالدرهم في الاخبار هو الدرهم الذي بهذا الوزن المخصوص فسعته الحاصلة من ضربه ربما اختلفت كما هو المشاهد من الدراهم والدنانير المضروبة في هذه الأزمنة ، واما ما يظهر من بعض عباراتهم من ان التفسير بكونه عبارة عن الوافي الذي هو درهم وثلث مناف للتقدير بأخمص الراحة وسعة عقد الإبهام الأعلى فهو غلط محض لان التقدير الأول انما هو تقدير للوزن والتقديرين الأخيرين انما هو تقدير للمساحة والسعة فأي منافاة هنا كما توهموه؟

نعم يبقى الاشكال هنا في مقامين : (الأول) ـ ان ظاهر الاخبار وكلام الأصحاب كما عرفت هو ان المراد بهذا الدرهم هو الدرهم الوافي الذي كان في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون الدرهم الآخر الناقص وانه ـ كما ذكره في الذكرى ونقله عن ابن دريد ـ يسمى بالبغلي للعلة التي ذكرها ، ومن المتفق عليه بين الخاصة والعامة ان الدرهم المذكور قد غير مع الدرهم الآخر واستقر أمر الإسلام على الدرهم الذي وزنه ستة

٣٣٢

دوانيق في زمن عبد الملك كما في الذكرى أو زمن عمر كما في النقل الآخر ، وحينئذ فما ذكره المحقق في المعتبر وابن إدريس من ان الدرهم البغلي هو المنسوب الى هذه القرية المذكورة وان ابن إدريس شاهد بعضا منها ربما أوهم المنافاة لما تقدم من حيث كون الدرهم المذكور ضرب أخيرا وجرى في المعاملة كذلك مع ما علم من اختصاص ذلك بعصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما قبله وما قرب منه أخيرا. ويمكن ان يقال في الجواب عن ذلك ان النسبة الى هذه القرية وضربه بها يمكن ان يكون في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقبله لأن بابل وما قرب منها من البلدان القديمة وبقاء بعض منها الى ذلك الوقت لا يدل على المعاملة وانما يدل على انها بعد نسخها وهجرها وبطلان المعاملة بها بقيت في تلك القرية الخربة حتى انهم كانوا يلتقطونها منها ، وانما تبقى المنافاة في سبب التسمية والنسبة بين ما ذكره في الذكرى من ان السبب في تسميتها بغلية هو ضرب ذلك الرجل المسمى برأس البغل لها وبين ما ذكروه هنا من النسبة الى هذه القرية ، والأمر في ذلك سهل لا يترتب على اختلافه حكم شرعي بعد الاتفاق على الدرهم المعلوم.

و (الثاني) ـ ان أكثر هذه الأخبار المتقدمة قد وردت عن الباقر والصادق ومن بعدهما (عليهم‌السلام) والدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام في زمانهم (عليهم‌السلام) انما هو الذي وزنه ستة دوانيق فإطلاق الاخبار انما ينصرف اليه وهذا الاشكال قد تنبه له في المدارك فقال بعد نقل ملخص كلام الذكرى : ومقتضاه ان الدرهم كان يطلق على البغلي وغيره وان البغلي ترك في جميع العالم زمان عبد الملك وهو متقدم على زمان الصادق (عليه‌السلام) قطعا فيشكل حمل النصوص الواردة عنه (عليه‌السلام) عليه والمسألة قوية الإشكال. انتهى. والجواب عن ذلك ما قدمنا ذكره من ان الأخبار وان كانت مطلقة بذكر الدرهم إلا ان عبارة الفقه الرضوي قد اشتملت على تقييده بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيجب حمل إطلاق الاخبار الباقية عليها ، ويؤيده ان الظاهر ان التحديد بهذا الدرهم انما ذكره الأئمة (عليهم‌السلام)

٣٣٣

بيانا عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فالواجب حمله على زمانه لأنهم نقلة لاحكامه وحفظة لشريعته وبيان معالم حلاله وحرامه ، ولكن العذر للسيد المزبور واضح حيث لم يقف على الكتاب المذكور ، وكم كشف الله تعالى بهذا الكتاب الميمون من اشكال في أمثال هذا المجال كما عرفت فيما مضى وستعرف ان شاء الله تعالى فيما يأتي بتوفيق الملك المتعال. والله العالم.

