الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

وذكر الفاضل الشيخ علي في بعض مصنفاته ان الشيخ نقل الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح وتقليل الدم بل يصلي كيف كان وان سال وتفاحش الى ان يبرأ ، قال وهذا بخلاف المستحاضة والسلس والمبطون إذ يجب عليهم الاحتياط في منع النجاسة وتقليلها بحسب الإمكان ، وأطلق الشيخ في النهاية وغيرها من كتبه التي رأيناها الحكم بعدم وجوب ازالة دم القروح الدامية والجروح اللازمة قل أو كثر ، وهو ظاهر في موافقة القول الأول أعني التحديد بالبرء. واعلم انه قد اتفق للعلامة في الإرشاد التعبير هنا بعبارة الشيخ فقال فيه : وعفي في الثوب والبدن عن دم القروح والجروح اللازمة. وحيث انه لم يظهر من العلامة في شي‌ء من كتبه إطلاق العفو بل اشترطه تارة بعدم انقطاع سيلان الدم وتارة بحصول المشقة وثالثة بهما حمل الشهيد الثاني في الروض كلامه هنا علي ان المراد بالوصف باللازمة استمرار الخروج ، والمحقق الشيخ علي فسرها بالتي لم تبرأ ، واعترضه في الروض بأنه ليس مذهبا للمصنف حتى يفسر كلامه به. وفيه ما ذكر ابنه في المعالم وان لم يصرح بنسبة التفسير الأول إلى أبيه بل عبر عنه ببعض الأصحاب فقال والحق مع الثاني فإن الظاهر من هذا الوصف ارادة كون الجرح باقيا غير مندمل ، ومجرد كون العلامة لم يصرح بهذا القول في غير ذلك الكتاب لا يسوغ حمل اللفظ على خلاف ظاهره والمصير الى المعنى الأول سيما مع ما هو معلوم من حال العلامة من عدم الالتزام بالقول الواحد في الكتاب الواحد فضلا عن الكتب المختلفة وبعد ظهور انتشار رأيه في هذه المسألة ، وحينئذ تكون أقواله في هذه المسألة أربعة.

أقول : وكيف كان فأظهر الأقوال وأصحها هو القول الأول ويدل عليه الأخبار الكثيرة :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل تخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلي؟

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب النجاسات.

٣٠١

فقال يصلي وان كانت الدماء تسيل».

وفي الصحيح عن ليث المرادي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوة دما وقيحا وثيابه بمنزلة جلده؟ قال يصلي في ثيابه ولا شي‌ء عليه ولا يغسلها». وفي الحسن عن ليث المرادي عن الصادق (عليه‌السلام) نحوه (٢) إلا انه لم يذكر في متنه «وثيابه بمنزلة جلده».

وما رواه في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (٣) قال «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي؟ فقال دعه فلا يضرك ان لا تغسله».

وعن سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم».

ورواية أبي بصير (٥) قال : «دخلت على ابي جعفر (عليه‌السلام) وهو يصلي فقال لي قائدي ان في ثوبه دما فلما انصرف قلت له ان قائدي أخبرني أن بثوبك دما؟ قال (عليه‌السلام) ان بي دماميل ولست اغسل ثوبي حتى تبرأ».

وموثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (٦) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب البزنطي عن عبد الله ابن عجلان عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألته عن الرجل به القرح لا يزال يدمي كيف يصنع؟ قال يصلي وان كانت الدماء تسيل».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من النجاسات.

(٧) السرائر نوادر البزنطي الحديث ١٢.

٣٠٢

ومن الكتاب المذكور عن البزنطي عن العلاء عن محمد بن مسلم (١) قال : «قال ان صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة».

ورواية سماعة (٢) قال : «سألته عن الرجل به القرح أو الجرح فلا يستطيع ان يربطه ولا يغسل دمه؟ قال يصلي ولا يغسل ثوبه إلا كل يوم مرة فإنه لا يستطيع ان يغسل ثوبه كل ساعة».

هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة وهي ظاهرة الدلالة على امتداد العفو الى البرء وبه صرح في موثقة سماعة ورواية أبي بصير ويقرب منه قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «يصلي وان كانت الدماء تسيل». ونحوها رواية عبد الله بن عجلان ، فان الظاهر من هذه العبارة ان المفهوم اولى بالحكم من المنطوق فيكون حالة عدم السيلان اولى بالعفو ، وربما يسبق الى الفهم من قوله في الصحيحة المشار إليها : «فلا تزال تدمي» ان الحكم مفروض في استمرار الجريان والعفو معلق عليه ، وهو باطل (أما أولا) فإن هذا الكلام انما وقع في كلام السائل ومقتضى جوابه انما هو ما ذكرناه والعبرة لا بكلام السائل. و (اما ثانيا) فان الظاهر انه ليس معنى «لا تزال تدمي» أن جريانها متصل لا ينقطع بل معناه تكرر الخروج وان كان دفعة بعد دفعة وحينا بعد حين ، ومن الظاهر ان ذلك هو مقتضى العرف من هذه العبارة فإنه إذا قيل فلان لا يزال يتكلم بكذا وكذا ولا يزال يتردد الى كذا وكذا ونحو ذلك فإنه يراد منه انه يفعله حينا بعد حين لا انه مستمر على فعله علي وجه لا انقطاع ولا انفصال فيه ، وبذلك يظهر ان ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ من اعتبار المشقة وابدال الثوب مع الإمكان واعتبار التقييد بعدم الانقطاع مطلقا أو مقيدا كما تقدم ـ لا دليل عليه بل

__________________

(١) السرائر نوادر البزنطي الحديث ١٣.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب النجاسات.

