الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تصل في بيت فيه خمر ولا مسكر لأن الملائكة لا تدخله ، ولا تصل في ثوب قد اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله».

وما رواه في الكافي عن زكريا بن آدم (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو تطعمه أهل الذمة أو الكلب واللحم اغسله وكله. قلت فإنه قطر فيه دم؟ قال الدم تأكله النار ان شاء الله تعالى. قلت فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه. قلت والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي‌ء من ذلك؟ فقال أكره أن آكله إذا قطر في شي‌ء من طعامي».

وعن عمار بن موسى الساباطي في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون فيه الخل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال إذا غسل فلا بأس. وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح ان يكون فيه ماء؟ قال إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. سئل يجزيه ان يصب فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». ورواه الشيخ في التهذيب مثله.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة عن عبد الله بن سنان (٤) قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب الخمر فيرده أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصلي فيه حتى يغسله». أقول : قد حمله الشيخ

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٥١ من النجاسات و ٣٠ من الأشربة المحرمة.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

١٠١

على الاستحباب : قال لأن الأصل في الأشياء الطهارة ولا يجب غسل شي‌ء من الثياب إلا بعد العلم بان فيها نجاسة ، وقد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر ثم أورد الخبر الآني :

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه».

وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ قبل تغسله سبع مرات».

وموثقة عمار ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر واغسله ان عرفت موضعه فان لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كله فان صليت فيه فأعد صلاتك».

وصحيحة الحلبي (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن دواء عجن بالخمر؟ فقال لا والله ما أحب ان انظر اليه فكيف أتداوى به انه بمنزلة شحم الخنزير

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٧٤ من أبواب النجاسات.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ و ٣٥ من الأشربة المحرمة.

(٣) لم نعثر في كتب الحديث على رواية لعمار بهذا اللفظ وانما الوارد فيها هكذا «لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» وقد رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من النجاسات. نعم ورد هذا المضمون في رواية غير زرارة التي يرويها علي بن مهزيار وفي رواية يونس المتقدمتين وسيأتي في التنبيه الأول التعرض لموثقة عمار بالنص المتقدم.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من الأشربة المحرمة.

١٠٢

أو لحم الخنزير». وفي بعض الروايات «انه بمنزلة الميتة».

وفي رواية أبي بصير (١) وهي طويلة عن الصادق (عليه‌السلام) في النبيذ وسؤال أم خالد العبدية عن التداوي به قال : «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء ، يقولها ثلاثا».

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ قال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر».

وعن عمر بن حنظلة (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره ، فقال لا والله ولا قطرة تقطر منه في حب إلا أهريق ذلك الحب».

وعن هارون بن حمزة الغنوي عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) «في رجل اشتكى عينيه فنعت له كحل يعجن بالخمر؟ فقال هو خبيث بمنزلة الميتة فإن كان مضطرا فليكتحل به».

ومنها ـ الأخبار الواردة في نزح البئر من صب الخمر فيه (٥) مع كثرتها وصحة أسانيد كثير منها.

هذا ما حضرني مما يدل على القول بالنجاسة كما هو القول المشهور والمؤيد المنصور

واما ما يدل على القول الآخر بعد الأصل فجملة من الاخبار ايضا : منها ـ ما رواه الحسن بن أبي سارة في الصحيح (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ان

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من الأشربة المحرمة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٥٤ من الأطعمة المحرمة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٨ من الأشربة المحرمة.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٢١ من الأشربة المحرمة.

(٥) رواها في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب الماء المطلق.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.

١٠٣

أصاب ثوبي شي‌ء من الخمر أصلي فيه قبل ان اغسله؟ قال لا بأس ان الثوب لا يسكر».

وما رواه عبد الله بن بكير في الموثق (١) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ فقال : لا بأس به».

وما رواه الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد في الصحيح عن علي بن رئاب (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي اغسله أو أصلي فيه؟ قال صل فيه إلا ان تقذره فتغسل منه موضع الأثر ان الله تبارك وتعالى انما حرم شربها».

