الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

أقول : وجدت منسوبا الى بعض الفضلاء مسألة مذيلة بالجواب بما هذه صورته مسألة : لو رأى المأموم في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة غير معفو عنها فهل يجوز له الاقتداء في تلك الحال أم لا؟ وهل يجب عليه إعلامه أم لا؟ ولو لم يجز له الاقتداء فهل يبني بعد نية الانفراد على ما مضى أم يعيد من رأس؟ الجواب : الاولى عدم الائتمام ويجب الاعلام ويجب الانفراد في الأثناء ويبنى على قراءة الإمام. انتهى.

أقول : ما ذكره هذا الفاضل المجيب من وجوب الاعلام قد صرح به العلامة في أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني محتجا على ذلك بكونه من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأنت خبير بما فيه (اما أولا) فلان الأصل عدمه كما تقدم في كلام المحقق الشيخ حسن ، وأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله لعدم توجه الخطاب للجاهل والناسي كما ذكروه فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف. و (اما ثانيا) فلان المفهوم من تتبع الاخبار انه لا يجب الاعلام بمثل ذلك ، فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم المذكورة ، ومن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (١) : «ان أبا جعفر (عليه‌السلام) اغتسل وبقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فقيل له فقال ما كان عليك لو سكت؟». ومن ذلك رواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب الاسناد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد». والمستفاد من هذه الأخبار كراهة الأخبار فضلا عن الجواز فكيف بالوجوب الذي ذكروه؟ والظاهر ان الوجه في ذلك هو انه لما كان بناء الأحكام الشرعية انما هو على الظاهر في نظر المكلف دون الواقع ونفس الأمر تحقيقا لبناء الشريعة على السهولة والسعة فإن الفحص والسؤال عن أمثال ذلك تضييق لها كما استفاضت به الأخبار الدالة على النهي عن السؤال ، نهى عن الاخبار بذلك والاعلام لعين ما ذكرناه في المقام.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٧ من النجاسات.

٢٦١

وما ذكره من عدم الائتمام ووجوب الانفراد على المأموم فقد نقل شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان البحراني في رسالته في الصلاة عن المحقق الشيخ علي نحوه ثم نقل عن بعض المتأخرين الجواز ثم تنظر في الجواز أولا ثم قال بعد نقل القول به : ولا يخلو من قوة. ولم ينقل دليلا في المقام نفيا ولا إثباتا.

أقول : وتحقيق القول في ذلك مبني على مسألة أخرى وهي ان من صلى في النجاسة جاهلا بها هل صلاته والحال هذه صحيحة واقعا وظاهرا أو تكون صحيحة ظاهرا باطلة واقعا إلا انه غير مؤاخذ لمكان الجهل بالنجاسة؟ ظاهر الأصحاب ـ كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية ـ هو الثاني حيث قال ـ في مسألة ما لو تطهر بالماء النجس جاهلا وان ذلك مبطل لصلاته ـ ما صورته : حتى لو استمر الجهل به حتى مات فان صلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل ، هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة ، ولا يخفى ما فيه من البلوى فان ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسات في نفس الأمر وان لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وان استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته ان لم يتفضل الله تعالى بجوده عليه. انتهى. وحينئذ فإن قلنا بما ذكره شيخنا المذكور ونقله عن الأصحاب فإنه يتجه كلام هؤلاء القائلين بتعين الانفراد ومنع الاقتداء ، والظاهر ان ما ذكروه في المسألة مبني على ذلك لظهور بطلان صلاة الإمام عند المأموم العالم بالنجاسة فلا يجوز له الاقتداء بصلاة باطلة وان كانت صحيحة في نظر الامام لجهله بالنجاسة ، وربما احتمل على هذا وجوب الاعلام واندرج تحت الأمر بالمعروف كما ذكره العلامة أيضا.

إلا أن الأظهر عندي هو الأول لوجوه : (أحدها) ـ ما قدمنا تحقيقه من ان الشارع لم يجعل الحكم بالطهارة والنجاسة منوطا بالواقع ونفس الأمر وانما رتبه على الظاهر في نظر المكلف فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر اي ما لم يعلم بملاقاة

٢٦٢

النجاسة له وان لاقته واقعا لا ما لم تلاقه النجاسة لأنه تكليف بما لا يطاق وهو مردود عقلا ونقلا ، وحينئذ فإذا صلى المصلي في الثوب المذكور فقد امتثل أمر الشارع وصارت صلاته صحيحة شرعية إذا خلت من سائر المبطلات.

و (ثانيها) ـ ما أسلفناه من الأخبار الدالة على المنع من الاخبار بالنجاسة وان كان في أثناء الصلاة ، ولو كان الأمر كما يدعونه من كون النجاسة والطهارة ونحوهما انما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر وان تلبس المصلي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته واقعا فكيف يحسن من الامام (عليه‌السلام) المنع من الإيذان بها في الصلاة كما في صحيح محمد بن مسلم أو قبلها كما هو أحد الوجهين في رواية ابن بكير وهل هو بناء على ما ذكروه إلا من قبيل التقرير على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه.

و (ثالثها) ـ انه يلزم على ما ذكروه عدم الجزم بصحة شي‌ء من العبادات إلا نادرا كما اعترف به شيخنا الشهيد الثاني فيما قدمنا من عبارته في شرح الرسالة ، وبنحوه صرح المحدث السيد نعمة الله الجزائري على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في أصل المسألة حيث قال : وبهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من ان من تطهر بماء نجس فاستمر الجهل به حتى مات فصلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل ، ولو صح هذا الكلام لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسة في نفس الأمر. انتهى. وبذلك يظهر لك ان الأصح هو صحة صلاة المصلي بالنجاسة جهلا ظاهرا وواقعا واستحقاق الثواب عليها ، وبه يتضح انه لا وجه للانفراد في أثناء الصلاة بسبب رؤية النجاسة كما ذكره المجيب والمحقق الشيخ علي.