٣٠٣

الأدلة واضحة ظاهرة في رده ، فان المستفاد منها هو العفو عن هذا الدم شقت إزالته أم لا وسواء كانت له فترة ينقطع فيها بقدر الصلاة أو مطلقا أم لا ، وانه لا يجب ابدال الثوب ولا تخفيف النجاسة ولا تعصيب موضع الجرح أو القرح بحيث يمنعه من الخروج ، قال إطلاق الأمر بالصلاة وان كانت الدماء تسيل والنهي عن الغسل والحال هذه أظهر ظاهر في ذلك.

فروع

(الأول) ـ قد صرح العلامة في جملة من كتبه كالنهاية والمنتهى والتحرير انه يستحب لصاحب القروح والجروح غسل ثوبه في كل يوم مرة ، واحتج له في المنتهى والنهاية بأن فيه تطهيرا غير مشق فكان مطلوبا وبرواية سماعة المتقدمة ، أقول : ومثلها صحيحة محمد بن مسلم المنقولة من مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي. والسيد في المدارك بعد ان نقل عن العلامة الاستدلال برواية سماعة اعترضه بان في السند ضعفا. والعجب منه انه في غير موضع من شرحه المذكور بعد الطعن في الخبر بضعف السند وعدم نهوضه بالدلالة على الوجوب أو التحريم يحمله على الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه وهكذا قاعدة غيره من أصحاب هذا الاصطلاح ، فكيف خالف قاعدته هنا مع ان صحيحة محمد بن مسلم كما عرفت صريحة في ذلك؟ فلا يتوجه الطعن المذكور.

ثم ان ما ذكره العلامة ومن تبعه من حمل الرواية على الاستحباب انما نشأ من حيث ضعف سندها عندهم كما أشرنا إليه من ان قاعدتهم حمل الأخبار على ذلك متى ضعف سندها تفاديا من طرحها ، وأنت قد عرفت وجود الرواية الصحيحة بذلك وبموجب ذلك يجب العمل بالخبرين المذكورين في وجوب الغسل مرة واحدة في اليوم كما دلا عليه وتقييد تلك الاخبار بهما وان لم يوجد به قائل منهم ، ولا ريب انه الأحوط مع الإمكان واما ما ذكره العلامة من التعليل الأول فإنه عليل لا يعول عليه ولا يصح اسناد حكم

٣٠٤

شرعي إليه ، نعم يصلح توجيها للنص المذكور.

(الثاني) لو تعدى الدم عن محل الضرورة من الجروح والقروح في الثوب والبدن فهل يسري العفو أم لا؟ وجهان صرح بثانيهما في المنتهى فقال : لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب أو البدن بان لمس بالسليم من بدنه دم الجرح أو بالطاهر من ثوبه فالأقرب عدم الترخيص فيه. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وما استقربه حسن. وقال في المدارك : لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب احتمل بقاء العفو تمسكا بالإطلاق وعدمه لانتفاء المشقة بإزالته ، وهو خيرة المنتهى.

أقول : لا يبعد التفصيل هنا بين ما إذا تعدى الدم بنفسه إلى سائر أجزاء البدن أو الثوب الطاهر وبين ما إذا عداه المكلف بنفسه بان وضع يده الطاهرة على دم الجرح أو طرف ثوبه الطاهر عليه ، والقول بالعفو في الأول دون الثاني ، والظاهر من عبارة المنتهى انما هو الثاني إلا ان موثقة عمار المتقدمة ظاهرة في العفو في الثاني أيضا وبه يظهر ضعف ما قربه في المنتهى واستحسنه في المعالم ، ولو لم يرد هذا الخبر في اخبار المسألة لكان ما ذكرناه من التفصيل جيدا فان المتبادر منها انما هو القسم الأول خاصة إلا انه يمكن ان يقال بحمل الموثقة المذكورة على خروج القيح من الدمل دون الدم فإنه بعد نضجه متى انفجر فإنما يخرج منه القيح الأبيض خاصة وربما خالطه لون الدم ، وبالجملة فإن حمل الخبر على ذلك غير بعيد وبه يظهر قوة ما ذكرناه من التفصيل.

(الثالث) ـ قال في المدارك : لو لاقى هذا الدم نجاسة أخرى فلا عفو ، وان اصابه مائع طاهر كالعرق ونحوه فالأظهر سريان العفو إليه لإطلاق النص ومس الحاجة واستقرب في المنتهى العدم قصرا للترخيص على موضع النص وهو الدم ولا ريب انه أحوط. انتهى. وهو جيد.

(الرابع) ـ إذا لاقى هذا الدم جسم برطوبة ثم لاقى الجسم بدن صاحب الدم وثوبه فهل يثبت فيه العفو كأصله أو لا؟ احتمالان استقرب ثانيهما العلامة في النهاية والمنتهى ،

٣٠٥

ولم نقف لغيره على كلام في هذا الفرع إلا انهم ذكروا نظيره في الملاقي للدم القليل المعفو عنه كالاقل من درهم ، واختار جمع منهم ثبوت العفو في الملاقي ايضا مستندين الى ان المتنجس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه وغايته ان يساويه فإذا ثبت العفو عن عين النجاسة فما هو أضعف منه حكما اولى بالعفو ، وهذا التوجيه جار فيما نحن فيه ، وبهذا التقريب رجح في المعالم هنا الاحتمال الأول. والمسألة عندي محل توقف.

