الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) القول بالطهارة على كراهية ، ونقل عن ابن الجنيد والشيخ في النهاية القول بالنجاسة فيهما ، قال الشيخ في المبسوط : ما يكره لحمه يكره بوله وروثه مثل البغال والحمير والدواب وان كان بعضه أشد كراهة من بعض ، وفي أصحابنا من قال بول البغال والحمير والدواب وأرواثها نجس يجب إزالة قليله وكثيره. والمستفاد من الأخبار الصحيحة الصريحة ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ هو القول الثاني لكن بالنسبة إلى الأبوال دون الأرواث. ولا يخفى على من راجع كتب الأصحاب كالمعتبر والمنتهى ونحوهما من الكتب المبسوطة في الاستدلال ما وقع لهم في هذه المسألة من المجازفة وعدم إعطاء المسألة حقها من التحقيق كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وظاهر صاحب المدارك هنا التوقف مع اعترافه بصحة الروايات الدالة على النجاسة وصراحتها وعدم صلاحية المعارض للمعارضة رعاية لشهرة القول بالطهارة بين الأصحاب مع انه في شرحه في غير موضع انما يدور مدار الروايات الصحيحة وان استلزم مخالفة الأصحاب كما لا يخفى على من له انس بطريقته في ذلك الكتاب. هذا وممن اختار ما اخترناه المحقق الأردبيلي كما ذكره في المدارك وكنى عنه بشيخنا المعاصر وبه صرح ايضا الفاضل المحقق الشيخ جواد الكاظمي في شرحه على الدروس وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.

وها انا اذكر أدلة القول المختار عندي ثم أعطف الكلام على نقل أدلة القول المشهور وأبين ما فيها من الوهن والقصور فأقول وبالله سبحانه الاستعانة لبلوغ المأمول :

من الأخبار الدالة على النجاسة ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل بول الحمار والفرس والبغل فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». وفي الصحيح عن الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن أبوال الخيل والبغال؟ قال اغسل ما أصابك منه». وفي الحسن عن محمد بن مسلم

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

٢١

عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله فان شككت فانضحه». وفي الصحيح عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا بأس بروث الحمير واغسل أبوالها». ورواية عبد الأعلى بن أعين (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن أبوال الحمير والبغال؟ قال اغسل ثوبك. قال قلت فأرواثها؟ قال هو أكبر من ذلك». ورواية أبي مريم (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في أبوال الدواب وأرواثها؟ قال اما أبوالها فاغسل ما أصابك واما أرواثها فهي أكثر من ذلك». وموثقة سماعة (٥) قال : «سألته عن بول السنور والكلب والحمار والفرس. قال كأبوال الإنسان». ورواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصيبه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال : يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة ، وكل شي‌ء يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الاسناد عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألته عن الدابة تبول فيصيب بولها المسجد أو حائطه أيصلى فيه قبل ان يغسل؟ قال إذا جف فلا بأس». وصحيحته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٨) قال : «سألته عن الثوب يوضع في مربط الدابة على بولها أو روثها؟ قال ان علق به شي‌ء فليغسله وان اصابه شي‌ء من الروث أو الصفرة التي تكون معه فلا يغسله من صفرته». وروايته الثالثة في كتابه (٩) قال : «سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على بولها وروثها كيف يصنع؟ قال ان علق به شي‌ء فليغسله وان كان جافا فلا بأس». وما رواه الشيخ

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٧ من أبواب النجاسات.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٨ من أبواب النجاسات.

٢٢

عن ابي بصير عنه (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال ان تغير الماء فلا تتوضأ منه وان لم تغيره أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه». وصحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء». وصحيحته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٣) قال : «قلت له الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب. الحديث المتقدم» وزاد في آخره : «والكر ستمائة رطل». ورواية أبي بصير (٤) قال : «سألته عن كر من ماء مررت به وانا في سفر قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان ، قال لا تتوضأ منه ولا تشرب».

هذا ما حضرني من الروايات الدالة على المدعى ، والأصحاب لم يذكروا دليلا للقول بالنجاسة إلا رواية واحدة كما في المعتبر حيث اقتصر على حسنة محمد بن مسلم ثم أولها بالحمل على الاستحباب ، وفي المدارك اقتصر على الثلاث الأول ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا ، وربما زاد بعضهم كصاحب المعالم والفاضل الخراساني في الذخيرة ، واما روايات المياه فإنه لم يلم بها أحد بالكلية في هذا المقام مع انهم يستدلون بها على نجاسة القليل بالملاقاة والكثير بالتغيير في باب المياه ويذهلون عن حكمهم هنا بالطهارة.

واما أدلة القول المشهور فها أنا اذكرها واحدا واحدا مذيلا كلا منها بالجواب الكاشف عن حقيقة الحق والصواب.

فأقول. الأول ـ الأصل استدل به في المعالم حيث قال : «ويدل على الطهارة وجوه : أحدها ـ الأصل فإن إيجاب إزالتها تكليف والأصل يقتضي براءة الذمة منه» انتهى.

