الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

وضيف ، وقال الزمخشري أراد ان يقرر ويسدد ما في قوله عزوجل : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ» (١) بطريقة أنيقة ومسلك لطيف وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية العنب كرما. إلخ ومثله في كتاب الغريبين للهروي وفي كتاب شمس العلوم : الكرم العنب. فهذه كلمات جملة من أساطين أهل اللغة متفقة في اختصاص إطلاقه بالعنب ، وحينئذ فلو سلم إطلاقه في بعض المواضع على الشجر تجوزا فإنه لا يصح ان يترتب عليه حكم شرعي ، ويزيده بيانا موثقة عمار المروية في الكافي والتهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الكرم متى يحل بيعه؟ قال إذا عقد وصار عقودا». والعقود اسم الحصرم بالنبطية ، وحيث قد ثبت اختصاص الكرم بالعنب خاصة في المقام ارتفع الاشتراط في قوله : «فان كان انما يطلق على الأول فلا كلام» وثبت الحكم وهو الحلية في هذه الأشياء وان طبخت كما لا يخفى على ذوي الأفهام وزالت الشبهة وبطل قوله : «وان كان يطلق على الثاني» وآل الى الانعدام ، وبالجملة فروايات العصير لما كانت مختصة بالعنب وهذه خارجة عنه لان الحصرم كما عرفت غير العنب والخل المتخذ من العنب قد خرج عنه إلى حقيقة أخرى كما في الخمر الذي يصير خلا والعصير الذي يصير خمرا ونحوهما فلا يلحقهما حينئذ حكم العصير من التحريم بالغليان حتى يحتاج في حليته الى ذهاب ثلثيه.

(ولو قيل) : ان روايات نزاع إبليس لعنه الله لآدم ونوح (عليهما‌السلام) في شجر الكرم واعطائهما له الثلثين منه يعني مما يخرج من هذا الشجر مما يدل على عموم ذلك للعنب والزبيب والحصرم وخل العنب (قلنا) : ان الحكم وان أجمل في تلك الاخبار كما ذكرت إلا ان الأخبار المستفيضة الواردة في عصير العنب كما عرفت يحكم بها على ذلك المجمل ، ويؤيده ما في بعض تلك الأخبار وهو موثقة زرارة (٣) من قوله بعد

__________________

(١) سورة الحجرات. الآية ١٣.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١ من بيع الثمار.

(٣) ص ١٢٨.

١٦١

نقل القصة في النزاع بين نوح وإبليس : «فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) إذا أخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان وكل واشرب حينئذ فذاك نصيب الشيطان». وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن مسلم المنقولة من العلل (١) «فمن هنا طاب الطلاء على الثلث». والطلاء ـ كما عرفت ـ هو المطبوخ من عصير العنب ، وقوله (عليه‌السلام) في رواية وهب بن منبه (٢) : «ان لك فيها شريكا في عصيرها». ولان هذا الفرد هو الذي يتعارف طبخه ويستعمل دائما في الأزمنة السابقة واللاحقة فهو الذي يتبادر إليه الإطلاق. والله العالم.

وقد أطلنا البحث في هذا المقام وأحطنا بأطراف الكلام لما عرفت من ان المسألة من أهم المهام سيما بعد وقوع الخلاف فيها في هذه الأيام ودخول الشبهة فيها على جملة من الاعلام ، والله الهادي لمن يشاء ، فلنرجع الى ما نحن فيه :

(الفصل السابع) ـ في الكافر ، قالوا : وضابطه من خرج من الإسلام وبائنة أو انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة. والأول شامل للكافر كفرا أصليا أو ارتداديا كتابيا أو غير كتابي ، والثاني كالغلاة والخوارج والنواصب.

وقد حكي عن جماعة دعوى الإجماع على نجاسة الكافر بجميع أنواعه المذكورة كالمرتضى والشيخ وابن زهرة والعلامة في جملة من كتبه ، إلا ان المفهوم من كلام المحقق في المعتبر الإشارة إلى الخلاف في بعض هذه المواضع ، حيث قال : الكفار قسمان يهود ونصارى ومن عداهما ، اما القسم الثاني فالأصحاب متفقون على نجاستهم ، واما الأول فالشيخ في كتبه قطع بنجاستهم وكذا علم الهدى والاتباع وابنا بابويه ، وللمفيد قولان ، أحدهما النجاسة ذكره في أكثر كتبه ، والأخر الكراهة ذكره في الرسالة الغرية.

قال في المعالم : وعزى غير المحقق الى الشيخ في النهاية وابن الجنيد الخلاف في هذا المقام ايضا ، اما الشيخ فلانه قال في النهاية : يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل معه فان دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه ان شاء. واما ابن الجنيد

__________________

(١) ص ١٢٩.

(٢) ص ١٢٩.