ورواية الحسين بن موسى الحناط (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي؟ فقال لا بأس».

ورواية أبي بكر الحضرمي (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أصاب ثوبي نبيذ أصلي فيه؟ قال نعم. قلت له قطرة من نبيذ قطرت في حب ماء اشرب منه؟ قال نعم ان أصل النبيذ حلال وان أصل الخمر حرام». قال في الذخيرة : وجه الدلالة ان الظاهر عدم القائل بالفصل وحمل الشيخ النبيذ في هذه الرواية على النبيذ الحلال. وهو جيد

ورواية الحسن ابن أبي سارة (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) انا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمر ساقيهم فيصب على ثيابي الخمر؟ قال : لا بأس به إلا ان تشتهي أن تغسله لأثره».

ورواية حفص الأعور (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال نعم».

وروى ابن بابويه مرسلا (٧) قال : «سئل أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥ و ٧) رواه في الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب النجاسات.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ٥١ من النجاسات و ٣٠ من الأشربة المحرمة.

١٠٤

السلام) فقيل لهما انا نشتري ثيابا يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل ان نغسلها؟ فقال نعم لا بأس إنما حرم الله تعالى اكله وشربه ولم يحرم لبسه ومسه والصلاة فيه». ورواه الصدوق في علل الشرائع بطريق صحيح عن بكير عن الباقر (عليه‌السلام) وعن ابى الصباح وابى سعيد والحسن النبال عن الصادق (عليه‌السلام).

وروى الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) «انه سأله عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل ان يغسله؟ فقال لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس». ورواه في قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل مر في ماء المطر قد صب فيه الخمر. الحديث».

ورواية علي الواسطي (٣) قال : «دخلت الجويرية وكانت تحت عيسى بن موسى على ابى عبد الله (عليه‌السلام) وكانت صالحة فقالت إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي اتمشط بها الخمر واجعله في رأسي؟ قال لا بأس».

وفي الفقه الرضوي (٤) «لا بأس ان تصلي في ثوب اصابه خمر لأن الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كالسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة والمحقق الخوانساري وغيرهم قد اختاروا القول بالطهارة وأجابوا عن الإجماع بعدم ثبوته بعد تحقق الخلاف في المسألة من هؤلاء الأجلاء ، واما الآية فأجابوا عنها أيضا بأجوبة واسعة نقضا وإبراما ليس في التعرض لها مزيد فائدة. والحق هو الرجوع الى الاخبار في هذا المقام خاصة ، اما الإجماع فلما عرفت في مقدمات

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٧ من الأشربة المحرمة.

(٤) ص ٣٨.

١٠٥

الكتاب ، واما الآية فلا دلالة لها ظاهرا إلا بارتكاب تكلفات بعيدة كما يظهر من بحثهم جوابا وسؤالا.

وهؤلاء الأفاضل المشار إليهم بعد بحثهم في المسألة حملوا أخبار النجاسة على الاستحباب وجمعوا به بين الاخبار في هذا الباب كما هي قاعدتهم المستمرة في جميع الأبواب حسبما نبهنا عليه في غير مقام مما تقدم في الكتاب ، قال السيد السند في المدارك الذي هو الأصل في ذلك بعد ذكر القول بالنجاسة ونقل بعض اخباره ثم القول بالطهارة ونقل بعض اخباره : وأجاب الأولون عن هذه الاخبار بالحمل على التقية جمعا بينها وبين ما تضمن الأمر بغسل الثوب منه ، وهو مشكل لأن أكثر العامة قائلون بالنجاسة (١) نعم يمكن الجمع بينهما بحمل ما تضمن الأمر بالغسل على الاستحباب لان استعمال الأمر في الندب مجاز شائع. انتهى. ونحوه في الذخيرة بزيادة تأييد لذلك بوجوه لفقها ، ملخصها بعد الحمل على التقية وان حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة كما أشرنا إليه مرارا.