(فان قيل) : ما ذكرتموه متجه على تقدير حمل الامام على كونه جاهلا بالنجاسة اما مع احتمال العلم بها ونسيانها وقت الصلاة فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت وقيل في خارجه ايضا ، وعليه فلا يتم ما ذكرتم لان وجوب الإعادة كاشف عن البطلان

٢٦٣

(قلنا) فيه (أولا) انه قد تقرر في كلامهم وعليه دلت الأخبار ايضا حمل أفعال المسلمين على الصحة وان الفعل متى احتمل الصحة والبطلان فإنه يحمل على الوجه المصحح حتى يظهر دليل البطلان ، وهذا أصل عندهم قد بنوا عليه أحكاما عديدة في العبادات والمعاملات كما لا يخفى على المتدرب ، وحينئذ فنقول لما ثبت صحة الصلاة في النجاسة جهلا فعلى تقدير القول ببطلان الصلاة نسيانا فمقتضى القاعدة المذكورة في هذه النجاسة المرئية المحتملة لكونها مجهولة أو منسية الحمل على الوجه الصحيح إذ الأصل هو الصحة ، والناس في سعة مما لم يعلموا (١) فلا يكون مجرد الرؤية موجبا للحكم ببطلان الصلاة.

و (ثانيا) ـ ان مقتضى إطلاق صحيحة محمد بن مسلم الدالة على المنع من الاعلام بالنجاسة شمول الجهل والنسيان ولعل وجهه ان الناسي في حال نسيانه كالجاهل في حال جهله غير مخاطب بما أخل به فتكون صلاته صحيحة على التقديرين. والله العالم.

(الرابع) ـ ربما دلت الروايات المتقدمة من حيث الدلالة على كراهة الاخبار بالنجاسة على انه يجوز للإنسان إذا كان عنده طعام نجس ان يبيعه ممن لا يعلم بالنجاسة أو يطعمه إياه وانه لا اثم عليه ولا حرج سيما رواية عبد الله بن بكير الدالة على جواز اعارة الثوب الذي لا يصلى فيه من حيث النجاسة لمن يصلي فيه من غير ان يعلمه (٢) والتقريب فيها انه ان لم يكن أمر الصلاة أشد والمنع فيها آكد فلا يكون أقل من الأكل أو البيع ، ويؤيد ذلك ما قدمنا من انه طاهر في نظر المشتري والأكل والطهارة والنجاسة ليست منوطة بالواقع وانما هي منوطة بعلم المكلف وعدمه وهذا المفروض وان كان نجسا بالنسبة إلى المالك إلا انه طاهر بالنسبة إلى الآخر.

والقول بذلك لا يخلو من قوة إلا ان ظواهر جملة من الاخبار تدفعه مثل صحيحة

__________________

(١) لم نجد في كتب الحديث خبرا بهذا اللفظ وقد ورد في حديث السفرة (هم في سعة حتى يعلموا» وقد رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات و ٣٨ من الذبائح و ٢٣ من اللقطة ، وقد تقدم الحديث في التعليقة ٢ ص ٤٣ ج ١.

(٢) ص ٢٦١.

٢٦٤

ابن ابي عمير عن بعض أصحابه (١) قال وما أحسبه إلا حفص بن البختري قال : «قيل لأبي عبد الله (عليه‌السلام) في العجين يعجن بالماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع ممن يستحل أكل الميتة». وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «يدفن ولا يباع». وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول إذا اختلط الذكي بالميتة باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه». ومثلها حسنته ايضا (٤) وقد تقدم أيضا في صدر الفصل الخامس (٥) في رواية معاوية بن عمار (٦) المتضمنة للسؤال عن جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل انه قال : «تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به».

والمسألة لذلك غير خالية من الاشكال ، والتأويل في الأخبار الأولة بالحمل على اخبار الغير بنجاسة ثوبه أو بدنه أو نحوهما وان أمكن في صحيحة محمد بن مسلم كما هو مورد الرواية المذكورة فلا منافاة بينها وبين هذه الاخبار إلا ان رواية عبد الله بن بكير لا تقبل ذلك لكون النهي فيها بالنسبة إلى المالك وانه يجوز ان يعير ثوبه النجس ولا يخبر بنجاسته وهو ظاهر المنافاة لهذه الأخبار ومؤيد بما ذكرناه من القاعدة في الباب ، وفي معنى رواية ابن بكير المذكورة صحيحة العيص بن القاسم (٧) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم ان صاحب الثوب أخبره انه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته». والتقريب فيها تقريره (عليه‌السلام) السائل على إعارته ثوبه النجس لمن يصلي فيه إذ من المعلوم ان صلاة ذلك الرجل فيه انما تكون باذن صاحبه وإعارته إياه ، وتقريره (عليه‌السلام) حجة كما تقرر في موضعه.

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١١ من أبواب الأسآر.

(٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٥) ص ٥٦.

(٦) هكذا فيما وقفنا عليه من النسخ والصحيح (معاوية بن وهب) كما في كتب الحديث.

(٧) المروية في الوسائل في الباب ٤٧ من النجاسات.

٢٦٥

(فان قيل) ان الخبرين المذكورين لا دلالة فيهما على نجاسة الثوب المعار فلعل عدم الصلاة فيه كما في رواية ابن بكير والاخبار بأنه لا يصلي فيه كما في الصحيحة المذكورة انما هو لأمر آخر كالغصب ونحوه من الموانع.

(قلنا أولا) انه قد تقرر عندهم ان عدم الاستفصال في مقام الاحتمال دليل على العموم في المقال فيكفي دلالة الخبرين على ما ذكرنا بعمومهما. و (ثانيا) ان الأصحاب انما فهموا من الروايتين النجاسة ولهذا نظموا صحيحة العيص المذكورة في روايات من صلى في النجاسة جاهلا ومن ذكر منهم رواية ابن بكير فإنما ذكرها في مقام الصلاة في النجاسة أيضا.