١٦٢

فإنه قال في مختصره : ولو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم وكل ما صنع في أواني مستحلي الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم وأيديهم كان أحوط. ثم قال : وعندي في نسبة الخلاف الى الشيخ باعتبار عبارته المحكية نظر ، قال لانه قال قبلها بأسطر : ولا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم ولا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها بالماء ، ثم قال وكل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه. وهذا الكلام صريح في الحكم بنجاستهم فلا بد من حمل الكلام الآخر على خلاف ظاهره ، إذ من المستبعد جدا الرجوع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة وإبقاؤه مثبتا في الكتاب ، ولعل مراده المؤاكلة التي لا تتعدى معها النجاسة كأن يكون الطعام جامدا أو في أواني متعددة ويكون وجه الأمر بغسل يديه ارادة تنظيفهما من آثار القذارات التي لا ينفك عنها الكافر في الغالب فمواكلته على هذه الحالة بدون غسل يديه مظنة حصول النفرة. وقد تعرض المحقق في نكت النهاية للكلام على هذه العبارة فذكر على جهة السؤال : انه ما الفائدة في الغسل واليد لا تطهر به؟ وأجاب بأن الكفار لا يتورعون عن كثير من النجاسات فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة ، ثم قال ويحمل هذا على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينية وان لم يفد طهارة اليد ، ثم قال وروى العيص بن القاسم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني؟ فقال لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي؟ فقال إذا توضأ فلا بأس». قال المحقق : والمعنى بتوضئه هنا غسل اليد. انتهى كلامه. وهو ـ كما ترى ـ صريح في ان كلام الشيخ محمول على خلاف ظاهره وانه ليس بمخالف لما حكم به أولا ، وان الحامل له على ذكر هذه المسألة ورود مضمونها في الرواية ، وحينئذ فلا ينبغي ان يذكر الشيخ في عداد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٥٣ من الأطعمة المحرمة.

١٦٣

من عدل عن المشهور هنا. واما عبارة ابن الجنيد فظاهرها القول بطهارة أهل الكتاب وله في بحث الأسآر عبارة أخرى تقرب من هذه حكيناها هناك. وقد تحرر من هذا ان نجاسة من عدا أهل الكتاب ليست موضع خلاف بين الأصحاب معروف بل كلام المحقق يصرح بالوفاق كما رأيت ، واما أهل الكتاب فابن الجنيد يرى طهارتهم على كراهية والمفيد في أحد قوليه يوافقه على ذلك في اليهود والنصارى منهم على ما حكاه عنه المحقق ، والباقون ممن وصل إلينا كلامه على نجاستهم. انتهى ما ذكره في المعالم في المقام وهو جيد ، وانما أطلنا بنقله بطوله لعظم نفعه وجودة محصوله.

أقول : الظاهر ان من ادعى الإجماع من أصحابنا في هذه المسألة على النجاسة بنى على رجوع المفيد باعتبار تصريحه فيما عدا الرسالة المذكورة من كتبه بالنجاسة وعدم الاعتداد بخلاف ابن الجنيد لما شنعوا عليه به من عمله بالقياس إلا انه نقل القول بذلك في باب الأسآر عن ابن ابي عقيل (قدس‌سره) ثم العجب ان الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب نقل إجماع المسلمين على نجاسة الكفار مطلقا مع مخالفة الجمهور في ذلك (١) حتى ان المرتضى (رضي‌الله‌عنه) جعل القول بالنجاسة من متفردات الإمامية.

وكيف كان فالواجب الرجوع الى الأدلة في المسألة وبيان ما هو الظاهر منها فنقول احتج القائلون بالنجاسة بالآية والروايات ، اما الآية فهي قوله عزوجل : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (٢) وأورد عليه (أولا) ـ ان

__________________

(١) في المغني ج ١ ص ٤٩ «الآدمي طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلما أو كافرا عند عامة أهل العلم» وفي عمدة القارئ للعيني الحنفي ج ٢ ص ٦٠ «الآدمي الحي ليس بنجس العين ولا فرق بين الرجال والنساء» وفي المحلى لابن حزم ج ١ ص ١٨٣ «الصوف والوبر والقرن والسن من المؤمن طاهر ومن الكافر نجس» ونسب الشوكانى في نيل الأوطار نجاسة الكافر الى مالك ، وأغرب القرطبي في نسبة نجاسة الكافر إلى الشافعي.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٢٨.

١٦٤

النجس مصدر فلا يصح وصف الجثة به إلا مع تقدير كلمة «ذو» ولا دلالة في الآية معه ، لجواز ان يكون الوجه في نسبتهم الى النجس عدم انفكاكهم عن النجاسات العرضية لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ، والمدعى نجاسة ذواتهم. و (ثانيا) ـ عدم افادة كلام أهل اللغة كون معنى النجس لغة هو المعهود شرعا وانما ذكر بعضهم انه المستقذر وقال بعضهم هو ضد الطاهر ، ومن المعلوم ان المراد بالطهارة في إطلاقهم معناها اللغوي ، فعلى هذين التفسيرين لا دلالة لها على المعنى المعهود في الشرع فتتوقف إرادته على ثبوت الحقيقة الشرعية أو العرفية المعلوم وجودها في وقت الخطاب ، وفي الثبوت نظر. و (ثالثا) ـ انه على تقدير التسليم فالآية مختصة بمن صدق عليه عنوان الشرك والمدعى أعم منه.

