الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

ولعله قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». ورواية أبي الجارود المروية في المحاسن (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى انه يجعل فيه الميتة؟ فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ ما علمت أنه ميتة فلا تأكل وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». الى غير ذلك من الاخبار ، ومورد الخبرين وان كان الحل والحرمة إلا ان المسألتين من باب واحد فبعين ما قيل هنا يقال في «كل شي‌ء طاهر حتى يعلم انه قذر». بمعنى انا نحكم على كل شي‌ء نراه في أيدي الناس وأسواقهم بالطهارة وان كان نجسا في الواقع ونستصحب هذا الحكم الى ان يعلم الرافع له لا ان مورده المحصور كما في مسألة الإناءين ونحوها لمعلومية النجاسة الموجبة للخروج عن ذلك الأصل. والله العالم.

وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم : وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثر واشتبه محلها فان كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الاجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا ، وان كان محصورا فظاهر جماعة من الأصحاب انه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه كما مر في اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس ، ولم يذكروا على الحكم هنا حجة وقد بينا في مسألة الإناءين ان العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الإجماع المدعى هناك وان ما عداه من الوجوه التي احتجوا بها ضعيفة مدخولة ولعل اعتمادهم في الحكم هنا ايضا على الإجماع لا على تلك الوجوه. انتهى.

أقول : اما ما ذكره بالنسبة إلى المحصور من انه ظاهر جماعة من الأصحاب المؤذن بعدم الاتفاق على ذلك فهو مردود بأنه لم يوجد المخالف في هذه المسألة بكل من طرفيها اعني

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٦١ من الأطعمة المباحة.

٢٨١

المحصور وغير المحصور سواه ومن في طبقته ومن تأخر عنه ، ولهذا انه في المدارك كما قدمنا في عبارته قال هذا الحكم ـ إشارة إلى المحصور ـ مقطوع به في كلام الأصحاب واما ما ذكره من انه ليس عليه دليل ولا حجة سوى الإجماع فهو مردود بما عرفت من الجزئيات الداخلة تحت هذه القاعدة الثابتة بالنصوص ، ولا يخفى ان القواعد الكلية في الأحكام الشرعية كما تثبت بورود النص في الحكم مسورا بسور الكلية كذلك تثبت بتتبع الجزئيات المتفقة على ذلك الوجه ، ونحن قد تتبعنا الأخبار بالنسبة إلى المحصور فوجدناها قد وردت في جملة من الأحكام متفقة النظام ملتئمة تمام الالتئام على الدخول تحت هذه القاعدة التي ذكرها الأصحاب وهو إعطاء المشتبه بالنجس والحرام حكمهما في المحصور كما مرت إليه الإشارة ، والقواعد الكلية كما تثبت بورودها مسورة بسور الكلية تثبت ايضا بتتبع الجزئيات واتفاقها على نهج واحد في الحكم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع جزئيات كلام العرب ، وأكثر القواعد في الأحكام الشرعية انما هو من هذا القبيل كما لا يخفى على المتتبع من ذوي التحصيل ، ويعضد ذلك الإجماع المدعى في المسألة والوجوه التي ذكروها وقد بينا وجه صحتها في مسألة الإناءين. والله العالم.

(المقام الثاني) ـ بالنسبة الى غير المحصور وقد عرفت إجماع الأصحاب هنا ايضا على ارتفاع حكم النجاسة ، بقي الإشكال في انه لم يرد في الاخبار في هذا المقام التعبير بالمحصور وغير المحصور وترتب كل من حكمي المحصور وغير المحصور على وجود هذا العنوان وانما المستفاد من تتبعها كما قدمنا بيانه انه متى وقع الاشتباه في افراد معلومة مشاهدة كمسألة الإناءين واللحم المختلط ذكية بميتة والثياب المختلط نجسها بطاهرها ونحو ذلك فإنه يجب عليه اجتناب الجميع وان الشارع قد اعطى المشتبه هنا حكم ما اشتبه به في النجاسة والحرمة ، واما ما يوجد في أيدي المسلمين وأسواقهم فالحكم فيه هو الطهارة والحلية وان علم النجس والحرام في الجملة لا في تلك العين بخصوصها متحدة أو متعددة ، والأصحاب هنا قد عبروا عن الحكمين المذكورين بالمحصور وغير المحصور وكلامهم في بيان المراد من ذلك

٢٨٢

لا يخلو من اضطراب. فجملة من الأصحاب جعلوا المرجع في الحصر الى ما يصدق عليه العرف إذ لم يثبت له حقيقة في غيره ومثلوا له في الأرض بالبيت والبيتين ولغير المحصور فيها بالصحراء.