(المسألة الثالثة) ـ قد تفرد المحدث الكاشاني بالقول بان المتنجس إذا أزيلت عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه فإنه لا تتعدى نجاسته الى ما يلاقيه في موضعها ولو مع الرطوبة وبالغ في نصرته وشنع على من خالفه ، قال في المفاتيح : انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة واما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه بالتمسح ونحوه بحيث لا يبقى فيه شي‌ء منها فلا يجب غسله كما يستفاد من المعتبرة (١) على انا لا نحتاج الى دليل على ذلك فان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم إلا بعد البرهان ، إلا ان هذا الحكم مما يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أهل الوسواس الذين يكفرون بنعمة الله تعالى ولا يشكرون سعة رحمة الله سبحانه وفي الحديث (٢) «ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم وان الدين أوسع من ذلك». انتهى.

أقول : ان عبارته وكلامه لا يخلو من إجمال واختلال (اما الأول) فإن مقتضى قوله : «انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة» هو ان تعدي النجاسة يدور مدار الملاقاة لعين النجاسة وجودا وعدما دون الملاقاة للمتنجس أعم من ان تكون عين النجاسة

__________________

(١) سيأتي التعرض لها في الصفحة ٢٦٨ وما بعدها.

(٢) وهو صحيح البزنطي المتقدم ص ٢٥٣ ورواية الجعفري ص ٢٥٧ ورواية قرب الاسناد ص ٢٥٨.

٢٦٦

مصاحبة له أم لا إذا لم يستلزم ملاقاة العين ، وعلى هذا يستفاد منه الحكم بطهارة كل ما لم يلاق عين النجاسة سواء لاقى المحل بعد زوال عين النجاسة عنه كما ذكره أو لاقاه والعين باقية فيه لكن على وجه لا تصل إلى الملاقي ، ومقتضى قوله : «واما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه العين. إلخ» ان تعدى النجاسة لا يدور مدار ملاقاة العين بخصوصها بل هو أعم من الملاقاة لها أو للمحل الذي هي فيه بشرط كونه مائعا مصاحبا للنجاسة ، وعلى هذا فيستفاد منه تخصيص الطهارة بما لاقى محل النجاسة بعد ما أزيل عنه العين أعم من ان يكون محل النجاسة مائعا كالدهن المائع ونحوه أو غير مائع كالبدن والخشب والثوب ونحوها.

و (اما الثاني) ـ فإن كلامه على كلا الاحتمالين مردود ، اما على تقدير الاحتمال الأول ـ من دوران الطهارة والنجاسة مدار الملاقاة للعين وجودا وعدما ـ ففيه انه معلوم البطلان لاستفاضة الروايات بما ينافيه كروايات نجاسة الدهن والدبس المائعين بوقوع الفأرة وموتها فيه ونجاسة الأواني لنجاسة مياهها. وأما على تقدير الاحتمال الثاني ـ ولعل مراده ذلك ولعل في تصريحه بذلك الفرد الخاص اشعارا به ـ ففيه ان المفهوم من كلامه كما أشرنا إليه آنفا هو عدم تعدي نجاسة ذلك المحل الذي فيه النجاسة بعد زوال العين منه أعم من ان يكون مائعا أو جامدا ، مثلا ـ لو وضعت إصبعا في دهن نجس بعد رفع عين النجاسة فإنه لا يقتضي نجاسة الإصبع ، وهذا في البطلان أظهر من ان يحتاج الى بيان لدلالة الأخبار على نجاسة الدهن ونجاسة ما تعدى اليه ولهذا حرم اكله والانتفاع به إلا في الإسراج ونحوه ، اللهم إلا ان يخص الدعوى بغير المائع كالخشب والثوب والبدن ونحوها كما هو مورد المعتبرة التي استند إليها. وفيه (أولا) ان الظاهر من كلامه في مفاتيح النجاسات انما هو ما ذكرنا من المعنى الأعم الشامل للمائع والجامد حيث انه بعد ذكر النجاسات العشرة في مفاتيح متعددة قال ما صورته : مفتاح ـ كل شي‌ء غير ما ذكر

٢٦٧

فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة للأصل السالم عن المعارض ، وللموثق (١) «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر». فان تخصيصه الاستثناء بما يلاقي شيئا من النجاسات خاصة دون المتنجس ظاهر في طهارة ما لاقى المتنجس صلبا كان أو مائعا بعد ازالة عين النجاسة أو قبلها ما لم يلاقها. و (ثانيا) ـ انه مع تسليم ما ذكر فإنه معارض باستفاضة الأخبار بغسل الأواني والفرش والبسط ونحوها متى تنجس شي‌ء منها إذ من المعلوم ان الأمر بغسلها ليس إلا لمنع تعدى نجاستها الى ما يلاقيها برطوبة مما يشترط فيه الطهارة ، ولو كان مجرد زوال العين كافيا في جواز استعمال تلك الأشياء لما كان للأمر بغسلها فائدة بل كان عبثا محضا لان تلك الأشياء أنفسها لا تستعمل فيها يشترط فيه الطهارة كالصلاة ونحوها حتى يقال ان الأمر بغسلها لذلك ، وبالجملة لا يظهر وجه حسن لهذا التكليف لو كان ما ادعاه حقا سيما مع بناء الدين على السهولة والتخفيف في التكاليف ونفى العسر والحرج ، هذا.

