الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

بنجاسته شرعا فهو مؤثر في تنجيس ما يلاقيه برطوبة ، والخلاف هنا وقع من العلامة وابن إدريس والمحدث الكاشاني :

أما العلامة فلما صرح به في المنتهى في نجاسة ميت الآدمي كما قدمنا نقله من انه لو مسه يابسا ولاقى ببدنه بعد ملاقاته للميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس وثبوت الأصل الدال على الطهارة. وأنت خبير بما فيه فان النصوص المشار إليها آنفا قد دلت على وجوب غسل الملاقي لبدن الميت مطلقا وما ذاك إلا لنجاسته لأن أكثر النجاسات انما استفيد الحكم بنجاستها من الأمر بغسلها وإزالتها ونحوه مما تقدم ذكره في غير مقام ، ومن حكم النجس تعدي نجاسته لما يلاقيه برطوبة كما هو المستفاد من الاخبار في غير مقام ، ولعله بنى على ان الأمر بالغسل لا يستلزم حصول التنجيس إذ هو أعم من ذلك ، وفيه ما عرفت. ثم العجب من العلامة فيما قدمنا من كلاميه في ميتة الآدمي وميتة غيره في المنتهى حيث جزم بكون النجاسة في الأول في صورة الملاقاة باليبوسة حكمية واستشكل في الثاني في الصورة المذكورة في كونها حكمية أو عينية ، مع انه في ميتة الآدمي لم يتوقف في حصول التنجيس بها بين كون الملاقاة برطوبة أو يبوسة وفي ميتة غير الآدمي توقف في النجاسة مع اليبوسة كما عرفت.

واما ابن إدريس فإنه قال في السرائر بعد الكلام في التغسيل : «ثم ينشفه بثوب نظيف ويغتسل الغاسل فرضا واجبا في الحال أو فيما بعد فان مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع فإنه لا ينجس ذلك المائع وان كان الإناء يجب غسله لانه لاقى جسد الميت وليس كذلك المائع الذي حصل فيه لانه لم يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة الى ان يقوم دليل قاطع للعذر وان كنا متعبدين يغسل ما لاقى جسد الميت لان هذه نجاسات حكميات وليست عينيات والأحكام الشرعية نثبتها بحسب الأدلة الشرعية ، ولا خلاف ايضا بين الأمة كافة ان المساجد يجب ان تنزه وتجنب النجاسات

٢٤١

العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على ان من غسل ميتا له ان يدخل المسجد ويجلس فيه فضلا عن مروره وجوازه ودخوله اليه فلو كان نجس العين لما جاز ذلك وادى الى تناقض الأدلة. وأيضا فإن الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ما استعمل في الصغرى والأخر في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا انه طاهر مطهر والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محققي أصحابنا انه ايضا طاهر مطهر ، وخالف فيه من أصحابنا من قال انه طاهر تزال به النجاسات العينيات ولا ترفع به الحكميات ، فقد اتفقوا جميعا على انه طاهر. ومن جملة الأغسال والطهارات الكبرى غسل من غسل ميتا فلو نجس ما يلاقيه من المائعات لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وازالة حدثه طاهرا بالاتفاق والإجماع الذين أشرنا إليهما» انتهى.

واعترضه المحقق في هذا المقام واستوفى الكلام في الرد عليه بما هذا لفظه : فرع ـ إذا وقعت يد الميت بعد برده وقبل تطهيره في مائع فإن ذلك المائع ينجس ولو وقع ذلك المائع في آخر وجب الحكم بنجاسة الثاني ، وخبط بعض المتأخرين فقال إذا لاقى جسد الميت ، ثم ساق كلامه ملخصا ثم قال : والجواب عما ذكره ان نقول لا نسلم أن الإناء ينجس بملاقاة الميت أو اليد الملامسة للميت بعد برده ولو لاقت مائعا لم ينجس. قوله لان الحكم بنجاسة المائع قياس على نجاسة ما لاقى الميت ، قلنا هذا الكلام ركيك لا يصلح دليلا على دعواه بل يصلح جوابا لمن يستدل على نجاسة المائع الملاقي اليد بالقياس على نجاسة اليد الملاقية للمائع ، لكن أحدا لم يستدل بذلك بل نقول لما أجمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع لا بالقياس على نجاسة اليد ، فاذن ما ذكره لا يصلح دليلا ولا جوابا. قوله لا خلاف ان المساجد يجب ان تجنب النجاسات ولا خلاف ان لمن مس ميتا ان يجلس في المسجد ويستوطنه ، قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان ونحن نطالبك بتحقيق الإجماع على هذه الدعوى ونطالبك اين وجدتها؟ فانا لا نوافقك على ذلك بل نمنع