وقال المحقق الشيخ علي في حاشية الشرائع : المراد بالمحصور وغير المحصور ما كان كذلك في العادة لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية عند فقد الشرعية ، ولانه لولا ارادة العرفية هنا لامتنع تحقق الحكم فان كل ما يوجد من المعدودات فهو قابل للعد والحصر والمراد به ما يعسر حصره وعده عرفا باعتبار كثرة آحاده ، وطريق ضبطه وضبط أمثاله انك إذا أخذت مرتبة من مراتب العدد عليا تقطع بأنها مما لا يحصر ولا يعد عادة لعسر ذلك في الزمان القصير كالألف مثلا تجعلها طرفا ثم تأخذ مرتبة اخرى دنيا كالثلاثة مما يقطع بكونها محصورة ومعدودة لسهولة عدها في الزمان القصير فتجعلها طرفا مقابلا للأول ثم تنظر فيما بينهما من الوسائط فكل ما جرى مجرى الطرف الأول تلحقه به وما جرى مجرى الطرف الثاني تلحقه به وما وقع فيه الشك يعرض على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب فان غلب على الظن إلحاقه بأحد الطرفين فذاك وإلا عمل فيه بالاستصحاب الى ان يعلم الناقل ، وهذا ضابط لما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح وغيرهما ، فمتى اشتبه الذكي بغيره والطاهر بالنجس في الثياب والمكان والأواني والمياه وغير ذلك والمحرمة بالأجنبية وكان غير محصور لم يجب الاجتناب وإلا وجب ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشتبه بالنجس من الأمكنة كالبيت والبيتين له حكمه على معنى وجوب اجتناب الجميع فلا يجوز ان يجعل شي‌ء منه مسجد الجبهة لما تقرر من ان مسجد الجبهة يشترط فيه الطهارة وقد تكافأ في المشتبه بالنجس كل من طرفي الطهارة والنجاسة ، وكذا استعماله في كل ما يشترط فيه الطهارة كالتعفير في إناء الولوغ والتيمم ، اما لو باشر بعضه برطوبة فإن المحل الملاقي لا ينجس إذا كان مملوكا لطهارته قبل ذلك لعدم القطع بملاقاة النجاسة فيستصحب حكم الطهارة

٢٨٣

والثابت قبل الملاقاة ، وما وقع في كلامهم من ان المشتبه بالنجس له حكم النجس لا يريدون به من جميع الوجوه للقطع بأنه في الأصل طاهر قطعا ولم يعرض له تنجيس وما كان كذلك فهو في نفسه على طهارته فقد خالف حكم النجس من هذا الوجه ، وغاية ما هناك ان الاشتباه صيره بحيث يمتنع استعماله فيما يشترط فيه الطهارة فصار كالنجس من هذه الجهة ، على ان تشبيه شي‌ء بآخر لا يقتضي المساواة من كل وجه كما تقرر بين الأصوليين. انتهى كلامه علا مقامه.

أقول : ومما يمكن ان يؤيد ما ذكره في غير المحصور بأنه ما يعسر حصره عرفا باعتبار كثرة آحاده موثقة حنان بن سدير عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في جدي رضع من خنزيرة حتى شب واشتد عظمه استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول في نسله؟ فقال اما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه واما ما لم تعرفه فإنه بمنزلة الجبن». والتقريب فيه انه لكثرة تلك الغنم على وجه يعسر عدها فالحكم فيه الحلية لكل فرد فرد منها ، ويمكن ـ ولعله الأقرب ـ ان الوجه فيه انما هو عدم معلومية بقاء ما خرج من نسله في تلك الغنم لكثرتها فلعله قد ذهب منها بأحد وجوه الذهاب كما يشير اليه التنظير بالجبن من حيث عدم معلومية الحرام منه بعينه. واما ما ذكره بالنسبة إلى ملاقي ذلك المشتبه برطوبة وانه لا يتعدى اليه حكم ما لاقاه فهو أحد القولين في المسألة وقد تقدم تحقيق القول فيه في مسألة الإناءين.

وجمع من المتأخرين جعلوا المرجع في صدق الحصر وعدمه الى حصول الحرج والضرر بالاجتناب وعدمه ، قال في المعالم : وهذا الكلام ناظر الى ما يوجد في عبارات كثير من تعليل عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور بلزوم المشقة والعسر. وليس بشي‌ء فإن الغرض من هذا التعليل كما يظهر تقريب الحكم لا الاستدلال له إذ لا يعقل الاعتماد في مثل هذه التفرقة والبناء في تأسيس هذا الحكم على نحو هذه القاعدة كما هو

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٢٨٤

واضح ، ولو قدر بناء الحكم على ذلك لانهار من أصله إذ المشقة قد تنتفي في كثير مما ليس بمحصور وربما وجدت في بعض افراد المحصور فأي معنى حينئذ لجعل الحصر مناطا للحكم وقد كان الواجب على هذا ان يناط بعدم المشقة ووجودها. وبالجملة فالإشكال في التفرقة هنا بين ما يجب فيه الاجتناب وما لا يجب قوى جدا إذ ليس لها شاهد من جهة النص يعول في حكمها عليه وانما هي من عبارات الفقهاء ، والرجوع الى القاعدة المقررة في الألفاظ التي لم يثبت لها حقيقة من جهة الشرع يتوقف على وجدان غيرها ، ولا يكاد يظهر من اللغة ولا من العرف معنى مشخص لهذا اللفظ يطابق ما هو غرضهم منه ، مع ان في كلامهم اختلافا في التمثيل للمحصور فالمحقق والفاضل مثلا له بالبيت وقد حكينا عن جماعة التمثيل بالبيت والبيتين ومثل بعض بالبيتين والثلاثة ، وربما فسر غير المحصور بما يعسر حصره وعده لكثرة آحاده ، والظلام يلوح على الكل. انتهى. وهو جيد

وانما أطلنا الكلام بنقل كلماتهم في المقام لتطلع على ان النفخ في غير ضرام. وبالجملة فالمستفاد من الاخبار هو ما قدمنا ذكره فكل ما دخل في افراد القسم الأول الحق به وما دخل في افراد الثاني الحق به وما اشتبه الأمر فيه فالاحتياط طريق السلامة. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ قال في المعالم ان حكم بنجاسة شي‌ء لعروض أحد الأسباب المقتضية لذلك توقف في عوده إلى الطهارة على العلم بحصول أحد الوجوه التي ثبت كونها مفيدة للتطهير أو ما يقوم مقام العلم وهو شهادة العدلين ، ويحتمل الاكتفاء باخبار العدل الواحد لعموم مفهوم قوله تعالى : «... إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... الآية» (١) ولا اعتبار باخبار غير العدل إلا ان ينضم إليه القرائن المفيدة معه للعلم ، ولو افادته منفردة كفت في الحكم بالطهارة أيضا. انتهى.

