الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

واستشكل ذلك في بحث الجهاد بعدم الدليل عليه واقتضاء الاستصحاب بقاءه على النجاسة الى ان يثبت المزيل ، ثم ذكر ان ظاهر الأصحاب عدم الخلاف بينهم في طهارته والحال هذه وانما اختلفوا في تبعيته للمسلم في الإسلام بمعنى ثبوت أحكام المسلم له وهذا أمر آخر زائد على الحكم بالطهارة كما لا يخفى ، وصرح الشهيد في الذكرى ببناء الحكم بطهارته أو نجاسته على الخلاف في تبعيته للمسلم وعدمها حيث قال : ولد الكافر نجس ولو سباه مسلم وقلنا بالتبعية طهر وإلا فلا. والتحقيق ان احتمال بقاء النجاسة بعد سبي المسلم له ضعيف لما قد ظهر من انحصار المقتضى للتنجيس قبله في الإجماع ان ثبت ولا ريب في انتفائه بالنظر الى ما بعده ، والتمسك باستصحاب النجاسة مردود بمنع العمل بالاستصحاب في مثله كما بيناه في محله من مقدمة الكتاب ، وبه يظهر جودة احتجاج العلامة وجماعة للحكم بطهارته حينئذ بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة ، وضعف مناقشة بعض الأصحاب فيه بان الأمر بالعكس لأن النجاسة تحققت بمجرد الولادة فيجب استصحابها وهو أصل سالم عن معارضة يقين الطهارة ، وتوضيح وجه الجودة والضعف انه لا ريب في ان الأصل في الأشياء كلها الطهارة الى ان يقوم على خلافها دليل وحيث ان الدليل المخرج عن حكم الأصل في موضع النزاع مخصوص بالحالة السابقة على السبي فالقدر المتحقق من المخالفة لأصالة الطهارة هو ذاك وما عداه باق على حكم الأصل لعدم قبول الاستصحاب إذا كان دليل الحكم المستصحب مقيدا بحال كما مر. انتهى.

أقول : ما ذكره واختاره وقبله صاحب المدارك ـ من القول بالطهارة بعد السبي بناء على عدم عموم دليل الكفر وشموله لما بعد السبي ـ جيد بناء على ما ذكروه من عدم الدليل على الكفر إلا الإجماع وهو غير شامل لموضع النزاع ، واما على ما ذكرناه من الأخبار الواضحة المنار فإنه لا يصح هذا الكلام ولا ما ابتنى عليه في المقام فان ظاهر الأخبار كما ترى تبعية الولد لأبويه في الكفر الى يوم القيامة فيخلد معه في النار أو يمتحن بتأجيج نار له ، وبه يضمحل هذا البحث الذي أكثروا فيه من القيل والقال والجواب

٢٠١

والسؤال ويزول الاشكال من هذا المجال ، ويبطل ما ذكروه من التبعية للمسلم السابي له في الإسلام أو الطهارة خاصة لعدم الدليل الشرعي ، ودليل النجاسة الذي ذكرناه واضح الدلالة طافح المقالة على عموم النجاسة وبقائها سبي أم لا الى يوم القيامة فضلا عن أيام الدنيا ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) معذورون لعدم حضور هذه الأخبار لهم بالبال بل ولا مرت لهم في الخيال ، والله الهادي لمن يشاء والعالم بحقيقة الحال.

(المسألة الرابعة) ـ نقل المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه حكم بنجاسة المجبرة والمجسمة من فرق المسلمين ولم يرتضه بل ذهب الى الطهارة محتجا بأن النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة ، وادعى دلالة ظواهر بعض الاخبار على الطهارة.

ووافق الشيخ في المجسمة جماعة من الأصحاب : منهم ـ المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني في شرح الرسالة ، واختلف كلام العلامة في ذلك ، فقال في المنتهى بعد ان ذكر ان حكم الناصب والغالي حكم الكافر لانكارهما ما علم ثبوته من الدين ضرورة : وهل المجسمة والمشبهة كذلك؟ الأقرب المساواة لاعتقادهم انه تعالى جسم وقد ثبت ان كل جسم محدث. وصرح بهذا القول في التحرير والقواعد ايضا ، واستقرب في التذكرة والنهاية القول بالطهارة. ومثل ذلك وقع للشهيد فإنه في الذكرى استضعف كلام الشيخ وفي البيان عد المجسمة بالحقيقة والمشبهة كذلك في أقسام الكافر المنتحل للإسلام وهو جاحد لبعض ضرورياته بعد ان حكم بنجاسة الكافر بجميع أنواعه ، وفي الدروس أطلق نجاسة المجسم ولم يقيده بالحقيقي وبذلك جزم. وقال الشهيد الثاني في الروض بعد ان عد المجسمة : وهم قسمان مجسمة بالحقيقة وهم الذين يقولون ان الله تعالى جسم كالأجسام ولا ريب في كفر هذا القسم وان تردد فيه بعض الأصحاب ، ومجسمة بالتسمية المجردة وهم القائلون بأنه جسم لا كالأجسام ، وفي نجاسة هذا القسم تردد وكأن الدليل الدال على نجاسة الأول دال على الثاني فإن مطلق الجسمية توجب الحدوث وان غاير بعضها بعضا. انتهى. وجزم في شرح الرسالة بالعموم فقال : ومن ضروب الكفار المجسمة

٢٠٢

ولو بالتسمية. وما ذكره في الروض من الدليل الدال على النجاسة في المجسم الحقيقي جار في المجسم بالمعنى الثاني فإن مطلق الجسمية توجب الحدوث ، واعترضه ابنه في المعالم فقال : وعندي في الدليل نظر لان ظاهره كون المقتضي للنجاسة هو القول بالحدوث لا مجرد التجسيم ومن البين ان المجسم ينفي الحدوث قطعا فكأنه يتخيل برأيه الفاسد عدم المنافاة بين الجسمية والقدم. انتهى. وحينئذ فلا يلزم من القول بالجسمية الحدوث.