٢٤٢

الاستيطان كما نمنع من على جسده نجاسة ويقبح إثبات الدعوى بالمجازفات. قوله الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر ، قلنا هذا حق. قوله فيكون ماء المغتسل من ملامسة الميت طاهرا ، قلنا هذا الإطلاق ممنوع وتحقيق هذا ان الملامس للميت تنجس يده نجاسة عينية ويجب عليه الغسل وهو طهارة حكمية فإن اغتسل قبل غسل يده نجس ذلك الماء بملاقاة يده التي لامس بها الميت اما لو غسل يده ثم اغتسل لم يحكم بنجاسة ذلك الماء ، وكذا نقول في جميع الأغسال الحكمية لأن ماء الغسل من الجنابة طاهر وان كان الغسل يجب لخروج المني وينجس موضع خروجه ولو اغتسل قبل غسل موضع الجنابة كان ماء الغسل نجسا بالملاقاة لمخرج النجاسة إجماعا ، وكذلك غسل الحيض يجب عند انقطاع دم الحيض ويكون المخرج نجسا فلو اغتسلت ولما تغسل المخرج كان ماء الغسل نجسا ولو إزالته ثم اغتسلت كان ماء الغسل طاهرا ، وكذا جميع الأغسال ، فقد بان ضعف ما ذكره المتأخر. اللهم إلا ان يقول ان الميت ليس بنجس وانما يجب الغسل تعبدا كما هو مذهب الشافعي (١). لكن هذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو جعفر فإنه ذكر انه نجس بإجماع الفرقة وقد سلم هذا المتأخر نجاسته ونجاسة ما يلاقي بدنه. ولو قال انا أوجب غسل ما لاقى بدنه ولا أحكم بنجاسة ذلك الملاقي ، قلنا فحينئذ يجوز استصحابه في الصلاة والطهارة به لو كان ماء ، ثم يلزم ان يكون الماء الذي يغسل به الميت طاهرا ومطهرا ، ويلزمك حينئذ ان تكون ملاقاته مؤثرة في الثوب منعا وغسلا وغير مؤثرة في الماء القليل وهو باطل. انتهى.

قال في المعالم بعد نقله هنا كلام المحقق (قدس‌سره) : «وكأنه أراد من النجاسة التي ادعى الإجماع على تنجيس المائع بوقوعها فيه ما يشمل المتنجس لينتظم الدليل مع الدعوى وإلا فالإجماع على تأثير عين النجاسة لا يدل على تأثير المتنجس كما هو واضح ، وإذا ثبت انعقاد الإجماع على تأثير المتنجس مع الرطوبة كالنجاسة واندفع به قول ابن

__________________

(١) راجع التعليقة ١ ص ٦٨.

٢٤٣

إدريس فكذا يندفع به قول العلامة ، وربما نازعا في تحقق هذا الإجماع» انتهى. وظاهره انه لا دليل على تعدي النجاسة من المتنجس مع ملاقاته بالرطوبة غير الإجماع مع انه قد ورد في كثير من الأخبار الأمر بغسل الثوب والبدن واعادة الصلاة من ملاقاة الماء المتنجس كما في أحاديث البئر وغيرها وهي كثيرة متفرقة في الأحكام.

واما المحدث الكاشاني فإنه قد تفرد بالقول بان المتنجس بعد ازالة عين النجاسة عنه بالتمسح لا تتعدى نجاسته الى ما يلاقيه برطوبة ، وقد تقدم البحث معه في ذلك في صدر الباب الثاني في الوضوء إلا انا لم نعط المسألة فيه حقها من التحقيق ، وحيث كان الأنسب بها هو هذا المقام فلا بد من ذكرها واعادة البحث فيها بما يحيط بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام ، وسيأتي البحث فيها هنا في مسألة على حدة قريبا ان شاء الله تعالى.

(المسألة الثانية) ـ لا ريب في الحكم بالتنجيس متى حصل العلم بملاقاة النجاسة على الوجه الذي بينا كونه مؤثرا في التنجيس ، اما لو استند ذلك الى الظن فقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب على أقوال : (الأول) ـ القول بعدم تأثير الظن مطلقا وان استند الى سبب شرعي بل لا بد من القطع واليقين ، وهو المنقول عن ابن البراج الشيخ عبد العزيز الطرابلسي. (الثاني) ـ الاكتفاء بالظن وقيامه مقام العلم مطلقا استند الى سبب شرعي كشهادة العدلين واخبار المالك أم لا ، وهو المنقول عن الشيخ ابي الصلاح تقي بن نجم الحلبي. (الثالث) ـ انه ان استند الى سبب شرعي من شهادة العدلين واخبار ذي اليد وان لم يكن عدلا قبل وإلا فلا ، وهو قول جماعة من الأصحاب :منهم ـ العلامة في المنتهى وموضع من التذكرة ، قال في المنتهى : لو أخبر عدل بنجاسة الماء لم يجب القبول اما لو شهد عدلان فالأولى القبول. وقال في موضع آخر : لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول ايضا. واحتج لقبول العدلين بان شهادتهما معتبرة في نظر الشارع قطعا ولهذا لو كان الماء مبيعا