واما المعتبرة التي أشار إليها واعتمد في المقام عليها ـ وهي موثقة حنان بن سدير (٢) قال : «سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) فقال اني ربما بلت فلا اقدر على الماء ويشتد ذلك علي؟ فقال إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك فان وجدت شيئا فقل هذا من ذاك». ـ فهي غير صريحة لو لا ظاهرة فيما ادعاه بل هي بالدلالة على خلافه أقرب وبما ندعيه انسب ، وتوضيح ذلك انه بعد ان نقل هذه الرواية في الوافي نبه على احتمالها لمعنيين (أحدهما) وهو الذي يظهر عندنا من لفظ الرواية وسياقها هو ان السائل شكا إليه انه ربما بال وليس معه ماء ويشتد ذلك عليه بسبب عرق ذكره بعد ذلك أو بلل يخرج من ذكره فيلاقي مخرج البول فيتنجس به ثوبه وبدنه ، فأمره (عليه‌السلام) لذلك بحيلة شرعية يتخلص بها من ذلك وهو ان يمسح غير المخرج من الذكر اعني المواضع

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء.

٢٦٨

الطاهرة منه بعد ما ينشف المخرج بشي‌ء حتى لو وجد بللا بعد ذلك لقدر في نفسه انه يجوز ان يكون من بلل ريقه الذي وضعه وليس من العرق ولا من المخرج فلم يتيقن النجاسة من ذلك البلل حينئذ (الثاني) ـ وهو الذي بنى عليه ان تكون شكاية ذلك السائل انما هي من انتقاض وضوئه بالبلل الذي يجده بعد المسح لاحتمال كونه بولا ، وقوله : «انه لا يقدر على الماء» يعني لازالة ذلك البلل المحتمل كونه بولا فإنه قد تعدى من المخرج الى ثوبه وبدنه ، فأمره (عليه‌السلام) ان يمسح ذكره يعني مخرج البول بعد ما مسح البول عنه بريقه حتى لو خرج بعد ذلك بلل صار مشكوكا فيه من حيث الريق الموضوع على طرف الذكر لاحتمال كونه منه ، هذا حاصل كلامه ، ثم قال وهذا المعنى أوفق بالأخبار الأخر.

ثم قال : وهذان الأمر ان أعني عدم الحكم بالنجاسة إلا بعد التيقن وعدم تعدي النجاسة من المتنجس بابان من رحمة الله الواسعة فتحهما الله لعباده رأفة بهم ونعمة لهم ولكن أكثرهم لا يشكرون فينتقم الله منهم بابتلائهم بالوسواس واتباعهم الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما في قوله : «وعدم تعدي النجاسة من المتنجس» من الدلالة على العموم للمائع والجامد كما قدمنا ذكره.

ثم أقول لا يخفى ان ما ذكره من هذا الاحتمال الذي بنى عليه الاستدلال مردود من وجوه : (أولها) ـ انه قد ذكر الاحتمالين في معنى الرواية كما قدمنا نقله عنه وهو لم يذكر مرجحا لهذا الاحتمال الذي استند اليه وقد عرفت ان الاحتمال الآخر لا يجري فيما ذهب اليه ، وقد تقرر بينهم انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.

و (ثانيها) ـ انه لا دلالة في الخبر على هذا الوضوء الذي بنى عليه هذه المباني المتعسفة وارتكب لأجله هذه التمحلات المتكلفة وان كان قد سبقه الى هذا الاحتمال السيد السند في المدارك ايضا حيث قال بعد نقل خبر حنان : لأنا نجيب عنه أولا بالتقية أو على ان

٢٦٩

المراد نفى كون البلل الذي يظهر على المحل ناقضا. انتهى.

و (ثالثها) ـ ان الوضوء الذي ذكره لا يكون إلا بعد البول فلم لا غسل مخرج البول أولا لدفع هذه الحيرة التي شكاها لانه واجد للماء بزعمه وازالة البول التي يكفي فيها مثلا ما على الحشفة لا يحتاج الى كثير ماء حتى ربما يقال انه لا زيادة فيه على الوضوء ، فالواجب حينئذ هو ازالة البول أولا ولا سيما على مذهب الصدوق القائل بإبطال الوضوء ووجوب إعادته مع نسيان غسل مخرج البول كما دلت عليه إخباره التي استند إليها.

و (رابعها) ـ انه لو كانت شكاية السائل اليه انما هو من حيث خوف انتقاض وضوئه بالبلل الخارج من جهة احتمال كونه بولا لكان الاولى جوابه بالأمر بالاستبراء بعد البول ، فإن قضية الاستبراء البناء على طهارة ما يخرج بعده وعدم نقضه للوضوء.

و (خامسها) ـ انه لو كانت الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول انما هو عدم انتقاض الطهارة بأن ينسب ذلك البلل الذي يجده الى الريق ليكون غير ناقض ولا ينسبه الى الخروج من الذكر فيكون ناقضا فأي فرق في ذلك بين الحكم بتعدي النجاسة من المخرج بعد مسحها وعدم تعديها؟ فان وجه الحكمة يحصل على كلا التقديرين فلو قلنا بالتعدي ومسح المخرج بريقه لقصد هذه الحكمة وكون الخارج غير ناقض أمكن وان كان نجسا ، وبالجملة فإنه لا منافاة بين حصول هذه الحكمة وبين القول بتعدي النجاسة.

وبذلك يظهر ان الوجه الصحيح في معنى الخبر انما هو المعنى الأول المشتمل على حكمة ربانية لدفع الوساوس الشيطانية ، ويظهر ايضا بطلان ما ذهب اليه ويكون الخبر بناء على ما اخترنا ظاهرا في الرد عليه ، وذلك فإنه لو كان الملاقي للمتنجس بعد ازالة العين بالتمسح ونحوه لا ينجس لما حسن امره بوضع الريق لان المفروض ان المخرج قد أزيلت عنه عين النجاسة ولم يبق إلا محلها ومحلها لا تتعدى نجاسته كما يدعيه ، فأي وجه لهذه الحكمة بوضع الريق؟ وهو (عليه‌السلام) إنما أمر بوضعه لدفع احتمال تعدي النجاسة

٢٧٠

من المحل بالعرق أو خروج شي‌ء من الذكر فينجس بملاقاة المحل بان ينسب ذلك الى الريق الذي وضعه ، ولو صح ما ذكره لم يكن لهذا الاحتمال مجال بالكلية مع انه قد اعترف به وعلى تقديره يبطل به أصل قاعدته.