أقول : لا يخفى ان الكلام في الجمع بين هذه الاخبار دائر بين هذين الوجهين. وهؤلاء الأفاضل قد اختاروا الحمل على الاستحباب في الجمع بين هذه الاخبار ، وها أنا أبين ما فيه من البعد بل الفساد وعدم انطباق أخبار المسألة عليه ، وبه يتعين حمل أخبار الطهارة على التقية إذ لم يبق بعد بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب إلا رميها بالكلية متى عملنا باخبار الطهارة ، وفيه من البطلان ما هو غني عن البيان لكثرتها واستفاضتها وصحة جملة منها باصطلاحهم وعمل الطائفة قديما وحديثا عليها إلا هؤلاء الثلاثة

__________________

(١) كما في بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج ١ ص ٧٠ ، وذكر ابن قدامة في المغني ج ١ ص ٧٢ والشيرازي في المهذب ج ١ ص ٤٨ طهارة الخمر بالاستحالة إلى الخل ، وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ٧٦ «ينزح ماء البئر كله إذا وقع فيه من الأنجاس كالبول والدم والخمر».

١٠٦

المذكورين والثلاثة المتقدمين ، أو حمل أخبار الطهارة على التقية وبه يتم المطلوب.

فاما ما يدل على بطلان الحمل على الاستحباب فوجوه : (الأول) ـ انه وان اشتهر ذلك بينهم في جميع أبواب الفقه إلا انه لا مستند له من سنة ولا كتاب ، وقد استفاضت الاخبار عنهم (عليهم‌السلام) بوجوه الجمع بين الاخبار والترجيح في مقام اختلاف الاخبار ، ولو كان لهذا الحمل والجمع بين الأخبار أصل في الشريعة لما أهملوه (عليهم‌السلام) سيما انهم (رضوان الله عليهم) قد اتخذوه قاعدة كلية في مقام اختلاف الاخبار في جميع أبواب الفقه وأحكامه.

(الثاني) ـ ان الحمل على الاستحباب مجاز باعترافهم والمجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة الصارفة عن الحقيقة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز. واما قوله في الذخيرة : «ان حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة» ففيه انه ان كان ذلك مع وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي فلا بحث فيه وإلا فهو أول المسألة ومحل المنع.

(الثالث) ـ ان الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم فيتوقف الحكم به على دليل واضح وإلا كان قولا على الله تعالى من غير علم ، وقد استفاضت الآيات القرآنية والسنة النبوية بالنهي عنه ، واختلاف الأخبار ليس من الأدلة التي توجب الحكم بالاستحباب.

(الرابع) ـ ان صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران الخادم قد دلتا على وقوع هذا الاختلاف بين أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) في وقتهم وانهم رجعوا في ذلك الى امام ذلك العصر وسألوه عن الأخذ بأي القولين فأمرهم بالعمل باخبار النجاسة ولو كانت الأخبار الواردة عنهم (عليهم‌السلام) بالنجاسة انما هي بمعنى استحباب الإزالة وليس المراد منها النجاسة كما زعمه هؤلاء الأفاضل وانه طاهر والصلاة فيه صحيحة وان كان على كراهة ، لما خفي على أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) يومئذ حتى انهم يسألون

١٠٧

عن ذلك ، ولكان الامام (عليه‌السلام) يجيبهم بان هذه الأخبار لا منافاة بينها فإن الأمر بغسل الثوب منه انما هو على جهة الاستحباب وإلا فهو طاهر لا انه يقرهم على الاختلاف ويجيبهم بقوله «لا تصل فيه فإنه رجس». فيأمرهم بالأخذ باخبار النجاسة كما في خبر خيران وبقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) كما في صحيحة علي بن مهزيار. واما ما ذكره الفاضل الخوانساري ـ من انه يمكن ان يكون المراد بقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) قوله الذي مع ابي جعفر (عليه‌السلام) ويكون التعبير بهذه العبارة المشتبهة للتقية ـ فهو مما لا يروج إلا على الصبيان العادمي الافهام والأذهان.

