الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

السلام) ثم ان إبليس الملعون ذهب بعد وفاة آدم فبال في أصل الكرمة والنخلة فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى على ذرية آدم كل مسكر لان الماء جرى ببول عدو الله في النخل والعنب. وصار كل مختمر خمرا لان الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله تعالى إبليس».

(قلت) : هذا الخبر بحمد الله تعالى ان لم يكن حجة لنا لا يكون علينا وذلك ان سياق الخبر كما تقدمت الإشارة اليه انما هو في بيان العلة في تحريم المسكر من العنب والتمر وغيرهما ، ألا ترى الى قوله (عليه‌السلام) : «فأوحى الله تعالى الى آدم ان العنب قد مصه عدوي وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك من عصيرة الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت الخمر لان عدو الله. إلخ» ، والى قوله (عليه‌السلام) بعد حكاية بول إبليس لعنه الله في أصل الكرمة والنخلة : «فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله على ذرية آدم كل مسكر. إلخ» ولا دلالة فيه ولا إشارة إلى التحريم في التمر بمجرد الغليان كما تقدم في اخبار العصير العنبي.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات ثلاثة :

(الأول) ـ في ماء التمر إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ، والمشهور ـ بل كاد ان يكون إجماعا بل هو إجماع ـ هو القول بحليته فانا لم نقف على قائل بالتحريم ممن تقدمنا من الأصحاب وانما حدث القول بذلك في هذه الأعصار المتأخرة ، فممن ذهب اليه شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني والمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي على ما يظهر من الوسائل ثم اشتهر ذلك الآن بين جملة من الفضلاء المعاصرين حتى صنفوا فيه الرسائل وأكثروا من الدلائل التي لا ترجع إلى طائل ، وهذا هو الذي حدانا على تطويل الكلام في هذه المسألة في هذا المقام وان كانت خارجة عن محل البحث إلا بنوع مناسبة تقتضي الدخول في سلكه والانتظام.

١٤١

وربما توهم وقوع الخلاف في الحكم المذكور من بعض عبارات الأصحاب مثل عبارة المحقق في كتاب الحدود من الشرائع حيث قال : «واما التمري إذا غلى ولم يبلغ حد الإسكار ففي تحريمه تردد والأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ الشدة المسكرة» انتهى ومثله عبارة الشهيد في الدروس حيث قال بعد الكلام في عصير الزبيب وحكمه بتحليل المعتصر منه : «واما عصير التمر فقد أحله بعض الأصحاب ما لم يسكر ، وفي رواية عمار. إلخ» (١).

وأنت خبير بأن العبارة الاولى لا دلالة فيها بوجه على وجود القول بالتحريم لان التردد في الحكم لا يستلزم وجود الخلاف فيه بل قد يكون منشأه تعارض الأدلة فيه أو ضعف المستند دلالة أو سندا أو تعارض احتمالين في ذلك كما هو دأب العلماء في كثير من عبائرهم ومن ثم قال الشهيد الثاني في المسالك في شرح هذه العبارة : وجه التردد في عصير التمر أو هو نفسه إذا غلى ، من دعوى صدق اسم النبيذ عليه حينئذ ومشابهته لعصير العنب ، ومن أصالة الإباحة ومنع صدق اسم النبيذ المحرم عليه حقيقة ومنع مساواته لعصير العنب في الحكم لخروج ذلك بنص خاص فيبقى غيره على أصل الإباحة وهذا هو الأصح. انتهى. ويؤيد ما قلناه ايضا ما صرح به الفاضل الشيخ احمد بن فهد (قدس‌سره) في المهذب حيث قال : كل حكم مستفاد من لفظ عام أو مطلق أو من استصحاب يسمى بالأشبه لأن ما كان مستند الترجيح التمسك بالظاهر والأخذ بما يطابق ظاهر المنقول يكون أشبه بأصولنا ، فكل موضع يقول فيه : «الأشبه» يريد هذا المعنى ، والأصح ما لا احتمال فيه عنده ، والتردد ما احتمل الأمرين ، ثم قال بعد ذلك : وربما كان النظر والتردد في المسألة من المصنف خاصة لدليل انقدح في

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٧ من الأشربة المحرمة ، واللفظ هكذا : «سألته ـ يعني أبا عبد الله «ع» ـ عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يمتشطن». وسيأتي التعرض لها ص ١٤٩.

١٤٢

خاطره. انتهى. وفيه ـ كما ترى ـ دلالة واضحة على ان المحقق (قدس‌سره) بل غيره من الفقهاء ايضا قد يقولون على الأصح أو يترددون أو يتنظرون في المسألة وان كانت اجماعية. وأغرب من ذلك ان المحقق في كتاب المختصر في مسألة كثير السفر قال : وضابطه ان لا يقيم في بلدة عشرة أيام ولو أقام في بلده أو غيره ذلك قصر ، وقيل هذا يختص بالمكاري فيدخل الملاح والأجير. انتهى. قال في المهذب : ولم نظفر بقائله ولعله سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف فقال «قيل». وقال في التنقيح : لم نسمع من الشيوخ قائله ولكن قال بعض الفضلاء كأنه هو نفسه القائل. ونقل عن الشهيد (قدس‌سره) انه قال انه احتمال عنده. وبذلك يظهر ان العبارة المذكورة وان توهم منها في بادئ النظر حصول الخلاف في المسألة إلا انه عند التأمل الدقيق لا ينبغي الالتفات اليه ، وبه يظهر ايضا ما في كلام شيخنا المشار اليه آنفا حيث قال : وما يقال ـ ان النزاع انما هو في العصير الزبيبي كما يفهم من شرح الشرائع في الأطعمة والأشربة واما التمري فلا نزاع في إباحته وقد ادعى الإجماع عليه بعض الفضلاء ـ مردود بان الظاهر من كلام المحقق في الشرائع في كتاب الحدود خلافه وان المسألة ليست اجماعية كما قد يظن ، فإنه قال : واما التمري إذا غلى ولم يبلغ الإسكار ثم ساق العبارة المتقدمة ، ثم قال ودلالته على المدعى واضحة. انتهى. أقول : قد عرفت ما فيه.