٢٤٤

فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا وشهد له عدلان ثبت جواز الرد. وقال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وما فصله في المنتهى هو المشهور بين المتأخرين وقد ذكر نحوه في موضع من التذكرة. (الرابع) ـ انه ان استند الى سبب كقول العدل فهو كما لو علم وان لم يستند الى سبب كما في ثياب مدمني الخمر والقصابين والصبيان وطين الشوارع والمقابر المنبوشة لم يحكم بالتنجيس ، اختاره العلامة في موضع من التذكرة ، وجزم المحقق في المعتبر بعدم القبول مع اخبار العدل الواحد ، ونقل عن ابن البراج القول بعدم القبول أيضا في العدلين ، ثم قال والأظهر القبول لثبوت الأحكام بشهادتهما عند التنازع كما لو اشتراه وادعى المشترى نجاسته قبل العقد فلو شهد شاهدان لساغ الرد وهو مبني على ثبوت العيب. ونفى عنه البأس في المعالم بعد نقله ، ونسبه العلامة في المختلف الى ابن إدريس أيضا. وربما قيد بعضهم قبول خبر العدلين في ذلك بذكر السبب. قال لاختلاف العلماء في المقتضى للتنجيس إلا ان يعلم الوفاق فيكتفى بالإطلاق ، ونقله في المعالم عن بعض الأصحاب واستحسنه قال وهذا الاشتراط حسن ووجهه ظاهر ، ثم نقل فيه انه قيد جماعة الحكم بقبول اخبار الواحد بنجاسة مائه بما إذا وقع الاخبار قبل الاستعمال فلو كان بعده لم يقبل بالنظر الى نجاسة المستعمل له فان ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير فلا يكفي فيه الواحد وان كان عدلا ، ولأن الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه ، قال وبهذا التقييد صرح في التذكرة.

أقول : هذا ملخص ما حضرني من الأقوال في المسألة ، وقد روى المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم المعتبرة عن الصادق (عليه‌السلام) (١) انه قال : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر». وروى الشيخ عن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) قال : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم».

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١ من الماء المطلق.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من النجاسات.

٢٤٥

والظاهر ان من اعتبر القطع واليقين كما تقدم نقله عن ابن البراج حمل العلم هنا على ذلك كما هو اصطلاح أهل المعقول ، ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الطهارة معلومة بالأصل وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن فلا يترك لأجله المعلوم. ومن اعتبر الظن الشرعي مطلقا كأبي الصلاح حمل العلم هنا على ما هو أعم من اليقين والظن مطلقا ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الشرعيات كلها ظنية وان العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل. ومن اعتبر الظن المستند الى سبب شرعي حمل العلم على ما هو أعم من اليقين أو العلم الشرعي ، ويقرب منه القول الرابع كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد أجاب في المعالم عن حجة ابن البراج بأن شهادة العدلين في معنى العلم شرعا ، وبان معلومية الطهارة بالأصل ان أراد بها تيقن عدم عروض منجس فهو ممنوع وان أراد حكم الشارع بالطهارة قطعا استنادا الى الأصل فكذلك شهادة الشاهدين. انتهى.

أقول : وتحقيق ذلك بوجه أوضح وبيان أفصح هو ان يقال : (أولا) ـ ان اشتراطه اليقين والعلم في الحكم بالنجاسة ان كان مخصوصا بالنجاسة دون ما عداها من الطهارة والحلية والحرمة فهو تحكم محض ، وان كان الحكم في الجميع واحدا فيقين الطهارة الذي اعتمده ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة وهو أعم من العلم بالعدم ومثله يقين الحلية. و (ثانيا) ـ انه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الكافي والتهذيب بسنديهما عن الصادق (عليه‌السلام) في الجبن (١) قال : «كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة». ورؤيا ايضا بسنديهما عنه (عليه‌السلام) (٢) «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، الى ان قال والأشياء

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به.

٢٤٦

كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». والحكم في المسألتين من باب واحد بل الخبران وان كان موردهما الحل والحرمة إلا ان التحريم في الخبر الأول انما نشأ من حيث النجاسة والخبران صريحان في الاكتفاء بالشاهدين في ثبوت كل من النجاسة والحرمة.