واما المجبرة فإنه قد نقل غير واحد عن الشيخ القول بنجاستهم واعترضوه بالضعف ولم ينقلوا له دليلا على ذلك ، وقال في المنتهى في باب الأسآر : يمكن ان يكون مأخذ الشيخ في حكمه بنجاسة سؤر المجبرة والمجسمة قوله تعالى : «... كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)» (١) والرجس النجس ، ثم قال : وتنجيس سؤر المجبرة ضعيف وفي المجسمة قوة. ورد هذا الاستدلال للشيخ بالآية جملة ممن تأخر عنه بالضعف ، قال في المعالم : ولعل نظر الشيخ الى ما ذكره بعض المفسرين من دلالة قوله تعالى : «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‌ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية» (٢) على كفر المجبرة. أقول : الظاهر انه أشار ببعض المفسرين الى صاحب الكشاف حيث انه من المعتزلة واستدل بهذه الآية على كفر المجبرة من الأشاعرة فلعل الشيخ هنا استند الى هذه الآية ، وتوجيه الاستدلال بها على ما ذكره في الكشاف أنها إخبار عما سوف يقوله المشركون ثم لما قالوه قال سبحانه «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ» (٣) يعنون بكفرهم وتمردهم ان شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله بمشيئة الله وإرادته ولو لا مشيئة الله لم يكن شي‌ء من ذلك كمذهب المجبرة بعينه ، قال ومعنى قوله سبحانه : «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» جاءوا بالتكذيب المطلق لان الله تعالى ركب في العقول وانزل في الكتب ما دل على

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٢٥.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٤٩.

(٣) سورة النحل. الآية ٣٥.

٢٠٣

غناه وبراءته من مشيئة القبائح وارادتها والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله عزوجل وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره.

قال في الذخيرة بعد الكلام في المقام ونقل الخلاف وذكر نحو مما ذكرناه : وإذ قد عرفت ان العمدة في إثبات نجاسة الكفار على أصنافها هو الإجماع وهو غير جار في محل النزاع كان القول بالنجاسة هنا عاريا عن الدليل ، ولا يبعد القول بالطهارة تمسكا بظاهر ما رواه ابن بابويه في كتابه (١) حيث قال : «سئل علي (عليه‌السلام) أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال لا بل من فضل جماعة المسلمين فإن أحب دينكم الى الله الحنيفية السمحة السهلة». إذ هذه الرواية معتضدة بالأصل سالمة عن المعارض والظاهر ان المسلم شامل لمن أظهر الشهادتين إلا من خرج بالدليل ، إذ يلزم منه طهارة سؤرهم ثم يلزم عموم الحكم إذ الظاهر عدم القائل بالفصل. انتهى. أقول : الظاهر ان هذه الرواية هي التي أشار إليها المحقق فيما قدمنا نقله عنه صدر المسألة من انه ادعى دلالة ظواهر بعض الأخبار على الطهارة وقد تقدمت أيضا في كلامه الذي قدمناه في المسألة الاولى. ثم أقول : لا يخفى ان ما طول به الأصحاب المقال في هذا المجال وتعسفوه من الاستدلال وكثرة الأقوال مع ما فيه من الاشكال بل الاختلال كله انما نشأ من القول بإسلام المخالفين وإلا فإنه على القول بكفرهم ونصبهم ونجاستهم كما أوضحناه فيما تقدم لا ثمرة لهذا البحث والاختلاف ولا خصوصية لهذه الفرق في البحث دون غيرهم من ذوي الخلاف ، وما ذكره صاحب الذخيرة جريا على مذهبه وتصلبه ومبالغته في القول بإسلام المخالفين فهو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت ، وقد تقدم تحقيق البحث في المسألة الأولى مستوفى بحمد الله تعالى وتقدم الكلام في خبره المذكور في الكلام على كلام المحقق الذي هو الأصل في هذا القول المنكور. والله هو العالم.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٨ من الماء المضاف.

٢٠٤

(الفصل الثامن والتاسع) ـ الكلب والخنزير ولا خلاف في نجاستهما عينا ، قال الشيخ في الخلاف ان الكلب نجس العين نجس اللعاب نجس السؤر بإجماع الفرقة وان الخنزير نجس بلا خلاف. وقال المحقق في المعتبر إذا لاقى الكلب والخنزير ثوبا أو جسدا وهو رطب غسل موضع الملاقاة وجوبا وهو مذهب علمائنا اجمع. وقال العلامة في المنتهى والتذكرة الكلب والخنزير نجسان عينا عند علمائنا. الى غير ذلك من كلامهم الذي على هذا المنوال ، وقد وافقنا على ذلك أيضا أكثر العامة (١).

والأصل فيه الأخبار المستفيضة ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال يغسل المكان الذي اصابه». وصحيحة الفضل ابي العباس (٣) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وان مسه جافا فاصبب عليه الماء». وصحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) قال «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله. قال وسألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال يغسل سبع مرات». قوله في الخبر : «ان كان دخل في صلاته فليمض. الى قوله فلينضح» المراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله «إلا ان يكون

__________________

(١) في المغني ج ١ ص ٥٢ «النجاسة قسمان نجاسة الكلب والخنزير والمتولد منهما فهذا لا يختلف المذهب في أنه يجب غسلها سبعا إحداهن بالتراب» وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ٧٤ «اختلف المشايخ في كون الكلب نجس العين فمنهم من قال انه نجس العين ومنهم من قال ليس بنجس العين وهذا أقرب القولين الى الصواب» وفي الأم للشافعي ج ١ ص ٧ «جلد الكلب والخنزير لا يطهر بالدباغ لأن النجاسة فيهما وهما حيان قائمة وانما يطهر بالدباغ ما لم يكن نجسا حيا والكلب والخنزير لا يطهران بحال ابدا».