أقول : لم أقف على من تعرض لهذا الحكم غيره بنفي أو إثبات إلا الفاضلان

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ٦.

٢٨٥

الأمين الأسترآبادي والمحقق السيد نعمة الله الجزائري فإنهما نقلا عن جملة من علماء عصريهما انهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها عليهم ثم يشترونها منهم مستندين الى ما قدمنا نقله عن المحقق المذكور ، ثم ردا ذلك بان المستفاد من الاخبار ان كل ذي عمل فهو مؤتمن على عمله ما لم يظهر منه خلافه ، قال الأمين الأسترآبادي في الفوائد المدنية في عد جملة من أغلاط الفقهاء : ومن جملتها ان جمعا من أرباب التدقيق منهم زعموا انه إذا علمنا نجاسة ثوب مثلا لا نحكم بطهارته إلا إذا قطعنا بإزالتها أو شهد عندنا شاهدان عدلان لان اليقين لا ينقض إلا بيقين أو بما جعله الشارع في حكم اليقين وهو شهادة العدلين في الوقائع الجزئية. وانا أقول : لنا على بطلان دقتهم دليلان : (الأول) ان اللبيب الذي تتبع أحاديثنا بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنه يستفاد منها ان كل ذي عمل مؤتمن على عمله ما لم يظهر خلافه ، وان شئت ان تعلم كل ما علمنا فانظر إلى الأحاديث الواردة في القصارين والجزارين وحديث تطهير الجارية ثوب سيدها (١) والحديث الصريح في ان الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (٢) لكن لا بد من قريحة قويمة وفطنة مستقيمة وإلا لا تعبت نفسك وغيرك فان كلا ميسر لما خلق له. و (الدليل الثاني) ان هذه المسألة مما يعم به البلوى فلو كان مضيقا كما زعموا لظهر عندنا منه اثر واضح بين ، ولم يظهر منهم (عليهم‌السلام) إلا ما يدل على التوسعة وقد بلغني أن جمعا من فحول علمائهم المتورعين يهبون الثياب النجسة للقصارين ثم يسترجعونها ومن المعلوم عند الفقيه الحاذق ان هذه الحيلة غير نافعة. انتهى كلامه.

أقول : ومن الاخبار التي أشار إليها ما ورد في صحيحة الفضلاء (٣) «أنهم سألوا أبا جعفر (عليه‌السلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون؟

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب النجاسات وسيأتي ص ٢٨٧.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ٥٦ من النجاسات وسيأتي ص ٢٨٧.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٩ من الذبائح.

٢٨٦

فقال كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه». وفي رواية سماعة (١) قال : «سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال لا بأس به ما لم تعلم أنه ميتة». وفي صحيحة إبراهيم بن ابي محمود (٢) «انه قال للرضا (عليه‌السلام) الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم انه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال لا بأس». وفي صحيحة معاوية بن عمار (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث.». وقد تقدمت قريبا ، وفي رواية عبد الأعلى عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل مكانها لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا صغيرا». الى غير ذلك من الاخبار الواردة من هذا القبيل ، والتقريب فيها ان أصالة الطهارة والحلية التي قد صارت قاعدة انما بنيت على ائتمانهم على أعمالهم المذكورة ، ويؤيد ذلك ما ورد في كثير من اخبار الصناع والمستأجرين على الأعمال إذا أفسدوا من انه لا يضمنه إلا ان يتهمه فمتى كان مأمونا لا يتهمه فلا يضمنه ولا يغرمه ما أفسد ، وليس الوجه فيه إلا انه مؤتمن وموثوق بعمله وانه لا يخالف صاحب العمل إلا ان يكون بغير اختياره وهو ظاهر في التأييد.

واما الرواية التي أشار إليها المحدث المذكور بحديث تطهير الجارية ثوب سيدها فهي رواية ميسر (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال أعد صلاتك اما انك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء». وهذا الخبر ربما استند اليه من ذهب الى

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٨ من الذبائح.

(٢) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة من الخبث.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٧٣ من النجاسات وتقدمت ص ٢٥٥.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٥٦ من النجاسات.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب النجاسات.

٢٨٧

التمسك بأصالة النجاسة حتى يظهر الرافع حيث امره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة لما لم يكن هو الغاسل بنفسه لقوله (عليه‌السلام) : «اما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» وهو غلط فان ظاهر الخبر ان الأمر بإعادة الصلاة انما هو لبقاء المني لا لكون الجارية قد غسلته وغسلها غير معتبر ولا مطهر حتى لو فرض أنه إزالته عن الثوب ولم يجده فيه كان عليه إعادة الصلاة وغسل الثوب لعدم الاعتداد بغسلها فإنه توهم محض ، بل الأمر في الإعادة والغسل انما ابتنى على وجود المني ، وبهذا التقريب يكون الخبر من أدلة المسألة كما ذكره المحدث المذكور فان مفهوم الخبر انه لو لم يجد المني لم يأمره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة ، وفيه حينئذ دلالة على الاكتفاء بغسل الجارية كما هو المدعى (فان قيل) انه لو كان غسل الجارية معتبرا شرعا وموجبا لطهارة الثوب لم تجب الإعادة وان وجد المني بعد ذلك لانه وان علم بالمني فيه سابقا إلا انه قد بنى على طهارة الثوب طهارة شرعية موجبة لجواز الصلاة كجاهل النجاسة فلا تتعقبه الإعادة (لأنا نقول) ان غسل الجارية انما يكون غسلا شرعيا معتدا به لو لم يظهر فساده واما بعد ظهور فساده فلا مجال للحكم بكونه شرعيا وقوله (عليه‌السلام) : «اما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» يعني انك لو غسلت أنت لبالغت في إزالة النجاسة ولم يبق منها اثر فلم يكن عليك اعادة.