(الخامس) ـ ان جملة من الروايات الدالة على النجاسة لا تلائم هذا الحمل مثل صحيحة علي بن مهزيار المتضمنة ان غير زرارة روى عن الصادق (عليه‌السلام) في نجاسة الخمر «انه يغسل الثوب كملا مع جهل موضعه ويعيد الصلاة لو صلى فيه». ومثلها مرسلة يونس المتقدمة نقلا من الكافي ، فإنه لم يعهد في الأخبار التشديد في الأمور المستحبة والمبالغة فيها الى هذا المقدار وانما وقع نظيره في الاخبار في النجاسات المقطوع بها لا الأشياء الطاهرة ، ومثل ذلك في رواية أبي جميلة البصري وحكايته عن يونس فإنه لو كان طاهرا كما يدعونه وان إزالته عن الثوب انما هو على طريق الأولوية والاستحباب لما خفي ذلك على يونس وهو من أجلاء أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) وسياق الخبر كما عرفت ظاهر بل صريح في ان يونس انما فهم من خبر هشام النجاسة وصار اعتقاده القول بالنجاسة ، فإن غمه بملاقاة الفقاع له وتوقفه عن المبادرة للصلاة في أول وقتها وسؤال الراوي له ان هذا رأي رأيته أو شي‌ء ترويه كلها ظاهرة الدلالة في حكمه بالنجاسة ، ومثل حديث العبدية وقوله (عليه‌السلام): «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء». كيف يحمل على الاستحباب؟ واي مجال لهذا الاستحباب الذي لا دليل عليه من سنة ولا كتاب؟ وكأن هذا القائل ظن انحصار دليل النجاسة فيما دل على غسل الثوب أو البدن كما هو ظاهر عبارة المدارك.

١٠٨

(السادس) ـ انه قد ورد عنهم (عليهم‌السلام) من القواعد انه إذا جاء خبر عن أولهم وخبر آخر عن آخرهم فإنه يجب الأخذ بالأخير (١) وهذه القاعدة قد صرح بها الصدوق في الفقيه في باب «الرجل يوصي الى الرجلين» حيث قال : ولو صح الخبران لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر الصادق (عليه‌السلام). ولا ريب ان صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد تضمنتا ذلك ، فالواجب بمقتضى هذه القاعدة الرجوع الى قول الإمام الأخير وهو الحكم بالنجاسة.

(السابع) ـ ترجح أخبار النجاسة بعمل الطائفة قديما وحديثا الموجب للظن المتاخم للعلم بكون ذلك هو مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) فان صاحب كل مذهب انما يعلم مذهبه بعد موته بمذهب مقلديه وشيعته الآخذين بأقواله والمقتفين لآثاره ولا سيما الشيعة المتهالكين على متابعة مذهب أئمتهم المانعين من الأخذ من غيرهم ، مضافا ذلك الى الاحتياط في الدين الذي هو أحد المرجحات الشرعية في مقام اختلاف الاخبار كما دلت عليه رواية زرارة الواردة في طرق الترجيح (٢).

والشيخ قد استند في حمل أخبار الطهارة على التقية إلى صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة حيث قال : وجه الاستدلال من هذا الخبر على ان تلك الأخبار ـ يعني أخبار الطهارة ـ وردت على جهة التقية انه (عليه‌السلام) أمر بالأخذ بقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) على الانفراد والعدول عن قوله مع قول ابي جعفر (عليه‌السلام) فلو لا ان قوله مع قول ابي جعفر (عليهما‌السلام) خرج مخرج التقية لكان الأخذ بقولهما معا اولى وأحرى. قال في المعالم : وهذا الكلام حسن لولا ما أشرنا إليه من نقل الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف الموافقة على القول بالنجاسة ، وكيف كان فلا ريب في ان

__________________

(١) وردت في ذلك روايات ثلاث رواها في الوسائل في الباب ٩ من صفات القاضي وما يقضي به وقد تقدمت في ج ١ ص ٩٦.

(٢) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ٩ من صفات القاضي وما يقضى به.