ومما يؤيد الاكتفاء بشهادة العدلين في الحكم بالنجاسة ان الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في انه لو كان الماء مبيعا فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا واقام شاهدين عدلين بذلك فإنه يتسلط على الفسخ وما ذاك إلا لثبوت النجاسة والحكم بها كما قد تقدم ذكره في عبارتي المحقق والعلامة. وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من إمكان المناقشة في ذلك بان اعتبار شهادتهما في نظر الشارع مطلقا بحيث يشمل ما نحن فيه ممنوع وقبول شهادتهما في الصورة المفروضة لا يدل على أزيد من ترتب جواز الرد أو أخذ الأرش عليه واما ان يكون حكمه حكم النجس في سائر الأحكام فلا بل لا بد له من دليل. انتهى ـ مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، كيف واستحقاق جواز الرد أو أخذ الأرش انما هو فرع ثبوت النجاسة وحكم الشارع بها ليتحقق العيب الذي هو سبب لذلك ومتى ثبتت النجاسة شرعا ترتبت عليها أحكامها التي من جملتها هنا العيب الموجب للرد أو الأرش.

واما ما احتج به أبو الصلاح فإنه قد أجاب عنه في المعالم بالمنع من العمل بمطلق الظن شرعا ، قال وثبوته في مواضع مخصوصة لدليل خاص لا يقتضي التعدية إلا بالقياس. انتهى. وهو جيد ، ويؤكده ان المستفاد من الأخبار ان يقين الطهارة ويقين الحلية لا يخرج عنه إلا بيقين مثله كالأخبار الواردة في من تيقن الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث في ثوبه أو بدنه فإنه لا يخرج عن ذلك إلا بيقين مثله ، ومن تلك الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان (١) في الثوب إذا أعير الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

٢٤٧

ويأكل لحم الخنزير حيث قال (عليه‌السلام): «صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه». وما ورد في الجبن من قوله (عليه‌السلام) (١) : «ما علمت أنه ميتة فلا تأكله وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، الى ان قال والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». وما ورد في موثقة عمار (٢) «في الرجل يجد في إنائه فأرة وكانت متفسخة وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا واغتسل وغسل ثيابه ، حيث قال (عليه‌السلام) ليس عليه شي‌ء لأنه لا يعلم متى سقطت ، ثم قال لعله انما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها». ولا يخفى انه لو جاز العمل بالظن مطلقا لكان الوجه هو النجاسة والحرمة في جميع ما دلت عليه هذه الاخبار وأمثالها على طهارته وحليته ولا سيما موثقة عمار لظهورها في سبق موت الفأرة لمكان التفسخ مع انه (عليه‌السلام) عملا بسعة الشريعة لم يلتفت الى ذلك وقال : «لعلها انما سقطت تلك الساعة» ومنها ما ورد في صحيحة زرارة (٣) في اصابة المني للثوب من انه «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي اصابه وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء. الحديث». وهو صريح في المطلوب والنضح فيه محمول على الاستحباب كما في نظائره.

والتحقيق عندي في هذا المقام بما لا يحوم للناظر حوله نقض ولا إبرام هو ان كلا من الطهارة والنجاسة والحل والحرمة ليست أمورا عقلية بل هي أمور شرعية مبنية على التوقيف من صاحب الشرع ولها أسباب معينة معلومة منه تدور مدارها ، والمعلوم

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦١ من الأطعمة المباحة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٤ من الماء المطلق.

(٣) لم نعثر في كتب الحديث على رواية لزرارة بهذا اللفظ وأيما الوارد بهذا اللفظ حسنة الحلبي المروية في الوسائل في الباب ١٦ من النجاسات وقد تقدمت ج ١ ص ١٣٨.

٢٤٨

منه ان حصول الطهارة والحلية هي عبارة عن عدم علم المكلف بالنجس والمحرم لا عبارة عن عدم ملاقاة النجاسة وحصول السبب المحرم واقعا ، وحصول النجاسة عبارة عن مشاهدة المكلف لذلك أو اخبار المالك بنجاسة مائه وثوبه مثلا أو شهادة الشاهدين وهكذا في ثبوت الحرمة ، وليس ثبوت النجاسة لشي‌ء واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة عين أحد النجاسات في الواقع ونفس الأمر خاصة وان كان هو المشهور حتى انه يقال بالنسبة الى غير العالم بالملاقاة ان هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب الظاهر بل هو نجس بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المتقدمة طاهر بالنسبة الى غير العالم ، والشارع لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر. وحينئذ فلا يقال ان اخبار المالك وشهادة العدلين انما يفيدان ظن النجاسة لاحتمال ان لا يكون كذلك في الواقع كيف وهما من جملة الأسباب التي رتب الشارع الحكم بالنجاسة عليها ، وبالجملة فحيث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين واخبار المالك في ذلك فقد حكم بثبوت الأحكام بهما فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع ولا معنى للنجس شرعا كما عرفت إلا ذلك وان فرض عدم ملاقاة النجاسة في الواقع ، ألا ترى انه وردت الأخبار وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ان الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية حتى يعلم النجس والحرام بعينه مع ان هذا اليقين كما عرفت ليس إلا عبارة عن عدم العلم بالنجاسة والحرمة وعدم العلم لا يدل على العدم ، فيجوز ان تكون تلك الأشياء كلا أو بعضا بحسب الواقع ونفس الأمر على النجاسة والحرمة لو كان كل من النجاسة والحرمة من الأمور النفس الأمرية الواقعية بدون علم المكلف بذلك ، وكذا القول في حكم الشارع بقبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه وطهارة ما في أسواق المسلمين وحليته لعين ما ذكرنا ، وبالجملة فالعلم واليقين المتعلق بهذه الأحكام ليس عبارة عما توهموه من الإناطة بالواقع ونفس الأمر وان لم يظهر للمكلف وان متيقن النجاسة ليس إلا عبارة عما وجد فيه النجاسة حتى انه يصير ما عدا هذا الفرد مما أخبر به المالك أو شهد به العدلان مظنون النجاسة ، إذ لو كان كذلك للزم مثله في جانب الطهارة إذ الجميع من