وبما ذكرناه من هذا التحقيق وأوضحناه من البيان الواضح الرشيق يظهر لك ايضا ما في كلام شيخنا الشهيد في الذكرى حيث قال : وخبر حنان «يمسحه بريقه فإذا وجد بللا فمنه» متروك. انتهى إذ لا وجه لتركه مع وجود معنى صحيح يحمل عليه كما أوضحناه ، والظاهر انه فهم من الخبر كون مسحه بالريق مطهرا من البول عند فقد الماء ولا ريب انه بهذا المعنى متروك إجماعا ، ولو كان صريح الدلالة في ذلك لأمكن حمله على التقية كما احتمله في المدارك لموافقته لمذهب أبي حنيفة من جواز إزالة النجاسة بكل مائع ، هذا.

واما الاخبار التي ادعى أوفقية هذا التأويل بها فهي غير ظاهرة فيما ادعاه ، فمنها صحيح العيص بن القاسم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه». وهي بالدلالة على ما ندعيه أقرب وبالرد عليه فيما ذهب إليه أنسب ، وذلك فان الظاهر ان جملة «وقد عرق ذكره» معطوفة على ما تقدمها دون ان تكون حالا كما سيأتي توضيحه ، وحينئذ فتدل الرواية على ان العرق انما وقع بعد البول ومسح الذكر فأمر (عليه‌السلام) بغسل الذكر والفخذين لذلك العرق المتعدي من مخرج البول بعد مسحه.

وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل حيث قال في الكتاب ـ بعد نقل خبر حنان المذكور ثم موثقة سماعة الآتية وتأويلهما ـ ما هذا لفظه : ولبعض المعاصرين هنا كلام غريب هو ان المحل النجس إذا أزيل عنه عين النجاسة بغير المطهر الشرعي فلا

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢١ من أحكام الخلوة و ٢٦ من أبواب النجاسات.

٢٧١

تتعدى نجاسته إلى الملاقي ولو مع الرطوبة لأن النجس انما هو عين النجاسة لا المتنجس وجعل هذين الخبرين شاهدا على ذلك ، وهو كلام متين ان لم يقم الإجماع على خلافه ولم يكن ما دل عليه موافقا للعامة وقابلا للتأويل بما ذكرناه ، وأيضا ففي دلالة الخبر الأول على ما ادعاه تأمل ، ويمكن ان يستدل له بما هو أوضح سندا ومتنا وهو صحيح العيص بن القاسم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عن من مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال لا». بان يقال الفرق بين الذكر والفخذ عند عرقهما قبل التطهير الشرعي وبين الثوب عند اصابته لعرق اليد الماسحة للذكر قبله بالأمر بغسلهما دونه لا وجه له ظاهرا سوى الفرق بين ما يلاقي المتنجس وما يلاقي عين النجاسة ، فإن غسلهما انما هو لملاقاتهما بالرطوبة للمحل النجس قبل زوال عين النجاسة بالمسح بالحجر كما يرشد اليه وأو الحال ، وذلك يقتضي تعديها من المحل الى ما يجاوره ويلاصقه من بقية اجزاء الذكر والفخذ بخلاف الثوب فان ملاقاته انما وقعت بالمتنجس وهي اليد الماسحة بعد زوال عين النجاسة عن الماسح والممسوح. انتهى كلامه زيد مقامه.

وفيه (أولا) انه لا يخفى ان مفاد عطف مسح الذكر على البول بالفاء التي مقتضاها الترتيب بلا مهلة هو كون المسح وقع عقيب البول بلا مهلة ، ويؤيده ايضا انه هو المتعارف فإن الإنسان متى بال ولم يكن معه ماء مسح ما بقي على طرف ذكره من البول لئلا يتعدى الى ثوبه أو بدنه فينجسه ولا يعقل انه يتركه بغير مسح حتى يتردد في المغدى والمجي‌ء على وجه يعرق ذكره وفخذاه وعين البول باقية ضمن تلك المدة حتى انه بسبب العرق تتعدى نجاسة البول الى فخذيه مثلا ثم بعد ذلك يمسح ذكره ، بل من المعلوم انه بمجرد المغدى والمجي‌ء تتعدى نجاسة البول من غير حصول عرق إلى سائر

__________________

(١) رواه في الوسائل مقطعا في الباب ٦ و ٢٦ من أبواب النجاسات.

٢٧٢

بدنه وثيابه ، أو يعقل انه يعرق في محله ذلك من غير تردد على وجه يسيل العرق من مخرج البول إلى سائر اجزاء الذكر والفخذين؟ وبالجملة فمعنى الرواية المتبادر منها انما هو ما ذكرناه أولا وهو انه سأله عن رجل بال فمسح مخرج بوله في وقته ذلك وعرق ذكره وفخذاه بعد ذلك فأمره (عليه‌السلام) بغسل ذكره وفخذيه لملاقاة ذلك المحل المتنجس برطوبة ، وحينئذ فجملة «وقد عرق» معطوفة لا حالية كما أشرنا إليه آنفا ، وحينئذ فتكون هذه الرواية مع رواية حنان دليلا على ما ندعيه من تعدي نجاسة المتنجس بعد ازالة عين النجاسة ومسحها.

و (اما ثانيا) ـ فلان آخر صحيح العيص المذكور غير صريح ولا ظاهر في كون المسح المذكور وقع بمجموع اليد ولا في كون الجزء الماسح منها بعينه هو الذي أصاب الثوب بالعرق بل هو محتمل لذلك ومحتمل لان تكون الملاقاة بجزء من اليد غير الجزء المتنجس منها كما سيأتي تحقيقه.