(المسألة الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان ما نقص عن سعة الدرهم من الدم المسفوح الذي ليس من أحد الدماء الثلاثة ولا دم الجروح والقروح معفو عنه وان ما زاد منه على الدرهم فلا يعفى عنه. ويدل على الأول ـ بعد الإجماع المدعى من جمع من الأصحاب كالمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والنهاية والتذكرة والمختلف ـ الأخبار الآتية ، وعلى الثاني مضافا الى الإجماع المدعى ايضا الأخبار الدالة على نجاسة الدم كما تقدم والأخبار الآتية الدالة على العفو عن الناقص ، وانما الخلاف والاشكال في قدر سعة الدرهم ، فذهب الأكثر ومنهم الصدوقان والشيخان والفاضلان والشهيدان وغيرهم إلى إيجاب إزالته ، وعن المرتضى وسلار عدم الوجوب.

وها انا ابسط ما وقفت عليه من اخبار المسألة واذيلها بما رزقني الله تعالى فهمه منها في الجمع بين مختلفاتها وتأليف متفرقاتها :

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن ابي يعفور (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قال قلت انه يكثر ويتفاحش؟ قال وان كثر. قال قلت فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة».

__________________

(١) المروية في الوسائل بالتقطيع في الباب ٢٠ و ٢٣ من النجاسات.

٣٠٦

وحسنة محمد بن مسلم (١) قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس بشي‌ء رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه». هكذا في رواية الكافي ، وفي التهذيب هكذا : «وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء» بزيادة الواو وحذف «وما كان أقل» وفي الاستبصار حذفه ايضا ولم يزد الواو ، وفي الفقيه رواه عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) كما في الكافي وزاد في آخره «وليس ذلك بمنزلة المني والبول ثم ذكر المني فشدد فيه. الحديث» كما تقدم في الفصل الثالث في نجاسة المني.

ورواية إسماعيل الجعفي عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «في الدم يكون في الثوب ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته وان لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة».

ورواية جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (٣) انهما قالا : «لا بأس بان يصلى الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه النضح وان كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم».

وقال الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (٤) «إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف ، والوافي ما يكون وزنه درهما وثلثا ، وما كان دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ولا بأس بالصلاة فيه ، وان كان الدم حمصة فلا بأس بان لا تغسله إلا ان يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قل أم

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

(٤) ص ٦.

٣٠٧

كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم». انتهى كلامه وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه بأدنى تغيير إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام هنا يقع في مواضع

(الأول) ـ لا يخفى ان مورد الأخبار المذكورة انما هو الثوب خاصة وظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على ضم البدن إليه أيضا ، قال في المنتهى : حكم البدن حكم الثوب في هذا الباب ذكره أصحابنا ويؤيده رواية مثنى بن عبد السلام (١) ولأن المشقة موجودة في البدن كالثوب بل أبلغ لكثرة وقوعها إذ لا تتعدى غالبا الى الثوب إلا منه. انتهى. وقال في المعالم بعد ذكر ملخصه : ولا بأس به. وقال في المدارك : مورد الروايات المتضمنة للعفو تعلق النجاسة بالثوب ، وقال في المنتهى انه لا فرق في ذلك بين الثوب والبدن وأسنده إلى الأصحاب لاشتراكهما في المشقة اللازمة من وجوب الإزالة ، وهو جيد لمطابقته لمقتضى الأصل السالم عما يصلح للمعارضة ، ويشهد له رواية مثنى بن عبد السلام عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له اني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال إذا اجتمع منه قدر حمصة فاغسله وإلا فلا». والظاهر ان المراد بقدر الحمصة قدرها وزنا لا سعة وهي تقرب من سعة الدرهم. انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلامهم هنا من المجازفة الظاهرة (اما أولا) ـ فلان التعليل في إلحاق البدن بالثوب بالمشقة انما يتم على تقدير تسليمه لو كان وجوب الإزالة عن الثوب معللا بالمشقة ، مع ان هذه العلة غير موجودة في شي‌ء من الاخبار المتقدمة وانما هي علة مستنبطة والعلة الحقيقية في وجوب الإزالة عن الثوب انما هي الأخبار الدالة على ذلك ولا اشعار لها بشي‌ء من هذه العلة ، ثم أي مشقة في إزالة الدم وحده مع وجوب الإزالة فيما عداه من النجاسات قل أو كثر بل في غيره من الدماء؟ وبالجملة فإن هذا التعليل عليل لا يصلح لبناء حكم شرعي.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

٣٠٨

و (اما ثانيا) ـ فان ما ذكره في المدارك من الاستناد إلى مطابقة الأصل غير متأصل إذ الظاهر ان مراده من هذا الأصل هنا هو أصالة براءة الذمة من وجوب الإزالة ، وهو مردود بما عرفت من استفاضة النصوص بنجاسة الدم ووجوب إزالته في الصلاة قليلا كان أو كثيرا خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي وهو ما يوجب الخروج عن هذا الأصل.