٢٤٩

باب واحد فإنها أحكام متلقاة من الشارع فيختص الحكم بالطهارة يقينا حينئذ بما باشر المكلف تطهيره ولم يغب عنه بعد ذلك وإلا لكان مظنون الطهارة أو مرجوحها ، مع ان المعلوم من الشرع كما عرفت خلافه فإنه قد حكم بأن الأشياء كلها على يقين الطهارة حتى يعلم المزيل عنها.

ويؤكد ما صرنا إليه في هذا المقام وان غفل عنه جملة من علمائنا الأعلام ما نقله في المعالم عن السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وارتضاه جملة ممن تأخر عنه من ان وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انها توجب حصول الظن بل من حيث ان الشارع جعلها سببا لوجوب الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة. وأيده بعض من تأخر عنه بأنه كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية مع وجوب الحكم على القاضي. انتهى. ومثله يأتي فيما ذكرنا من الأسباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

ومما ذكرناه من هذا التحقيق الرشيق يظهر لك ان أظهر الأقوال هو القول المشهور وان الخبر المتقدم اعني قوله (عليه‌السلام): «الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر». ظاهر الانطباق عليه ، والتقريب فيه ان المراد بالعلم فيه ما هو المتبادر من اللفظ وهو اليقين والقطع لكن لا بالنظر الى الواقع ونفس الأمر من حيث هو إذ لا مدخل له كما عرفت في الأحكام الشرعية بل بالنظر الى الأسباب التي جعلها الشارع مناطا للنجاسة وعلم المكلف بها ، فيقين الطهارة والنجاسة إنما يدور على ذلك وجودا وعدما فالطاهر شرعا هو ما لم يعلم المكلف بملاقاة النجاسة له لا ما لم تلاقه النجاسة مطلقا والنجس هو ما علم المكلف بنجاسته بأحد الأسباب لا ما لاقته النجاسة مطلقا.

ولم أقف على من تنبه لما ذكرنا من هذا التحقيق في المقام من علمائنا الاعلام إلا الفاضل المحقق السيد نعمة الله الجزائري في رسالة التحفة ، حيث قال بعد ان نقل عن بعض معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السؤر عن الناس ، ونقل عنهم ان من أعظم

٢٥٠

أدلتهم قولهم انا قاطعون بان في الدنيا نجاسات وقاطعون أيضا بان في الناس من لا يتجنبها والبعض الآخر لا يتجنب ذلك البعض فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد باشرنا مظنون النجاسة أو مقطوعها ، الى ان قال فقلنا لهم يا معشر الاخوان ان الذي يظهر من اخبار الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) التسامح في أمر الطهارات وان الطاهر والنجس هو ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته لا ما باشرته النجاسة والطهارة فالطاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس وليس له واقع سوى حكم الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين ، الى ان قال وبهذا التحقيق. الى آخر ما سيأتي نقله في المقام ان شاء الله تعالى.

واما ما ذكره العلامة في التذكرة من ثبوت النجاسة بالعدل الواحد فقد تقدم رد المحقق له في المعتبر وإنكار العلامة في المنتهى له ايضا ، قال في المعالم واما ما ذهب إليه في التذكرة فلم يتعرض للاحتجاج عليه فيها ولكنه في النهاية احتمل قبول اخبار العدل الواحد بنجاسة إناء معين ان وجد غيره ، ووجهه بأن الشهادة في الأمور المتعلقة بالعبارة كالرواية والواحد فيها مقبول فيقبل فيما يشبهها من الشهادة. وربما كان التفاته في كلام التذكرة إلى نحو هذا التوجيه ، وحاله لا يخفى. انتهى.