ومما يؤيد ما ذكرناه ايضا ان الظاهر من الأخبار ان الناس في الصدر الأول كانوا يدفعون ثيابهم للغسال لأجل غسلها من الأوساخ والنجاسات ويسترجعونها ويلبسونها ويصلون فيها من غير تناكر ولو كان ما ذكروه حقا من انه لا يتم الحكم بالطهارة إلا بتمليكه إياها لنقل ذلك. وايضا فمن المعلوم وجود الأطفال في بيوت الأئمة (عليهم‌السلام) وبيوت أصحابهم ولا ريب في حصول النجاسات أيضا في ثيابهم منهم أو من غيرهم ولو كان ما ذكروه حقا لورد في خبر من الاخبار أو نقله ناقل في عصر من الأعصار وليس فليس.

٢٨٨

والى هذا الوجه أشار المحدث المتقدم ذكره بالدليل الثاني وهو عموم البلوى بذلك ومرجعه الى العمل بالبراء فالأصلية في مثل هذا الموضع كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، وقد وجهه في موضع آخر من كتابه المتقدم ذكره قال : فان جمعا غفيرا من أصحابهم (عليهم‌السلام) منهم الأربعة آلاف رجل الذين هم أصحاب الصادق (عليه‌السلام) وتلامذته كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة وكان همهم وهم الأئمة (عليهم‌السلام) إظهار الدين وترويج الشريعة وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون كل ما يسمعونه خوفا من عروض النسيان لهم وكان الأئمة (عليهم‌السلام) يحثونهم على ذلك وليس الغرض منه إلا العمل بذلك بعدهم ، ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة الأصلية إذ لو كان ثمة دليل والحال كذلك لظهر.

على ان ما اعتمده هذا القائل ـ من ان يقين النجاسة لا يرتفع إلا بيقين الطهارة على إطلاقه ـ ممنوع :

(أما أولا) ـ فلعدم الدليل عليه والنصوص انما وردت بذلك بالنسبة إلى أصالة الطهارة والحلية لبناء الأحكام الشرعية على السهولة والسماحة ، وقياس النجاسة على ذلك قياس مع الفارق.

و (اما ثانيا) ـ فإنه منقوض بما ذهب اليه جمع من المحققين : منهم ـ المحدث المذكور من الحكم بطهارة الإنسان بمجرد الغيبة لأن معلومية الحدث من المكلف في اليوم والليلة بالبول والغائط مما لا سبيل إلى إنكاره فالحكم بنجاسته يقيني البتة فلو توقف الحكم بطهارته على يقين وجود ذلك لم يمكن الحكم بطهارة أحد من الناس بالكلية ولو اكتفى باخباره بالطهارة. فإنه لا يجوز الصلاة خلف الامام حتى يسأله عن ذلك ، وكذا لو رأى في ثوب أحد نجاسة مثلا ثم رآه بعد ذلك خاليا من تلك النجاسة فإنه لا يجوز له استعماله والصلاة فيه وان يقتدي بإمام يصلي فيه حتى يسأله عن ذلك ، واللوازم كلها باطلة إذ لا قائل بها ولا دليل عليها بل الأدلة على خلافها ظاهرة.

٢٨٩

و (اما ثالثا) ـ فلانه قد ورد في جملة من المواضع الخروج عن اليقين بمجرد الظن كما في صورة إخبار المرأة بموت الزوج واخبارها بالطلاق واخبارها بالخروج من العدة والنقاء من الحيض ، فان الشارع قد جوز قبول خبرها في هذه المواضع كلها وغاية ما يفيده هو الظن مع ان الأمور التي أخبرت بالخروج عنها متيقنة معلومة تترتب عليها أحكام شرعية وتنتفي تلك الأحكام بقبول خبرها ، وحينئذ فقول ذلك القائل ان يقين النجاسة لا يخرج عنه إلا بيقين الطهارة ان أراد من حيث خصوص النجاسة فقد عرفت انه لا دليل عليه ، وان أراد أنه حيثما كان اليقين وفي أي موضع كان فإنه لا يجوز الخروج عنه إلا بما يوجب اليقين فهذه جملة من المواضع قد جوز الشارع فيها الخروج عن اليقين بمجرد الظن ، ونحو ذلك ما ورد في حسنة زرارة والفضيل (١) من انه متى شك في الصلاة وانه اتى بها أو لم يأت بها بعد خروج الوقت فإنه لا يلتفت ، مع ان اشتغال الذمة متيقن ومجرد خروج الوقت لا يوجب يقين البراءة ، بل ورد في القاعدة المتفق عليها من ان يقين الطهارة لا يجوز الخروج عنه إلا بيقين النجاسة ما أوجب الخروج في بعض الجزئيات بمجرد الشك كمن تطهر بعد ان بال ولم يستبرئ أو اغتسل ولم يبل ثم خرج منه بلل مشتبه فإنه ينقض وضوءه وغسله مع انه غير متيقن كونه بولا أو منيا ، الى غير ذلك من المواضع التي من هذا القبيل. ولا يخفى انه ولو أمكن تطرق المناقشة الى بعض ما ذكرناه من الأدلة إلا انها باجتماعها مما تفيد دلالة قوية على ما ذكرناه والله العالم.