و (اما ثالثا) ـ فان ما ذكره من خبر الحمصة وتأوله به من ان المراد بالحمصة قدرها وزنا لا سعة مدخول بأنه يمكن ان يلطخ بقدر الحمصة وزنا من الدم تمام الثوب ، وحينئذ لا معنى لقوله «وهو يقرب من سعة الدرهم» فانا لا ندري أي شي‌ء أراد بهذا القرب والحال كما ذكرنا ، والظاهر من الرواية المذكورة انما هو قدرها في السعة وانه لا يعفى عنه وانما يعفى عما دونه ، فالرواية بالدلالة على خلاف ما يدعونه أشبه.

وربما أشعرت الرواية بعدم نجاسة هذا المقدار اليسير من الدم كما هو ظاهر عبارة الصدوق في الفقيه حيث قال : «وان كان الدم دون حمصة فلا يغسل» ويؤيده أيضا ما في رواية الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) حيث «سأله عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال لا وان كثر ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله». والتقريب ان المتفرق من الرعاف غالبا انما يكون أقل من الحمصة فلو كان نجسا لكان النضح انما يزيده نجاسة ، ولكن لا أعلم قائلا بذلك إلا ما يظهر من إطلاق عبارة ابن الجنيد المتقدمة في صدر المسألة الأولى.

هذا ما اقتضاه البحث بحسب النظر الى الدليل وان كان الاحتياط فيما ذهبوا اليه سيما مع ظاهر اتفاقهم على ذلك ولا اعرف لهم دليلا سواه.

واما ما تضمنه كتاب الفقه كما قدمنا في عبارته من نفي البأس عن قدر الحمصة من الدم فمشكل والصدوق (قدس‌سره) مع أخذ عبارته في الفقيه من عبارة الكتاب

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من النجاسات.

٣٠٩

المذكور قد عدل في هذا المقام عن ذلك كما قدمنا من عبارته ، ويمكن حمل عبارة كتاب الفقه ـ كما هو ظاهر سياقها ـ على ان مقدار الحمصة الذي نفى عنه البأس انما هو في الثوب وحينئذ فنفى البأس من حيث السعة فتدخل تحت عموم قوله : «وما كان دون الدرهم» فإنها من حيث السعة دون الدرهم المذكور وانما محل الإشكال في البدن باعتبار احتمال الوزن كما ذهب إليه في المدارك.

(الموضع الثاني) ـ قد اتفقت هذه الروايات على ما قدمنا ذكره في العفو عما نقص من قدر الدرهم وعدم العفو عما زاد وانما اختلفت في العفو عن قدر الدرهم وعدمه وبذلك اختلفت كلمة الأصحاب ، والمشهور الثاني كما قدمنا ذكره.

واستدل عليه بوجوه : (أولها) ـ ان مقتضى الدليل وجوب ازالة قليل النجاسة وكثيرها لقوله (عليه‌السلام) «انما يغسل الثوب من البول والمني والدم» (١). ونحو ذلك من الأخبار التي قدمناها في الفصل الرابع في نجاسة الدم مما دل على وجوب تطهير الثوب من الدم واعادة الصلاة بالصلاة فيه ناسيا ونحو ذلك ، فإن إطلاقها يقتضي وجوب ازالة الدم كيف كان خرج منه ما وقع الاتفاق على العفو عنه وهو الأقل من درهم وبقي الباقي وعلى هذا الوجه اقتصر المحقق في المعتبر وان كان كلامه فيه بوجه مختصر ، وهو جيد وجيه كما لا يخفى على العارف النبيه.

و (ثانيها) ـ قوله تعالى : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» (٢) قال العلامة في المختلف وهو عام تركناه فيما نقص عن الدرهم للمشقة وعدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الأمر بإزالته. أقول : وفيه عندي نظر تقدم ذكره قريبا وهو ان الاخبار الواردة بتفسير الآية قد

__________________

(١) الظاهر ان هذا مضمون الأخبار الواردة في نجاسة هذه الأمور وليس لفظا واردا في حديث خاص وقد أورده كذلك المحقق في المعتبر وصاحبا المدارك والمعالم ومرجعه الى التمسك بالإطلاقات.

(٢) سورة المدثر ، الآية ٤.

٣١٠

اتفقت على تفسير التطهير هنا بتشمير الثياب فلا وجه للاستدلال بها هنا بعد ورود التفسير لها بنوع خاص.

و (ثالثها) ـ صحيح ابن ابي يعفور المتقدم ورواية جميل بن دراج ودلالتهما على ذلك ظاهرة بل صريحة ، ومثلهما عبارة كتاب الفقه ، وهذا القول هو المعتمد عندي لما عرفت.

واما أدلة القول الآخر فوجهان : (أحدهما) ما حكاه في المختلف عن المرتضى فقال : قال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ان الله أباح الصلاة في قوله تعالى : «... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...» (١) عند تطهير الأعضاء الأربعة فلو تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدل عليها الظاهر لانه بخلافها ، ولا يلزم على ذلك ما زاد على الدرهم وما عدا الدم من سائر النجاسات لان الظاهر وان لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم. ثم أجاب في المختلف عن هذه الحجة بأن الآية لا تدل على الإباحة عند تطهير الأعضاء الأربعة بل على اشتراط تطهيرها في الصلاة. أقول : ومع تسليم ما ذكره فإنه كما خصص الآية بالأدلة الدالة على وجوب ازالة ما زاد على الدرهم وما دل على إزالة سائر النجاسات فليكن مثلها صحيحة ابن ابي يعفور ورواية جميل وكلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه لدلالتها على وجوب ازالة قدر الدرهم وعدم العفو عنه.