أقول : والجواب عن الأول انه لا ريب في صحة الوصف بالمصدر إلا انه مبني على التأويل ، فمنهم من يقدر كلمة «ذو» ويجعل الوصف بها مضافا الى المصدر فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه وعلى هذا بني الإيراد المذكور ، ومنهم من جعله واردا على جهة المبالغة باعتبار تكثر الفعل من الموصوف حتى كأنه تجسم منه. وهذا هو الأرجح عند المحققين من حيث كونه أبلغ ، وعليه حمل قول الخنساء «فإنما هي إقبال وادبار» كما ذكره محققوا علماء المعاني والبيان ، وعليه بنى الاستدلال بالآية المذكورة.

وعن الثاني بأن النجس في اللغة وان كان كما ذكره إلا انه في عرفهم (عليهم‌السلام) كما لا يخفى على من تتبع الأخبار وجاس خلال تلك الديار انما يستعمل في المعنى الشرعي ، والحمل على العرف الخاص مقدم على اللغة بعد عدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، وتنظر المورد في ثبوت الحقيقة العرفية في زمن الخطاب ـ بمعنى ان عرفهم (عليهم‌السلام) متأخر عن زمان نزول الآية عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلا يمكن حمل الآية عليه ـ مردود بان عرفهم (عليهم‌السلام) في الأحكام الشرعية وفتاويهم وأمرهم ونهيهم في ذلك راجع في الحقيقة إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنهم نقلة عنه وحفظة

١٦٥

لشرعه وتراجمة لوحيه كما استفاضت به اخبارهم.

وعن الثالث بصدق عنوان الشرك على أهل الكتاب بقوله سبحانه : «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ... الى قوله سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» (١) وبالجملة فإن دلالة الآية على النجاسة كنجاسة الكلاب ونحوها مما لا اشكال فيه كما عليه كافة الأصحاب إلا الشاذ النادر في الباب ، ومناقشة جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كما نقلنا عنهم مردودة بما عرفت.

واما الاخبار فمنها ـ ما رواه الصدوق في الموثق عن سعيد الأعرج (٢) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن سؤر اليهود والنصارى أيؤكل ويشرب؟ قال لا». ورواه الكليني والشيخ في الحسن عن سعيد عنه (٣) لكن بإسقاط قوله «أيؤكل ويشرب».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته عن رجل صافح مجوسيا؟ قال يغسل يده ولا يتوضأ».

وعن ابي بصير عن الباقر (عليه‌السلام) (٥) «انه قال في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني قال من وراء الثياب فان صافحك بيده فاغسل يدك».

وصحيحة محمد بن مسلم (٦) قال : «سألت أبا جعفر عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ فقال لا تأكلوا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر».

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألته عن فراش اليهودي والنصراني أينام عليه؟ قال لا بأس ولا يصلى في ثيابهما ، وقال لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه. قال وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق ليس يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال

__________________

(١) سورة التوبة. الآية ٣٠.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٤ من الأطعمة المحرمة.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب النجاسات.

١٦٦

ان اشتراه من مسلم فليصل فيه وان اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله».

وما رواه في الكافي عن علي بن جعفر عن ابي الحسن موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه؟ فقال لا».

ورواية هارون بن خارجة (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني أخالط المجوس وآكل من طعامهم فقال لا». ورواية سماعة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن طعام أهل الكتاب ما يحل منه؟ قال الحبوب».

ومنها ـ صحيحة علي بن جعفر (٤) «انه سأل أخاه موسى (عليه‌السلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام؟ فقال إذا علم انه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام إلا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل. وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا ان يضطر إليه».

أقول : الظاهر ان المعنى في صدر هذا الخبر انه سأله عن النصراني والمسلم يجتمعان في الحمام لأجل الغسل ـ والمراد بالحمام ماؤه الذي في حياضه الصغار التي هي أقل من كر ـ فقال (عليه‌السلام) ان علم انه نصراني وقد وضع يده فيه أو يريد ذلك اغتسل بغير ذلك الماء من الحمام أو غيره إلا ان يكون بعد اغتسال النصراني ويريد الاغتسال وحده فإنه يغسل الحوض لنجاسته بملاقاة النصراني له وأخذه الماء منه ثم يجري عليه الماء من المادة ، وهو يشعر بعدم اتصال المادة حال اغتسال النصراني منه. واما ما ذكره في آخر الخبر من قوله : «إلا ان يضطر اليه» فالظاهر حمل الاضطرار على ما توجبه التقية.

قال في العالم بعد ذكر الرواية المذكورة : والمعنى في صدر هذه الرواية لا يخلو

__________________

(١ و ٢ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٥١ من الأطعمة المحرمة.