(المسألة الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان كل ما لا تتم فيه الصلاة وحده كالتكة والقلنسوة والخف والنعل يعفى عن نجاسته كائنة ما كانت ولو كدم الحيض ونجس العين ، وانما الخلاف هنا في تعميم الحكم فيما تعلقت به وعدمه كما سيأتي تفصيله في المقام ان شاء الله تعالى.

ويدل على أصل الحكم مضافا الى الاتفاق المشار إليه جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «كل ما كان لا يجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس ان يكون عليه الشي‌ء مثل القلنسوة والتكة والجورب». وعن عبد الله بن سنان عن من أخبره عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) انه قال : «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس ان يصلي فيه وان كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه ذلك». وعن حماد بن عثمان في الصحيح عن من رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «في الرجل يصلي في الخف الذي قد اصابه قذر؟ قال : إذا كان مما لا تتم الصلاة فيه فلا بأس». وعن إبراهيم بن ابي البلاد عن من حدثهم عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «لا بأس بالصلاة في الشي‌ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيبه القذر مثل القلنسوة والتكة والجورب». وعن زرارة (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ان قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت؟

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٣١ من النجاسات.

٣٣٤

فقال لا بأس». وعن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلى فيه».

وطعن جمع من أصحاب هذا الاصطلاح في هذه الاخبار بضعف الاسناد : منهم ـ السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم وانما اعتمدوا في الحكم على الأصل مضافا الى اتفاق الأصحاب وأيدوا ذلك بهذه الاخبار ، ولا يخفى ما فيه من الضعف عند النظر بعين التحقيق والتأمل بالفكر الصائب الدقيق ولكن ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي هو الى الفساد أقرب منه الى الصلاح أوجب لهم التشبث بهذه العلل العليلة والوجوه الضئيلة.

وقال في الفقه الرضوي (٢) : «إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة أو الجورب أو الخف مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه وذلك ان الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذه وحده».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الأصحاب مع اتفاقهم على أصل الحكم المذكور كما تقدمت الإشارة إليه اختلفوا فيه من جهة المتعلق فذهب جمع من متأخري الأصحاب :

منهم ـ المحقق والشهيد في أكثر كتبه والشهيد الثاني وغيرهم الى تعميم الحكم في كل ما لا تتم الصلاة فيه من ملبوس ومحمول في محلها كانت تلك الملابس أم لا ، وخصه ابن إدريس بالملابس وتبعه العلامة في ذلك ، فقال في النهاية والمنتهى لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها لم تصح صلاته ، وتبعه الشهيد في البيان ، وزاد العلامة في أكثر كتبه ايضا اعتبار كون الملابس في محالها فصرح في المنتهى بأنه لو وضع التكة على رأسه والخف في يده وكانا نجسين لم تصح صلاته. ووافقه على ذلك في البيان ايضا ، ونقل عن القطب الراوندي

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من لباس المصلى.

(٢) ص ٦.

٣٣٥

قصر الحكم ايضا على الملابس وزاد تخصيصها بخمسة أشياء : القلنسوة والتكة والجورب والخف والنعل. والظاهر هو القول الأول لإطلاق الأخبار المتقدمة فإنها شاملة بعمومها للملبوس بنوعيه في محله وغير محله وكذا المحمول ، ورواية عبد الله بن سنان قد صرحت بالعفو عن المحمول بالخصوص من الملابس كان أو من غيرها. ولم نقف لشي‌ء من هذه الأقوال المخصصة على دليل إلا ان العلامة في المختلف نقل عن الراوندي الاحتجاج على ما قدمنا نقله عنه بالإجماع على هذه الخمسة وما عداه لم يثبت فيه النص فيبقى على المنع ثم أجاب بأنا قد بينا الثبوت والمشاركة في الجواز ، وأشار بذلك الى ما استدل به على العموم حيث اختاره في الكتاب المذكور فقال لنا على التعميم الاشتراك في العلة المبيحة للصلاة وهي كونه ملبوسا لا تتم الصلاة فيه منفردا ، وما رواه حماد ثم نقل مرسلة حماد المتقدمة ، ورواية عبد الله بن سنان. وهو جيد.