واما عبارة الدروس فغاية ما تدل عليه هو اسناد التصريح بالحلية الى بعض الأصحاب وهذا لا يستلزم ان البعض الآخر قائل بالتحريم بل الظاهر ان مراده ان بعض الأصحاب نص على الحلية وصرح بها والبعض الآخر لم يصرح بشي‌ء نفيا ولا إثباتا ، وهو كذلك فان كثيرا منهم لم يتعرضوا لذكر ماء التمر المغلي بالكلية ومن ذكره منهم فإنما وصفه بالحلية دون التحريم ، وكيف كان فغاية ما يشعر به كلامه هنا هو التوقف في الحكم لرواية عمار المشار إليها في كلامه وسيأتي الكلام فيها ان شاء الله تعالى ، ومما يساعد على ما ادعيناه عبارة المسالك في كتاب الأطعمة والأشربة وهي المشار إليها في

١٤٣

كلام شيخنا المتقدم ، حيث قال في الكتاب المذكور بعد البحث في عصير العنب : والحكم مختص بعصير العنب فلا يتعدى الى غيره كعصير التمر ما لم يسكر للأصل ولا الى عصير الزبيب على الأصح. إلخ. ونحوه في الروض وشرح الرسالة ، واعتراض شيخنا المتقدم عليه بما ذكره قد عرفت بطلانه. وأياما كان فالاعتماد عندنا في الأحكام على الأدلة الواردة في المقام لا على الخلاف أو الوفاق من العلماء الاعلام :

ومما يدل على الحلية في هذه المسألة الأصل والآيات والاخبار كقوله سبحانه : «... خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ...» (١) وقوله عزوجل : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ... الآية» (٢) وقوله تعالى : «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ...» (٣) وقوله : «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... الآية الى وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» (٤) وقوله «... لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...» (٥) وغيرها خرج ما خرج بدليل فيبقى الباقي تحت العموم ، وقول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (٦) : «انما الحرام ما حرم الله تعالى ورسوله في كتابه». عقيب الأمر بقراءة «قُلْ لا أَجِدُ ... الآية» وقول أحدهما (عليهما‌السلام) في صحيحة زرارة (٧) «إنما الحرام ما حرم الله في كتابه». وقول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٨) : «انما الحرام ما حرم الله في القرآن». وفي صحيحة محمد بن مسلم (٩) : «ليس الحرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» ثم قال : «اقرأ هذه الآية : (قُلْ لا

__________________

(١) سورة البقرة. الآية ٢٩.

(٢) سورة الأنعام. الآية ١٤٦.

(٣) سورة البقرة. الآية ١٧٣.

(٤) سورة المائدة. الآية ٤.

(٥) سورة المائدة. الآية ٨٧.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ٩ من الأطعمة المحرمة.

(٧) المروية في الوسائل في الباب ٦ من الأطعمة المحرمة.

(٨) المروية في الوسائل في الباب ٤ من الأطعمة المحرمة.

(٩) المروية في الوسائل في الباب ٥ من الأطعمة المحرمة.

١٤٤

أَجِدُ ... الآية». ويدل على ذلك ما قدمناه من الاخبار في الفائدة الثانية المصرحة بأن المحرم من النبيذ هو المسكر خاصة ولا سيما رواية الوفد.

استدل شيخنا أبو الحسن المشار اليه آنفا على التحريم في العصير التمري والزبيبي بصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «كل عصير اصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه». قال وروى ايضا في الحسن عنه (عليه‌السلام) (٢) : «اي عصير اصابته النار فهو حرام». وكلمتا «كل واي» صريحتان في العموم فمقتضاهما تحريم الزبيبي والتمري إلا ان يثبت كون العصير حقيقة شرعية أو عرفية في عصير العنب خاصة كما ادعاه جماعة ، وأنت خبير بان هذه الدعوى في حيز المنع إذ لم نظفر لها بمستند يعتمد عليه واستسلاقها في هذا المقام مجازفة محضة وعباراتهم طافحة بتسميتهما عصيرا ومع هذا الإطلاق لا يليق منهم إنكاره فيبقى عموم النص شاملا له ، مع ان رواية زيد النرسي (٣) ـ بالنون والراء والسين المهملتين ـ شاهدة به وفي رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٤) اشعار ما به كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام وان لم تدل عليه صريحا. انتهى كلامه.

أقول : فيه ـ زيادة على ما عرفت ـ نظر من وجوه : (الأول) ان ما ذكره من رواية ابن سنان وجعله لها روايتين وان إحداهما صحيحة والأخرى حسنة وان إحداهما بلفظ «كل» والأخرى بلفظ «اي» لا وجود له في كتب الاخبار ولا نقله ناقل من علمائنا الأبرار ، والموجود فيها رواية واحدة وهي الأولى إلا انها صحيحة في التهذيب وحسنة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢ من الأشربة المحرمة.

(٢) سيتعرض المصنف (قدس‌سره) في الوجه الأول من وجوه النظر لعدم وجود رواية لابن سنان بهذا اللفظ.

(٣) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ٢ من الأشربة المحرمة وستأتي في المقام الثاني.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٨ من الأشربة المحرمة وستأتي في المقام الثاني.

١٤٥

في الكافي ، واما الثانية فلم أقف عليها ولم يذكرها في الوافي الجامع لكتب الأخبار الأربعة ولا في الوسائل الجامع للكتب الأربعة وغيرها.

(الثاني) ـ ان ما ادعاه من العموم في العصير مردود بما أوضحناه في الفوائد المتقدمة بما لا مزيد عليه وهو ان العصير مخصوص بما يؤخذ من العنب وان ما يؤخذ من التمر والزبيب انما يطلق عليه النقيع والنبيذ ، فهذه الأسماء قد صارت حقائق عرفية في زمانهم وعرفهم (عليهم‌السلام) كما أطلقوا ايضا على عصير العنب الطلاء تارة والبختج اخرى ، وعاضد على ذلك كلام أهل اللغة أيضا كما سمعت من عبائرهم ، ولكنه لقصور تتبعه (قدس‌سره) للاخبار وعدم مراجعته لكلام أهل اللغة في هذا المضمار وقع فيما وقع فيه.