١٦٧

من خفاء وكأن المراد به ان اجتماع المسلم والنصراني حال الاغتسال موجب لاصابة ما يتقاطر من بدن النصراني لبدن المسلم فينجسه. ولازم ذلك عدم صحة الغسل بماء الحمام حينئذ وتعين الاغتسال بغيره ، واما إذا اغتسلا منفردين فليس بذلك بأس ولكن مع تقدم مباشرة النصراني للحوض يغسل المسلم الحوض من اثر تلك المباشرة ثم يغتسل منه ، وبهذا يظهر ان الحكم مفروض في حوض لا يبلغ حد الكثير وتكون المادة فيه منقطعة حال مباشرة النصراني له ويكون للمسلم سبيل إلى إجرائها ليتصور إمكان غسل الحوض كما لا يخفى ، ولانه مع كثرة الماء واتصال المادة به لا وجه للحكم بالتنجيس اللهم إلا ان يراد نجاسة ظاهر الحوض بما يتقاطر من بدن النصراني ، وعلى كل حال لا بد أن يراد من الاغتسال ما يكون بالأخذ من الحوض وإلا فمع كونه بالنزول الى الماء لا سبيل إلى النجاسة مع الكثرة أو اتصال المادة ولا معنى لغسل الحوض مع القلة ، وقوله في الرواية : «يغتسل على الحوض» مشعر بذلك ايضا وإلا لأتى ب «في» بدل «على» واما استثناء حال الاضطرار في الحكم بالمنع من الوضوء مما يدخل اليهودي والنصراني يده فيه كما وقع في عجز الرواية فربما كان فيه دلالة على الطهارة وان المنع محمول على الاستحباب فلا يتم الاحتجاج به على النجاسة ، وقد أشار الى ذلك في المعتبر على طريق السؤال عن وجه الاحتجاج به وأجاب بأنه لعل المراد بالوضوء التحسين لا رفع الحدث ، قال ويلزم من المنع منه للتحسين المنع من رفع الحدث بل اولى. ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف. ويمكن ان يقال ان استثناء حال الضرورة إشارة إلى تسويغ استعماله في غير الطهارة عند الاضطرار. انتهى كلامه. وفي بعض مواضعه نظر يعلم مما قدمناه.

هذا ما حضرني من الأخبار الدالة على القول بالنجاسة وربما وقف المتتبع على ما يزيد على ذلك أيضا.

١٦٨

واما ما استدل به على القول بالطهارة فوجوه : (الأول) ـ أصالة الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة.

(الثاني) ـ قوله عزوجل. «... وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ...» (١)فإنه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصها بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر لاندراجها في الطيبات ، ولان ما بعدها : «وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» شامل للجميع قطعا ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر فإن سائر الكفار كذلك.

(الثالث) ـ الاخبار ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم (٢) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني؟ فقال لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي؟ فقال إذا توضأ فلا بأس». وهذه الرواية قد تقدمت في كلام المحقق مستشهدا بها لما ذكره الشيخ (قدس‌سره) في النهاية.

وفي الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود (٣) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال لا بأس تغسل يديها».

وصحيحة إبراهيم بن ابي محمود ايضا (٤) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) الخياط أو القصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم انه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال لا بأس».

وصحيحة إسماعيل بن جابر (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٧.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٣ من الأطعمة المحرمة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة من الخبث.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٥٤ من الأطعمة المحرمة.

١٦٩

ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال لا تأكله ، ثم سكت هنيئة ثم قال لا تأكله ، ثم سكت هنيئة ثم قال لا تأكله ولا تتركه تقول انه حرام ولكن تتركه تنزها عنه ، ان في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير». قال شيخنا الشهيد الثاني على ما نقله عنه ولده في المعالم : تعليل النهي في هذه الرواية بمباشرتهم النجاسات يدل على عدم نجاسة ذواتهم إذ لو كانت نجسة لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضية التي قد تتفق وقد لا تتفق.

وحسنة الكاهلي (١) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي أيدعونه الى طعامهم؟ قال اما انا فلا ادعوه ولا أؤاكله واني لأكره ان أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم».

ورواية زكريا بن إبراهيم (٢) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فقلت اني رجل من أهل الكتاب واني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية وانا معهم في بيت واحد لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت لا ولكنهم يشربون الخمر ، فقال لي كل معهم واشرب».

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٣) «وقد سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا ان يضطر اليه». وقد تقدمت في أدلة القول بالتنجيس وتقدم الجواب عنها.

ورواية عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال «سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على انه يهودي؟ فقال نعم. قلت من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال نعم».

أقول : اما الاستدلال بالأصل كما ذكروه فيجب الخروج عنه بالدليل وهو

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٥٣ من الأطعمة المحرمة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الأسآر.

١٧٠

ما قدمناه من الآية والروايات.

واما الاستدلال بالآية فإن الظاهر من الأخبار المؤيدة بكلام جملة من أفاضل أهل اللغة هو تخصيص ذلك بالحنطة وغيرها من الحبوب اما حقيقة أو تغليبا بحيث غلب استعماله فيها. فأما الأخبار. فمنها ـ صحيحة هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في قول الله عزوجل (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ)؟ قال العدس والحمص وغير ذلك». أقول : قوله وغير ذلك يعني من الحبوب كما يدل عليه الخبر الآتي ، ومنها صحيحة قتيبة (٢) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) فقال له الرجل : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ؟) فقال كان ابي يقول انما هي الحبوب وأشباهها». وموثقة سماعة (٣) وفيها «العدس وغير ذلك» ،. وموثقة أخرى له ايضا (٤) قال : «سألته عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال الحبوب». وفي رواية أبي الجارود عن الباقر (عليه‌السلام) (٥) «الحبوب والبقول». وبذلك يعلم ان ما ذكره بعض أفاضل متأخري المتأخرين من الإشكال في حمل الطعام في الآية على الحبوب كما نقله في المعالم لا يلتفت اليه بعد ورود الأخبار بتفسير الآية بذلك كما سمعت ، مع اعتضادها بكلام جملة من أفاضل أهل اللغة ، فمن ذلك ما نقل عن صاحب مجمل اللغة انه قال بعض أهل اللغة ان الطعام البر خاصة ، وذكر حديث ابي سعيد (٦) «كنا نخرج صدقة الفطرة على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صاعا من طعام أو صاعا من كذا.». وقال صاحب الصحاح ربما خص اسم الطعام بالبر. وقال في المغرب : الطعام اسم لما يؤكل وقد غلب على البر ومنه حديث ابى سعيد. ونقل ابن الأثير في النهاية عن الخليل ان الغالب في كلام العرب ان الطعام هو البر خاصة. وقال الفيومي في المصباح المنير : وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام عنوا به البر خاصة ، وفي العرف الطعام اسم لما يؤكل مثل الشراب اسم لما يشرب.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٥١ من الأطعمة المحرمة.