و (ثانيهما) ـ حسنة محمد بن مسلم بطريق الشيخ المتقدم ذكره ورواية إسماعيل الجعفي المتقدمتان. وأجاب في المختلف عن الحسنة المذكورة بأن محمد بن مسلم لم يسنده الى الامام (عليه‌السلام) قال وعدالته وان كانت تقتضي الاخبار عن الإمام إلا ان ما ذكرناه لا لبس فيه يعني حديث ابن ابي يعفور.

ولله در المحقق الشيخ حسن في المعالم حيث رد ذلك فقال : واما جوابه عن الثاني

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٦.

٣١١

فمنظور فيه وذلك لان الممارسة تنبه على ان المقتضى لنحو هذا الإضمار في الاخبار ارتباط بعضها ببعض في كتب روايتها عن الأئمة (عليهم‌السلام) فكان يتفق وقوع أخبار متعددة في أحكام مختلفة مروية عن امام واحد ولا فصل بينها يوجب اعادة ذكر الامام (عليه‌السلام) بالاسم الظاهر فيقتصرون على الإشارة إليه بالمضمر. ثم انه لما عرض لتلك الاخبار الاقتطاع والتحويل الى كتاب آخر تطرق هذا اللبس ومنشأه غفلة المقتطع لها وإلا فقد كان المناسب رعاية حال المتأخرين لأنهم لا عهد لهم بما في الأصول ، واستعمال ذلك الإجمال انما ساغ لقرب البيان وقد صار بعد الاقتطاع في أقصى غاية البعد ولكن عند الممارسة والتأمل يظهر انه لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدث بحديث في حكم شرعي ويسنده الى شخص مجهول بضمير ظاهر في الإشارة إلى معلوم فكيف بأجلاء أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) كمحمد بن مسلم وزرارة وغيرهما ، ولقد تكثر في كلام المتأخرين رد الاخبار بمثل هذه الوجوه التي لا يقبلها ذو سليقة مستقيمة ، هذا وقد كان الاولى للعلامة (قدس‌سره) في الجواب عن الاحتجاج بهذا الحديث بعد حكمه بصحة حديث ابن ابي يعفور ورجوع كلامه في جوابه الى ان حديث ابن ابي يعفور أرجح في الاعتبار من خبر ابن مسلم ان يجعل وجه الرجحان كون ذلك من الصحيح وهذا من الحسن. انتهى.

أقول : ومن العجب هنا كلامهم في الرواية المذكورة فيما اشتملت عليه من الإرسال اعتراضا وجوابا مع ان الصدوق رواها في الفقيه عن محمد بن مسلم انه قال للباقر (عليه‌السلام) كما قدمنا ذكره في عد الروايات فكيف غفل الجميع عن ملاحظة ذلك واحتاجوا الى هذا التكلف سؤالا وجوابا؟

إذا عرفت ذلك فاعلم ان في المدارك بعد ان استدل للمرتضى بحسنة محمد بن مسلم المروية في التهذيب ورواية الجعفي قال : وجه الدلالة انه (عليه‌السلام) رتب الإعادة على كون الدم أكثر من مقدار الدرهم فينتفي بانتفائه عملا بالشرط وهو منتف مع المساواة ، ولا يعارض بالمفهوم الأول لاعتضاد الثاني بأصالة البراءة. انتهى.

٣١٢

أقول : لا يخفى ان هذين المفهومين الحاصلين من الشرطيتين انما هما في رواية الجعفي حيث قال : «ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وان كان أكثر فليعد صلاته». واما حسنة محمد بن مسلم بناء على نقله لها من التهذيب فليس فيها إلا ان «وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء». وهو يرجع الى الشرطية الثانية من رواية الجعفي ، واما على روايتي الكافي والفقيه فهي مشتملة على الشرطيتين معا.

بقي الكلام معه في ترجيح أحد المفهومين على الآخر فان مفهوم الشرطية الاولى انه لو لم يكن أقل من درهم بل كان درهما فصاعدا فإنه يعيد ، وعلى هذا المفهوم بنى الاستدلال للقول المشهور ، ومفهوم الشرطية الثانية انه لو لم يكن أكثر من الدرهم فلا يعيد ، وعليه بنى استدلال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) واختاره في المدارك ورجحه باعتضاده بأصالة البراءة. ولا يخفى ما فيه فان أصالة البراءة لا معنى لها بعد استفاضة الأخبار بنجاسة الدم بقول مطلق ووجوب الطهارة منه في الصلاة ووجوب إعادتها بالصلاة فيه ناسيا خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي ، ومع تسليم ما ذكره فهذا الأصل هنا مخصوص بصحيحة ابن ابي يعفور وما شابهها مما دل على القول المشهور وبه يظهر وجه رجحان مفهوم الشرطية الاولى ، وبذلك يظهر ان حمله لروايات القول المشهور على الاستحباب غير جيد لظهورها في وجوب الإعادة وصحة بعضها وكثرتها واعتضادها بالأخبار المطلقة التي أشرنا إليها وقبول ما قابلها للتأويل ، مع ما عرفت في غير موضع من انه لا دليل على الجمع بين الاخبار بالاستحباب والكراهة وان كان مشهورا بينهم.