والجواب ان الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد قدمنا من الأدلة الصحيحة الصريحة في النجاسة ما يشفي العليل ويبرد الغليل ، وسيظهر لك ضعف ما عارضها ان شاء

__________________

(١ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الماء المطلق.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٩ من الماء المطلق.

٢٣

الله تعالى وبطلان ما ناقضها وبه يضمحل هذا الأصل من البين.

الثاني ـ رواية أبي الأغر النخاس (١) «سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) فقال إني أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها بيدها أو برجلها فينضح على ثوبي؟ فقال لا بأس به». ورواية المعلى بن خنيس وعبد الله بن ابي يعفور (٢) قالا : «كنا في جنازة وقدامنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا فدخلنا على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فأخبرناه فقال ليس عليكم بأس». وقد جمعوا بين هذين الخبرين وما يوردونه من اخبار النجاسة بحمل الأمر بالغسل على الاستحباب ، واستندوا في ذلك تبعا للشيخ إلى رواية زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) «في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه ، فقلت أليس لحومها حلالا؟ قال بلى ولكن ليس مما جعله الله للأكل». قال الشيخ في التهذيب والاستبصار بعد نقل جملة من الأخبار الدالة على النجاسة : هذه الأخبار كلها محمولة على ضرب من الكراهة والذي يدل على ذلك ما أوردناه من ان ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله وروثه ، وإذا كانت هذه الأشياء غير محرمة اللحوم لم يكن أبوالها وأرواثها محرما. قال ويدل على ذلك ايضا ما رواه احمد بن محمد ، ثم ساق رواية زرارة المذكورة ، ثم قال : فجاء هذا الخبر مفسرا لهذه الاخبار ومصرحا بكراهية ما تضمنته ويجوز ان يكون الوجه في هذه الأحاديث أيضا التقية لأنها موافقة لمذهب بعض العامة. انتهى.

والجواب عن ذلك (أولا) ـ بما ذكرناه في غير موضع مما تقدم من انه لا دليل على هذه القاعدة التي عكفوا عليها ولا مستند لها وان استندوا في غير باب إليها ، فإن حمل هذه الأوامر الواردة في الأخبار التي هي حقيقة في الوجوب على الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز ، وايضا فالاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم يحتاج الى دليل واضح.

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

٢٤

و (ثانيا) ـ انه من القواعد المقررة عندهم انهم لا يجمعون بين الأخبار مع تعارضها إلا مع التكافؤ في الصحة وإلا فتراهم يطرحون المرجوح ويرمون بالخبر الضعيف في مقابلة الصحيح ، فكيف خرجوا عن هذه القاعدة في هذا المقام؟ ولهذا ان السيد السند في المدارك بعد نقل روايتي القول المشهور المذكورتين ثم نقل الروايات الثلاث التي صدرنا بها الأخبار المتقدمة نقل عن الأصحاب حمل هذه الروايات على الاستحباب واعترضهم بان ذلك مشكل لانتفاء ما يصلح للمعارضة ، وكأنه لذلك تفطن جده (قدس‌سره) حيث انه لم يستدل بهذين الخبرين وانما استدل بالأدلة الآتية دون هذين الخبرين و (ثالثا) ـ ان قوله في التهذيب ـ بعد دعواه حمل أخبار النجاسة على ضرب من الكراهة : «والذي يدل على ذلك. إلخ» ـ مردود بان ما أورده من ان ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله عام وهذه الأخبار خاصة وطريق الجمع المعروف في أمثال هذا المقام حمل العام على الخاص لا ما ذكره.

و (رابعا) ـ انه من القواعد المقررة في اخبار أهل البيت (عليهم‌السلام) في مقام تعارض الأخبار الأخذ بالأعدل والأوثق وكذا الأخذ بالأشهر يعني في الرواية لا في الفتوى كما نبه عليه جملة من المحققين ، ولا ريب انه بمقتضى هاتين القاعدتين يجب ترجيح أخبار النجاسة كما لا يخفى على الخبير المنصف.

واما ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) ـ من حمل أخبار النجاسة على التقية لموافقتها لقول بعض العامة ـ ففيه ان الحمل على التقية فرع المرجوحية وللخصم ان يحمل خبرية على التقية أيضا بل هو الظاهر لمرجوحيتهما الموجبة لطرحهما فيحملان على التقية لقول جملة من العامة بالطهارة تفاديا من طرحهما.

ولا يخفى على المنصف الخبير انه من البعيد بل الأبعد ارتكاب التأويل في هذه الاخبار في مقابلة ذينك الخبرين الضعيفين مع ما عرفت من كثرتها وتعددها وورودها في مقامات متعددة وأحكام متفرقة مع صحة أسانيد كثير منها وقوة الباقي وصراحتها

٢٥

ولا سيما موثقة سماعة الدالة على انها كأبوال الإنسان ، ويقرب منها حسنة محمد بن مسلم الدالة على الأمر بغسله أولا ومع جهل موضعه غسل الثوب كله ومع الشك بنضحه ، فهل يبلغ الأمر في الاستحباب المؤذن بالطهارة الى هذه المرتبة؟ بل نظير ذلك انما جاء في النجاسة المحققة المعلومة كما في حسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وان استيقن انه قد اصابه ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كله فإنه أحسن».