وما ذكره في المنتهى والنهاية وكذا في البيان ـ من عدم صحة الصلاة لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها ـ لا اعرف له وجها ولا عليه دليلا فإن غاية ما يفهم من الأدلة اشتراط صحة الصلاة بطهارة ثوب المصلي يعني ملبوسه شاملا كان للبدن أو غير شامل واما محموله سيما مثل الدراهم ونحوها فأي دليل دل على اشتراط صحة الصلاة بطهارته؟ وبما ذكرنا صرح السيد في المدارك ونقله عن المعتبر حيث قال : وغاية ما يستفاد من النص والإجماع اشتراط طهارة الثوب والبدن اما المنع من حمل النجاسة في الصلاة إذا لم تتصل بشي‌ء من ذلك فلا دليل عليه كما اعترف به المصنف في المعتبر. انتهى.

فروع

(الأول) ـ قد صرح الصدوق في الفقيه والمقنع بعد العمامة في جملة ما يعفى عنه ونقله عن أبيه في الرسالة أيضا ، قال في الفقيه «ومن أصاب قلنسوته أو عمامته أو تكته أو جوربه أو خفه مني أو دم أو بول أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه. وذلك

٣٣٦

لان الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذا وحده» انتهى.

والأصحاب قد استشكلوا في عده العمامة في جملة هذه المذكورات ونحوها ، قال شيخنا المجلسي في حواشيه على الكتاب : ظاهر الصدوق جواز الصلاة في العمامة وان كانت نجسة ، والظاهر انه وجد فيها نصا وإلا فيشكل الجزم بجواز الصلاة باعتبار انها بهذه الهيئة لا يتمكن من ستر العورتين بها فيلزم جواز الصلاة في كل ثوب مطوي مع نجاسته والظاهر ان التزامه سفسطة ، وعلى اي حال فالعمل على خلافه. انتهى.

أقول : العجب من شيخنا المذكور ان كتاب الفقه الرضوي عنده وهذه العبارة عين كلامه (عليه‌السلام) في الكتاب المذكور بتغيير يسير فكيف لم يطلع على ذلك مع تنبيهه في غير موضع على أمثال ذلك؟

ونقل المحقق في المعتبر عن القطب الراوندي حمل العمامة في كلام الصدوق على عمامة صغيرة كالعصابة ، قال لأنها لا يمكن ستر العورة بها وربما حملت على اعتبار كونها على تلك الكيفية.

قال في المدارك : ولعل المراد ان الصلاة لا تتم فيها وحدها مع بقائها على تلك الكيفية المخصوصة ، ثم نقل تأويل الراوندي وقال وهذا اولى وان كان الإطلاق محتملا لما أشرنا إليه سابقا من انتفاء ما يدل على اعتبار طهارة ما عدا الثوب والجسد والعمامة لا يصدق عليها اسم الثوب عرفا مع كونها على تلك الكيفية المخصوصة. انتهى.

واقتفاه في ذلك الفاضل الخراساني في الذخيرة فقال : والمسألة محل اشكال للشك في صدق اسم الثوب على العمامة عرفا وإذا لم يصدق عليها الثوب كان القول بالإلحاق متجها لان الدليل الدال على وجوب تطهير لباس المصلي مختص بالثوب فيبقى غيره على الأصل ، لكن في عدم التمثيل بالعمامة في الاخبار والتمثيل بالقلنسوة وغيرها إشعار بأن الحكم فيها ليس ذلك وإلا لكانت العمامة أحق بالتمثيل كما لا يخفى على المتأمل. انتهى.