البحث الثاني

فيما تجب إزالته من النجاسات وما يعفى عنه وفيه مسائل (الأولى) ـ اتفق الأصحاب عدا ابن الجنيد على انه تجب ازالة النجاسات عن الثوب والبدن للصلاة والطوافين الواجبين عدا الدم على التفصيل الآتي فيه ان شاء الله تعالى ، وكذا ما تتم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٦٠ من أبواب مواقيت الصلاة.

٢٩٠

الصلاة فيه من الثياب إذا لم يمكن إبداله بطاهر. وقال ابن الجنيد في مختصره : كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي تكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا ان تكون النجاسة دم حيض أو منيا فان قليلهما وكثيرهما سواء. انتهى. وظاهر هذا الكلام انه قصر الحكم بوجوب ازالة النجاسات كلها عدا دم الحيض والمني على ما بلغ منها مقدار سعة الدرهم فصاعدا وسوى في دم الحيض والمني بين القليل والكثير ، وظاهره طهارة الناقص عن الدرهم من النجاسات التي ذكرها ، والمشهور في كلام الأصحاب ان خلافه انما هو في العفو فلعل الكلام في عبارته خرج مخرج التجوز والتوسع ، ومن العجب انه في المعتبر عزى اليه القول بالعفو هنا كما هو المعروف في كلام غيره وفي حكم الدم نسب اليه القول بطهارة القليل منه ، ولا يخلو من تدافع فان عبارته المحكية عنه هنا ظاهرة في تساوي الدم وغيره في عدم نجاسة ما دون سعة الدرهم أو العفو عنه اللهم إلا ان يكون ما نقله في مسألة الدم من كتاب آخر أو قول آخر نسب اليه.

ويدل على القول المشهور الأخبار الكثيرة المتضمنة للغسل من النجاسات ، إذ من الظاهر ان الغسل ليس واجبا لنفسه وانما هو لأجل العبادة ونحوها ، وقد وقع التصريح في جملة من الاخبار الصحيحة بإعادة الصلاة بنجاسة الثوب بالبول والمني والمسكر وقدر الدرهم من الدم وعذرة الإنسان والسنور والكلب ورطوبة الخنزير ، وهي مطلقة في القليل من النجاسات المذكورة والكثير ، وجملة من الأخبار الدالة على ما ذكرنا قد تقدمت في أصناف النجاسات ، وسيأتي طرف منها في المباحث الآتية وطرف في الخلل الواقع في الصلاة ان شاء الله تعالى.

فرع

قد صرح جماعة من الأصحاب بأن اعتبار الطهارة في ملبوس المصلي ومحموله

٢٩١

الذين تتم فيهما الصلاة انما هو فيما يقله منهما ولو في بعض أحوال الصلاة فلو تنجس طرف الثوب الذي لا يقله على حال منها كالعمامة لم يضر لانتفاء الحمل واللبس عن موضع النجاسة. واستحسنه المحقق الشيخ حسن في المعالم معللا له بأن أصالة البراءة تقتضيه والأدلة الدالة على اشتراط الطهارة وإيجاب الإزالة لا تصلح لتناول مثله ، قال وممن تعرض لهذه المسألة الشيخ في الخلاف فقال : إذا ترك على رأسه طرف عمامة وهو طاهر وطرفها الآخر على الأرض وعليه نجاسة لم تبطل صلاته ، وحكى عن بعض العامة القول بالبطلان به ، وقال بعد ذلك دليلنا ان الأصل براءة الذمة فمن حكم ببطلان هذه الصلاة فعليه الدلالة. انتهى. وهو جيد

واما ما ذهب اليه ابن الجنيد فلم نقف له على مستند وقد اعترف بذلك جملة من الأصحاب أيضا ، والعلامة في المختلف احتج له بالقياس على الدم وأجاب عنه بأن نجاسة المذكورات أغلظ من نجاسة الدم فقياس حكمها على المني أولى. انتهى. وكل من الاحتجاج والجواب بمكان من الضعف.

ثم انه قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تعداد المواضع التي تجب فيها الإزالة بعد الثوب والبدن مسجد الجبهة ، وعلله الشهيد في الذكرى بالنص فقال : وتجب ازالة النجاسات عن مسجد الجبهة أيضا للنص. ولم أقف على هذا النص ولا نقله ناقل فيما اعلم بل ربما ظهر من النصوص خلافه كما سيأتي في بحث المكان من كتاب الصلاة.

وعن مكان المصلي بأسره عند المرتضى والمساجد السبعة عند ابي الصلاح ، وسيأتي الكلام فيها في الموضع المشار اليه.

وعن المأكول والمشروب وأوانيهما مع الملاقاة برطوبة لتحريم النجس ، وهو جيد وعليه تدل الأخبار الآتية الدالة على الأمر بتطهير الأواني فإنه ليس ذلك إلا لأجل الأكل والشرب.

وعن ما أمر الشارع بتعظيمه كالمصحف والضرائح المقدسة ، وهو حسن للأمر بتعظيم شعائر الله.

٢٩٢

وعن المساجد وقد نقل الإجماع عليه جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف فإنه قال : لا خلاف في ان المساجد يجب ان تجنب النجاسة. وعن ابن إدريس انه نقل إجماع الأمة ، وظاهر جمع : منهم ـ الفاضلان انه لا فرق في ذلك بين النجاسة المتعدية وغيرها حتى قال في التذكرة : لو كان معه خاتم نجس وصلى في المسجد لم تصح صلاته

واستدلوا على ذلك بقوله عزوجل : «... إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ...» (١) حيث رتب النهي على النجاسة فيكون تقريبها حراما ومتى ثبت التحريم في المسجد الحرام ثبت في غيره إذ لا قائل بالفصل. وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «جنبوا مساجدكم النجاسة» (٢).