بقي الكلام هنا في التعبير في هذه الصحيحة بلفظة «كل» المشعر بوجود افراد متعددة لذلك ، ويمكن ان يكون الوجه في ذلك ما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخرين المتأخرين من ان ذلك باعتبار كون المراد منه ما هو أعم من ان يسكر كثيره أم لا أخذ من كافر أو مسلم مستحل لما دون الثلث أم لا عارف أم لا. أقول : ويؤيده ورود الأخبار في حل المعصرات المأخوذة من أيدي هؤلاء وعدمه بالفرق في بعضها بين العارف وغيره وفي بعض بين من يستحله على الثلث وغيره ممن يشربه على النصف وكذا بالنسبة إلى المسلم وغيره ، وبهذا يتم معنى الكلية في الخبر المذكور ويندفع عنه النقص والقصور.

(الثالث) ـ انه مع العدول عن حمل العصير في الخبر على ما ذكرناه من عصير العنب فليس إلا الحمل على المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن كل معصور ، والحمل على هذا المعنى مما لا يخفى بطلانه على محصل إذ يلزم من الحكم بصحة هذا المعنى الحكم بتحريم كل عصير إذا غلى ولا ريب انه مخالف لما علم ضرورة من مذهب الإسلام من إباحة الأشربة ومياه العقاقير والأدوية التي تطبخ ومياه الفواكه والبقول ونحو ذلك ،

١٤٦

ولو رجع الى تخصيصها بالنصوص فالذي صرحت به النصوص بان يتم له تخصيص هذا الخبر به انما هو السكنجبين ورب التوت والرمان والتفاح والسفرجل والجلاب وهو العسل المطبوخ بماء الورد حتى يتقوم ، وحينئذ فما عدا هذه المعدودة الموجودة في النصوص يبقى داخلا في عموم الخبر على زعمه ولا أظنه يلتزمه ويقول به ، والتخصيص بالعنبي والتمري تحكم محض مع انه ارتكاب للتخصيص البعيد الذي قد منع صحته جماعة من الأصوليين ، وبالجملة فصدور هذه الكلية عنهم (عليهم‌السلام) مع خروج أكثر أفراد الموضوع عن الحكم بعيد جدا بل مما يكاد يقطع ببطلانه سيما مع كون الخروج بغير دليل ولا مخصص وبهذا يظهر انه لا يجوز ان تكون الكلية والعموم في الخبر المذكور باعتبار المعنى اللغوي الذي توهمه.

(الرابع) ـ قوله : «إلا ان يثبت كون العصير حقيقة. إلخ» فإن فيه انه قد ثبت ذلك على وجه لا يعتريه الاشكال ولا يحوم حوله الاختلال إلا لمن لم يعط التأمل حقه في هذا المجال ولم يسرح بريد النظر كما ينبغي في اخبار الآل عليهم صلوات ذي الجلال كما أوضحناه بأوضح مقال وكشفنا عنه نقاب الإجمال بما لم يسبق اليه سابق من علمائنا الأبدال ، وأيده أيضا مضي العلماء عليه سلفا وخلفا فإن أحدا منهم لم يتوهم هذا المعنى الذي تفرد به وذهب اليه ، والقائلون بتحريم العصير الزبيبي إنما استندوا إلى صحيحة علي بن جعفر الآتية مع ان صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة بمرئي منهم ومنظر وهي بالاستدلال ـ لو كانوا يفهمون من العصير هذا المعنى الذي توهمه ـ أوضح وأظهر ، وانما فهموا منه انه عبارة عن ماء العنب خاصة فهو إجماع أو كالإجماع منهم (رضوان الله عليهم) ، وقد عرفت أيضا مساعدة كلام أهل اللغة لهم باعتبار تخصيصهم لما يتخذ من التمر والزبيب بالنقيع أو النبيذ. واما ما ذكره ـ من ان عباراتهم طافحة بتسميتهما عصيرا فلا يليق منهم إنكاره ـ ففيه ان عبارات أكثرهم خالية من هذا وان ذكره بعضهم فهو على نوع من مجاز المشاكلة ، واما إنكاره فمتعلقه الحكم لا التسمية

١٤٧

وأحدهما غير الآخر ، وبذلك يظهر لك ان المجازفة انما هو في البناء على هذه الأوهام من غير إعطاء التأمل حقه في المقام والخروج عما عليه كافة العلماء الاعلام والمخالفة لنصوص أهل الذكر عليهم أفضل الصلاة والسلام.

(الخامس) ـ ما ذكره بقوله : «مع ان رواية زيد النرسي. إلخ» فإن فيه ان رواية زيد النرسي التي موردها مخصوص بالزبيب وسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى ضعيفة فان زيد النرسي مجهول في الرجال وأصله المنقول منه هذا الخبر مطعون فيه كما ذكره الشيخ في الفهرست ، حيث قال في الطعن على أصل زيد النرسي : انه لم يروه محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، ونقل عنه في فهرسته ايضا انه لم يروه محمد بن الحسن بن الوليد وكان يقول انه موضوع وضعه محمد بن موسى الهمداني. وقال العلامة في الخلاصة بعد نقل كلام الشيخ وابن الغضائري في زيد الزراد وزيد النرسي : والذي نقله الشيخ عن ابن بابويه وابن الغضائري لا يدل على طعن في الرجلين وان كان توقف ففي رواية الكتابين ، ولما لم أجد لأصحابنا تعديلا لهما ولا طعنا فيهما توقفت عن قبول روايتهما. انتهى. ومن هذا القبيل تمسكه برواية علي بن جعفر وقناعته بما فيها من قوله «اشعار ما» والعجب منه (قدس‌سره) في استناده الى هاتين الروايتين المتهافتتين مع ان ههنا روايات أخر مروية في الأصول المعتبرة التي عليها المدار وهي أوضح دلالة وأصرح مقالة وأصح سندا وأكثر عددا فيما ادعاه بالنسبة إلى الزبيب كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المقام الآتي ، وهذا مما يدلك أوضح دلالة على صحة ما قلنا من ان كلامه (قدس‌سره) في هذا المضمار لم يكن ناشئا عن تحقيق ورجوع الى الأخبار وتأمل فيها بعين الفكر والاعتبار ، وكذا بالنسبة إلى العصير التمري كان ينبغي ان يستدل بموثقة عمار التي أشار إليها في الدروس وكأنه اعتمد على ما فهمه من صحيحة عبد الله بن سنان من صدق العصير على هذه الأشياء ولم يبحث عن دليل سواها ، ولو انه تمسك في ماء التمر بموثقتي عمار الآتيتين وفي الزبيب بالروايات التي سنتلوها عليك