ومنها ـ رواية سماعة (١) قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليه‌السلام) اني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجي‌ء مني البلل ما يفسد سراويلي؟ قال ليس به بأس». قال شيخنا صاحب رياض المسائل بعد ذكر خبر حنان ورواية سماعة المذكورة انه لا يدل ذلك على طهر المحل بالمسح بوجه من الوجوه وانما يدل على ان وجدان شي‌ء من البلل وان أفسد السراويل من كثرته مع عدم القطع بخروجه من مخرج البول الباقي على النجاسة أو ملاقاته له لا بأس به خصوصا مع مسح ما سوى المخرج من الذكر بالريق فإنه ينسبه الى الريق ، ثم ذكر الكلام الذي قدمنا نقله عنه بقوله : ولبعض المعاصرين. الى الآخر.

ومنها ـ رواية حكم بن حكيم (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شي‌ء من البول فأمسحه بالحائط أو التراب ثم تعرق

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من نواقض الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٦ من أبواب النجاسات.

٢٧٣

يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال لا بأس به». فإنه لا دلالة فيها على كون اصابة الثوب ومسح الوجه أو بعض الجسد بذلك الموضع النجس ولا على كون النجاسة شاملة لليد كملا حتى تستلزم الإصابة ببعض منها ذلك بل هي أعم من ذلك ، ونفى البأس انما هو لأجل ذلك لانه ما لم يعلم وصول عين النجاسة أو المتنجس إلى شي‌ء ومباشرته له بالرطوبة فلا يحكم بالنجاسة عملا بأصالة الطهارة وتمسكا بها الى ان يعلم الرافع لها ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

قال المحقق الشيخ حسن في المنتقى بعد ما أورد هذين الخبرين ما نصه «والخبران كما ترى مخالفان لما هو معروف من مذهب الأصحاب ويمكن تأويلهما بالحمل على عدم تيقن اصابة الموضع المتنجس من الكف للثوب والوجه والجسد أو على توهم سريان النجاسة إلى سائر الكف بتواصل رطوبة العرق» انتهى.

أقول : وقد اعترف بذلك في الوافي أيضا فقال بعد ذكر الرواية : الوجه في ذلك أمران (أحدهما) ان بالمسح بالحائط والتراب زال العين ولم يبق من البول شي‌ء فما يلاقيه برطوبة انما يلاقي اليد المتنجسة لا النجاسة العينية والتطهير لا يجب إلا من ملاقاة عين النجاسة. و (الثاني) انه لم يتيقن اصابة البول جميع اجزاء اليد ولا وصول جميع اجزاء اليد الى الوجه أو الجسد أو الثوب ولا شمول العرق كل اليد فلا يخرج شي‌ء من الثلاثة عما كان عليه من الطهارة باحتمال ملاقاة البول فان اليقين لا ينقض بالشك ابدا وانما ينقض بيقين مثله كما يأتي في باب التطهير من المني النص عليه. انتهى.

أقول : ولا استبعاد في حمل الخبرين المذكورين على ما ذكرناه وان لهما نظائر في الاخبار توهم بظاهرها المخالفة وتحتاج في تطبيقها الى نوع تأويل قريب أو بعيد ، مثل صحيحة زرارة (١) قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال : نعم لا بأس به إلا ان تكون النطفة فيه رطبة فإن كانت جافة فلا بأس». فإنه يوهم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

٢٧٤

طهارة المني وقد تقدم القول فيه في الفصل الثالث في نجاسة المني ومثلها صحيحة أبي أسامة (١) وقد تقدم الكلام فيها في الموضع المشار إليه أيضا ، ومثل ذلك في الاخبار كثير كما لا يخفى على من تتبع الاخبار ، والغرض هنا انما هو التنبيه على قبول ما يستدل به على ما ذهب إليه للتأويل كما في نظائره التي من هذا القبيل فلا يحتج بها إذا على خلاف النهج الواضح السبيل الذي عليه عامة العلماء جيلا بعد جيل.

وقد وافقنا في هذا المقام بعض الفضلاء من تلامذته الناسجين على منواله في جل مذاهبه وأقواله حيث قال في حواشيه على الوافي في هذا المقام : ما استدل به الحبر العلامة (طاب ثراه) من الاخبار على ان المتنجس لا ينجس الظاهر انه لا يتم لان ليس فيها ان لهم ان يصلوا على تلك الحال بل سألوا عن كراهة ما فعلوا فأجابهم (عليه‌السلام) بعدم البأس فإذا أرادوا الصلاة تطهروا وطهروا وصلوا ، وان سلمنا هذا فخبر ابن حكيم وعجز خبر العيص الأول لا يدل إلا على ان ما لم يعلم وصول المتنجس إلى شي‌ء رطبا متعديا رطوبته اليه لم يحكم بالنجاسة ، ثم ذكر تأويل خبر حنان بن سدير بنحو آخر غير ما ذكرناه ، الى ان قال وخبر سماعة ان كان المراد بعدم البأس ان يصلي في السعة والحال هذه فهو باطل بالاتفاق بل لا بد من تطهير مخرج البول ولا يبعد وجوب تطهير ثوبه ايضا ، فالمراد اما عدم البأس من فعله واما ان يكون في موضع ليس فيه ماء فبال وتمسح وتيمم ثم وجد البلل فسأل عن انتقاض التيمم به فأجابه (عليه‌السلام) بعدم الانتقاض والحال هذه. انتهى.

قال في الوافي ذيل هذه الاخبار التي نقلنا استناده إليها وتعويله عليها ما نصه : لا يخفى على من فك رقبته عن ربقة التقليد ان هذه الاخبار وما يجري مجراها صريحة في عدم تعدي النجاسة من المتنجس إلى شي‌ء قبل تطهيره وان كان رطبا إذا أزيل عنه عين النجاسة بالتمسح ونحوه وانما المنجس للشي‌ء عين النجاسة لا غير ، على انا لا نحتاج الى

__________________

(١) ص ٣٥.