ومن العجيب ما ذكره في المعالم هنا حيث انه أيد حمل الأمر بالغسل في حسنة محمد بن مسلم على الاستحباب بالأمر بالنضح فيها حيث انه للاستحباب ، قال بعد نقل كلام الشيخ الذي قدمناه : «وحاصله ان الأخبار متعارضة في هذا الباب وحمل روايات النجاسة على استحباب الإزالة طريق الجمع سيما بقرينة الرواية التي رواها أخيرا وامره في حسنة محمد بن مسلم بالنضح مع الشك وهو للاستحباب باعتراف الخصم ، مع انه وقع في الحديث مجردا عن القرينة الدالة على ذلك فلا بعد في كون الأوامر الواقعة في صحبته مثله ، بل المستبعد من الحكيم سوق الكلام على نمط يعطي الاتفاق في الحكم والحال على الاختلاف» انتهى.

أقول : أنت خبير بما فيه من التمحل الظاهر والتكلف الذي لا يخفى على الخبير الماهر ، فان القرينة على الاستحباب في النضح ظاهرة وهو يقين الطهارة وان الأصل ذلك كما هو القاعدة المسلمة التي لا يجوز الخروج عنها إلا مع يقين النجاسة ، وانما أمر بالنضح لدفع توهم الوسوسة كما في جملة من موارد النضح مع يقين الطهارة ، ولو تم ما ذكره للزم مثله في حسنة الحلبي التي ذكرناها وهو لا يقول به ، وما ذكره ـ من انه يستبعد من الحكيم. إلخ ـ مسلم لو لم تكن هنا قرينة والقرينة ظاهرة كما عرفت ، واما قوله

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

٢٦

في تأييد الحمل على الاستحباب وانه طريق الجمع ـ : «لا سيما بقرينة الرواية التي رواها أخيرا» مشيرا إلى رواية زرارة ـ فستعرف ما فيه ان شاء الله تعالى.

(الثالث) ـ ان لحومها حلال وان كان مكروها وكل ما كان كذلك فبوله وروثه طاهر ، اما الصغرى فاتفاقية نصا وفتوى ، واما الكبرى فلما رواه زرارة في الحسن (١) «انهما قالا لا تغسل ثوبك من بول شي‌ء يؤكل لحمه». وما رواه عمار في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «كل ما أكل فلا بأس بما يخرج منه».

والجواب ان المستفاد من الاخبار على وجه لا يعتريه بعد التأمل الإنكار ان المراد بمأكول اللحم في هذا المقام انما هو بمعنى ما كان مخلوقا للأكل لا ما كان حلالا كما توهموه وصار منشأ الشبهة لهم في هذه المسألة ، فإن هذه الدواب الثلاث انما خلقت لأجل الركوب والزينة كما دلت عليه الآية الشريفة «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» (٣) ومن أوضح الأدلة وأصرحها فيما قلناه ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) «انه سأله عن أبوال (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ؟) قال فكرهها فقال أليس لحمها حلالا؟ فقال أليس قد بين الله تعالى لكم : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‌ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥) وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة. فجعل للأكل الأنعام التي نص الله تعالى في الكتاب وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير ليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها». ومن هذه الرواية يتضح معنى الرواية التي تمسك بها الشيخ (قدس‌سره) واتباعه فقال في كلامه المتقدم : «فجاء هذا الخبر مفسرا لهذه الاخبار» والمراد بالكراهة في الروايتين انما هو النجاسة ، وبيانه انه لما سأله عن أبوال هذه الدواب فكرهها ـ يعني نجسها وحكم بنجاستها ـ استبعد زرارة ذلك لما تقرر عنده من أنها مأكولة اللحم وان كل ما كان مأكول اللحم فبوله وروثه طاهر فراجع في الجواب فقال :

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

(٣) سورة النحل ، الآية ٨.

(٤) البحار ج ١٨ ص ٢٦.

(٥) سورة النحل. الآية ٥.