١٠٩

ما تضمنه هذا الخبر من الأخذ بقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) بعد ما تقرر في السؤال دلالة على ان الحكم في ذلك هو النجاسة وان الطهارة لا تعويل عليها ، وهذا القدر من الدلالة في الحديث الصحيح كاف في الاستدلال لاعتضاده بما تقدم من الاخبار وباتفاق أكثر علماء الإسلام مع ما في التنزه عنه من الاحتياط للدين كما ذكره المحقق (قدس‌سره) فإذا القول بالنجاسة هو المعتمد. انتهى ، أقول : ما ذكره ـ من استشكاله في حسن ما ذكره الشيخ بما نقله الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف ـ سيأتي الجواب عنه في المقام ان شاء الله تعالى

وبما ذكرناه من الوجوه الظاهرة البيان الغنية عن إقامة الحجة والبرهان كما لا يخفى على أهل الإنصاف من ذوي الأذهان يظهر بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب ويتعين العمل بها في هذا الباب فتبقى اخبار القول بالطهارة ويتعين حملها على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية.

بقي الكلام فيما ذكروه من ان أكثر العامة قائلون بالنجاسة ، وفيه ما ذكره بعض المحققين من أصحابنا المتأخرين من ان التقية لا تنحصر في القول بما يوافق علماءهم بل قد يدعو لها إصرار جهلائهم من أصحاب الشوكة على أمر وولوعهم به فلا يمكن إشاعة ما يتضمن تقبيحه والإزراء بهم على فعله ، وما نحن فيه من هذا القبيل فإن أكثر أمراء بني أمية وبني العباس ووزرائهم وأرباب الدولة كانوا مولعين بشرب الخمر ومزاولتها واستعمالها وعدم التحرز عن مباشرتها ، بل ربما نقل ان بعضهم يأم الناس وهو سكران فضلا عن ان يكون ثوبه متلوثا بالخمر (فان قيل) انهم (عليهم‌السلام) لو كانوا يتقون في ذلك لكان تقيتهم في الحكم بالحرمة أوجب وأهم مع ان المعلوم من أخبارهم انهم كانوا يبالغون في ذلك تمام المبالغة حتى ورد في أخبارهم (عليهم‌السلام) «ان مدمن الخمر كعابد الوثن» (١). ونحو ذلك من التهديد والتشديد في تحريمها ولم يرو عنهم ما يتضمن إباحتها (قلت) يمكن الجواب عن ذلك بأنه لما كان صريح القرآن تحريمها كان

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٦ ، ١٣ ، ١٢ من الأشربة المحرمة.

١١٠

التحريم من ضروريات الدين والحكم به لا مجال لإنكاره ولا فساد فيه. وربما أجيب عما ذكرنا بان حرمتها وان كان بصريح القرآن إلا ان التشديد الذي ورد عنهم (عليهم‌السلام) ليس في القرآن ولا من ضروريات الدين فكان ينبغي ان يتقوا فيه فترك التقية في ذلك والتقية في النجاسة بعيد جدا. وفيه انه متى كان صريح القرآن التحريم فالتشديد لازم له إذ من المعلوم عند كل عالم عاقل ان مخالف صريح القرآن راد لضروري الدين وكل من كان كذلك فهو في زمرة المرتدين فافترق الأمران ، وبالجملة فالتحريم لما كان صريح الكتاب العزيز الموجب لكونه من ضروريات الدين فهو معلوم لكافة المسلمين فلا تدخله التقية سواء أخبروا بمجرد التحريم أو شددوا لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (١) : «ثلاثة لا اتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج». بل لو أفتوا فيه بالتقية لربما نسبوهم الى الجهل ومخالفة الكتاب العزيز ، واما الحكم بالنجاسة فلما لم يكن بتلك المثابة حيث لم يدل عليه دليل من القرآن وانما استفيد من السنة فالتقية جائزة فيه وغير مستنكرة. وبما حققناه في المقام ورفعنا عنه نقاب الإبهام ظهر لك ان الحق في المسألة هو القول المشهور وان ما عداه ظاهر القصور. والله العالم.