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب النجاسات.

٢٠٥

فيه اثر فيغسله» وسيجي‌ء تحقيق الكلام فيه ان شاء الله تعالى قريبا في مسألة الصلاة في النجاسة ، وفي الصحيح عن حريز عن من أخبره عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا مس ثوبك كلب فان كان يابسا فانضحه وان كان رطبا فاغسله». وعن الحسين ابن سعيد عن القاسم عن علي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الكلب يصيب الثوب؟ قال انضحه وان كان رطبا فاغسله». وعن صفوان بن يحيى عن معاوية بن شريح (٣) قال : «سأل عذافر أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده عن سؤر السنور الى ان قال قلت له الكلب؟ قال لا. قلت أليس هو سبع؟ قال لا والله انه نجس لا والله انه نجس». وصحيحة أبي الفضل البقباق (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن فضل الهرة والشاة ، الى ان قال حتى انتهيت الى الكلب؟ فقال رجس نجس. الحديث». وفي الصحيح عن حريز عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال اغسل الإناء».

وقد ورد من الاخبار هنا ما ظاهره المنافاة في الحكم المذكور ، ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن ابن سنان عن ابن مسكان عن الصادق (عليه‌السلام) (٦) قال : «سألته عن الوضوء بماء ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال نعم إلا ان تجد غيره فتنزه عنه». وحمله الشيخ على ما إذا كان الماء بالغا مقدار الكر واستشهد له برواية أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) وفيها «ولا تشرب من سؤر الكلب إلا ان يكون حوضا كبيرا يستقى منه».

أقول : ما ذكره الشيخ جيد فان ظاهر الخبر ان هذا الماء من

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب النجاسات.

(٣ و ٤ و ٧) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأسآر.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب النجاسات.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب الأسآر.

٢٠٦

مياه الطرق المشاعة وقد أوضحنا في بحث الماء القليل انها لا تنقص عن كر فضلا عن كرور وما قدر الكر فإنه لا يأتي على شرب جمل كما ذكر في الخبر ، ومنها ـ ما رواه في الصحيح عن ابن ابى عمير عن ابي زياد النهدي عن زرارة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به؟ قال لا بأس». وحمله الشيخ ايضا على قصد استعمال الماء في سقي الدواب أو شبهه لا في نحو الوضوء والشرب وهو جيد ، وعلى هذا فيكون نفي البأس متوجها الى الماء الذي يستقى به وانه لا ب. س باستعماله ويحمل على ما ذكره الشيخ. ويحتمل عندي ـ والظاهر انه الأقرب ـ ان نفي البأس انما هو بالنسبة إلى البئر وانها لا تنجس بذلك فيكون هذا الخبر من الأخبار الدالة على طهارة البئر وعدم انفعالها بالملاقاة بوقوع جلد الخنزير فيها ، ويؤيد هذا المعنى موثقة الحسين بن زياد عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ قال لا بأس». فإنها ظاهرة في نفي البأس عن ماء البئر لأن السؤال انما تعلق بذلك ويصير معنى الرواية لا بأس به اي بماء البئر والشرب والوضوء منه وانها لا تنجس بذلك ، ولا بأس بالاستفاء بجلد الخنزير على ماء البئر ، وحينئذ فلا دلالة فيه على طهارة الجلد ان لم يكن أظهر في الدلالة على النجاسة لأن السؤال عن ماء البئر وبقائه على الطهارة إنما يتجه مع النجاسة لا مع الطهارة.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق.

(٢) لم نعثر على هذه الرواية بهذا السند والمتن في كتب الحديث وانما الموجود فيها موثقة الحسين بن زرارة في «شعر الخنزير يعمل حبلا يستقى به» وستأتي في الصفحة ٢١٠ وقد رواها في الوسائل في الباب ١٤ من الماء المطلق. وقد اثبت المحقق الهمداني (قده) في مصباح الفقيه للحسين بن زرارة روايتين إحداهما في شعر الخنزير والأخرى في جلده ، ويحتمل انه اعتمد في رواية الجلد على الحدائق مع ابدال زياد بزرارة.

٢٠٧

فروع

(الأول) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بل لا نعلم فيه خلافا سوى ما ذهب اليه المرتضى في المسائل الناصرية ـ نجاسة الكلب والخنزير بجميع اجزائهما ما تحله الحياة منها وما لا تحله ، وفرق المرتضى في الكتاب المذكور بينهما فحكم بطهارة ما لا تحله الحياة ، قال في الكتاب المشار اليه ـ بعد قول جده الناصر : شعر الميتة طاهر وكذا شعر الكلب والخنزير ـ ما صورته : هذا صحيح وهو مذهب أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وقال الشافعي ان ذلك كله نجس (١) دليلنا على صحة ما ذهبنا اليه بعد الإجماع المتكرر ذكره قوله تعالى : «وَمِنْ أَصْوافِها ..(٢) الى ان قال : وأيضا فإن الشعر لا حياة فيه ألا ترى ان الحيوان لا يألم بأخذه منه ، الى ان قال : وإذا ثبت ان الشعر والصوف والقرن لا حياة فيه لم يحله الموت ، وليس لهم ان يتعلقوا بقوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» فإن اسم الميتة يتناول الجملة بسائر اجزائها وذلك ان الميتة اسم لما يحله الموت والشعر لا يحله الموت كما لا تحله الحياة ويخرج عن الظاهر ، وليس لأحد ان يقول ان الشعر والصوف من جملة الخنزير والكلب وهما نجسان ، وذلك انه لا يكون من جملة الحي إلا ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة ليس من جملته وان كان متصلا به. انتهى ملخصا.