(٦) تيسير الوصول ج ٢ ص ١٣٠ «واللفظ كنا نخرج زكاة الفطرة.».

١٧١

وقال في شمس العلوم بعد ان ذكر ان الطعام الزاد المأكول : وقال بعضهم الطعام البر خاصة واحتج بحديث ابي سعيد «كنا نخرج صدقة الفطرة على عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صاعا من طعام أو صاعا من شعير.» انتهى. فهذه جملة من كلمات أهل اللغة متطابقة الدلالة على ما دلت عليه الأخبار المذكورة.

بقي الكلام هنا في الأخبار ومعارضتها بالأخبار المتقدمة ، والحق عندي هو الترجيح لاخبار النجاسة وذلك من وجوه :

(الأول) ـ اعتضادها بظاهر القرآن بالتقريب الذي قدمنا بيانه في معنى الآية وهي قوله سبحانه : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...» وقد عرفت الجواب عما أوردوه على الاستدلال بالآية المذكورة ، وهذا أحد وجوه الترجيحات المروية عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) في مقام تعارض الأخبار في الأحكام الشرعية.

(الثاني) ـ كون أخبار الطهارة موافقة لمذهب العامة بلا خلاف ولا اشكال كما صرح به جملة من الأصحاب حتى ان المرتضى ـ كما قدمنا ذكره ـ جعل القول بالنجاسة هنا من متفردات الإمامية ، ومما يشير إلى التقية قوله (عليه‌السلام) في حسنة الكاهلي المسوقة في جملة أدلة القول بالطهارة : «اما انا فلا ادعوه ولا أؤاكله واني لأكره ان أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم» فان مرمى هذه العبارة ان ذلك حرام شرعا ولكنه يكره ان يأمرهم به لما يخاف عليهم من لحوق الضرر بهم في ذلك ، وإلا فلو كان حلالا شرعا فإنه لا معنى لاختصاص ذلك بهم (عليهم‌السلام) وهذا أيضا أحد وجوه الترجيحات المنصوصة من عرض الاخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافهم.

(الثالث) ـ اعتضاد أخبار النجاسة باتفاق الأصحاب إلا الشاذ النادر الذي لا يعبأ بمخالفته ، قال في المعالم : ثم ان مصير جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) الى القول بالتنجيس مقتض للاستيحاش في الذهاب الى خلافه بل قد ذكرنا ان جماعة

١٧٢

ادعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف ، وكلام العلامة في المنتهى ظاهر فيه ، وكأنهم لم يعتبروا الخلاف المحكي في ذلك ، اما من جهة المفيد فلانه موافق في أحد قوليه ولعلهم اطلعوا على انه المتأخر ، واما ابن الجنيد فلأن المشهور عنه العمل بالقياس فلا التفات الى خلافه. انتهى. وقال في الذخيرة : والتحقيق انه لولا الشهرة العظيمة بين العلماء وادعاء جماعة منهم الإجماع على نجاسة أهل الكتاب لكان القول بالطهارة متجها لصراحة الأخبار الدالة على الطهارة على كثرتها في المطلوب وبعد حمل الكلام على التقية وقرب التأويل في اخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة فإنه حمل قريب. انتهى. أقول : اما ما ذكره من التأييد بالشهرة العظيمة فجيد كما ذكرنا ومؤيد لما اخترناه. واما ما ذكره ـ من اتجاه القول بالطهارة لولا ما ذكره لبعد الحمل على التقية وقرب التأويل في اخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة ـ فهو وان سبقه اليه السيد في المدارك إلا انه اجتهاد محض في مقابلة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص ، لما عرفت من انهم (عليهم‌السلام) قد قرروا قواعد لاختلاف الاخبار ومهدوا ضوابط في هذا المضمار ومن جملتها العرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه ، والعامة هنا كما عرفت متفقون على القول بالطهارة أو هو مذهب المعظم منهم (١) بحيث لا يعتد بخلاف غيرهم فيه ، والأخبار المذكورة مختلفة باعترافهم ، فعدولهم عما مهده أئمتهم الى ما أحدثوه بعقولهم واتخذوه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم من غير دليل عليه من سنة ولا كتاب جرأة واضحة لذوي الألباب ، وليت شعري لمن وضع الأئمة (عليهم‌السلام) هذه القواعد المستفيضة في غير خبر من أخبارهم إذا كانوا في جميع أبواب الفقه انما عكفوا في الجمع بين الأخبار في مقام الاختلاف على هذه القاعدة والغوا العرض على الكتاب العزيز والعرض على مذهب العامة كما عرفت هنا؟ وهل وضعت لغير هذه الشريعة أو ان المخاطب بها غير العلماء الشيعة؟ ما هذا إلا عجب

__________________

(١) راجع التعليقة ١ ص ١٤٦.