تنبيهات

(الأول) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان حكم جميع الأنبذة المسكرة حكم الخمر في التنجيس ، قال في المعالم : ولا نعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب. والظاهر ان مراده من قال من الأصحاب بنجاسة الخمر وإلا فقد عرفت مذهب الصدوق وابن ابى عقيل والجعفي في قولهم بالطهارة.

واستدل في المعتبر على الحكم المذكور فقال : والأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر لان المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر ، اما انه خمر فلان الخمر انما سمي بذلك لكونه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من الأشربة المحرمة.

١١١

يخمر العقل ويستره فما ساواه في المسمى يساويه في الاسم ، ولما رواه علي بن يقطين عن ابى الحسن الماضي (عليه‌السلام) (١) قال : «ان الله سبحانه لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر». وروى عطاء بن يسار عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كل مسكر حرام وكل مسكر خمر». انتهى.

واعترضه جملة من محققي متأخري المتأخرين كالسيد في المدارك والشيخ حسن في المعالم والسبزواري في الذخيرة وغيرهم ممن حذا حذوهم بان هذا الاحتجاج منظور فيه ، قال في المعالم : لان الظاهر من كلام جماعة من أئمة اللغة ان الخمر حقيقة في المسكر من عصير العنب والعرف يساعده ، وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في معنى لم يدل استعماله بعد ذلك في غيره على كونه حقيقة في ذلك الغير ايضا ، وكون الأصل في الاستعمال الحقيقة انما هو مع عدم استلزام الاشتراك أو النقل لكونهما على خلاف الأصل ، فتعارض أصالة عدمهما أصالة الحقيقة وأحدهما لازم بعد ثبوت الحقيقة للفظ ، وحينئذ فمجرد إطلاق لفظ الخمر على مطلق المسكر لا يدل على كونه حقيقة فيه والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشي‌ء ، وإذا لم يثبت كون اللفظ حقيقة في الجميع لم يتجه الاستدلال على تعميم الحكم في الكل بما دل على نجاسة الخمر ، والاشتراك في التحريم لا دلالة فيه وانما هو وجه علاقة صح من اجله استعمال لفظ الخمر في غير ما وضع له على جهة المجاز. انتهى. وعلى هذا النهج كلام غيره ممن أشرنا اليه.

وعندي فيه نظر ، وتوجيهه انهم ان أرادوا بكونه حقيقة في عصير العنب يعني الحقيقة الشرعية ففيه ان الحقيقة الشرعية عبارة عن استعمال اللفظ في كلام الله تعالى أو رسوله مجردا عن قرينة المجاز ، وهذا اللفظ وان وقع في القرآن العزيز مجملا الا ان

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٩ من الأشربة المحرمة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٥ من الأشربة المحرمة.

١١٢

الأخبار قد فسرته بالمعنى الأعم وكذلك وقوعه في كلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما وقع بالمعنى الأعم كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى وحينئذ فيكون حقيقة شرعية في المعنى الأعم ، وان أرادوا به الحقيقة اللغوية كما يفهم من كلام المحقق المذكور ومن تبعه في ذلك ففيه (أولا) ـ انه لا يصار الى الحمل على الحقيقة اللغوية إلا مع تعذر الحمل على الحقيقة الشرعية والعرفية الخاصة كما قرروه في غير موضع. و (ثانيا) ـ ان كلام أهل اللغة أيضا ظاهر في المعنى الأعم كما سيظهر لك في المقام.

فاما ما يدل على كونه حقيقة شرعية في المعنى الأعم من كلام الله عزوجل فقوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... الآية» (١) روى الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير هذه الآية عن ابي الجارود عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ.) «أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره فقليله حرام. وذلك ان أبا بكر شرب قبل ان تحرم الخمر فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلي المشركين من أهل بدر فسمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال اللهم أمسك على لسانه فأمسك على لسانه فلم يتكلم حتى ذهب عنه السكر فانزل الله تحريمها بعد ذلك ، وانما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر والنمر فلما انزل الله تعالى تحريمها خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقعد في المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها كلها وقال هذه كلها خمر وقد حرمها الله تعالى ، وكان أكثر شي‌ء اكفى‌ء في ذلك اليوم من الأشربة الفضيخ ولا اعلم انه اكفى‌ء يومئذ من خمر العنب شي‌ء إلا إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ، واما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شي‌ء ، وحرم الله تعالى الخمر قليلها وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع بها. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ صريح في المراد عار عن وصمة الشبهة والإيراد. ونقل في مجمع البيان عن ابن عباس في تفسير

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٩٠.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١ من الأشربة المحرمة.