وظاهره ـ كما ترى ـ دعوى الإجماع على هذه الدعوى مع انه لم يقل بها أحد

__________________

(١) في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج ١ ص ٢٣٢ «المختار جلد الكلب نجس وشعره طاهر» وفي المغني ج ١ ص ٥٧ «لا فرق بين النجاسة من ولوغ الكلب أو يده أو رجله أو شعره أو غير ذلك من اجزائه ، وحكم الخنزير حكم الكلب لان النص وقع في الكلب والخنزير شر منه» وفي ص ٨٢ «اختلفت الرواية عن أحمد في الخرز بشعر الخنزير فروى عنه وعن ابن سيرين والحكم وحماد وإسحاق والشافعي كراهته لانه استعمال العين النجسة ولا يسلم من التنجيس بها».

(٢) سورة النحل ، الآية ٨٠.

٢٠٨

من الإمامية سواه. واما ما تمسك به من الدليل فهو أوهن من بيت العنكبوت وانه لا وهن البيوت. وذلك فان ما ذكره مخالف لما هو المعلوم لغة وعرفا وشرعا من صدق الاسم على جميع ما تركب منه ذلك الحيوان وكان من جملته ، اما العرف واللغة فظاهر واما الشرع فلما ذكروه فيه في باب الديات من الدية في الجناية على الشعر كالجناية على سائر أجزاء البدن من رأسه وعنقه وسائر أعضائه فلو لم يكن الشعر جزء منه وداخلا في جملته لما ترتب على الجناية عليه دية ، على ان الأخبار التي قدمناها في تعدي النجاسة مع الرطوبة شاملة بعمومها لما كان الملاقاة لما تحله الحياة ولما لا تحله الحياة بل الغالب في الملاقاة أن الإصابة انما تحصل بالشعر كما هو ظاهر.

ونقل في المدارك ان المرتضى استدل هنا بدليل آخر زيادة على ما ذكره وهو ان ما لا تحله الحياة من نجس العين كالمأخوذ من الميتة ، ثم أجاب عنه بأنه قياس مع الفارق فإن المقتضي للتنجيس في الميتة صفة الموت وهي غير حاصلة فيما لا تحله الحياة بخلاف نجس العين فان نجاسته ذاتية.

وأنت خبير بان كلام المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في هذا المقام انما يدور على الدليل الأول وهو ان ما لا تحله الحياة ليس من جملته وان كان متصلا به حيا أو ميتا ، واما كلامه المتقدم فإنما هو في شعر الميتة كما هو أحد المسألتين المذكورتين في كلام جده الناصر ، والظاهر ان هذا الدليل متكلف له كما ينبئ عنه ظاهر كلامهم حيث انهم لم يرجعوا الى الكتاب المذكور فعبروا عنه بأنه نقل عنه القول بكذا ونقل عنه الاستدلال بكذا.

قال في المعالم : واما السيد فيعزى اليه القول بطهارة ما لا تحله الحياة ، الى ان قال وحجة المرتضى على ما ذكره جماعة وذكر مثل ما ذكر في المدارك من الدليلين المتقدمين ورد الأول بأن المرجع في صدق الاسم إلى اللغة والعرف وهما متفقان على عدم اعتبار التفرقة المذكورة ، والتشبيه بعظم الميتة وشعرها لا وجه له كما لا يخفى. انتهى.

٢٠٩

أقول : لا يخفى ما في تخصيص الرجوع في صدق الاسم باللغة والعرف دون الشرع مع دلالة ما قلناه عليه من الغفلة فإنه لولا صدق الاسم عليه ودخوله في مسمى الإنسان لما كان في إيجاب الدية في الجناية على الشعر معنى مع انه لا خلاف بينهم فيه وورود الأخبار به. ويؤيده ما رواه في الكافي عن السياري في حكاية ابن ابي ليلى مع محمد بن مسلم في جارية ليس على عانتها شعر (١) حيث «سئل ابن ابي ليلى عنها فلم يكن عنده فيها شي‌ء فسأل عنها محمد بن مسلم فقال اي شي‌ء تروون عن ابي جعفر (عليه‌السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيبا؟ فقال له محمد بن مسلم اما هذا نصا فلا أعرفه ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن ابي ليلى حسبك ثم رجع الى القوم فقضى لهم بالعيب». والتقريب ظاهر.

وبالجملة فما ذهب اليه المرتضى ضعيف لا يعول عليه وما احتج به لا يلتفت اليه ، نعم روى الشيخ في الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال لا بأس». وفي الموثق عن الحسين بن زرارة عنه (عليه‌السلام) (٣) قال : «قلت فشعر الخنزير يعمل حبلا يستقى به من البئر التي يشرب منها ويتوضأ منها؟ قال لا بأس به». وكان الاولى بالمرتضى التمسك بهذين الخبرين الموهمين لطهارة شعر الخنزير ثم يتمسك بعدم القائل بالفرق بين الكلب والخنزير بناء على قواعدهم ، ووجه الإيهام فيهما من حيث إطلاق نفى البأس عن استعمال الحبل في الاستقاء مع بعد الانفكاك عن الملاقاة بالرطوبة لليد أو الماء فإنه لذلك يكون مشعرا بطهارة شعر الخنزير.