٢٧

أليس لحومها حلالا وكل ما كان كذلك فبوله وروثه طاهر؟ فقال له بلى ولكن ليس المراد بمأكول اللحم الذي حكم الشارع بطهارة ما يخرج منه ما كان حلالا بل انما هو ما خلق لأجل الأكل وهذه الدواب الثلاث انما خلقت لشي‌ء آخر كما أوضحه (عليه‌السلام) في رواية العياشي. ومن هذا القبيل ايضا ما في صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري من قوله (عليه‌السلام) (١) : «يغسل بول الحمار والفرس والبغل واما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». فإنه لا مجال لحمل ما يؤكل لحمه في الرواية على ما يحل اكله بقوله مطلق وإلا لزم منه عدم جواز أكل لحوم تلك الدواب الثلاث لأنها وقعت في مقابلة ما يؤكل لحمه بل لا بد من حمله على ما خلق للأكل ، ومثلها روايته الأخرى (٢) حيث قال فيها : «يغسل بول الحمار والفرس والبغل وينضح بول البعير والشاة وكل شي‌ء يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». اما بعطف «كل شي‌ء» على «الشاة» يجعل قوله : «فلا بأس به» مستأنفا وفيه تعليل لذلك ، ويصير حاصل المعنى حينئذ انه ينضح بول البعير والشاة وبول كل شي‌ء يؤكل لحمه اي ما خلق لأجل الأكل كهذه المعدودات ولا يجب غسله فإنه لا بأس به ، واما يجعل قوله : «وكل شي‌ء» مبتدأ وخبره «لا بأس به» والجملة في مقام التعليل ، وحاصله انه ينضح بول هذه الحيوانات ولا يجب غسله فان كل شي‌ء يؤكل لحمه فإنه لا بأس ببوله ، وكيف كان فإنه لا يصح حمل قوله : «يؤكل لحمه» على ما يحل أكل لحمه بحيث يدخل فيه تلك الدواب الثلاث ، والأمر بالنضح قد ورد في أمثال ذلك في كثير من الاخبار مثل المذي وعرق الجنب وملاقاة الكلب الثوب يابسا وأمثال ذلك مما هو معلوم الطهارة يقينا.

(الرابع) ـ الإجماع المركب وهو ان كل من قال بنجاسة الأبوال قال بنجاسة الأرواث ومن قال بطهارة الأبوال قال بطهارة الأرواث فالقول بالنجاسة في الأبوال مع طهارة الأرواث خرق للإجماع المركب. وهذا الدليل وان لم يصرحوا به في كلامهم ويعدوه دليلا

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

٢٨

برأسه إلا انه مستنبط منه حيث انهم عمدوا إلى جملة من روايات المسألة المشتملة على الأمر بغسل البول وطهارة الروث فجعلوها من أدلة القول بالطهارة بتقريب حمل الأمر بغسل البول على الاستحباب لما اشتملت عليه الرواية من طهارة الروث ، حيث انه لا قائل بذلك إذ الخلاف في المسألة منحصر في القولين المتقدمين ، فالقول بما دل عليه ظاهر هذه الاخبار خرق للإجماع المركب فلا يجوز القول به ، قال المحقق الشيخ حسن بعد الاستدلال للقول بالطهارة بالروايتين المتقدمتين (١) وما رواه الشيخ بإسناده الصحيح عن احمد بن محمد ثم ساق صحيحة الحلبي المتقدمة (٢) وهي الثانية من روايتيه المشتملة على الأمر بغسل الأبوال ونفي البأس عن الأرواث ، ثم قال : وجه الدلالة في هذا الحديث نفي البأس عن الروث فيكون الأمر بغسل البول للاستحباب إذ لا قائل بالفصل فيما يظهر ، ثم عطف عليها رواية أبي مريم ورواية عبد الأعلى ، وجرى على ذلك ايضا الفاضل الخراساني في الذخيرة.

والجواب انه لا يخفى ما في هذا الاستدلال من المجازفة في أحكام الملك المتعال والبناء على أساس ظاهر الاضمحلال :

(أما أولا) ـ فلما حققه غير واحد من محققيهم في بطلان هذا الإجماع الشائع في كلامهم ومن المصرحين بذلك هذان القائلان ، أما الشيخ حسن فقد قدمنا عبارته المنقولة من المعالم في المقام الثاني من المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب فارجع اليه ليظهر لك صحة ما أوردناه عليه هنا ، واما الفاضل الخراساني فإنه قد تكلم في الإجماع وأطال في مسألة الوطء في الدبر وكونه موجبا للغسل أم لا من الذخيرة وقدح في ثبوته الى ان قال في آخر كلامه : «والغرض التنبيه على حقيقة الحال ومع هذا فلا أنكر حصول الظن به في بعض الأخبار ولكن في حجيته على الإطلاق نظر فهو من القرائن التي توجب التقوية والتأكيد ولا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية» انتهى. وحينئذ

__________________

(١) ص ٢٤.

(٢) ص ٢٢.

٢٩

فكيف يخالف نفسه هنا ويبني عليه الأحكام بأي تعسف وتكلف في المقام لا يخفى بعد ما حققناه على ذوي الألباب والافهام ، وبالجملة فإن مناقضة بعضهم بعضا بل الواحد نفسه في هذه الإجماعات ولا سيما الشيخ والمرتضى اللذين هما الأصل في الإجماع قد كفانا مؤنة القدح فيه ، وقد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد تصدى فيها لنقل جملة من المسائل التي ناقض الشيخ بها نفسه بدعواه الإجماع على الحكم في موضع ثم يدعيه على خلافه في موضع آخر وفيها ما ينيف على سبعين مسألة. والحق ان هذه الإجماعات المتناقلة لا تخرج عن مجرد الشهرة كما حققه شيخنا الشهيد في صدر الذكرى واليه أشار المحقق الشيخ حسن في كلامه المتقدم الذي أشرنا اليه.