أقول : الحق عندي ان قبول قول العدل الواحد في هذا المقام لا يخلو من قوة لا لما ذكر من هذا التعليل السخيف بل لدلالة جملة من الاخبار على افادة قوله العلم ، ومنها ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا فقال لي ان حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير فمات ولم اشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي انه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك ان تدفعها الى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه ان عندي شيئا؟ فقال ارى ان

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٩٧ من كتاب الوصايا.

٢٥١

تتصدق منها بعشرة دنانير كما قال». وفيه دلالة على ثبوت الوصية بقول الثقة. وما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) في حديث قال فيه : «ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة». والأصحاب قد صرحوا في هذه المسألة بأنه لا ينعزل الوكيل إلا مع العلم ، ومنه يعلم ان نظم اخبار الثقة في سلك المشافهة الموجبة للعلم ظاهر في انه مثله في إفادة العلم المشترط في المسألة ونحو ذلك من الأخبار الدالة على جواز وطء الأمة بغير استبراء إذا كان البائع عدلا قد أخبر بالاستبراء ، والأخبار الدالة على الاعتماد في دخول الوقت المشروط فيه العلم على أذان الثقة ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور كما قدمنا الإشارة اليه وان لم تخطر هذه الأدلة ببال صاحبه.

تنبيهات

(الأول) ـ ظاهر الأصحاب الاتفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونحوهما ونجاستهما ، وناقش فيه المحقق الخوانساري في شرح الدروس حيث قال : واما قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم نظفر له على حجة وقد يؤيد بما رواه في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه». وجه التأييد ان ظاهره ان قول المشركين يقبل في أموالهم انها ذكية وإلا فلا فائدة في السؤال عنهم وإذا قبل قول المشركين فقول المسلمين بطريق اولى. لكن

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من كتاب الوكالة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من أبواب النجاسات.

٢٥٢

سند الرواية غير نقي مع ان في الظهور المذكور تأملا. انتهى.

أقول : ما ذكره من الرواية المذكورة وزعم دلالتها على قبول قول المشرك فالظاهر ان المعنى فيها ليس على ما فهمه وان كان قد سبقه فيه الى ذلك المحدث الكاشاني في الوافي أيضا حيث قال بعد نقل الخبر المذكور : وانما يجب السؤال إذا كان البائع مشركا لغلبة الظن حينئذ بأنه غير ذكي إلا ان يخبر هو بأنه من ذبيحة المسلمين فيصير بالسؤال مشكوكا فيه فجاز لبسه حينئذ حتى يعلم كونه ميتة. انتهى. ولا يخفى انه يرد على هذا التفسير (أولا) انه لا مناسبة في ارتباط الجواب بالسؤال إذ السائل إنما سأل عن الاشتراء من المسلم فكيف يجاب على تقدير الاشتراء من المشرك؟ و (ثانيا) انه لا معنى لقوله في آخر الخبر : «وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» والأظهر عندي في معنى الخبر المذكور هو انه لما سأل السائل عن حكم الشراء من السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما وانه هل يسأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب (عليه‌السلام) بالتفصيل بأنه ان كان في تلك السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم إذ لعله أخذه من المشركين وإذا رأيتم المسلم يصلى فيه فلا تسألوا لأن صلاته فيه دليل على طهارته عنده ، ويفهم من الخبر بمفهوم الشرط انه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليهم السؤال.

ومما يدل على عدم السؤال إطلاق صحيحة البزنطي (١) قال : «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، ان الدين أوسع من ذلك». وأنت خبير بان الظاهر من الصحيحة المذكورة ـ حيث تضمنت نفي المسألة المؤكد بالرد على الخوارج ونسبتهم الى تضييق الدين بالمسألة أو ما هو نحوها ـ ان مع السؤال يقبل قول المسؤول وإلا لما حصل الضيق في الدين بالسؤال كما لا يخفى ، إذ الظاهر ان المراد من الخبران جميع الأشياء بمقتضى سعة الدين المحمدي

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات و ٥٥ من لباس المصلى.

٢٥٣

على ظاهر الحل والطهارة ، والسؤال والفحص عن كل فرد فرد بأنه حلال أو حرام أو طاهر أو نجس تضييق لها ورفع لسهولتها التي قد من الشارع بها على عباده ، ومعلوم ان حصول الضيق انما يتم بقبول قول المالك بالنجاسة والحرمة. ومما يدل على المنع من السؤال أيضا بعض الاخبار الواردة في الجبن حيث انه (عليه‌السلام) اعطى الخادم درهما وامره أن يبتاع به من مسلم جبنا ونهاه عن السؤال (١) وحينئذ ففي هذه الاخبار ونحوها دلالة على قبول قول المالك عدلا كان أو غيره.