١٤٨

ان شاء الله تعالى في المقام الآتي لكان أظهر في مطلوبه ومراده وان قابله من خالفه في ذلك باعتراضه وإيراده.

هذا ، وربما استدل للقول بالتحريم في ماء التمر بموثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه‌السلام) (١) : «انه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال خذ ماء التمر فأغله حتى يذهب ثلثا ماء التمر». وموثقته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يمتشطن». وهذه الرواية الثانية هي التي ذكرها في الدروس وظاهره التوقف في الحكم من أجلها ، والنضوح لغة على ما ذكره في النهاية ضرب من الطيب تفوح رائحته ، ونقل الشيخ فخر الدين ابن طريح في مجمع البحرين : ان في كلام بعض الأفاضل النضوح طيب مائع ينقعون التمر والسكر والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء ويشد رأسها ويصبرون أياما حتى ينش ويختمر وهو شائع بين نساء الحرمين الشريفين ، وكيفية تطيب المرأة به ان تحط الأزهار بين شعر رأسها ثم ترش به الأزهار لتشتد رائحتها قال : وفي أحاديث أصحابنا أنهم نهوا نساءهم عن التطيب به بل أمر بإهراقه في البالوعة. انتهى أقول : الظاهر انه أشار بحديث الأمر بالإهراق إلى رواية عيثمة (٣) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) وعنده نساؤه قال فشم رائحة النضوح فقال ما هذا؟ قالوا نضوح يجعل فيه الضياح قال فأمر به فأهريق في البالوعة». أقول : الضياح لغة اللبن الخاثر يجعل فيه الماء ويمزج به ، والظاهر بناء على ما ذكره هذا البعض المنقول عنه كيفية عمل النضوح المؤيد بخبر عيثمة المذكور ان امره (عليه‌السلام) بإهراق النضوح انما هو لكونه خمرا وانه نجس كما هو أحد القولين المعتضد بالاخبار كما تقدم تحقيقه ، فيكون وضعه في الرأس موجبا لنجاسته والصلاة في النجاسة حينئذ ، وعلى هذا فتحمل

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٢ من الأشربة المحرمة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٧ من الأشربة المحرمة.

١٤٩

رواية عمار على ان الغرض من طبخه حتى يذهب ثلثا ماء التمر انما هو لئلا يصير خمرا ببقائه مدة لان غلية الذي يصير به دبسا يذهب الأجزاء المائية التي يصير بها خمرا لو مكث مدة كذلك ، لأنه إنما بصير خمرا بسبب ما فيه من تلك الأجزاء المائية فإذا ذهبت أمن من صيرورته خمرا ، ويؤيد هذا قوله : «النضوح المعتق» على صيغة اسم المفعول أي الذي يراد جعله عتيقا بان يحفظ زمانا حتى يصير عتيقا ، ويؤيده قوله ايضا «ثم يمتشطن» من ان الغرض منه التمشط والوضع في الرأس ، فالمراد من السؤال في الروايتين عن كيفية عمله هو التحرز عن صيرورته خمرا نجسا يمتنع الصلاة فيه إذا تمشطن به وإلا فهو ليس بمأكول ولا الغرض من السؤال عن كيفية عمله هو حل اكله حتى يكون الأمر بغلية على مثل هذه الكيفية لحل اكله ، فلو فرضنا انه طبخ على النصف مثلا وتمشطن به في الحال فإنه وان فرضنا تحريم اكله كما يدعيه الخصم إلا انه لا قائل بنجاسته إجماعا ولا دليل عليها اتفاقا ، ولكن لما كان الغرض هو حفظه وتبقيته زمانا كما عرفت فلو لم يعمل بهذه الكيفية لصار خمرا نجسا فأمر (عليه‌السلام) بطبخه على هذه الكيفية لهذه العلة ، وكيف كان فدلالة الخبرين المذكورين انما هو بطريق المفهوم وهو مع تسليمه انما يكون حجة إذا لم يظهر للتعليق فائدة سوى ذلك وإلا فلا حجة فيه ، وبما شرحنا من معنى الخبرين المذكورين وهو ان الغرض ان لا يكون خمرا مسكرا تظهر فائدة التعليق المذكور فلا يكون حجة فيما يدعيه الخصم ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.

بقي هنا شيئان ينبغي التنبيه عليهما (الأول) ـ ان إطلاق الاخبار وكلام الأصحاب دال على تحريم العصير بالغليان وتوقف حله على ذهاب الثلثين أعم من ان يطبخ وحده أو مع شي‌ء آخر غيره ، وقد روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال عن ابي الحسن علي بن محمد (عليهما‌السلام) (١) «ان محمد بن علي بن عيسى كتب اليه عندنا طبيخ يجعل فيه الحصرم وربما يجعل فيه العصير من العنب وانما هو لحم يطبخ به وقد روي عنهم في العصير

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤ من الأشربة المحرمة.