وأنت خبير بان دعوى عدم صدق الثوب عليها عرفا مع كونها على تلك الكيفية

٣٣٧

لا اعرف له وجها إذ الثوب عرفا كما يطلق على المنشور يطلق على المطوي أيضا ، وبالجملة فإن الخبر المذكور وان دل على استثناء العمامة أيضا وقال بمضمونه الشيخان المشار إليهما إلا انه غير خال من شوب الإشكال إلا مع الحمل على ما ذكره الراوندي ، وهو لا يخلو من البعد ايضا والله العالم.

(الثاني) ـ قال المحقق في المعتبر : لو حمل حيوانا طاهرا غير مأكول اللحم أو صبيا لم تبطل صلاته لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حمل امامة وهو يصلي (١) وركب الحسين (عليه‌السلام) على ظهره وهو ساجد (٢) وفي المنتهى ذكر نحوه ايضا

__________________

(١) ذكر العلامة المقرم في تعليقه على محاضرات الفقه الجعفري لفقيه العصر آية الله السيد أبو القاسم الخوئي أدام الله ظله ص ٥١ ان قصة حمل النبي (ص) امامة في الصلاة لم ترد من طرقنا وانها مروية في جوامع أهل السنة كصحيح مسلم ج ١ ص ٢٠٥ وموطإ مالك ج ١ ص ١٨٣ وسنن البيهقي ج ٢ ص ٢٦٣ وغيرها وان الأحاديث تنتهي إلى واحد وهو أبو قتادة والمروي عنه واحد وهو عمرو بن سليم الزرقي ، وقد قرب ان القصة من الموضوعات وحقق الموضوع تحقيقا وافيا راجع التعليقة ٤ ص ٥١ تقف على المسألة مفصلا.

(٢) قصة ركوب الحسن والحسين (ع) على ظهر النبي (ص) من مرويات العامة رواها ابن حجر في الإصابة ج ١ ص ٣٢٩ ترجمة الحسن (ع) عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيري وفيه ص ٣٣٠ عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود ورواها ابن عساكر في تأريخه ج ٤ ص ٢٠٢ عن مصعب بن عمير عن عبد الله بن الزبير والذهبي في ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣٥٢ عن أبي هريرة وابن حجر في الصواعق المحرقة ص ٨٢ عن أبي بكرة وفي كنز العمال ج ٦ ص ١٠٩ عن أبي بكرة. وقد يترجح في نظر بعض ان هذه القصة من موضوعاتهم وان الله قد اعطى الامام العلم وأوقفه على اسرار التكوين منذ كان حملا في بطن امه ، فقد ورد في أحاديث كثيرة رواها الصفار في بصائر الدرجات والكليني في أصول الكافي عن أهل البيت (ع) «إذا ولد المولود منا رفع له عمود نور يرى به اعمال العباد وما يحدث في البلدان». إشارة إلى القوة القدسية المودعة في نفوس الأئمة (ع) فالإمام يعرف ماهية الصلاة ومن الذي يسجد له نبي الإسلام (ص) ولم يفته ان هذا الحال هو

٣٣٨

وزاد في حكاية ركوب الحسين (عليه‌السلام) ظهر جده ان الجمهور كافة نقلوه ، وأضاف الى هذه الرواية وجها آخر وهو ان النجاسة في المحمول في معدته كالحامل. ونقل عن بعض الأصحاب انه احتج لجواز ذلك بالأصل السالم عن معارضة ما يقتضي المنافاة. وهو كذلك. أقول : ومفهوم هذا الكلام انه لو كان المحمول حيوانا نجسا نجاسة ذاتية أو عارضية بطلت صلاته ، وهو مبني على اشتراط الطهارة في المحمول ايضا وقد عرفت ما فيه.