والتحقيق عندي في ذلك ان نفى البأس إنما توجه هنا الى ماء البئر وعدم نجاستها

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١ من أحكام العيوب.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من الماء المطلق.

٢١٠

بالحبل مع وقوعه فيها كما هو الغالب بقرينة ذكر الوضوء منها في الخبر الأول واضافة الشرب في الخبر الثاني فهما من أدلة القول بعدم نجاستها بالملاقاة كما هو الأظهر في المسألة. بقي الكلام في ملاقاة اليد بالرطوبة للحبل مثلا أو الثياب أو نحو ذلك والخبران مطلقان في ذلك وحكم ذلك معلوم من غير هذين الخبرين مما دل على نجاسة شعر الخنزير كما سنتلوه عليك ان شاء الله تعالى.

وبالجملة فمحل الإشكال في الخبرين انما هو من حيث ذكر نفى البأس فيهما وتوهم توجهه الى جواز ملاقاة الحبل بالرطوبة ونحو ذلك وعلى ما ذكرناه من توجه نفي البأس إلى ماء البئر يزول الاشكال ويبطل الاستناد إليهما في ذلك الاستدلال ، نعم يحصل الاشكال فيهما عند من يقول بنجاسة البئر بالملاقاة ، فالشيخ بناء على ذلك أجاب عن الخبر الأول بعدم وصول الحبل الى الماء ، والعلامة في المنتهى تأول الخبر الثاني بعد حمله نفى البأس على ملاقاة الحبل بالحمل على ملاقاة الحبل باليبوسة وان كان خلاف الغالب فيحمل على النادر جمعا بين الأدلة. ولا يخفى ما في الكلامين من البعد وما ذكرناه هو الأقرب كما لا يخفى على المتأمل.

ومن الاخبار الدالة على ما أشرنا إليه من نجاسة شعر الخنزير ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان الإسكاف (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن شعر الخنزير يخرز به؟ قال لا بأس به ولكن يغسل يده إذا أراد ان يصلي». وفي الصحيح عن الحسين بن سعيد عن أيوب بن نوح عن عبد الله بن المغيرة عن برد الإسكاف (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) جعلت فداك انا نعمل بشعر الخنزير فربما نسي الرجل فصلى وفي يده شي‌ء منه؟ فقال لا ينبغي له ان يصلي وفي يده شي‌ء منه ، وقال خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به وما لم

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من النجاسات و ٦٥ من الأطعمة المحرمة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٧ من ما يكتسب به و ٦٥ من الأطعمة المحرمة.

٢١١

يكن له دسم فاعملوا به واغسلوا أيديكم منه». وما رواه عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له ان رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال إذا فرغ فليغسل يده». ورواية برد الإسكاف (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال خذ منه فأغله بالماء حتى يذهب ثلث الماء ويبقى ثلثاه ثم اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به وان لم يجحد ليس عليه دسم فاعمل به واغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة. قلت ووضوء قال لا اغسل اليد كما تمس الكلب». وحينئذ فيجب تقييد إطلاق الروايتين المتقدمتين بناء على التقريب الذي حققناه في معناهما بهذه الاخبار. والله العالم.

(الثاني) ـ قال الشهيد الثاني في الروض بعد ذكر نجاسة الكلب والخنزير واجزائهما وان لم تحلها الحياة حتى المتولد بينهما وان باينهما في الاسم : اما المتولد من أحدهما وحيوان طاهر فإنه يتبع في الحكم الاسم سواء كان لأحدهما أم لغيرهما وان لم يصدق عليه اسم أحدهما ولا غيرهما مما هو معلوم الحكم فالأقوى فيه الطهارة والتحريم. انتهى.

أقول : اما ما ذكره من نجاسة المتولد منهما فقد صرح في الذكرى بنحوه فقال : المتولد من الكلب والخنزير نجس في الأقوى لنجاسة أصلية. وظاهره التبعية لهما في النجاسة وان باينهما في الاسم لانه مقتضى التعليل المذكور. واستشكل العلامة في الحكم في صورة المباينة في المنتهى والنهاية ، قال في النهاية المتولد منهما ـ يعني الكلب والخنزير ـ نجس لانه بعضهما وان لم يقع عليه اسم أحدهما على اشكال منشأه الأصالة السالمة عن معارضة النص ، وتوقف في التذكرة أيضا فقال الحيوان المتولد منهما يحتمل نجاسته مطلقا واعتبار اسم أحدهما. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه ولا يخفى قوة وجه الاشكال فالتوقف في محله غير ان الخطب في مثله سهل إذ البحث فيه لمجرد الفرض. انتهى. وجزم في المدارك بالطهارة مع المباينة عملا بأصالة الطهارة ، قال بعد ان نقل عن الشهيدين تعليل

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٥٧ من أبواب ما يكتسب به.

٢١٢

النجاسة ولو مع المباينة بنجاسة اصليه ما صورته : وهو مشكل إذ النجاسة معلقة على الاسم فمتى انتفى تعين الرجوع الى ما يقتضيه الأصل من طهارة الأشياء ، والأصح عدم نجاسته إذ لا يصدق عليه اسم نجس العين. انتهى. وهو جيد لو ثبت الأصل الذي استند اليه إلا ان فيه ما عرفت في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات الكتاب ، والحكم ـ لعدم النص الذي هو المعتمد عندنا في الأحكام الشرعية ـ محل اشكال وتوقف ، نعم لو كان المفروض في صورة المباينة كونه مما يصدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة فالظاهر انه لا إشكال في الحكم بالطهارة من حيث تبعيتها للاسم إنما الإشكال فيما لو لم يكن كذلك.