١٥٠

انه إذا جعل على النار لم يشرب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وان الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة وقد اجتنبوا أكله الى ان يستأذن مولانا في ذلك؟ فكتب لا بأس بذلك». وهو ظاهر في ان حكم العصير مطبوخا مع غيره حكمه منفردا. وكأن السائل توهم اختصاص الحكم المذكور بالعصير منفردا وشك في جريان ذلك فيه إذا طبخ مع غيره ، لان ظاهر قوله : «الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة» يعني يذهب ثلثاه كما روى فأجابه (عليه‌السلام) بنفي البأس مع ذهاب الثلثين إشارة الى ان هذا الحكم ثابت له مطلقا منفردا أو مع غيره.

(الثاني) ـ انه لو وقع في قدر ماء يغلى على النار حبة أو حبات عنب فان كان ما يخرج منها من الماء يضمحل في ماء القدر فالظاهر انه لا إشكال في الحل لعدم صدق العصير حينئذ لأن الناظر إذا رآه انما يحكم بكونه ماء مطلقا وان أدت اليه الحلاوة مثلا. لأن الأحكام الشرعية تابعة لصدق الإطلاق والتسمية فإذا كان لا يسمى عصيرا وانما يسمى ماء فلا يلحقه حكم العصير البتة ، نعم لو كان الواقع في الماء انما هو شي‌ء من العصير المحرم وهو ما بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وكان ذلك ايضا على الوجه الذي ذكرناه من القلة والاضمحلال في جانب الماء فهل يكون الحكم فيه كما تقدم في الصورة الأولى أم لا؟ الظاهر الأول لعين ما ذكرناه وبذلك صرح المحقق المولى الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال ـ بعد قول المصنف (قدس‌سره) في كتاب الأطعمة والأشربة : «ان ما مزج بشي‌ء من هذه يحرم» وتفسير العبارة المذكورة بأن تحريم ما مزج بهذه المذكورات مع نجاستها ظاهر فإن الملاقي للنجس رطبا نجس وكل نجس حرام ، واحتماله ايضا انه يريد بيان حكم الممتزج على تقدير عدم النجاسة أيضا ـ ما حاصله : والحكم بتحريم الممتزج حينئذ ان كان الامتزاج بحيث غلب الحرام وصار من افراده ظاهر وكذا المساوي بل ما علم انه فيه بحيث لم يضمحل بالكلية ، فأما ما يضمحل فيمكن الحكم بكونه حلالا مثل قطرة عرق أو بصاق حرام في حب ماء أو قدر بل في كوز كبير للاضمحلال ، ولا يبعد

١٥١

ان يكون ذلك مدار الحكم ، فان كان بحيث إذا أخذ وأكل وشرب لم يعلم بوجود الحرام فيه يكون حلالا وان كان يعلم وجوده فيه يكون حراما. ويدل عليه ما تقدم من العمومات والأصل وحصر المحرمات وصحيحة عبد الله بن سنان (١) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم انه حرام». ثم قال : ويحتمل التحريم خصوصا المسكر للروايات مثل حسنة عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) ما أسكر كثيره فقليله حرام». ثم نقل رواية عمر بن حنظلة الدالة على ان ما قطرت قطرة من المسكر في حب إلا أهريق ذلك الحب (٣) ثم قال فتأمل فإن المسألة مشكلة والاجتناب أحوط. انتهى كلامه. وفيه ان ما استند اليه في احتمال التحريم من الروايتين المذكورتين لا دلالة لهما على ما ادعاه ، فان مقتضى حسنة عبد الرحمن تعلق التحريم بعين القليل ومتفرع على وجوده والمفروض اضمحلاله كما ذكره سابقا وحينئذ فلا يكون من محل البحث في شي‌ء ، ومقتضى رواية عمر بن حنظلة ان الإراقة إنما تترتب على التنجيس وحكمه (عليه‌السلام) بنجاسة المسكر كما هو أشهر الروايات وأظهرها حسبما مر تحقيقه في موضعه لا على التحريم كما توهمه (قدس‌سره) وبالجملة فاظهرية الحلية في الصورة المذكورة مما لا ينبغي ان يعتريه الاشكال. والله العالم.

(المقام الثاني) ـ في ماء الزبيب إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ، المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كونه حلالا وقيل بتحريمه كما تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخنا الشهيد الثاني واليه مال من قدمنا ذكره من متأخري المتأخرين وجملة من المعاصرين ، ويدل على القول المشهور ما تقدم في المقام الأول من الأصل والعمومات في الآيات والروايات المتقدمة ثمة ، واستدل بعض مشايخنا المعاصرين على ذلك أيضا بانحصار النزاع بين آدم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٦٤ من الأطعمة المحرمة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١٧ من الأشربة المحرمة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ١٨ من الأشربة المحرمة.

١٥٢

ونوح وبين إبليس لعنه الله في العنب خاصة وان الحرام هو عصير العنب ، والزبيب خارج عن اسم العنب فلا يحرم ماؤه كالحصرم انتهى. أقول : يمكن للخصم المناقشة في هذا الاستدلال بان ظاهر الاخبار التي أشار إليها (قدس‌سره) ان النزاع كان في ثمرة شجرة الكرم مطلقا ولا دلالة لها على الاختصاص بالعنب كما في موثقة زرارة الدالة على ان نوحا لما غرس الحبلة وهي شجرة العنب وقلعها إبليس لعنه الله فتنازع معه وقال له إبليس اجعل لي نصيبا فجعل له الثلث الى ان استقر الأمر على الثلثين ، فإنها دالة على انه جعل له نصيبا في الشجرة يعني ما يخرج منها من الثمرة ولا اختصاص له بالعنب ، ومثل ذلك أيضا موثقة سعيد بن يسار وباقي الأخبار المنقولة من العلل.

واستدل الشهيد الثاني في المسالك ـ بعد ان صرح بان الحكم مختص بالعنب فلا يتعدى الى غيره كعصير التمر ما لم يسكر ولا الى عصير الزبيب على الأصح لخروجه عن اسم العنب ـ بذهاب ثلثيه وزيادة بالشمس ، ومثل ذلك في الروض وشرح الرسالة ، واعترضه في المفاتيح بان ما ذكره من ذهاب ثلثيه بالشمس انما يتم لو كان قد نش بالشمس أو غلى حتى يحرم ثم يحل بعد ذلك بذهاب الثلثين ، والغليان بالشمس غير معلوم فضلا عن النشيش وهو صوت الغليان. واما ما جف بغير الشمس فلا غليان فيه فلا وجه لتحريمه حتى يحتاج الى التحليل بذهاب الثلثين ، على ان إطلاق العصير على ما في حبات العنب كما ترى. انتهى كلامه. وهو جيد.