٢٧٥

دليل في ذلك فان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف إلا بعد البيان. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق الكاشف عن ضعف باطنه وخافية. اما قوله ان هذه الاخبار صريحة فيما ادعاه فهو ظاهر البطلان ، كيف وهو قد ذكر كما قدمنا نقله في معنى موثقة حنان بن سدير معنيين وكلامه انما يتم على تقدير أحدهما وكذا في رواية حكم بن حكيم ، فكيف تكونان صريحتين فيما ادعاه مع اعترافه بالاحتمالين الآخرين الموجبين لخروج الرواية من قالب الاستدلال؟ ما هذا إلا سهو ظاهر من هذا المحدث الماهر ، واما باقي الأخبار فيما أوضحناه وذكره الأصحاب من وجوه المعاني المحتملة فيها فكيف يدعى صراحتها؟

واما قوله : «ان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب» ففيه انا قد أوضحنا بحمد الله سبحانه وتوفيقه دلالة موثقة حنان وصدر صحيحة العيص على ما ندعيه من وجوب الغسل في الصورة المذكورة ، مضافا الى ما أشرنا إليه من اخبار تطهير الأواني والفرش والبسط والجلود ونحوها ، هذا ان خصصنا محل النزاع بالأجسام الصلبة وان عممنا الحكم في المائع كما عرفت من انه ظاهر كلامه كان ما ذكره في الضعف والبطلان أظهر من ان يخفى على الصبيان فضلا عن العلماء الأعيان ، والله الهادي لمن يشاء

(المسألة الرابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب فيما اعلم في انه متى علمت الملاقاة الموجبة للتنجيس واشتبه محلها فان كان موضع الاشتباه محصورا وجب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه وهكذا في الاشتباه بالمحرم ، وان كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الافراد والاجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة والحلية في الاختلاط بالنجس والحرام ، وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامين :

(الأول) ـ بالنسبة إلى المحصور فان الحكم فيه ما ذكرناه كما عليه كافة الأصحاب الى ان انتهت النوبة إلى السيد السند السيد محمد والمحقق الشيخ حسن وقبلهما

٢٧٦

شيخهما المحقق الأردبيلي فنازعوا في الحكم المذكور وتبعهم جمع ممن تأخر عنهم ، وقد سبق البحث معهم في مسألة الإناءين لكنا نورد كلامي السيد والشيخ حسن في ذلك في هذا المقام ونبين ما يتعلق به من النقض والإبرام :

فنقول قال في المدارك ـ بعد قول المصنف : وإذا كانت النجاسة في موضع محصور كالبيت وشبهه وجهل موضع النجاسة لم يسجد على شي‌ء منه ـ ما هذا نصه : هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) واحتجوا عليه بان المشتبه بالنجس قد امتنع فيه التمسك بأصالة الطهارة للقطع بحصول النجاسة فيما وقع فيه الاشتباه فيكون حكمه حكم النجس في انه لا يجوز السجود عليه ولا الانتفاع به في شي‌ء مما يشترط فيه الطهارة. وفيه نظر من وجوه : (اما أولا) فلان أصالة الطهارة إنما امتنع التمسك بها بالنسبة إلى مجموع ما وقع فيه الاشتباه لا في كل جزء من اجزائه فإن أي جزء فرض من الاجزاء التي وقع فيها الاشتباه مشكوك في نجاسته بعد ان كان متيقن الطهارة واليقين انما يخرج عنه بيقين مثله ، وقد روى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) انه قال : «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا» (١). و (اما ثانيا) فلان ذلك آت بعينه في غير المحصور فلو تم لاقتضى عدم جواز الانتفاع به فيما يفتقر إلى الطهارة وهو معلوم البطلان ، الى ان قال وبالجملة فالمتجه جواز السجود على ما لا يعلم نجاسته بعينه وعدم نجاسة الملاقي له تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض. انتهى.

وفيه (أولا) انه متى جاز التمسك بأصالة الطهارة في كل جزء جزء فإنه ينتج من ذلك الحكم بالطهارة في الجميع البتة ، مثلا ـ في مسألة الإناءين التي هي أحد جزئيات هذه المسألة متى لوحظ هذا الإناء على حدة فإن الأصل فيه الطهارة فيجب الحكم بطهارته وترتب أحكام الطاهر عليه من شربه والوضوء به ونحو ذلك ومتى لوحظ الآخر على حدة كان كذلك ، فاللازم من ذلك هو طهارتهما وجواز استعمالهما وهذا عين السفسطة للزوم سقوط

__________________

(١) تقدمت هذه الجملة من الرواية ص ٢٥٦.

٢٧٧

حكم النجاسة المحققة بالكلية ، والسيد (قدس‌سره) إنما التجأ في دفع ذلك كما تقدم في مسألة الإناءين إلى انه مجرد استبعاد لا يلتفت اليه وانه قد وجد نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، ونحن قد أوضحنا ثمة بطلانه وهدمنا أركانه.