قال في المعالم بعد البحث في المقام : وبالجملة فحديث ابن ابي يعفور أقرب الى القبول من خبر ابن مسلم فمع التعارض يكون الترجيح للأول ، وبتقدير المساواة فخبر ابن مسلم أقرب الى التأويل إذ يمكن حمل الزيادة عن مقدار الدرهم فيه على كونها إشارة الى ان اتفاق كون الدم بمقدار الدرهم فحسب بعيد جدا فان الغالب فيه الزيادة أو النقصان ومما يرشد الى هذا قوله في رواية إسماعيل الجعفي : «ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد

٣١٣

الصلاة وان كان أكثر فليعد صلاته». ولم يتعرض لحال مساواته للدرهم ، والظاهر انه لا وجه لتركه إلا بعد وقوعه ، وحينئذ فيكون مفهوم الشرط الأول في هذه الرواية مخصصا لعموم مفهوم الشرط الثاني بمعونة ملاحظة الجمع بينه وبين حديث ابن ابي يعفور. انتهى. وهو جيد إلا ان استشهاده برواية إسماعيل الجعفي على ما ذكره مبني على نقله حسنة محمد بن مسلم من التهذيب وإلا فهي في الكافي والفقيه قد اشتملت على ما اشتملت عليه رواية الجعفي من الشرطيتين المذكورتين فيها كما قدمنا نقله لانه قال : «ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك ـ يعني من الدرهم ـ فليس بشي‌ء» إلا ان للتأويل فيها مدخلا بإرجاع اسم الإشارة إلى الأزيد وهو غلط كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، والظاهر انه وكذا قبله صاحب المدارك لم يلاحظوا الكافي والفقيه في تحقيق هذه الرواية.

أقول : والذي يقرب عندي ويدور في خلدي في معنى حسنة محمد بن مسلم هو انه لما كان فرض الدرهم نادر الوقوع بل الغالب اما الزيادة عليه أو النقيصة عنه عبر عن الدرهم فصاعدا بما زاد على الدرهم كأنه قيل ما لم يكن درهما فزائدا كما قالوه في قوله عزوجل : «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» (١) اي اثنتين فما فوق ، والتعبير بمثل ذلك عن ارادة المعنى الذي ذكرناه شائع في الاخبار ، ويؤيده ترك التعرض لمقدار الدرهم في الخبر والاقتصار على ذكر الأكثر والأقل والظاهر انه مطوي في جانب الأكثر ، وقد تتبعت في الاخبار ما جرى هذا المجرى إلا انه لا يحضرني الآن منه إلا رواية واحدة وهي رواية يونس عن بعض رجاله عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم؟ قال أيما مكار أقام في منزله أو البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام ، وان كان له مقام في منزله أو البلد الذي يدخله أكثر من عشرة

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ١٢.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١٢ من صلاة المسافر.

٣١٤

أيام فعليه التقصير والإفطار». فإن حكم العشرة التي هي الحد الشرعي في وجوب القصر غير مذكور وما ذاك إلا انه من حيث ندرة الاقتصار على العشرة من غير زيادة ولا نقصان فادرجها في جانب الأكثر ، فالمعنى في قوله (عليه‌السلام) «أكثر من عشرة أيام» أي عشرة فأكثر ، وبالجملة رمي هذه العبارة بهذا المعنى في هذا المقام كثير يعرفه المتتبع المتأمل في الاخبار ، وحينئذ فقوله في الحسنة المذكورة بناء على روايتي الكافي والفقيه «وما كان أقل من ذلك» لا دلالة فيه فان الإشارة فيه انما هي إلى الدرهم يعني أقل من درهم حسبما وقع في رواية الجعفي. والله العالم.

(الموضع الثالث) ـ اختلف الأصحاب في الدم المتفرق في الثوب أو البدن الذي لو جمع لبلغ قدر الدرهم هل تجب إزالته أم لا؟ على أقوال ، فقيل ان حكمه حكم المجتمع ان بلغ درهما وجبت إزالته وإلا فلا وبه قال سلار من المتقدمين وأكثر المتأخرين ، وظاهر الشيخ في النهاية انه لا تجب إزالته مطلقا إلا ان يتفاحش ، ويحكى عنه في المبسوط انه قال ما نقص عن الدرهم لا تجب إزالته سواء كان في موضع واحد من الثوب أو في مواضع كثيرة بعد ان يكون كل موضع أقل من مقدار الدرهم ، وان قلنا إذا كان جميعه لو جمع لكان مقدار الدرهم وجب إزالته كان أحوط للعبادة. ونقل عن ابن إدريس إطلاق القول بعدم وجوب الإزالة واختاره المحقق في النافع ، وظاهره في المعتبر وفاق الشيخ في النهاية.

وقد ظهر من ذلك ان الأقوال في المسألة ثلاثة : (أحدها) ـ التفصيل بين بلوغ الدرهم وعدمه فتجب الإزالة على الأول دون الثاني ، وهو المشهور بين المتأخرين.

(الثاني) ـ عدم وجوب الإزالة مطلقا إلا ان يتفاحش وهو قول الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر.

(الثالث) ـ عدم وجوب الإزالة مطلقا وهو مذهب ابن إدريس والمحقق في النافع والشرائع أيضا والشيخ في المبسوط واختاره السيد في المدارك.

٣١٥

وهو الأقرب وتدل عليه صحيحة ابن ابي يعفور المتقدمة وقوله فيها «إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا».

وأجاب عنها في المختلف بان «مجتمعا» كما يحتمل ان يكون خبرا ل «يكون» يحتمل ان يكون حالا مقدرة واسمها ضمير يعود الى «نقط الدم» و «مقدار» خبرها والمعنى إلا ان تكون نقط الدم مقدار الدرهم إذا قدر اجتماعها.