واما ما أجاب به بعض مشايخنا المعاصرين ـ وهو الذي تقدمت الإشارة إليه في صدر المقام من ان الموضوع في الشمس لأجل ان يصير زبيبا قد يحصل فيه القلب أو النشيش اعني النقص فإذا ذهب منه الثلثان فقد حل ، وان الحكم في العنب انما تعلق بمائه وان لم يخرج من الحب ، والتعبير في الأخبار بالعصير انما هو جريا على الغالب لا تخصيصا للحكم والمراد ما من شأنه أن يؤخذ بالعصر ، ومن ثم لو طبخ حب العنب في ماء أو طبيخ حرم ذلك المطبوخ إجماعا. انتهى ـ فظني بعده لان دعوى حصول القلب

١٥٣

والغليان في ماء حب العنب إذا وقع في الشمس غير معلوم يقينا وأصالة الحل لا يخرج عنها إلا بيقين ، ويلزم على ما ذكره انه لو وضع العنب في الشمس يوما أو يومين أو ثلاثة مثلا بحيث انه لم يبلغ الى حد الزبيب فإنه يحرم لحصول الغليان ولم يذهب ثلثاه بعد ولا أظنه يلتزمه فإن أصالة الحلية لا يخرج عنها بمجرد ذلك. واما دعواه ان الحكم في العنب انما تعلق بمائه وان لم يخرج من الحب فإنه خروج عن ظواهر الأخبار وبناء على مجرد الاعتبار. واما قوله : «ومن ثم لو طبخ حب العنب. إلخ» ففيه ان ارتكاب المجاز في إطلاق العصير على ما يخرج بالطبخ لا يستلزم انسحابه الى ما في العنب قبل ان يخرج بالكلية ، فإن أراد ثبوت التحريم لحب العنب وان لم يخرج ماؤه بالطبخ منعنا هذه الدعوى. وبالجملة فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه الاعتبارات التخمينية لا يخلو من مجازفة.

وبمثل ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني صرح الشهيد في الدروس فقال ولا يحرم المعتصر من الزبيب ما لم يحصل فيه نشيش فيحل طبخ الزبيب على الأصح لذهاب ثلثيه بالشمس غالبا وخروجه عن مسمى العنب. وحرمه بعض مشايخنا المعاصرين وهو مذهب بعض فضلائنا المتقدمين لمفهوم رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) ثم ساق متن الرواية كما سيأتي. وأنت خبير بان ما ذكراه (قدس‌سرهما) من تعليل حلية ماء الزبيب بذهاب ثلثيه بالشمس لا يوافق القائلين بالحلية ولا القائلين بالحرمة ، فإن من قال بحل ماء الزبيب بعد الغلي وقبل ذهاب ثلثيه كما هو المشهور قال به مطلقا سواء ذهب ثلثاه بالشمس أم لم يذهب لأنه انما يتمسك بأصالة الحلية ويدعى ان ما ورد من التحريم بمجرد الغليان والحل بذهاب الثلثين مخصوص بالعنب والزبيب لا يصدق عليه العنب ، ومن قال بالتحريم انما استند الى مفهوم رواية علي بن جعفر الآتية وهي التي ذكرها في الدروس فهو قائل ايضا بتحريمه مطلقا سواء علم ذهاب ثلثيه في حبه بالشمس أم لا. فكلامهما (قدس‌سرهما) لا يوافق شيئا من المذهبين في البين.

١٥٤

واستدل أيضا في المسالك على الحلية بصحيحة أبي بصير (١) قال : «كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) تعجبه الزبيبة». قال : وهذا ظاهر في الحل لان طعام الزبيبة لا يذهب فيه ثلثا ماء الزبيب كما لا يخفى انتهى. واقتفاه في هذه المقالة المولى الأردبيلي في شرح الإرشاد فقال بعد نقل الرواية المذكورة مثل ما ذكره هنا. وقال بعض مشايخنا المعاصرين بعد الاستدلال بهذه الرواية أيضا : لأن الظاهر ان المراد الطعام الذي يطبخ معه الزبيب أو يطبخ معه ماء الزبيب وهو لا يستلزم ذهاب ثلثي ماء الزبيب غالبا كما هو واضح.

أقول : والاستدلال بهذه الرواية لا يخلو عندي من اشكال لعدم العلم بكيفية ذلك الطعام ، ومن المحتمل قريبا الحمل على الأشربة الزبيبية التي يأتي ذكرها في الاخبار ، ولكن استدلال شيخنا الشهيد الثاني بالخبر المذكور وقوله بعده ما ذكر وكذا المولى الأردبيلي ربما يؤذن بكونهما عالمين بكيفية ذلك على الوجه الذي ذكراه ولعله وصل إليهم ولم يصبل إلينا.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد استدل على القول بالتحريم كما عرفت برواية علي ابن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الزبيب هل يصلح ان يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث ثم يرفع ويشرب منه السنة؟ قال لا بأس به». وطعن في هذه الرواية جملة من المتأخرين ومتأخريهم بضعف السند (أولا) لاشتماله على سهل بن زياد. و (ثانيا) ان دلالتها بالمفهوم في كلام السائل وهو ضعيف ، ومع تسليم صحته فدلالة المفهوم انما تكون حجة ما لم يظهر للتعليق فائدة أخرى ومن الجائز بل الظاهر ان هذا العمل المخصوص انما هو لمن أراد بقاءه عنده ليشرب منه فتكون فائدة التقييد بذهاب الثلثين ليذهب مائيته فيصلح للمكث والبقاء

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من الأطعمة المباحة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٨ من الأشربة المحرمة.