(الثالث) ـ قال الشيخ في الخلاف : إذا حمل قارورة مسدودة الرأس بالرصاص وفيها بول أو نجاسة ليس لأصحابنا فيه نص والذي يقتضيه المذهب انه لا ينقض الصلاة ، وبه قال ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي غير انه قاسه على حيوان طاهر في جوفه نجاسة ثم عزى الى غيره من العامة القول بالبطلان (١) وقال بعد ذلك : دليلنا ان قواطع

__________________

أقرب أحوال النبي (ص) مع مولاه عن شأنه فكيف يشغله الإمامان على الأمة ان قاما وان قعدا بنص الرسول (ص) عن مخاطبة حبيبه سبحانه؟ والامام لا يلهو ولا يلعب كما في الحديث راجع (وفاة الامام الجواد) للعلامة المقرم ص ٧٣ ، على ان رواة هذه القصة لا يعتمد على نقلهم فان آل الزبير أكثروا فيما يحط بكرامة أهل البيت (ع) وقد أخرجهم علماء الرجال عن صف من يوثق به من الرواة راجع كتاب (السيدة سكينة بنت الحسين) للعلامة المقرم ص ٣٨ الطبعة الثالثة. واما عاصم فهو ابن بهدلة بن ابى النجود أحد القراء وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ج ٥ ص ٣٨ كان عثمانيا سيئ الحفظ كثير الخطأ مضطرب الحديث وفيه نكرة. واما أبو بكرة فهو أخو زياد لامه كان منحرفا عن أمير المؤمنين (ع) ويخذل الناس عن نصرته يوم الجمل وهو الذي رد الأحنف بن قيس عن نصرته يوم الجمل بافتعاله الحديث «ستكون بعدي فتنة القاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله (ص) هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال لأنه أراد قتل صاحبه». واما أبو هريرة فان أحاديثه كلها لا تساوي فلسا لان دنيا معاوية أعمته عن أبصار الحق فلم يبال بالكذب.

(١) في المغني ج ٢ ص ٦٧ «لو حمل قارورة فيها نجاسة مسدودة لم تصح صلاته وقال بعض أصحاب الشافعي لا تفسد صلاته» وفي المهذب ج ١ ص ٦١ «إذا حمل قارورة فيها نجاسة وقد شد رأسها فيه وجهان أحدهما يجوز لأن النجاسة لا تخرج منها والمذهب انه لا يجوز لانه حمل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه ما إذا حمل النجاسة في كمه».

٣٣٩

الصلاة طريقها الشرع ولا دليل في الشرع على ان ذلك يبطل الصلاة ثم قال : ولو قلنا انه يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويا ، ولان على المسألة الإجماع وخلاف ابن أبي هريرة لا يعتد به. انتهى.

وقال المحقق في المعتبر ـ بعد نقل مجمل هذا الكلام ثم نقل عن الشيخ في المبسوط انه جزم بالبطلان ـ ما صورته : والوجه عندي الجواز وما استدل به الشيخ ضعيف لانه سلم ان ليس على المسألة نص لأصحابنا وعلى هذا التقدير يكون ما استدل به من الإجماع هو قول جماعة من فقهاء الجمهور وليس في ذلك حجة عندنا ولا عندهم ايضا ، والدليل على الجواز انه محمول لا تتم الصلاة به منفردا فيجوز استصحابه في الصلاة بما قدمناه من الخبر ، ثم نقول الجمهور عولوا على انه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت على ثوبه ونحن نقول النجاسة على الثوب منجسة له فتبطل لنجاسة الثوب لا لكونه حاملا نجاسة ونطالبهم بالدلالة على ان حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن. انتهى وهو جيد متين.

وقال في المعالم بعد نقل كلام المحقق المذكور : وهذه المناقشة متوجهة وما اختاره المحقق هو الحق واحتجاجه له مع جوابه عما عول الجمهور عليه في غاية الجودة ، وقد ذكر الشهيد في الذكرى بعد حكايته لكلام المحقق هنا انه لا حاجة على قوله الى سد رأس القارورة إذا أمن تعدي النجاسة منها ، قال ومن اشترطه من العامة لم يقل بالعفو عما لا تتم الصلاة فيه وحده بل مأخذه القياس على حمل الحيوان.

أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من الاستدراك على المحقق الظاهر انه لا وجه له ، فان المحقق قد أشار في آخر كلامه الى ما ذكره الشهيد هنا من قوله ونطالبهم بالدلالة على ان حمل النجاسة مبطل إذا لم تتصل بالثوب والبدن ، وسد الرأس انما ذكره

٣٤٠