واما ما ذكره من المتولد بين أحدهما وطاهر وانه يتبع الاسم فذكر في المعالم انه قاله كثير من الأصحاب ولم ينقلوا فيه خلافا وقال ربما لاح من عبارتي المنتهى والنهاية وجود الخلاف حيث قال في أحدهما : الأقرب فيه عندي اعتبار الاسم وفي الأخر الوجه عندي اعتبار الاسم. أقول : الظاهر انه لا إشكال في الحكم بتبعية الاسم كما هو المذكور لما علم من الشرع من ترتب الأحكام على ما يصدق عليه الاسم ، إنما الإشكال فيما لو لم يصدق عليه اسم بالكلية وقد حكم فيه بالطهارة والتحريم ، وقال في الروضة في الصورة المذكورة : فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته وان حرم لحمه للأصل فيهما. انتهى أقول : اما الأصل في الأول فظاهر وهو أصالة الطهارة عندهم في جميع الأشياء حتى يقوم دليل النجاسة ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا. واما الأصل في الثاني فلا اعرف له وجها إلا ان بعض المحشين على الروضة ذكر ان مراده بأصالة التحريم هو ما علله في تمهيد القواعد بان المحرم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط. وفيه ما لا يخفى فان بناء الأحكام الشرعية على مثل هذا الأصل الغير الأصيل مجازفة محضة. والله العالم.

(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب طهارة كلب الماء ، وعن ابن إدريس المخالفة في ذلك والقول بنجاسته لصدق الاسم ، وهو ضعيف لما تقرر في غير مقام وبه

٢١٣

صرح جملة من علمائنا الاعلام من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة دون الأفراد النادرة ، ولا ريب ولا اشكال بل من المتيقن الذي لا يداخله الاحتمال ان الأخبار المتقدمة كلها انما خرجت في الكلب والخنزير البريين دون البحريين فاحتمال ارادة هذين الفردين من الاخبار المذكورة مما يقطع بعدمه ، هذا مع تسليم كونه حقيقة في النوعين وإلا فإن قلنا انه حقيقة في البري لا غير فإطلاقه على الآخر مجاز كما هو صريح عبارة العلامة في النهاية والتحرير حيث قال : ان لفظ الكلب حقيقة في المعهود مجاز في غيره. وهو ظاهره في التذكرة أيضا حيث قال بعد ان نقل عن ابن إدريس المخالفة في الحكم المذكور : ولا يجوز حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز بغير قرينة ووجه الدفع حينئذ ما ذكره في التذكرة من منع كونه حقيقة في النوعين وارادة الحقيقة والمجاز تتوقف على القرينة ، وربما ظهر من كلام المنتهى انه مشترك بين النوعين بالاشتراك اللفظي والأكثر على الأول. وكيف كان فخلاف ابن إدريس هنا ضعيف لا يلتفت اليه.

(الفصل العاشر) ـ في جملة من المواضع قد وقع الخلاف فيها بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) زيادة على ما تقدم في تلك الأبواب :

فمنها ـ عرق الجنب من الحرام ، قال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه في رسالته : ان عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه وان كانت من حرام فحرام الصلاة فيه ونحوه ذكر ابنه في الفقيه ، وقال المفيد في المقنعة : لا يجب غسل الثوب من عرق الجنب إلا ان تكون الجنابة من حرام فيغسل ما اصابه عرق صاحبها من جسد وثوب. وقال ابن الجنيد في مختصره : وعرق الحائض لا ينجس الثوب وكذلك عرق الجنب من حلال وان كان أجنب من حرام غسل الثوب منه. وقال الشيخ في الخلاف : عرق الجنب إذا كانت الجنابة من حرام حرام الصلاة فيه. وفي النهاية لا بأس بعرق الحائض والجنب في الثوب واجتنابه أفضل إلا ان تكون الجنابة من حرام فإنه يجب غسل الثوب

٢١٤

إذا عرق فيه. وعزى العلامة في المختلف الى ابن البراج موافقة الجماعة. وقال ابن زهرة ان أصحابنا ألحقوا بالنجاسات عرق الجنب إذا أجنب من الحرام. ونحوه سلار حيث نسب إيجاب إزالة هذا العرق إلى أصحابنا إلا انه اختار كونه على جهة الندب ، ونقل عن ابن إدريس القول بالطهارة وهو اختيار الفاضلين وجمهور المتأخرين ، ومما ذكرنا يعلم ان المشهور بين المتقدمين هو القول بالنجاسة.

واستند المتأخرون فيما حكموا به من القول بالطهارة الى الأصل والروايات ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الحسن عن أبي أسامة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب يعرق في ثوبه أو يغتسل فيعانق امرأته ويضاجعها وهي حائض أو جنب فيصيب جسده من عرقها؟ قال هذا كله ليس بشي‌ء». قبل وعدم الاستفصال في مثله يشعر بالعموم لو لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. وعن حمزة بن حمران عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا يجنب الثوب الرجل ولا يجنب الرجل الثوب». وعن ابي بصير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟ فقال لا بأس وان أحب ان يرشه بالماء فليفعل». ونحو ذلك من الروايات.