و (اما ثانيا) ـ فإنه أي مانع عقلي أو شرعي يمنع من الفتوى في المسألة إذا قام الدليل على ذلك وان لم يقل به قائل من السابقين؟ واشتراط القول بوجود قائل من المتقدمين وان قال به شذوذ منا إلا ان المحققين على خلافه ، كيف ولو اشترط ذلك لم تتسع دائرة الخلاف في المسائل والأحكام ولا انتشر فيها النزاع والخصام الى ما عليه الآن من الاختلاف حتى انك لا تجد حكما من الأحكام إلا وقد تعددت فيه أقوالهم إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة فزائدا وهي تتجدد بتجدد العلماء لانحصار الفتوى في الشيخ في زمنه ، وقد نقل بعض الأصحاب انحصار الفتوى فيه (قدس‌سره) وانه لم يبق بعده إلا ناقل أو حاك حتى انتهت النوبة الى ابن إدريس ففتح باب الطعن على الشيخ والمخالفة له في كثير من المسائل ثم اتسع الباب شيئا فشيئا وانتشر الخلاف الى ما ترى ، على انه قد صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ وهو القدوة لكل داخل في هذا الباب وسالك ـ بأنه متى قام الدليل للفقيه على حكم في مسألة من المسائل جاز له الإفتاء فيها بما قام الدليل عليه عنده وان ادعى فيه الإجماع قبله فضلا عن انه لم يقل بها قائل من المتقدمين ، قال (قدس‌سره) في الكتاب المشار إليه في مسألة ما لو اوصى له بأبيه بعد الطعن في الإجماع ـ ونعم ما قال ـ ما هذه صورته : «وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره

٣٠

من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام الدليل على ما يقتضي خلافهم وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخر» انتهى. وهو جيد وجيه ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف استجاز هذان الفاضلان المنع من القول بما دلت عليه هذه الاخبار من نجاسة البول وطهارة الروث لانه لم يقل به أحد ممن تقدم ، ويا لله والعجب العجيب الظاهر للموفق المصيب ومن أخذ من الإنصاف بأدنى نصيب أن الأئمة (عليهم‌السلام) يفرقون بين البول والروث فيصرحون بنجاسة الأول ويأمرون بغسلة مع تصريحهم في كتبهم الأصولية بان الأمر حقيقة في الوجوب ، ويحكمون (عليهم‌السلام) بطهارة الثاني وهم يتعمدون مخالفتهم ويرتكبون هذه التأويلات الغثة في كلامهم فيحكمون بالطهارة فيهما معا ميلا إلى الأخذ بهذا الإجماع الغير الحقيق بالاتباع ولا الاستماع ، ما هو إلا اجتهاد محض في مخالفة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص ، فاشرب بكأس هذا الرحيق وارتع في رياض هذا التحقيق المنجي بحمد الله من لجج المضيق ، فإنك لا تجده في كلام غيرنا من علمائنا الاعلام ولا حام حوله غيرنا أحد في المقام ، والله سبحانه العالم بالأحكام.

(الفصل الثالث) ـ في المني وهو اما ان يكون من الإنسان أو غيره من الحيوان ذي النفس السائلة أو من غير ذي النفس السائلة ان ثبت وقوع المني منه فههنا أقسام ثلاثة :

(الأول) ـ مني الإنسان ، ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته ، والأصل فيه بعد الإجماع الأخبار المستفيضة كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) «في المني يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك فاغسله كله». وحسنة عبد الله بن ابي يعفور عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله وان خفي عليك مكانه فاغسله كله». وموثقة

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

٣١

سماعة (١) قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا». وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي اصابه. وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء ، وان استيقن انه قد أصابه مني فلم ير مكانه فليغسل ثوبه كله فإنه أحسن». وحسنة محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول ، ثم قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة ، فإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك ، وكذلك البول». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة التي لا حاجة الى التطويل بنقلها مع الاتفاق على الحكم المذكور ، وأكثر هذه الاخبار ما ذكر منها وما لم يذكر وان وقع لفظ المني فيها مطلقا إلا ان تبادر التخصيص بإرادة مني الإنسان أمر ظاهر منها كالعيان لا يحتاج الى بيان ، وبذلك صرح جملة من علمائنا الأعيان.