واعترض عليه بأنه يتوجه على الأول ان النجاسة لغة المستقذر والواجب الحمل عليه الى ان تثبت الحقيقة الشرعية ولم يثبت كون المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء حقيقة شرعية. سلمنا الثبوت لكن النهي انما ترتب على نجاسة المشرك خاصة فإلحاق غيرها بها يحتاج الى دليل وهو منتف هنا. سلمنا ذلك لكن النهى انما تعلق بقرب المسجد الحرام خاصة وعدم الظفر بالقائل بالفرق بينه وبين غيره لا يدل على العدم فيحتمل الفرق. وعلى الثاني الطعن في الرواية بعدم الوقوف على المستند والمراسيل لا تنهض حجة في إثبات حكم مخالف للأصل ، وأيضا فإن مجانبة النجاسة المساجد تتحقق بعدم تعديها إليها فيحصل به الامتثال ولا يلزم من ذلك تحريم إدخالها مع عدم التعدي ، ومن ثم ذهب جمع من المتأخرين الى عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية الى المسجد أو فرشه وآلته. انتهى وهو جيد.

ويؤيد ما ذكره أخيرا من عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية ما نقله الشيخ في الخلاف من الإجماع على جواز عبور الحيض من النساء في المساجد مع عدم انفكاكهن من

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٢٨.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من أحكام المساجد.

٢٩٣

النجاسة غالبا ، وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار الواردة في المستحاضة (١) «. وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء.». وربما لاح منه تحريم إدخال النجاسة المتعدية حيث خص دخولها المسجد بصورة ما إذا لم يثقب الكرسف ، وظاهرهم الاتفاق على تحريم إدخال النجاسة المتعدية ولا اعرف لهم دليلا سواه الا ما لاح من الرواية المشار إليها ، الا انه قد روى عمار في الموثق ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل ، فينفجر وهو في الصلاة ، قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة». فإن إطلاقها شامل لما لو كانت الصلاة في المسجد بل هو الغالب ، والعفو عن هذا الدم انما ثبت بالنسبة الى المصلي خاصة كما يأتي ان شاء الله ذكره ، وبالجملة فأصالة الجواز أقوى دليل في المقام الى ان يثبت المخرج عنها.

بقي الكلام في ان المفهوم من كلامهم القطع بوجوب الإزالة على الفور كفاية بناء على التحريم فلو أخل بالإزالة اثم ، ولو صلى والحال هذه فان كان في ضيق الوقت فلا خلاف في الصحة واما في السعة فقولان مبنيان على ان الأمر بالشي‌ء هل يستلزم النهي عن ضده الخاص أم لا؟ ولهم في هذه المسألة أبحاث طويلة الذيل نقضا وإبراما في الأصول وفي مواضع من كتب الفروع ، والذي أقوله في ذلك واعتمد عليه في أمثال هذه المسالك هو الثاني ، وتوضيحه ان يقال : التحقيق عندي وان أباه من الف بالقواعد الأصولية انا متى رجعنا إلى الأدلة العقلية في الأحكام الشرعية فهي لا تقف على حد ولا ساحل ولهذا كثرت في هذه المسألة الأبحاث وتصادمت من الطرفين الدلائل وصنفت فيها الرسائل واضطربت فيها أفهام الأفاضل.

والجواب الحق عما ذكروه ان يقال (أولا) ـ ان الأحكام الشرعية توقيفية

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب الاستحاضة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب النجاسات.

٢٩٤

من الشارع فلو كان لهذه المسألة أصل مع عموم البلوى بها لخرج عنهم (عليهم‌السلام) ما يدل عليها أو يشير إليها وحيث لم يخرج عنهم فيها شي‌ء سقط التكليف بها إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان ، وهذا يرجع في التحقيق الى ما قدمنا ذكره في غير موضع وبه صرح المحدث الأمين الأسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية والعمل بها فيما يعم به البلوى من الأحكام.

و (ثانيا) ـ ان القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين بالآية والرواية والإجماع (١) إذ لا يخفى انه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة من واجب من الواجبات البدنية أو المالية ويأتي بناء على هذا القول بطلان عباداته وصلواته في غير ضيق الوقت وعدم ترخصه في أسفاره وتأثيمه في جملة أفعاله من اكله وشربه ومغداه ومجيئه ونومه ونكاحه ونحو ذلك لان الفرض انه منهي عن هذه الأضداد الخاصة والنهي حقيقة في التحريم ، واي ضيق وحرج أعظم من ذلك؟

و (ثالثا) الأخبار الدالة على عدم التكليف بأمثال هذه الأمور التي لم يرد فيها شي‌ء بنفي ولا إثبات مثل قول الصادق (عليه‌السلام) في رواية إسحاق بن عمار (٢) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يقول أبهموا ما أبهمه الله». وما رواه الشيخ المفيد عن أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) (٣) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الله حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها». وما رواه في الفقيه (٤) في خطبة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال فيها : «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقضوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها

__________________

(١) تقدم ما يدل على ذلك ج ١ ص ١٥١.

(٢) رواه في البحار في الباب ٣٣ من كتاب العلم رقم ٥.

(٣) رواه في البحار في الباب ٣٢ من كتاب العلم رقم ١١.

(٤) باب (نوادر الحدود).