ورد (أولا) بأن تقدير الاجتماع مما لا يدل عليه اللفظ. وفيه ان صدر الحديث مفروض في نقط الدم والفرض ان الضمير عائد إلى نقط الدم.

و (ثانيا) ـ بأنه لو كانت الحال مقدرة وكان الحديث المذكور مخصوصا بما قدر فيه الاجتماع لا ما حقق لما صلح دليلا للمجتمع حقيقة مع استدلال الأصحاب به قديما وحديثا على ذلك.

و (ثالثا) ـ انه مع كونه حالا لا خبرا فالظاهر انه حال محققة وهو الظاهر من الخبر ، ويصير المعنى إلا ان يكون الدم بمقدار الدرهم حال كونه مجتمعا.

و (رابعا) ـ ان الحال المقدرة كما ذكروه هي التي زمانها غير زمان عاملها ولها مثال مشهور وهو قولهم «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» اي مقدرا فيه الصيد ، وما نحن فيه ليس كذلك إذ كون الدم قدر الدرهم انما هو حال اجتماعه فزمانهما واحد ، وكيف كان فالظاهر من الخبر المذكور انما هو كون «مجتمعا» خبرا أو حالا محققة وعلى كل منهما فالاستدلال بالرواية على المدعى ظاهر.

وأظهر منها في الدلالة على اعتبار الاجتماع في الدم المتفرق مرسلة جميل المتقدمة لتصريحه (عليه‌السلام) بنفي البأس عن الصلاة في الدم المتفرق ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم

احتج القائلون بالقول المشهور بوجوه : (منها) ـ ان الحكم معلق على مقدار الدرهم في حسنة محمد بن مسلم وقريب منها رواية إسماعيل الجعفي ، وهو أعم من المجتمع والمتفرق.

٣١٦

و (منها) ـ رواية عبد الله بن ابي يعفور المتقدمة فإن الحكم فيها مفروض في نقط الدم الذي هو عبارة عن الدم المتفرق.

و (منها) ـ ان الأصل وجوب الإزالة بقوله تعالى : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» (١) خرج ما نقص عن الدرهم فيبقى الباقي مندرجا تحت الإطلاق.

و (منها) ـ ان النجاسة البالغة قدرا معينا لا يتفاوت الحال باجتماعها وتفرقها في المحل.

والجواب عن الأول بأن مقدار الدرهم في الخبر مخصوص بالمجتمع لقيام المخصص كما هو ظاهر روايتي ابن ابي يعفور ومرسلة جميل كما تقدم تحقيقه.

وعن الثاني بأن الرواية المذكورة وان كانت مفروضة في نقط الدم كما ذكر إلا ان الظاهر كون السؤال عن النقط باعتبار مجموعها أو باعتبار كل نقطة منه مكانها ، فعلى تقدير كون «مجتمعا» خبرا ل «يكون» و «مقدار» اسمها فكأنه (عليه‌السلام) قال في الجواب : لا يعيد صلاته باعتبار شي‌ء من ذلك إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا بان يكون شي‌ء من تلك النقط بمقدار الدرهم. وعلى تقدير كون «مجتمعا» حالا محققة يكون المعنى لا يعيد صلاته إلا ان تكون تلك النقط المتفرقة مقدار الدرهم حال كونها مجتمعة ، فافادة اشتراط الاجتماع حاصل على كل من التقديرين.

وعن الثالث بما تقدم ذكره من ان مورد الآية كما دلت عليه الأخبار الواردة بتفسيرها انما هو التشمير لا الطهارة بمعنى إزالة النجاسة ، وقد تقدم في مقدمات الكتاب ان اللفظ المتشابه في القرآن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد ورود تفسيره عن أهل البيت (عليهم‌السلام) بمعنى من المعاني والوارد عنهم في تفسير هذا اللفظ هو ما ذكرناه.

واما ما أجاب به عنه في المدارك ـ من ان الخطاب في الآية مخصوص بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتناوله للأمة يتوقف على الدلالة ولا دلالة ـ فهو ضعيف لا يلتفت

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية ٤.

٣١٧

إليه فإن الظاهر ان كلامه هذا مبني على ما حقق عندهم في الأصول من ان خطابات القرآن انما هي متوجهة إلى الحاضرين زمن الخطاب وانسحاب الحكم الى من سيوجد بعد ذلك مستند إلى الإجماع ، وحيث ان المسألة محل خلاف والإجماع غير محقق منع عموم الخطاب في الآية المذكورة. وفيه انه لا حاجة بنا في إثبات العموم إلى الإجماع بل الاخبار بحمد الله سبحانه بذلك مكشوفة القناع وهي الأحرى والأحق في ذلك بالاتباع ، ومنها ما رواه في الكافي عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث قال : «لو كانت إذا نزلت آية في رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب والسنة ولكنه حي يجري في من بقي كما جرى في من مضى». وهو صريح الدلالة واضح المقالة في المراد. وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه‌السلام) (١) حين سأله عن أحكام الجهاد ، وساق الخبر الى ان قال (عليه‌السلام): «فمن كان قد تمت فيه شرائط الله الذي وصف بها أهلها من أصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما اذن لهم لان حكم الله في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والأولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل الأولون ويحاسبون كما يحاسبون». وما رواه الصدوق في العلل (٢) عن الرضا عن أبيه (عليهما‌السلام) «ان رجلا سأل الصادق (عليه‌السلام) ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال ان الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض الى يوم القيامة». الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر لك ان المرجع في عموم تلك الخطابات انما هو الى هذه الاخبار ونحوها ، على ان الأخبار الواردة بتفسير هذه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٩ من كتاب الجهاد وأصول الكافي ج ١ ص ١٩٢.