١٧٣

عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.

فرع

الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في عموم النجاسة من الكافر لما تحله الحياة منه وما لا تحله الحياة إلا ما يأتي من كلام المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في الفصل الثامن والتاسع من حكمه بطهارة ما لا تحله الحياة من نجس العين.

وظاهر صاحب المعالم المناقشة في هذا المقام والميل إلى الطهارة حيث قال : نص جمع من الأصحاب على عدم الفرق في نجاسة الكافر بين ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة ، وظاهر كلام العلامة في المختلف عدم العلم بمخالف في ذلك سوى المرتضى فإنه حكم بطهارة ما لا تحله الحياة من نجس العين ، وقد مرت حكاية خلافه آنفا وبينا ان الحجة المحكية عنه في ذلك ضعيفة ، ولكن الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الاجزاء لا يأتي هنا لخلو الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك ، وقد نبهنا على ما في التمسك بالآيتين من الاشكال فلا يتم التعلق بهما في هذا الحكم ، حيث وقع التعليق فيهما بالاسم ، وحينئذ يكون حكم ما لا تحله الحياة من الكافر خاليا من الدليل ، فيتجه التمسك فيه بالأصل الى ان يثبت المخرج عنه. انتهى.

أقول : فيه (أولا) ـ ان الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة اليهود والنصارى قد علق الحكم فيها على عنوان اليهودي والنصراني الذي هو عبارة عن الشخص أو الرجل المنسوب الى هاتين الذمتين ، ولا ريب ان الشخص والرجل عبارة عن هذا المجموع الذي حصل به الشخص في الوجود الخارجي ، ولا ريب في صدق هذا العنوان على جميع اجزاء البدن وجملته كصدق الكلب على اجزائه ، ومتى ثبت الحكم بالعموم في أهل الكتاب ثبت في غيرهم ممن يوافق على نجاستهم بطريق اولى.

و (ثانيا) ـ انه قد روى الكليني في الحسن عن الوشاء عمن ذكره عن الصادق

١٧٤

(عليه‌السلام) (١) «انه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الإسلام. وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب». ولا اشكال ولا خلاف في ان المراد بالكراهة هنا التحريم والنجاسة ، وقد وقع ذلك معلقا على هذه العناوين المذكورة ومنها المشرك ومن خالف الإسلام. وكل من هذه العنوانات أوصاف لموصوفات محذوفة قد شاع التعبير بها عنها من لفظ الرجل أو الشخص أو الذات أو نحو ذلك ، ولا ريب في صدق هذه الموصوفات على جملة البدن وجميع اجزائه كصدق الكلب على جملته كما اعترف به فكما ان الكلب اسم لهذه الجملة فالرجل ايضا كذلك ونحوه الشخص.

و (ثالثا) ـ انا قد أوضحنا سابقا دلالة إحدى الآيتين المشار إليهما في كلامه على النجاسة في المقام وبينا ضعف ما أورد عليها من الإلزام وبه يتم المطلوب والمرام. والله العالم.

وتمام تحقيق القول في هذا الفصل يتوقف على رسم مسائل (الأولى) المشهور بين متأخري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم ، وخصوا الكفر والنجاسة بالناصب كما أشرنا إليه في صدر الفصل وهو عندهم من أظهر عداوة أهل البيت (عليهم‌السلام) والمشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفرهم ونصبهم ونجاستهم وهو المؤيد بالروايات الإمامية ، قال الشيخ ابن نوبخت (قدس‌سره) وهو من متقدمي أصحابنا في كتابه فص الياقوت : دافعو النص كفرة عند جمهور أصحابنا ومن أصحابنا من يفسقهم. إلخ. وقال العلامة في شرحه اما دافعو النص على أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بالإمامة فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم لان النص معلوم بالتواتر من دين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيكون ضروريا اي معلوما من دينه ضرورة فجاحده يكون كافرا كمن يجحد وجوب الصلاة وصوم شهر رمضان. واختار ذلك في المنتهى فقال في كتاب الزكاة في بيان اشتراط وصف المستحق بالايمان ما صورته : لأن الإمامة

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣ من الأسآر.