(الثاني) ـ مني غير الإنسان مما له نفس سائلة ، وحكمه حكم مني الإنسان عند الأصحاب من غير خلاف يعرف ، بل ادعى العلامة في التذكرة الإجماع على نجاسته مع مني الإنسان وجعله الحجة في الحكم المذكور ، وفي المعتبر والمنتهى ان الحجة على نجاسته عموم الأخبار المتقدمة ولم يذكرا الإجماع. ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من البعد السحيق عن ساحة تلك الاخبار ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما «وعندي في تحقق العموم بحيث يتناول غير الآدمي نظر ، ويمكن ان يحتج له بجعله أشد من البول في صحيح محمد بن مسلم ، فإنه وان شهدت القرينة الحالية في مثله بإرادة مني الإنسان إلا ان فيه اشعارا بكونه اولى بالتنجيس من البول فكل ما حكم بنجاسة بوله ينبغي ان تكون لمنيه هذه الحالة ، وربما كان هذا القدر كافيا مع الإجماع المنقول وعدم ظهور مخالف

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

٣٢

فيه» انتهى. أقول : من المحتمل قريبا ـ بل الظاهر انه المراد من الخبر ـ ان التشديد انما هو بالنسبة إلى الإزالة لا إلى النجاسة إذ النجاسة لا تقبل الشدة والضعف إلا بنوع من الاعتبار الذي لا يصلح لبناء حكم شرعي عليه ، واما الإزالة فالأمر فيها ظاهر فإن المني لمزيد ثخانته ولزوجته يحتاج في الغسل الى مزيد كلفة بخلاف البول الذي هو كالماء.

ويمكن الاستدلال على الطهارة بعموم موثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وموثقة عبد الله بن بكير (٢) «ان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائزة». إلا ان في الخروج عما ظاهرهم الإجماع عليه سيما مع أوفقيته بالاحتياط بهذين الخبرين مع ما هما عليه من الإجمال إشكالا ، إذ المتبادر من الأول انما هو البول والروث كما فهمه الأصحاب ولذلك نظموه في سلك الأخبار الدالة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه ، وقد تقدم مع جملة منها كذلك في أول الباب ، واما الثانية فالمراد منها انما هو الاشعار والأوبار والجلود ونحوها ويدل على ذلك سياق الخبر المذكور كما لا يخفى على من راجعه. وظاهره ان الفرق في صحة الصلاة وعدمها في المأكول وغير المأكول انما هو من حيث كونه مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. وهذا لا يتمشى في المني إذ الحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه أو الطهارة وجواز الصلاة فيه لا يفرق فيهما بين مأكول اللحم وعدمه كما لا يخفى ، وبالجملة فالأحوط الوقوف على ما ذكروه وان لم أقف له على دليل شاف.

(الثالث) ـ مني غير ذي النفس السائلة ، والظاهر من كلام جملة من الأصحاب هو القول بالطهارة ، وتردد فيه المحقق في المعتبر ونحوه العلامة في المنتهى مع ميلهما إلى الطهارة ، والظاهر ان وجه التردد هو ما أشرنا إليه آنفا من استدلالهما باخبار المني المتقدمة على نجاسة مني غير الإنسان من ذوات النفس السائلة وشمولها له بعمومها ، وحينئذ فيحتمل دخول ما لا نفس له تحت عموم تلك الأخبار إذ لا تصريح في تلك الأخبار

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

٣٣

بالتخصيص بذي النفس السائلة. ولا يخفى ما فيه من البعد بل هو مما يقطع بعدمه ، فان شمول الأخبار المذكورة لما عدا مني الإنسان مما يكاد يقطع بعدمه ايضا فكيف ما لا نفس له ، إذ حمل السؤالات المذكورة في الاخبار عن اصابة الثوب والبدن على مني غير الإنسان من الحيوانات أندر نادر واشذ شاذ ، سيما مع تصريحهم في غير موضع بأن الإطلاقات في الاخبار انما تنصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة ، فإذا كان الأمر كذلك في مني ما له نفس فكيف في مني ما لا نفس له؟ وبالجملة فالظاهر ان القول بالطهارة مما لا يحوم حوله شبهة الاشكال ولا يداخله النقض والاختلال.

تنبيهات

(الأول) ـ قد عرفت اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) على نجاسة مني الإنسان وتظافر الأخبار به إلا ان هنا جملة من الأخبار لا تخلو في ذلك من اشكال

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (١) قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال نعم لا بأس به إلا ان تكون النطفة رطبة فإن كانت جافة فلا بأس». وحمله الشيخ في الاستبصار على ما إذا لم يتجفف بالموضع الذي فيه المني لئلا يصيبه المني. وفيه انه لا يظهر على هذا فرق بين الرطبة والجافة لاشتراكهما في حصول البأس مع الإصابة رطبا كان أو يابسا مع رطوبة بدنه وانتفائه مع عدم أصابتها مع انه فرق بينهما.