ومما يدل على ذلك ايضا ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن بكير (٢) قبل : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد». وهي ـ كما ترى ـ صريحة في قبول قول المالك في طهارة ثوبه ونجاسته لحكمه (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة على المستعير لو صلى بعد الاعلام ، ويدل على ذلك أيضا موثقة معاوية بن عمار (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وانا اعلم انه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال لا تشربه. قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبرنا ان عنده بختجا قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه نشرب منه؟ قال نعم». ورواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يصلي الى القبلة لا يوثق به اتى بشراب زعم انه على الثلث أيحل شربه؟ قال لا يصدق إلا ان يكون مسلما عارفا». وموثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «انه سأل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال ان كان

__________________

(١) وهو خبر بكر بن حبيب المروي في الوسائل في الباب ٦١ من الأطعمة المباحة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٧ من أبواب النجاسات.

(٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٧ من الأشربة المحرمة.

٢٥٤

مسلما ورعا مأمونا فلا بأس ان يشرب». وقد دلت هذه الاخبار على قبول قول المالك إلا في مقام الريبة وحصول الظن بكذبه وهو أمر خارج عن موضع البحث.

(الثاني) قد عرفت مما تقدم ان الأصل الطهارة في كل شي‌ء حتى يقوم الدليل الشرعي على النجاسة ولا يكفي مجرد الظن ، وهذا الأصل وان لم يرد بقاعدة كلية فيما سوى الماء الا ما يتناقله الفقهاء في كتب الاستدلال من قوله (عليه‌السلام): «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر». مع عدم وجوده في كتب الأخبار فيما اعلم إلا ان هذه مستفادة من جملة من الأخبار بضم بعضها الى بعض بل ظاهرة من بعضها ايضا.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) في حديث قال : «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك». وهذا الخبر في معنى الخبر المشهور المشار إليه إذ المراد بالنظافة انما هو الطهارة.

وعن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه‌السلام) (٢) قال قال : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم».

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان (٣) قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه».

وفي الصحيح عن معاوية بن عمار (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٧٣ من النجاسات.

٢٥٥

عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثم بعثت بها اليه (عليه‌السلام) في يوم الجمعة حين ارتفع النهار فكأنه عرف ما أريد فخرج فيها إلى الجمعة».

ورواية أبي جميلة عن الصادق (عليه‌السلام) (١) : «انه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه وأصلي فيه؟ قال نعم قال قلت يشربون الخمر؟ قال نعم نحن نشتري الثياب السابرية فتلبسها ولا نغسلها».

وروى عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (٢) «ان عليا (عليه‌السلام) كان لا يرى بالصلاة بأسا في الثوب الذي يشترى من النصارى واليهود والمجوس قبل ان يغسل يعني الثياب التي تكون في أيديهم فينجسونها وليست ثيابهم التي يلبسونها». قوله «يعني الثياب. إلخ» من كلام الراوي تفسيرا لما ذكره من الخبر ، والظاهر ان مراده أنها مظنة للنجاسة وانها لا تخلو منها غالبا.

وفي الصحيح عن زرارة (٣) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، ثم ساق الخبر الى ان قال قلت : فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة. فقلت لم ذاك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». وهذا الخبر وان كان مضمرا في التهذيب الا انه مروي عن ابي جعفر (عليه‌السلام)

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٧٣ من أبواب النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٧ و ٣٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ من النجاسات بنحو التقطيع.

٢٥٦

كما صرح به في كتاب العلل (١) وهو صريح في الدلالة على كلية الحكم المذكور وانه لا ينصرف عن يقين الطهارة بالظن بل لا بد من اليقين الشرعي.

وفي الصحيح عن ضريس الكناسي (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال اما ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكله واما ما لم تعلم فكله حتى تعلم انه حرام». والمراد بالحرام هنا النجس فإنه كثيرا ما يطلق على ذلك كما قدمنا ذكره في الكتاب.

وصحيحة الحلبي المروية في الكافي (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال صل فيها حتى يقال لك انها ميتة بعينها».

وصحيحته الأخرى المروية في التهذيب (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه».

ورواية الحسن بن الجهم (٥) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) اعترض السوق فاشتري خفا لا ادري أذكي هو أم لا؟ قال صل فيه. قلت فالنعل؟ قال مثل ذلك. قلت اني أضيق من هذا ، قال أترغب عن ما كان أبو الحسن (عليه‌السلام) يفعله؟».

وصحيحة البزنطي المتقدمة في سابق هذا التنبيه ومثلها رواية سليمان بن جعفر الجعفري (٦) «انه سأل العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك».

__________________

(١) ص ١٢٧.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات.