واحتج الشيخ في الخلاف بإجماع الفرقة وطريقة الاحتياط والاخبار ولم يتعرض لنقلها بل أحالها على كتابي الحديث ، قال في المعالم ـ بعد الكلام في المسألة ونقل الخلاف فيها واختياره الطهارة والاحتجاج على ذلك بجملة من الاخبار التي قدمناها ـ ما هذا لفظه : وجملة ما وقفنا عليه في الكتابين من الروايات التي تخيل فيها الدلالة على هذا المعنى حديثان : أحدهما ـ رواه عن محمد الحلبي في الصحيح (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه وإذا وجد الماء غسله». قال في التهذيب لا يجوز ان يكون المراد بهذا

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

٢١٥

الخبر إلا من عرق في الثوب من جنابة إذا كانت من حرام لأنا قد بينا ان نفس الجنابة لا تتعدى الى الثوب وذكرنا ايضا ان عرق الجنب لا ينجس الثوب فلم يبق معنى يحمل عليه الخبر إلا عرق الجنابة من حرام فحملناه عليه ، ثم قال على انه يحتمل ان يكون المعنى فيه ان يكون أصاب الثوب نجاسة فحينئذ يصلي فيه ويعيد. وجعل هذا الاحتمال في الاستبصار أشبه. والحديث الثاني رواه في الصحيح عن عاصم بن حميد عن ابي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه؟ قال اما انا فلا أحب ان أنام فيه وإذا كان الشتاء فلا بأس ما لم يعرق فيه». قال الشيخ الوجه في هذا الخبر ضرب من الكراهية وهو صريح فيه ، ويمكن ان يكون محمولا على انه إذا كانت الجنابة من حرام. ثم قال في المعالم : ولا يخفى عليك ما في الاستناد الى هذين الخبرين في إثبات الحكم من التعسف ، فإن الأول ظاهر في كون المقتضى لغسل الثوب هو اصابة المني له وقد رأيت اعتراف الشيخ في الاستبصار بأنه أشبه. وظاهر الخبر الثاني ان المقتضى لثبوت البأس مع العرق في الثوب هو احتمال سريان النجاسة الحاصلة بالمني ، والعجب من الشيخ (قدس‌سره) كيف احتمل في هذا الحديث إرادة الجنابة من الحرام مع قول الامام (عليه‌السلام) فيه : اما انا فلا أحب ان أنام فيه. انتهى.

وقال في المدارك بعد نقل الخلاف في المسألة واختياره القول بالطهارة والاستدلال عليه برواية أبي أسامة المتقدمة ـ ما صورته : احتج الشيخ في التهذيب على النجاسة بما رواه في الصحيح عن محمد الحلبي ثم نقل الصحيحة المتقدمة ثم قال : قال الشيخ ولا يجوز ان يكون المراد بهذا الخبر ثم ذكر عبارة الشيخ المتقدمة إلى آخرها ، ثم قال ولا يخفى ما في هذا الحمل البعيد إذ لا إشعار في الخبر بالعرق بوجه. الى آخره. أقول : لا يخفى ان مجرد إيراد الشيخ الخبر المذكور وحمله على ذلك لا يسمى استدلالا حتى انه يطعن فيه بالبعد ثم ينفي الدلالة ، بل الوجه في ذلك ان هذا الحكم لما كان ثابتا عند

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

٢١٦

الشيخ بالأدلة التي وصلت اليه حمل هذا الخبر عليه وان كان بعيدا ، فبعد حمل الخبر المذكور على ذلك لا يوجب انتفاء الحكم غاية الأمر ان الشيخ لم يورد دليلا من الأخبار ولا غيره ممن قال بذلك في هذه المسألة.

والتحقيق في المقام بتوفيق الملك العلام ان يقال انه لما كانت اخبار هذه المسألة الصريحة الدلالة ليست في شي‌ء من الكتب المشهورة بين المتأخرين عدلوا فيها عما افتى به المتقدمون من القول بالنجاسة حيث لم تصل إليهم الأدلة في ذلك ، وما تكلفوه من الروايات في الاستدلال للقول بالنجاسة كما قدمنا نقله عن المعالم ليس هو الدليل ولكن في روايات الكتب الأربعة ما يشير الى الحكم المذكور ايضا وكان هو الاولى بالنقل في الاستدلال للقول المذكور مثل ما رواه في الكافي عن علي بن الحكم عن رجل عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه من الزنا. الحديث». وقد تقدم قريبا في نجاسة المخالفين ، وما رواه فيه ايضا عن محمد بن علي ابن جعفر عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (٢) في حديث قال «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) ان أهل المدينة يقولون ان فيه شفاء من العين؟ فقال كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما ثم يكون فيه شفاء من العين. الحديث».

واما الاخبار الصريحة في الحكم بالنجاسة فمنها ـ قول مولانا الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (٣) «إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه وان كانت حراما فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل». ومن هذه العبارة أخذ علي بن الحسين بن بابويه عبارته المتقدمة وكذا ابنه في الفقيه كما عرفت في غير موضع مما تقدم لكنه هنا غير تغييرا ما.

ومنها ـ ما نقله في الذكرى قال روى محمد بن همام بإسناده إلى إدريس بن يزداد

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١١ من الماء المضاف.

(٣) ص ٤.

٢١٧

الكفر ثوثي (١) «انه كان يقول بالوقف فدخل سر من رأى في عهد ابي الحسن (عليه‌السلام) فأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلى فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب الانتظار إذ حركه أبو الحسن (عليه‌السلام) بمقرعة وقال مبتدئا ان كان من حلال فصل فيه وان كان من حرام فلا تصل فيه». أقول : إدريس بن يزداد المذكور غير مذكور في كتب الرجال والموجود فيها إدريس بن زياد الكفر ثوثي ثقة ولم ينقل فيه القول بالوقف واحتمال انه هو قريب. واما ما ذكره في المعالم بعد نقل الخبر عن الذكرى من انه لم يقف عليه بعد التتبع بقدر الوسع في كتب الحديث الموجودة يومئذ عنده ثم قال فحال إسناده غير واضح ولا يبعد ضعفه وإلا لذكره بكماله أو نبه على صحته. انتهى أقول : ان الأصول السابقة كانت موجودة عند مثل شيخنا الشهيد والمحقق والعلامة وابن إدريس وفيها أخبار عديدة قد خلت منها هذه الكتب المشهورة كما لا يخفى على من راجع ما استطرفه ابن إدريس من الأصول التي كانت عنده ، فمن الظاهر ان شيخنا الشهيد إنما أخذ الرواية من تلك الأصول. واما طعنه وأمثاله بضعف السند فهو باب آخر قد تقدم الكلام فيه في مقدمات الكتاب.