١٥٥

ولا يصير مسكرا ، ويدل عليه قوله في عجز الرواية : «ويشرب منه السنة».

هذا ، وقد روى ثقة الإسلام في الكافي روايات ربما تدل بظاهرها على التحريم :

ومنها ـ موثقة عمار الساباطي (١) قال : «وصف لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من زبيب وتنقيه ثم تصب عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان أيام الصيف وخشيت ان ينش جعلته في تنور مسجور قليلا حتى لا ينش ثم تنزع الماء منه كله حتى إذا أصبحت صببت عليه من الماء بقدر ما يغمره ، الى ان قال ثم تغليه بالنار ولا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث. الحديث».

ومنها ـ موثقته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «سئل عن الزبيب كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان من الغد نزعت سلافته ثم تصب عليه من الماء قدر ما يغمره ثم تغليه بالنار غلية ثم تنزع ماءه فتصبه على الماء الأول ثم تطرحه في إناء واحد جميعا ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث وتحته النار ثم تأخذ رطلا من عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ ثم تضربه حتى يختلط به واطرح فيه ان شئت زعفرانا. الحديث».

ومنها ـ رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي (٣) قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) قراقر تصيبني في معدتي وقلة استمرائي الطعام ، فقال لي لم لا تتخذ نبيذا نشربه نحن وهو يمرئ الطعام ويذهب بالقراقر والرياح من البطن؟ قال فقلت له صفه لي جعلت فداك فقال تأخذ صاعا من زبيب ، الى ان قال ثم تطبخه طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، الى ان قال في آخر الخبر : وهو شراب لا يتغير إذا بقي ان شاء الله تعالى».

أقول : يمكن الجواب عن هذه الروايات بأنه لا يلزم من الأمر بطبخه على الثلث

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٥ من الأشربة المحرمة.

١٥٦

ان يكون ذلك لأجل حليته بعد ان حرم بالغليان بل يجوز ان يكون لئلا يصير مسكرا بمكثه كما يدل عليه قوله (عليه‌السلام) في آخر رواية إسماعيل بن الفضل : «وهو شراب لا يتغير إذا بقي ان شاء الله تعالى» ويجوز ان يكون الخاصية والنفع المترتب عليه لا يحصل إلا بطبخه على الوجه المذكور كما ورد مثله في رواية خليلان بن هشام (١) قال «كتبت الى ابي الحسن (عليه‌السلام) جعلت فداك عندنا شراب يسمى الميبة نعمد الى السفرجل فنقشره ونلقيه في الماء ثم نعمد الى العصير فنطبخه على الثلث ثم ندق ذلك السفرجل ونأخذ ماءه ثم نعمد الى ماء هذا الثلث وهذا السفرجل فنلقي عليه المسك والأفاوي والزعفران والعسل فنطبخه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه أيحل شربه؟ فكتب لا بأس به ما لم يتغير». فان الطبخ على الثلث هنا انما هو لما قلناه من حصول الخاصية وتوقف النفع على ذلك لا للتحليل ، فإنه ليس هنا شي‌ء قد حرم بمجرد الغليان حتى يحتاج في حليته الى ذهاب الثلثين ، ولعله لهذا الوجه اعرض متأخر وأصحابنا عن هذه الأخبار ولم يلتفتوا إليها وان كانت موهمة للتحريم في بادئ النظر كما أشار إليه الفاضل الخراساني في الذخيرة ، حيث قال : واعلم ان في الكافي في باب صفة الشراب الحلال بعض الأخبار الموهمة للتحريم لكن لا دلالة لها عليه عند التأمل الصحيح فارجع وتدبر. انتهى. لكن ربما يلوح التحريم من بعض ألفاظ هذه الأخبار مثل قوله : «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» وقوله (عليه‌السلام) أيضا : «فإذا كان أيام الصيف وخشيت ان ينش جعلته في تنور مسجور حتى لا ينش» فان النشيش هو صوت الغليان والظاهر من المحافظة عليه بان لا ينش ليس إلا لخوف تحريمه بالغليان ، وقوله في موثقته الثانية «حتى يشرب حلالا» إلا انه يمكن ان يقال ان قوله : «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» انما هو من كلام الراوي في سؤاله فلا حجة فيه ، وما ذكر من الاستناد الى قوله «حتى لا ينش» فان فيه انه بعد ذلك أمر بغليانه حتى يذهب ثلثاه فهو وان حرم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٩ من الأشربة المحرمة.

١٥٧

بالنشيش فلا مانع منه لتعقبه بالغليان الموجب للتحليل بعد ذلك. وحينئذ فلعل المحافظة عليه من النشيش انما هو لغرض آخر لا لأنه يحرم بعد ذلك ، فإنه وان حرم لا منافاة فيه لانه لم يجوز استعماله وشربه بعد ذلك وانما أمره بعد ذلك بغلي ذلك الماء الموجب لحرمته الى ان يذهب ثلثاه الموجب لحله ، وحينئذ فلا فرق في حصول التحريم فيه في وقت النشيش ولا في وقت الغليان أخيرا ، مع انه يمكن الطعن في هذين الخبرين ايضا من حيث الراوي وهو عمار لتفرده بروايات الغرائب ونقل الأحكام المخالفة لأصول الشريعة كما طعن عليه في الوافي في مواضع عديدة ، وكيف كان فالخروج بمثل هاتين الروايتين ـ على ما عرفت فيهما من المخالفة عن حكم الأصل وعموم الآيات والروايات الواردة بتفسيرها كما عرفت ـ مشكل.

ومما استند اليه شيخنا أبو الحسن فيما قدمناه من كلامه حديث الزيدين زيد النرسي وزيد الزراد عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصب عليه الماء؟ قال حرام حتى يذهب ثلثاه. قلت الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال هو كذلك سواء إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد فسد كلما غلى بنفسه أو بالنار فقد حرم إلا ان يذهب ثلثاه». وقد تقدم ما في هذه الرواية من الطعن في الراوي والأصل المروي منه هذا الخبر.