٢٥٧

ورواية المعلى بن خنيس (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لا بأس بالصلاة في الثياب التي يعملها المجوس والنصارى واليهود».

وروى في قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن البزنطي عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الخفاف يأتي الرجل السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري؟ قال نعم انا اشتري الخف من السوق وأصلي فيه وليس عليكم المسألة».

وبهذا الاسناد (٣) قال : «سألته عن الجبة الفراء يأتي الرجل السوق من أسواق المسلمين فيشتري الجبة لا يدري أذكية هي أم لا يصلي فيها؟ قال نعم ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك ان علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) كان يقول ان شيعتنا في أوسع ما بين السماء إلى الأرض أنتم المغفور لكم».

إلا انه قد ورد بإزاء هذه الأخبار ما ظاهره المنافاة والبناء على الظن ولعله مستند ابي الصلاح فيما تقدم نقله عنه من الاكتفاء في ثبوت النجاسة بمجرد الظن :

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان (٤) قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب الخمر فيرده عليه أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله».

ورواية أبي بصير (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليه‌السلام) رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٧٣ من النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات.

(٣) قرب الاسناد ص ١٧١.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٦١ من لباس المصلى.

٢٥٨

دباغها بالقرظ وكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي يليه وكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون ان دباغه ذكاته».

وروى في مستطرفات السرائر من كتاب البزنطي (١) قال : «وسألته عن رجل يشتري ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان يصلح له الصلاة فيه؟ قال ان كان اشتراه من مسلم فليصل فيه وان كان اشتراه من نصراني فلا يلبسه ولا يصل فيه حتى يغسله».

ومثلها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق اللبس لا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال ان اشتراه من مسلم صلى فيه وان اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله».

ورواية محمد بن الحسين الأشعري (٣) قال : «كتب بعض أصحابنا الى ابي جعفر الثاني (عليه‌السلام) ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال ان كان مضمونا فلا بأس». أقول : يعني إذا ضمن البائع ذكاته وأخبر بها عن علم.

ومن ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجاج (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني ادخل سوق المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكية؟ فيقول بلى ، فهل يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا ان دباغ جلود الميتة ذكاته ثم لم يرضوا ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

والشيخ (قدس‌سره) لم يذكر في الاستبصار سوى خبري عبد الله بن سنان وقال بعدهما : هذان الخبران راويهما جميعا عبد الله بن سنان والحكاية فيهما عن مسألة أبيه

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٦١ من النجاسات.

٢٥٩

أبا عبد الله (عليه‌السلام) ولا يجوز ان يتناقض بان يقول تارة «صل فيه» وتارة «لا تصل فيه» إلا ان يكون قوله (عليه‌السلام) «لا تصل فيه» على وجه الكراهية دون الحظر. انتهى وبالجملة فإن كل من ذكر خبرا من هذه الاخبار فإنما يحمله على الاستحباب لإجماعهم على العمل بالأخبار الأول التي هي مستند القاعدة المتفق عليها بينهم قديما وحديثا ولا بأس به ، ويدل عليه رواية ابي علي البزاز عن أبيه (١) قال : «سألت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) عن الثوب يعمله أهل الكتاب أصلي فيه قبل ان اغسله؟ قال لا بأس وان يغسل أحب الي». وصحيحة الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ قال يرش بالماء». والتقريب في الأولى ظاهر واما الثانية فلما علم من الاخبار المتكاثرة كما سيأتي ان شاء الله تعالى ان الأمر بالرش الذي هو النضح انما هو في مقام زوال النفرة في الأشياء الطاهرة كملاقاة الكلب باليبوسة ونحوه وإلا فالنجس بنجاسة عينية إنما يؤمر فيه بالغسل كما لا يخفى. والله العالم.

(الثالث) ـ قال في المعالم : قال بعض الأصحاب لو وجد عدلان في ثوب الغير أو مائة نجاسة أمكن وجوب الاخبار لوجوب تجنب النجاسة وهو يتوقف على الاخبار المذكور فيجب ، والعدم لان وجوب التجنب مع العلم لا بدونه لاستحالة تكليف الغافل ، قال وأبعد منه ما لو كان عدلا وأبعد منهما ما لو كان فاسقا ثم قال ولا ريب ان الاخبار أولى. ثم قال في المعالم وما ذكره في توجيه احتمال الوجوب ظاهر الضعف ولا ريب ان العدم هو مقتضى الأصل فيجب التمسك به الى ان يدل دليل واضح على الوجوب وقد روى الشيخان في الكافي والتهذيب بسند يعد في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال لا يؤذنه حتى ينصرف». وهذا الحديث ربما أشعر بعدم الوجوب. انتهى.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٧٣ من النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٧ من النجاسات.

٢٦٠