ومنها ـ ما نقله شيخنا المجلسي في البحار (٢) من كتاب المناقب لابن شهرآشوب نقلا من كتاب المعتمد في الأصول قال : «قال علي بن مهزيار وردت العسكر وانا شاك في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج الى الصيد في يوم من الربيع إلا انه صائف والناس عليهم ثياب الصيف وعلى ابي الحسن (عليه‌السلام) لباد وعلى فرسه تجفاف لبود وقد عقد ذنب فرسه والناس يتعجبون منه ويقولون ألا ترون الى هذا المدني وما قد فعل بنفسه؟ فقلت في نفسي لو كان هذا اماما ما فعل هذا ، فلما خرج الناس الى الصحراء لم يلبثوا إلا ان ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلا ابتل حتى غرق بالمطر

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب النجاسات.

(٢) ج ١٢ ص ١٣٩.

٢١٨

وعاد (عليه‌السلام) وهو سالم من جميعه ، فقلت في نفسي يوشك ان يكون هو الامام ثم قلت أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب فقلت في نفسي ان كشف وجهه فهو الامام فلما قرب مني كشف وجهه ثم قال : ان كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه وان كانت جنابته من حلال فلا بأس فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة». وقال شيخنا المشار إليه في الكتاب المذكور ايضا وجدت في كتاب عتيق من مؤلفات قدماء أصحابنا رواه عن ابي الفتح غازي بن محمد الطرائفي عن علي بن عبد الله الميموني عن محمد بن علي بن معمر عن علي بن مهزيار بن موسى الأهوازي (١) عنه (عليه‌السلام) مثله وقال : «ان كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال وان كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام».

أقول : والى هذه الاخبار استند متقدمو الأصحاب فيما ذهبوا اليه من القول بالنجاسة ولا سيما كتاب الفقه الرضوي الذي قد عرفت في غير موضع ان كثيرا من الأحكام التي اشتهرت بين المتقدمين ولم يصل دليلها إلى المتأخرين حتى اعترضوهم بعدم الدليل أو تكلفوا لهم دليلا قد وجدت أدلتها في هذا الكتاب وافتى بها ابن بابويه في رسالته ، ويعضد هذه الاخبار ما عرفت ايضا من اخبار الحمام المتقدمة ، وبذلك يظهر لك قوة ما ذهبوا اليه ، وحينئذ فما دل بعمومه على ما ادعوه من الطهارة مخصص بهذا الاخبار

فروع

(الأول) ـ قال العلامة في المنتهى تفريعا على القول بالنجاسة : ولا فرق بين ان يكون الجنب رجلا أو امرأة ولا بين ان تكون الجنابة من زنا أو لواط أو وطء بهيمة أو ميتة وان كانت زوجة وسواء كان مع الجماع إنزال أم لا ، والاستمناء باليد كالزنا ، اما لو وطئ في الحيض أو الصوم فالأقرب طهارة العرق فيه. وفي المظاهرة إشكال ، ثم قال ولو وطئ الصغير أجنبية وألحقنا به حكم الجنابة بالوطء ففي نجاسة عرقه إشكال ينشأ من عدم التحريم في

__________________

(١) في البحار ج ١٢ ص ١٤٢ (على بن يقطين بن موسى الأهوازي).

٢١٩

حقه. انتهى. ولا يخفى ان ما قربه في الوطء في الحيض والصوم لا يخلو من بعد بعد شمول الأخبار المتقدمة لذلك كما لا يخفى.

(الثاني) ـ نقل في المعالم عن ابن الجنيد انه قال في مختصره بعد ان حكم بوجوب غسل الثوب من عرق الجنب من حرام : وكذلك عندي الاحتياط ان كان جنبا من حلم ثم عرق في ثوبه. ثم قال في المعالم بعد نقله : ولا نعرف لهذا الكلام وجها ولا رأينا له فيه رفيقا. انتهى. وهو جيد.

(الثالث) ـ قال في المعتبر : الحائض والنفساء والمستحاضة والجنب من الحلال إذا خلا الثوب من عين النجاسة فلا بأس بعرقهم إجماعا. ويدل على ما ذكره مضافا الى ما ذكره من الإجماع ما تقدم في صدر المسألة من الاخبار الواردة في الجنب ، ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحائض تعرق في ثيابها أتصلي فيها قبل ان تغسلها؟ قال نعم لا بأس». وما رواه في التهذيب عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما؟ فقال ان الحيض والجنابة حيث جعلهما الله عزوجل ليس في العرق فلا يغسلان ثوبهما». وعن عمار الساباطي في الموثق (٣) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الحائض تعرق في ثوب تلبسه؟ فقال ليس عليها شي‌ء إلا ان يصيب شي‌ء من مائها أو غير ذلك من القذر فتغسل ذلك الموضع الذي أصابه بعينه». وعن سورة بن كليب (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المرأة الحائض أتغسل ثيابها التي تلبسها في طمثها؟ قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم وتدع ما سوى ذلك. قلت له وقد عرقت فيها؟ قال ان العرق ليس من الحيض». وفي الموثق عن علي بن يقطين عن

__________________

(١ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من أبواب النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات.

٢٢٠