وكيف كان فالحكم في ماء الزبيب عندي لا يخلو من توقف والاحتياط في تجنبه مما لا ينبغي تركه ولا سيما ان ظاهر الكليني (قدس‌سره) ربما أشعر بالميل الى العمل بظاهر هذه الأخبار حيث انه عنون الباب بباب صفة الشراب الحلال وذكر الأخبار المذكورة ، وظاهر المفاتيح الميل الى التحريم هنا حيث قال على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه ما هذا لفظه : «نعم ان صب على الزبيب الماء وطبخ بحيث أدت الحلاوة إلى الماء فيمكن الحاقه بالعصير في التحريم بالغليان كما في الخبر» انتهى. والله العالم

__________________

(١) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٢ من الأشربة المحرمة.

١٥٨

(المقام الثالث) ـ في ماء الحصرم ، لا ريب في ان مقتضى الأصل والعمومات من الآيات والروايات المتقدمة هو حل ماء الحصرم وان طبخ ولم يذهب ثلثاه ، وروايات العصير قد عرفت في الفائدة الأولى اختصاصها بماء العنب خاصة والحصرم ليس بعنب اتفاقا والأحكام الشرعية تابعة للتسمية العرفية ، وأنت إذا أمعنت النظر في روايات العصير المطبوخ ـ والتعبير عنه في الأخبار تارة بالعصير مطلقا الذي قد عرفت انه محمول على عصير العنب وتارة بعصير العنب وتارة بالطلاء الذي قد عرفت آنفا انه ما طبخ من عصير العنب وتارة بالبختج وهو العصير المطبوخ كما عرفت ايضا وتارة أتى بشراب يزعم انه على الثلث وتارة إذا كان يخضب الإناء فاشربه المكنى به عن كونه دبسا وأمثال ذلك ـ وجدت ان الحصرم لا يدخل في شي‌ء من ذلك فان الحصرم لا يعمل كذلك والمتعارف طبخه قديما وحديثا انما هو عصير العنب لما فيه من الحلاوة التي يصير بها ذا قوام وغلظ ويشرب وتترتب عليه المنافع المطلوبة منه ، وماء الحصرم لا يطبخ على حدة وانما يطبخ في اللحم أحيانا كما يدل عليه بعض الاخبار ، وبالجملة فالأمر في ذلك أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان بعد شهادة عدول الوجدان في جميع الأزمان ، ومع فرض ان ماء الحصرم ربما يطبخ على حدة فإطلاق الاخبار لا يشمله فإن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتعارفة الجارية بين الناس دون الفروض النادرة كما يحمل أحدنا كلام من يخاطبه على ما هو المتعارف الجاري في العادة ، ولو تكلف حمله على غير المتعارف المعتاد لعنف بين العباد ، وكذا الخطاب الوارد عنهم (عليهم‌السلام) يجب حمله على ما هو المتعارف المتكرر المشهور.

وقد وقفت في هذا المقام على كلام لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن الحاج صالح البحراني (قدس‌سره) لا يخلو من نظر واشكال ، حيث قال في جواب سائل يسأله : ما القول في خل العنب إذا طبخ أو لم يطبخ وفي ماء الحصرم إذا على وفي الزبيب إذا طبخ مع الطعام؟ فكتب ما هذه صورته : أقول في هذه المسألة ثلاث مسائل ، اما

١٥٩

خل العنب فلا بأس به إذا لم يطبخ كالحصرم والزبيب اما مع الطبخ ففيها عندي قلقلة واني احتاط في الفتوى والعمل ، فالاحتياط في اجتناب ذلك للخبر الصحيح «اي عصير مسته النار فهو حرام ما لم يذهب ثلثاه» والعصير وان كان المشهور إطلاقه على عصير العنب فقط إلا ان إطلاقه في الاخبار على ما ذكرناه محتمل لورود تفسير العصير في الأخبار بأنه من الكرم والكرم يطلق على العنب وعلى شجرة ، فإن كان انما يطلق على الأول فلا كلام وان كان يطلق على الثاني فهذا منه ، فيكون الدليل متشابها فتشمل الشبهة كل ما اتخذ من الكرم من حصرم وزبيب ونحوهما مع الغليان ، وان كان ظاهر الأصل الإباحة وعدم التحريم إلا ان في هذا الأصل كلاما والاحتياط أولى ، الى ان قال : وبالجملة فالدليل على التحريم غير قاطع وكذا التحليل فالاجتناب اولى. انتهى كلامه

أقول : لا يخفى عليك ما فيه من الإجمال بل الاختلال الناشئ من الاستعجال وعدم إعطاء التأمل حقه في هذا المجال (أما أولا) فلأن الخبر الصحيح الذي استند اليه تبعا لشيخه الشيخ ابي الحسن المتقدم ذكره قد عرفت ما فيه.

(واما ثانيا) ـ فلان قوله ـ : «وان كان المشهور إطلاقه على عصير العنب فقط» مما يؤذن بكون مستند هذا الإطلاق انما هو مجرد الشهرة ـ مردود بما عرفت في الفائدة الاولى من دلالة الأخبار وكلام أهل اللغة على اختصاص العصير بماء العنب

(واما ثالثا) ـ فان ما ادعاه ـ بعد اعترافه بورود الأخبار بتفسير العصير بأنه من الكرم من ان الكرم يطلق على العنب وعلى شجره ـ مردود بأنه قد نص أهل اللغة على ان الكرم هو العنب ، قال في القاموس : والكرم العنب. وقال الفيومي في المصباح المنير : والكرم وزان فلس : العنب. ومثله في مجمع البحرين ، وفي النهاية الأثيرية قال : وفيه لا تسموا على العنب الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ، قيل سمى الكرم كرما لان الخمر المتخذة منه تحث السخاء والكرم فاشتقوا له منه اسما فكره ان تسمى باسم مأخوذ من الكرم وجعل المؤمن أولى به ، يقال رجل كرم اي كريم وصف بالمصدر كرجل عدل

١٦٠