٢٩٥

نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها». ولا ريب ان هذه المسألة داخلة فيما سكت الله عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا (رضوان الله عليهم) تبعا للمخالفين في كتبهم الأصولية ناشى‌ء من عدم ملاحظة هذه الاخبار ، وكم لهم مثل ذلك كما لا يخفى على من جاس خلال الديار. والله العالم.

فروع

(الأول) ـ قد صرح المحقق والعلامة في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى بأنه إذا تعذر غسل مخرج البول وجب مسحه بحجر ونحوه ، واحتج له المحقق ومثله العلامة بأن الواجب ازالة العين والأثر فإذا تعذرت إزالة الأثر بقيت ازالة العين ، وفهم من هذا الحكم جملة من المتأخرين بأنهم يرون وجوب تخفيف مطلق النجاسة عند تعذر إزالتها وان ذلك بدل اضطراري للطهارة من النجاسات كبدلية التيمم للطهارة من الأحداث ، ونحن قد قدمنا ما في هذا الكلام من تطرق المناقشة إليه في الفصل الأول في آداب الخلوة في التنبيه الخامس من التنبيهات الملحقة بذلك البحث ، ونزيده تأييدا هنا بما ذكره بعض المحققين من متأخري المتأخرين حيث قال بعد نقل ما ذكرناه : وعندي في هذا الكلام من أصله نظر لان وجوب ازالة العين والأثر حكم واحد مستفاد من دليل واحد ومن البين ان الأمر بالمركب انما يقتضي الأمر بأجزائه على الاجتماع لا مطلقا ، وحينئذ فلا بد في إثبات التكليف بجزء منها على الانفراد من دليل غير الأمر بالمركب وهو مفقود في المتنازع ، بل ظاهر الاخبار المسوغة للصلاة مع النجاسة عند تعذر الإزالة نفي التكليف بأمر آخر سوى الإزالة باعتبار إطلاق الاذن من غير تعرض للتخفيف بوجه ، وما ورد في بعض الأخبار من ذكر المسح للبول عن المخرج عند تعذر غسله لا يصلح شاهدا على العموم لان الوجه فيه منع النجاسة عن التعدي الى غير محلها من الثوب أو البدن وهو أمر آخر غير التخفيف. انتهى. وهو جيد.

(الثاني) ـ المستفاد من النصوص ـ وعليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب ـ ان

٢٩٦

زوال حكم النجاسة متوقف على زوال عينها أو استحالتها كما سيأتي تفصيل ذلك في مواضع مخصوصة ولا عبرة بما يبقى من اللون والرائحة وحكى المحقق في المعتبر على ذلك إجماع العلماء ، ومن الاخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن المغيرة عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له للاستنجاء حد؟ قال لا حتى ينقى ما ثمة؟ قلت فإنه ينقى ما ثمة ويبقى الريح؟ قال الريح لا ينظر إليها». والخبر وان كان مورده الاستنجاء إلا انه لا خلاف ولا إشكال في تعدية الحكم إلى جملة النجاسات بطريق تنقيح المناط القطعي المتقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، وما رواه على بن أبي حمزة عن العبد الصالح (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته أم ولد لأبيه فقالت جعلت فداك اني أريد أن أسألك عن شي‌ء وانا أستحيي قال سليني ولا تستحي قالت أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب أثره؟ قال اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب أثره». وعن عيسى بن ابي منصور (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته فبقي أثر الدم في ثوبها؟ قال : قل لها تصبغه بمشق حتى يختلط». والمشق بالكسر المغرة ، قاله في الصحاح والقاموس.

(الثالث) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في الاكتفاء في ظهر البواطن بزوال العين ، وعلى ذلك تدل جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ عن عمار الساباطي (٤) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يسيل من انفه الدم هل عليه ان يغسل باطنه يعني جوف الأنف؟ فقال انما عليه ان يغسل ما ظهر منه». وما رواه في الكافي في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود (٥) قال : «سمعت الرضا (عليه‌السلام) يقول يستنجي

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٣ و ٣٥ من أحكام الخلوة و ٢٥ من النجاسات.

(٢) الفروع ج ١ ص ١٨ وفي الوسائل في الباب ٥٢ من أبواب الحيض.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٥ من النجاسات.

(٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من النجاسات.

٢٩٧

ويغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الا نملة». وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) «في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دما كيف يصنع أينصرف؟ قال ان كان يابسا فليرم به ولا بأس». وبالإسناد المتقدم في الحديث الأول عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) في حديث قال : «انما عليه ان يغسل ما ظهر منها ـ يعني المقعدة ـ وليس عليه ان يغسل باطنها». وما رواه الشيخ عن عبد الحميد بن ابي الديلم (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟ فقال ليس بشي‌ء». ويؤيده أيضا ما رواه زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) قال : «ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة إنما عليك ان تغسل ما ظهر».

وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المعالم في هذا المقام حيث انه بعد ذكر الحكم المذكور انما استدل برواية عمار الاولى ثم ردها بضعف السند وقال انها لا تصلح بمجردها دليل على الحكم ، ثم قال : وضم إليها بعض الأصحاب التعليل برفع الحرج والاشكال بحاله والحق انه يكفي في الاستدلال له التمسك بأصالة البراءة فإنها ملزومة للطهارة ولا ، وجه لعدم الاعتداد بها في نحو هذا الموضع إلا توهم كون أنواع النجاسات أسباب مؤثرة فيما تلاقيه برطوبة مطلقا ، وقد أسلفنا في مسألة تطهير الشمس ان ذلك بعيد عن التحقيق. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من النظر الظاهر فان الاعتماد على أصالة البراءة بعد استفاضة الروايات التي تقدمت في فصول النجاسات بتعديها الى ما لاقته بالرطوبة أمر من الشمس أظهر ومن البدر أنور كما تقدم تحقيقه ، هذا بناء على ما ذكر من تلك الرواية خاصة وإلا فالناظر في جميع ما أوردنا من الاخبار التي فيها الصحيح باصطلاحه فلا مجال للتوقف في الحكم المذكور. واما ما أشار اليه وأحال عليه من التحقيق الذي زعمه في مسألة تطهير الشمس فسيأتي نقله ان شاء الله تعالى في مسألة تطهير الشمس وبيان ما فيه.