١٧٥

من أركان الدين وأصوله وقد علم ثبوتها من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ضرورة والجاحد لها لا يكون مصدقا للرسول في جميع ما جاء به فيكون كافرا. انتهى. وقال المفيد في المقنعة : ولا يجوز لأحد من أهل الايمان ان يغسل مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه. ونحوه قال ابن البراج. وقال الشيخ في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة : الوجه فيه ان المخالف لأهل الحق كافر فيجب ان يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل. وقال ابن إدريس في السرائر بعد ان اختار مذهب المفيد في عدم جواز الصلاة على المخالف ما لفظه : وهو أظهر ويعضده القرآن وهو قوله تعالى : «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ..(١) يعني الكفار ، والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا. ومذهب المرتضى في ذلك مشهور في كتب الأصحاب إلا انه لا يحضرني الآن شي‌ء من كلامه في الباب. وقال الفاضل المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي : ومن أنكرها ـ يعني الولاية ـ فهو كافر حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من أصوله. وقال الشريف القاضي نور الله في كتاب إحقاق الحق : من المعلوم ان الشهادتين بمجردهما غير كافيتين إلا مع الالتزام بجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من أحوال المعاد والإمامة كما يدل عليه ما اشتهر من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية». ولا شك ان المنكر لشي‌ء من ذلك ليس بمؤمن ولا مسلم لأن الغلاة والخوارج وان كانوا من فرق المسلمين نظرا إلى الإقرار بالشهادتين إلا انهما من الكافرين نظرا الى جحودهما ما علم من الدين وليكن منه بل من أعظم أصوله إمامة أمير المؤمنين (عليه‌السلام). وممن صرح بهذه المقالة أيضا

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٨٥.

(٢) رواه الكليني في أصول الكافي ج ١ ص ٣٧٦ الطبع الحديث بطرق متعددة عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) واللفظ في بعضها «من مات وليس عليه امام.». وفي آخر «من مات وليس له امام.». وفي ثالث «من مات لا يعرف امامه.».

١٧٦

الفاضل المولى المحقق أبو الحسن الشريف ابن الشيخ محمد طاهر المجاور بالنجف الأشرف حيا وميتا في شرحه على الكفاية حيث قال في جملة كلام في المقام في الاعتراض على صاحب الكتاب حيث انه من المبالغين في القول بإسلام المخالفين : وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله تعالى ورسوله ومن كفر بالأئمة (عليهم‌السلام) مع ان كل ذلك من أصول الدين؟ الى ان قال : ولعل الشبهة عندهم زعمهم كون المخالف مسلما حقيقة وهو توهم فاسد مخالف للاخبار المتواترة ، والحق ما قاله علم الهدى من كونهم كفارا مخلدين في النار ، ثم نقل بعض الأخبار في ذلك وقال والاخبار في ذلك أكثر من ان تحصى وليس هنا موضع ذكرها وقد تعدت عن حد التواتر. وعندي ان كفر هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) انتهى.

هذا ، والمفهوم من الأخبار المستفيضة هو كفر المخالف الغير المستضعف ونصبه ونجاسته ، وممن صرح بالنصب والنجاسة أيضا جمع من أصحابنا المتأخرين : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في بحث السؤر من الروض حيث قال بعد ذكر المصنف نجاسة سؤر الكافر والناصب ما لفظه : والمراد به من نصب العداوة لأهل البيت (عليهم‌السلام) أو لأحدهم وأظهر البغضاء لهم صريحا أو لزوما ككراهة ذكرهم ونشر فضائلهم والاعراض عن مناقبهم من حيث انها مناقبهم والعداوة لمحبيهم بسبب محبتهم ، وروى الصدوق ابن بابويه عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد أحدا يقول انا أبغض محمدا وآل محمد ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم انكم تتولونا وانكم من شيعتنا». وفي بعض الأخبار (٢) «ان كل من قدم الجبت والطاغوت فهو ناصب». واختاره بعض الأصحاب إذ لا عداوة أعظم من تقديم المنحط عن مراتب الكمال وتفضيل المنخرط في سلك الأغبياء والجهال

__________________

(١) عقاب الأعمال ص ٤ وفي البحار عنه ج ٣ من المجلد ١٥ ص ١٣.

(٢) رواه في البحار عن مستطرفات السرائر ج ٣ من المجلد ١٥ ص ١٤ وسيأتي ص ١٨٥.

١٧٧

على من تسنم أوج الجلال حتى شك في انه الله المتعال. انتهى. ونحوه في شرحه على الرسالة الألفية. وممن صرح بالنصب جماعة من متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد نعمة الله الجزائري في كتاب الأنوار النعمانية حيث قال : واما الناصبي وأحواله وأحكامه فإنما يتم ببيان أمرين : (الأول) ـ في بيان معنى الناصب الذي وردت الروايات انه نجس وانه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي وانه كافر بإجماع الإمامية ، والذي ذهب إليه أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان المراد به من نصب العداوة لآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء النهر ، ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والايمان وجواز النكاح وعدمه على الناصبي بهذا المعنى ، وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني من الاطلاع على غرائب الأخبار فذهب الى ان الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت (عليهم‌السلام) وتظاهر في القدح فيهم كما هو حال أكثر المخالفين لنا في هذه الأعصار في كل الأمصار. إلى آخر كلامه زيد في مقامه. وهو الحق المدلول عليه بأخبار العترة الاطهار كما ستأتيك ان شاء الله تعالى ساطعة الأنوار.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان من جملة من صرح بطهارة المخالفين ـ بل ربما كان هو الأصل في الخلاف في هذه المسألة في القول بإسلامهم وما يترتب عليه ـ المحقق في المعتبر حيث قال : أسآر المسلمين طاهرة وان اختلفت آراؤهم عدا الخوارج والغلاة ، وقال الشيخ في المبسوط بنجاسة المجبرة والمجسمة ، وصرح بعض المتأخرين بنجاسة من لم يعتقد الحق عدا المستضعف ، لنا ـ ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يكن يجتنب سؤر أحدهم وكان يشرب من المواضع التي تشرب منها عائشة وبعده لم يجتنب علي (عليه‌السلام) سؤر أحد من الصحابة مع مباينتهم له ، ولا يقال ان ذلك كان تقية لأنه لا يصار إليها إلا مع الدلالة ، وعنه (عليه‌السلام) (١) «انه سئل أيتوضأ من فضل جماعة المسلمين أحب إليك

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٨ من الماء المضاف.