أقول : قد وقفت في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا البهائي على الجواب عن هذا الاشكال الوارد على جواب الشيخ عن هذه الرواية ، حيث قال : «ظاهر هذا الحديث مشكل فإنه يشعر بطهارة المني إذا كان جافا كما هو مذهب بعض العامة وإلا فلا فرق هنا بين ما إذا كان المني رطبا وجافا إذا لم يماس البدن حال تنشيفه. ويمكن ان

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

٣٤

يقال ان من عرف موضع المني في ثوبه ثم نزعه فطرحه عنه ليغتسل فمعلوم ان اجزاء الثوب حال النزع وبعد الطرح يماس بعضها بعضا فيقع بعض الأجزاء الطاهرة منه على ذلك المني ، فإن كان جافا لا تتعدى نجاسته حال النزع وبعد الطرح الى ما يماسه من الاجزاء الطاهرة من الثوب فللمغتسل إذا أراد التنشيف ان يتنشف بأي جزء شاء من اجزائه سوى الجزء الذي تنجس بالمني ، وإذا كان رطبا فإن أجزاء الثوب التي تماسه غالبا في حال النزع وبعد الطرح تنجس به لا محالة وربما جفت في مدة الاشتغال بالغسل ولا يميز عند ارادة التنشيف عن الاجزاء الطاهرة التي لم تماسه فيشتبه الطاهر من الثوب بالنجس منه فلذلك جوز الامام (عليه‌السلام) التنشيف إذا كان جافا ولم يجوزه إذا كان رطبا» انتهى وهو جيد. أقول : ويمكن حمل الخبر ايضا على التقية لما أشار إليه شيخنا المذكور من ان ذلك مذهب لبعض العامة (١).

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن أبي أسامة (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) تصيبني السماء وعلي ثوب فتبله وانا جنب فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أفأصلي فيه؟ قال نعم». ويمكن حمله على التقية لأن القول بطهارة المني مذهب جماعة من العامة (٣) ويحتمل أيضا تأويله بأن البلل جاز ان لا يعم الثوب بأسره ويكون اصابة الثوب للمني ببعض ليس فيه بلل أو جاز ان يكون البلل قليلا بحيث لا تتعدى معه النجاسة وان كان شاملا للثوب بأسره ، كذا أفاد والدي في بعض تحقيقاته.

__________________

(١ و ٣) في المغني ج ٢ ص ٩٢ «المشهور عن أحمد طهارة المنى وعنه انه نجس ويعفى عن يسيره وعنه لا يعفى عن يسيره ، ويجزئ الفرك على كل حال ، والرواية الأولى هي المشهورة في المذهب وهو قول سعد بن ابى وقاص وابن عمر وابن عباس ، وقال ابن المسيب إذا صلى فيه لم يعد ، وهو مذهب الشافعي وابى ثور وابن المنذر» وفي البدائع ج ١ ص ٦٠ «المنى نجس وعند الشافعي طاهر».

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

٣٥

ومنها ـ ما رواه في الكافي أيضا في الموثق عن أبي أسامة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب تكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل علي؟ قال لا بأس». ويمكن اجراء الحملين المتقدمين فيه ايضا. واحتمل بعضهم ايضا ان يحمل على اصابة المطر الثوب بحيث طهره قال : وليس ببعيد. أقول : بل هو في غاية البعد حيث ان نجاسة المني لما فيه من الثخانة واللزوجة تحتاج الى مزيد كلفة في الإزالة فمجرد اصابة المطر لا يكفي في طهارة الثوب منها إلا ان يحمل على نجاسة لا توجد عين المني في الثوب وان كان بعيدا من لفظ الجنابة حيث ان المراد منها المنى مجازا. قال في الوافي بعد نقل خبري أبي أسامة المذكورين «والوجه في الخبرين انه لم يتيقن بلة ذلك الموضع بعينه بحيث يسري معها المني اليه سراية تنجسه ، ومجرد الاحتمال غير كاف وان كان قويا.

ومنها ـ ما رواه في الكافي والشيخ في التهذيب عن علي بن أبي حمزة (٢) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال لا ارى به بأسا. قال انه يعرق حتى انه لو شاء ان يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله (عليه‌السلام) في وجه الرجل وقال ان أبيتم فشي‌ء من ماء فانضحه به». ويحتمل الحملين المتقدمين ، ويحتمل ايضا ان يكون المراد من قوله : «أجنب في ثوبه» يعني جامع فيه لا بمعنى امنى فيه ويكون السؤال باعتبار توهم نجاسة بدن الجنب فتتعدى الى الثوب بالعرق. ولعله الأقرب فإن كثيرا من السؤالات في الاخبار وردت بناء على هذا التوهم.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه ليس شي‌ء مما يخرج من الذكر بنجس سوى البول والمني ، وعن ابن الجنيد انه قال ما كان من المذي ناقضا لطهارة الإنسان غسل منه الثوب والجسد ولو غسل من جميعه كان أحوط ، وفسر الناقض للطهارة بما كان خارجا عقيب شهوة ، قال في المختلف بعد ذكر المسألة ونقل خلاف ابن الجنيد : لنا ـ إجماع الإمامية على طهارته ، وخلاف ابن الجنيد غير معتد به

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

٣٦

فان الشيخ لما ذكره في كتاب فهرست الرجال واثنى عليه قال إلا ان أصحابنا تركوا خلافه لانه كان يقول بالقياس.

أقول : ويدل على القول المشهور جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ليس في المذي من الشهوة ولا من الإنعاظ ولا من القبلة ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد».

وعن حريز في الصحيح (٢) قال : «حدثني زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال ان سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو ودي فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء انما ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».