و (ثانيا) ـ ان النصوص الواردة في جملة من جزئيات هذه المسألة صريحة في إبطال هذا الكلام المزيف ، ومنها ـ مسألة الثوب الذي قد تنجس بعض منه غير معلوم وقد اشتبه موضعه في الثوب كملا ، فان النصوص أوجبت تطهير الثوب كملا ويأتي بمقتضى كلامه هنا انه يكفي تطهير جزء من الثوب بقدر الموضع النجس والنصوص تأباه ، وقد اعترف هو نفسه بذلك في المسألة المشار إليها. ومنها ـ مسألة الثوب النجس المشتبه بثوب آخر طاهر فان الشارع أوجب الصلاة في كل منهما ومقتضى كلامه انه يكفي الصلاة في واحد منهما والنص يدفعه ، ومنها ـ مسألة قطع اللحم المشتبه ذكية بميتة فإن النصوص دلت على حرمة الجميع ومقتضى كلامه هنا حل كل قطعة قطعة منه ، ومنها ـ مسألة الإناءين ، وهذه المسائل كلها متفق عليها بين الأصحاب سلفا وخلفا والنصوص أيضا متفقة فيها على ما ذكرناه والسيد ومن حذا حذوه انما نازعوا في مسألة الإناءين من حيث ضعف السند باصطلاحه وان كان موثقا لعده عنده في قسم الضعيف متى اعرض عنه ، وجملة أصحاب هذا الاصطلاح عملوا به وجبروا ضعفه باتفاق الأصحاب على العمل بمضمونه مع اعترافهم في تلك المسائل الباقية بما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وان خالف مقتضى قاعدتهم ، والجميع كما ترى أظهر شي‌ء في رد كلامهم واختلال نظامهم فإنه لو كان ما ذكروه حكما كليا بناء على ما توهموه من صحيحة زرارة المذكورة في كلامه لما خرجت الأخبار المعتضدة باتفاق الأصحاب في تلك الجزئيات المذكورة بخلافه ، والمعنى في صحيحة زرارة ليس كما توهموه كما سيظهر لك في المقام ان شاء الله تعالى.

و (ثالثا) ـ انه يلزم بما ذكره هنا ايضا انه لو اشتبهت امه أو أخته أو إحدى محارمه بامرأة أخرى أو اثنتين مثلا فإنه يجوز له نكاح اي تلك النساء شاء لأصالة الحل

٢٧٨

في كل واحدة واحدة ولا يحكم بتحريم الام والأخت ونحوهما إلا إذا كانت متشخصة ولا أظنه يتفوه به.

وبالجملة فالقول الفصل والتحقيق الجزل في المقام هو ان يقال لا ريب انه قبل وقوع النجاسة فإن الطهارة متيقنة في كل جزء جزء من اجزاء الأرض مثلا وكل فرد من افراد الأواني المحصورة وبعد وقوع النجاسة ومعلوميتها في موضع مخصوص أو فرد مخصوص فإنه يحكم بنجاسته يقينا ، واما مع وقوعها في جزء من تلك الاجزاء أو فرد من تلك الافراد واشتباهه بالباقي فإنه قد حصل لهذه الاجزاء وهذه الافراد حالة ثالثة بين يقين الطهارة ويقين النجاسة فكل منها ليس بمتيقن الطهارة ولا متيقن النجاسة ، والمعلوم من الشارع انه الحق هذا القسم بالقسم الأول وهو المتيقن النجاسة كما عرفت من الجزئيات التي ذكرناها وكذا بالنسبة إلى اختلاط الحلال بالحرام ، ووجه الفرق بين هذا القسم وما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة ونحوها ان في هذا القسم الذي ذكرناه قد علم وجود النجاسة قطعا ولكن اشتبه علينا موضعها من تلك الافراد والاجزاء ومورد الصحيحة المشار إليها وأمثالها انما هو حصول الظن والشك بالنجاسة ، فالمقابل ليقين الطهارة انما هو الظن أو الشك فمن أجل ذلك أمر (عليه‌السلام) باستصحاب يقين الطهارة وانه لا يخرج عنه بمجرد الظن والشك ، وفرض الشارح هذا بالنسبة الى كل جزء جزء من الاجزاء المحصورة ليس في محله لما يلزم منه من رفع حكم النجاسة المعلومة يقينا بالكلية ومن أجل ذلك دلت النصوص على إعطاء حكم المشتبه بالنجس أو المحرم في المحصور حكم ما اشتبه به ، فان قوله تعالى : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...» (١) و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية» (٢) شامل لما لو كان ذلك المحرم متعينا متشخصا أو مشتبها بأفراد مخصوصة متعينة ، فإنه كما يقطع بوجود النجس والحرام مع التشخص بقطع ايضا بوجوده في صورة الاشتباه في الافراد المعينة فتشمله الأوامر المذكورة ، غاية الأمر انه لما لم

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٤.

(٢) سورة النساء ، الآية ٢٣.

٢٧٩

يمكن الوصول الى الاجتناب عن ذلك النجس أو المحرم إلا بالاجتناب عن الجميع وجب اجتناب الجميع من باب ان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ونظيره في الأحكام غير عزيز فان من فاتته صلاة فريضة واشتبهت بباقي الخمس وجب عليه الإتيان بالجميع نصا وفتوى بالتقريب المذكور ، واما لو لم يكن محصورا كالموجود بأيدي الناس وفي الأسواق فإنه لا يقطع بوجود المحرم ولا النجس فيما يراد استعماله منه وان علم وجوده في الواقع ونفس الأمر ، ومن هنا حكم الشارع بحل ما في أيدي المسلمين وأسواقهم وطهارته وجواز شرائه وان علم وجود الحرام والنجس في أيدي بعض الناس الغير المعلومين ، وهذا هو الذي وردت فيه صحيحة زرارة المذكورة في كلامه ونحوها وورد فيه «ان كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١). وورد «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر» (٢). فهذه الاخبار انما وردت في غير المحصور دون المحصور بمعنى ان كل شي‌ء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس أو بعضها حلال وبعضها حرام فان الحكم فيها الطهارة والحلية حتى يعلم كونه من الافراد المحرمة أو النجسة ، ومن هنا دخلت الشبهة على جملة من أفاضل متأخري المتأخرين حيث أجروا هذه الاخبار في قسم المحصور ومنهم السيد المذكور ونحوه ممن حذا حذوه في مسألة الطهارة والنجاسة والمحدث الكاشاني والفاضل الخراساني في مسألة اختلاط الحلال بالحرام فحكموا بحل الجميع في المحصور ، وهذا غلط نشأ من عدم التأمل في الاخبار ، وقد أشبعنا الكلام معهما في الدرر النجفية.

ومما يوضح ما قلناه موثقة مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سمعته يقول كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك وهو حر

__________________

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من النجاسات.

٢٨٠