(٢) عيون اخبار الرضا ص ٢٣٩.

٣١٨

الآية ظاهرة في العموم إلا انها مخصوصة بما قدمنا ذكره. ولو أجيب بضعف هذه الاخبار بهذا الاصطلاح الجديد ، قلنا ان هذه الأصول بل الفضول التي مهدوا فيها هذه القاعدة أضعف إذ هي مجرد اصطلاحات اتفاقية أو خلافية وعن الأدلة النبوية خالية عرية.

وعن الرابع بأنه مجرد مصادرة فإنه محل البحث. وكيف كان فإنه وان كان مقتضى البحث وتحقيق الحال في المسألة هو ما ذكرناه من عدم وجوب الإزالة إلا ان الاحتياط بالعمل بالقول المشهور مما ينبغي المحافظة عليه فان احتمال ذلك من الأدلة المذكورة أيضا غير بعيد. والله العالم.

فروع

(الأول) ـ اعلم ان التفاحش الذي قدمنا ذكره عن الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر وعلقوا وجوب الإزالة عليه لم نقف له على مستند ولم يبينوا ايضا مقداره ، وقد ذكر المحقق في المعتبر انه ليس له تقدير شرعي وان قول الفقهاء فيه مختلف فبعض قدره بالشبر وبعض بما يفحش في القلب قال وقدره أبو حنيفة بربع الثوب ، ثم قال والمرجع فيه الى العادة لأنها كالأمارة الدالة على المراد باللفظ إذا لم يكن له تقدير شرعا ولا وضعا. انتهى. أقول : والظاهر انهم أخذوا هذا الفرع من كتب العامة واختلفوا فيه كاختلافهم وأخبارنا خالية منه كما عرفت. وقال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر كما ذكرناه : وهو جيد لو كان لفظ التفاحش واردا في النصوص. انتهى. وفيه ما عرفت في غير موضع من ان الحوالة على العرف والعادة في الأحكام الشرعية غير جيد لعدم انضباطها في جميع الأعصار والأمصار وتعذر الإحاطة بها والاطلاع عليها لو سلمنا انضباطها ولم يعهد من الشارع إناطة الأحكام الشرعية بذلك ، وقد تقدم في مباحث الكتاب ما ينبغي العمل عليه في مثل ذلك.

(الثاني) ـ قال الشهيد الثاني في الروض بعد الكلام في هذه المسألة : هذا حكم الدم

٣١٩

المتفرق في الثوب الواحد اما المتفرق في الثياب المتعددة أو فيها وفي البدن فهل الحكم فيها كذلك بمعنى تقدير جمع ما فيها أو لكل واحد من الثوب والبدن حكم بانفراده فلا يضم أحدهما إلى الآخر أو لكل ثوب حكم كذلك فلا يضم بعضها الى بعض ولا الى البدن؟ أوجه واعتبار الأول أوجه وأحوط. انتهى. أقول : اما الدم المتفرق في البدن فقد عرفت فيما قدمنا بيانه ان النصوص خالية منه ، واما المتفرق في الثياب فيمكن ترجيح ما ذكره واستوجهه (قدس‌سره) بحمل الثوب في النصوص المتقدمة على ما هو أعم من الثوب الواحد بإرادة الجنس فيه وقوته ظاهرة.

(الثالث) ـ قال السيد في المدارك : لو أصاب الدم المعفو عنه مائع طاهر ولم يبلغ المجموع الدرهم ففي بقائه على العفو قولان أظهرهما ذلك ، لأصالة البراءة من وجوب إزالته ، ولان المتنجس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه بل غايته ان يساويه إذ الفرع لا يزيد على أصله واستقرب العلامة في المنتهى وجوب إزالته لأنه ليس بدم فوجب إزالته بالأصل السالم عن المعارض ، ولان الاعتبار بالمشقة المستندة إلى كثرة الوقوع وذلك غير موجود في صورة النزاع لندوره. وضعف الوجهين ظاهر. ولو أزال عين الدم بما لا يطهرها فلا ريب في بقاء العفو لخفة النجاسة حينئذ. انتهى. أقول : والى ما رجحه هنا من البقاء على العفو ذهب الشهيد في الذكرى قال : لان المتنجس بشي‌ء لا يزيد عليه. واستظهره في المعالم ايضا ، والى ما استقربه العلامة من وجوب الإزالة وعدم العفو صار في البيان.

أقول : كما يمكن ان يعلل العفو وعدم وجوب الإزالة بما ذكروه فلقائل أن يقول أيضا بأنه إذا كان مورد الاخبار في هذه المسألة على خلاف الأصل المستفاد من الاخبار المستفيضة المجمع على القول بمضمونها من نجاسة الدم ووجوب إزالته عن الثوب والبدن للصلاة وكذا نجاسة ما يتعدى إليه نجاسة أحد أعيان النجاسات برطوبة ووجوب الإزالة للعبادة فالواجب الاقتصار في ذلك على مورد النص كما قرروه في غير موضع أخذا بالمتيقن المتفق عليه وهو العفو عن ذلك الدم خاصة فتعديته الى ذلك المائع المتصل به خروج

٣٢٠