وعن إسحاق بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن المذي فقال ان عليا (عليه‌السلام) كان رجلا مذاء واستحيي أن يسأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لمكان فاطمة (عليها‌السلام) فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس فسأله فقال له ليس بشي‌ء».

وعن زيد الشحام في الحسن (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) المذي ينقض الوضوء؟ قال لا ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد انما هو بمنزلة البزاق والمخاط». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المعتضدة بأصالة الطهارة وإجماع من عدا ابن الجنيد على القول بها.

ومما يدل على القول بالنجاسة ما رواه الحسين بن ابي العلاء (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المذي يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله وان

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٩ من نواقض الوضوء.

(٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من نواقض الوضوء.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب النجاسات.

٣٧

خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله».

وروايته الأخرى أيضا (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المذي يصيب الثوب فيلتزق به؟ قال يغسله ولا يتوضأ».

وأجاب الشيخ عن هذين الخبرين بالحمل على الاستحباب جمعا بينهما وبين الاخبار المتقدمة ، ثم قال ويزيد ذلك بيانا ما رواه هذا الراوي بعينه وهو الحسين بن ابي العلاء (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المذي يصيب الثوب؟ قال لا بأس به فلما رددنا عليه قال ينضحه بالماء».

أقول : والأظهر عندي حمل الخبرين المذكورين على التقية كما قدمنا ذكره في الباب الثاني في الوضوء (٣) ورواية الحسين الثالثة خرجت مخرج الروايات المتقدمة في الدلالة على الطهارة ولكنه حيث انه (عليه‌السلام) فهم من السائل حصول النفرة منه امره بالنضح المأمور به في جملة من الأخبار في أمثال ذلك.

(الثالث) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان كل رطوبة تخرج من القبل والدبر فهي طاهرة ما عدا البول والغائط والدم والمني تمسكا بالأصل السالم عن المعارض ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود (٤) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن المرأة وليها قميصها أو إزارها يصيبه من بلل الفرج وهي جنب أتصلي فيه؟ قال إذا اغتسلت صلت فيهما». قوله «وليها» اي ولي جسدها مع رطوبته ببلل الفرج. ولا اعلم خلافا في الحكم المذكور وانما يحكى من بعض العامة القول بنجاستها ، وذكر المحقق في المعتبر ان القائل المذكور يتشبث بكون الرطوبة جارية من مجرى النجاسة. ورده بأن النجاسة لا يظهر حكمها إلا بعد خروجها من المجرى. وهذا واضح لا ريب فيه.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب النجاسات.

(٣) ج ٢ ص ١١٠.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٥٥ من أبواب النجاسات.

٣٨

(الفصل الرابع) ـ في الدم أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدا ابن الجنيد وظاهر الصدوق في الفقيه على نجاسة الدم قليله وكثيره إذا كان من ذي نفس سائلة ، قال العلامة في التذكرة : الدم من ذي النفس السائلة نجس وان كان مأكولا بلا خلاف. وقال في المنتهى : قال علماؤنا الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة أي يكون خارجا بدفع من عرق نجس ، وهو مذهب علماء الإسلام. وقال المحقق في المعتبر : الدم كله نجس عدا دم ما لا نفس له سائلة قليله وكثيره ، وهو مذهب علمائنا عدا ابن الجنيد فإنه قال إذا كان سعته دون سعة الدرهم الذي سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب. انتهى.

ويدل على نجاسة الدم مضافا الى اتفاق معظم الأصحاب روايات عديدة :

منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (١) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من مني فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد اصابه فطلبت فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد. قلت فان ظننت انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا. قلت فاني قد علمت انه قد اصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارته. قلت فهل علي ان شككت في انه أصابه شي‌ء ان انظر فيه؟ قال لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الذي وقع في نفسك. قلت ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شي‌ء أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك».

__________________

(١) رواه في الوسائل مقطعا في الباب ٧ و ٣٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ من أبواب النجاسات.

٣٩

وانما أوردنا هذه الرواية بطولها وان كان الغرض يتم بنقل صدرها لما فيها من الأحكام العديدة وسيأتي ان شاء الله تعالى التنبيه على كل حكم في محله ، وهذه الرواية وان كانت مضمرة في التهذيب بل ربما توهم انها مقطوعة إلا انها متصلة بالباقر (عليه‌السلام) في علل الشرائع (١) مع ان سوق الرواية يدل بأظهر دلالة على ان الخطاب فيها مع الامام (عليه‌السلام).

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (٢) قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيت وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقل من ذلك فليس بشي‌ء رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه».

وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال يعيد صلاته كي يهتم بالشي‌ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه. قلت فكيف يصنع من لم يعلم أيعيد حين يرفعه؟

قال لا ولكن يستأنف».

وعن عبد الله بن سنان في الحسن (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال ان كان علم انه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل ان يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه ان يعيد ما صلى. الحديث».

__________________

(١) ص ١٢٧.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٢ من أبواب النجاسات.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب النجاسات.

٤٠