__________________

(١ و ٢ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب النجاسات.

٢٩٨

تذنيب

قد نقل جملة من الأصحاب عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) الحكم بطهارة الصيقل بمجرد زوال عين النجاسة وظاهرهم انحصار القول بذلك في المرتضى ، وظاهر الشيخ في الخلاف تقدم القول بذلك عليه حيث ذكر ان في أصحابنا من قال بان الجسم الصيقل كالسيف والمرآة والقوارير إذا أصابته نجاسة كفى في طهارته مسح النجاسة ، وعزى الى المرتضى اختياره ثم قال ولست اعرف به أثرا ، وذكر ان عدم طهارته بدون غسله بالماء هو الظاهر ، واحتج له بان حصول النجاسة في هذا الجسم معلوم والحكم بزوالها يحتاج الى شرع وليس في الشرع ما يدل على زوال هذا الحكم بما قالوه. وظاهره كما ترى عدم انحصار القول بالطهارة في المرتضى (رضى الله عنه) ثم ان الفاضلين وغيرهما اقتفوا اثر الشيخ في هذا الاحتجاج على بقائه النجاسة واستصحابها وزاد الفاضلان الاستدلال بأن النجاسة الرطبة يتعدى حكمها إلى الملاقي فلا يزول بزوال عين النجاسة. وعلى هذا كلام من تأخر عنهما في هذا المقام وغيره مما لاقته النجاسة برطوبة فإنه يجب استصحاب حكم النجاسة حتى يقوم الدليل على الطهارة ، الى ان انتهت النوبة الى صاحب المعالم فخالف الأصحاب في ذلك بقول انفرد به وهو ان هذا الحكم اعني توقف الطهارة بعد زوال عين النجاسة على مطهر مخصوص بالثوب والبدن والآنية واما غير هذه الثلاثة فإنه يطهر بزوال العين. وسيجي‌ء نقل كلامه في مسألة تطهير الشمس ، ومن ثم قال في هذا المقام بعد ان نقل عن الأصحاب ما قدمنا ما صورته : وقد تكرر القول في أمر الاستصحاب وذكرنا في المباحث الأصولية ان السيد لا يعول عليه في مثل هذا المقام والعجب من غفلة الجماعة عن رأى السيد فيه وان كلامه مبني على أصله فلا يحسن ان يحتج عليه بما لا يقبله. انتهى. أقول : لا يخفى ان الاستصحاب في هذا المقام عند الأصحاب وهو التحقيق ليس من قبيل الاستصحاب الذي هو محل النزاع ومطرح البحث بين السيد وغيره ، فان هذا الاستصحاب انما هو من قبيل العمل بعموم الدليل

٢٩٩

وإطلاقه حتى يحصل الرافع ، ونظائره في أحكام الفقه أكثر من ان تحصى كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، ولا خلاف في العمل به في الأحكام الشرعية فإن النجاسة قد ثبتت بملاقاة عين النجاسة برطوبة فالحكم بطهارة ما لاقته يحتاج الى دليل سواء كانت باقية أو زالت بغير مطهر شرعي وهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى ، وسيأتي مزيد تحقيق للمقام في مسألة تطهير الشمس ان شاء الله تعالى.

ثم ان ممن اختار القول بالطهارة أيضا بمجرد زوال العين عن الصيقل المحدث الكاشاني في المفاتيح وقد سلف البحث معه في ذلك في الباب الأول في آخر مسألة جواز رفع الخبث بالمضاف وعدمه فليراجع. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب فيما اعلم في أصل العفو عن دم الجروح والقروح قليلا كان أو كثيرا والاخبار به متظافرة ، وانما الخلاف بينهم في حد العفو فمنهم من جعل الحد في ذلك البرء ومنهم من جعله الانقطاع ، وأصحاب هذا القول بين مطلق لذلك ومقيد بكونه في زمان يتسع لأداء الصلاة ، فالإطلاق للعلامة في بعض كتبه والشهيد فيما سوى الذكرى والتقيد للمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى ، وناط العلامة في القواعد العفو بحصول المشقة بالإزالة وهو ظاهره في النهاية ومثله المحقق في الشرائع ، وجمع في المنتهى والتحرير بينه وبين عدم وقوف جريانها فجعلهما المناط في العفو ، واستشكل في النهاية وجوب ازالة البعض إذا لم يشق وأوجب فيها وفي المنتهى ابدال الثوب مع الإمكان معللا بانتفاء المشقة فينتفي الترخص لانتفاء المعلول عند انتفاء علته. واعترضه في المعالم فقال بعد نقل ذلك : وأنت خبير بأنه مع وجوب ازالة البعض حيث لا يشق ووجوب ابدال الثوب ان أمكن لا يبقى لهذا الدم خصوصية فإن إيجاب إزالة البعض مع عدم المشقة يقتضي وجوب التحفظ من كثرة التعدي أيضا مع الإمكان كما لا يخفى ، واغتفار ما دون ذلك ثابت في مطلق الدم بل في مطلق النجاسات. وظاهر جماعة من الأصحاب ان الخصوصية هنا ثابتة عند الكل وان اختلفوا في مقدارها

٣٠٠