١٧٨

أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال بل من فضل وضوء جماعة المسلمين فإن أحب دينكم الى الله تعالى الحنيفية السمحة» ذكره أبو جعفر بن بابويه في كتابه. وعن العيص ابن القاسم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يغتسل هو وعائشة من إناء واحد». ولأن النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة ، اما الخوارج فيقدحون في علي (عليه‌السلام) وقد علم من الدين تحريم ذلك ، فهم بهذا الاعتبار داخلون في الكفر لخروجهم عن الإجماع وهم المعنيون بالنصاب. انتهى كلامه زيد مقامه وقال في الذخيرة بعد نقل ملخصه انه يمكن النظر في بعض تلك الوجوه لكنها بمجموعها توجب الظن القوى بالمطلوب.

أقول : وعندي فيه نظر من وجوه : (الأول) ـ انه لا يخفى انه انما المراد بالمخالف له في هذه المسألة الذي أشار إليه بقوله : «وصرح بعض المتأخرين» ابن إدريس ، ولا ريب ان مراد ابن إدريس بالحق الذي صرح بنجاسة من لم يعتقده انما هو الولاية كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في الأخبار فإنها معيار الكفر والايمان في هذا المضمار ، ويؤيد ذلك استثناء المستضعف كما سيأتيك التصريح به في الأخبار ايضا ، ولا ريب ايضا ان الولاية إنما نزلت في آخر عمره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في غدير خم والمخالفة فيها المستلزمة لكفر المخالف انما وقع بعد موته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلا يتوجه الإيراد بحديث عائشة والغسل معها من إناء واحد ومساورتها كما لا يخفى ، وذلك لأنها في حياته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ظاهر الايمان وان ارتدت بعد موته كما ارتد ذلك الجم الغفير المجزوم بإيمانهم في حياته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومع تسليم كونها في حياته من المنافقين فالفرق ظاهر بين حالي وجوده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وموته حيث ان جملة المنافقين كانوا في وقت حياته على ظاهر الإسلام منقادين لأوامره ونواهيه ولم يحدث منهم ما يوجب الارتداد ، واما بعد موته فحيث ابدوا تلك الضغائن البدرية وأظهروا

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٧ من الأسآر.

١٧٩

الأحقاد الجاهلية ونقضوا تلك البيعة الغديرية التي هي في ضرورتها أظهر من الشمس المضيئة فقد كشفوا ما كان مستورا من الداء الدفين وارتدوا جهارا غير منكرين ولا مستخفين كما استفاضت به أخبار الأئمة الطاهرين (عليهم‌السلام) فشتان ما بين الحالتين وما أبعد ما بين الوقتين ، فأي عاقل يزعم ان أولئك الكفرة اللئام قد بقوا على ظاهر الإسلام حتى يستدل بهم في هذا المقام والحال انه قد ورد عنهم عليهم الصلاة والسلام (١) «ثلاثة (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) تعالى (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : من ادعى امامة من الله ليست له ومن جحد اماما من الله ومن زعم ان لهما في الإسلام نصيبا»؟. نعوذ بالله من زلات الافهام وطغيان الأقلام.

(الثاني) ـ ان من العجب الذي يضحك الثكلى والبين البطلان الذي أظهر من كل شي‌ء وأجلي ان يحكم بنجاسة من أنكر ضروريا من سائر ضروريات الدين وان لم يعلم ان ذلك منه عن اعتقاد ويقين ولا يحكم بنجاسة من يسب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وأخرجه قهرا مقادا يساق بين جملة العالمين وأدار الحطب على بيته ليحرقه عليه وعلى من فيه وضرب الزهراء (عليها‌السلام) حتى أسقطها جنينها ولطمها حتى خرت لوجهها وجبينها وخرجت لوعتها وحنينها مضافا الى غصب الخلافة الذي هو أصل هذه المصائب وبيت هذه الفجائع والنوائب ، ما هذا إلا سهو زائد من هذا النحرير وغفلة واضحة عن هذا التحرير ، فيا سبحان الله كأنه لم يراجع الأخبار الواردة في المقام الدالة على ارتدادهم عن الإسلام واستحقاقهم القتل منه (عليه‌السلام) لولا الوحدة وعدم المساعد من أولئك الأنام ، وهل يجوز يا ذوي العقول والأحلام ان يستوجبوا القتل وهم طاهر والأجسام؟ ثم اي دليل دل على نجاسة ابن زياد ويزيد وكل من تابعهم في ذلك الفعل الشنيع الشديد؟ واي دليل دل على نجاسة بني أمية الأرجاس وكل من حذا حذوهم من كفرة بني العباس الذين قد ابادوا الذرية العلوية وجرعوهم كؤوس الغصص

__________________

(١) رواه في أصول الكافي ج ١ ص ٣٧٣ الطبع الحديث.

١٨٠