١١٣

هذه الآية قال : «يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الخمر من تسع : من البتع وهو العسل ومن العنب ومن الزبيب ومن التمر ومن الحنطة ومن الذرة ومن الشعير والسلت».

واما ما يدل على ذلك من كلامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فمنه ـ ما تقدم في رواية عطاء بن يسار المنقولة في كلام المحقق ، وما نقله في مجمع البيان عن ابن عباس عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الخمر من خمسة : العصير من الكرم والنقيع من الزبيب والبتع من العسل والمرز من الشعير والنبيذ من التمر». ورواية علي بن إسحاق الهاشمي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الخمر من خمسة. الحديث المتقدم». وما رواه الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الطوسي في الأمالي بسنده فيه عن النعمان بن بشير (٣) قال : «سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول ايها الناس ان من العنب خمرا وان من الزبيب خمرا وان من التمر خمرا وان من الشعير خمرا الا أيها الناس انها كم عن كل مسكر». وروى الكليني في الصحيح الى الحسن الحضرمي عن من أخبره عن علي بن الحسين (عليه‌السلام) (٤) قال : «الخمر من خمسة أشياء : من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل». وروى العياشي في تفسيره عن عامر بن السمط عن علي بن الحسين (عليه‌السلام) (٥) قال : «الخمر من ستة أشياء.». ثم ذكر الخمسة المذكورة في حديث الحضرمي وزاد الذرة ، فقد ظهر لك بما نقلناه من الأخبار تطابق كلام الله تعالى ورسوله على ان الخمر أعم مما ذكروه من التخصيص بالمتخذ من العنب فيكون حقيقة شرعية في ذلك بلا اشكال ويجب الحمل على ذلك حيثما أطلق هذا اللفظ إلا مع القرينة الصارفة عنه كما هو المقرر بينهم في الحقائق الشرعية وغيرها.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ١ من الأشربة المحرمة.

١١٤

واما كلام أهل اللغة في هذا المقام فالذي يستفاد منه تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى ان الخمر حقيقة فيما قلناه دون عصير العنب كما زعموه ، قال في القاموس : الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام كالخمرة وقد يذكر ، والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب وما كان شرابهم إلا البسر والتمر ، سميت الخمر خمرا لأنها تخمر العقل وتستره أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت أو لأنها تخامر العقل اي تخالطه. الى آخر كلامه. وفي الصحاح سميت الخمر خمرا لأنها تركت واختمرت واختمارها تغير رائحتها ، ويقال وجدت خمرة الطيب أي رائحته. وفي كتاب الغريبين للهروي قوله تعالى : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» الخمر ما خامر العقل اي خالطه وخمر العقل ستره وهو المسكر من الشراب. وفي المصباح المنير للفيومي الخمر معروفة ، الى ان قال ويقال هي اسم لكل مسكر خامر العقل اي غطاه. وفي مجمع البحرين بعد ذكر قوله سبحانه «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ» الخمر معروف وعن ابن الأعرابي انما سمى الخمر خمرا لأنها تركت واختمرت واختمارها تغير رائحتها ، الى ان قال والخمر فيما اشتهر بينهم كل شراب مسكر ولا يختص بعصير العنب ، ثم نقل كلام القاموس وقال بعده ويشهد له ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) وساق صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة.

وبذلك يظهر لك تطابق الأخبار المتقدمة وكلام أهل اللغة على ما اخترناه في المقام ويظهر ضعف ما ذكره أولئك الاعلام ، وبذلك يظهر ما في كلام المحقق صاحب المعالم من قوله : والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشي‌ء. ونحوه قوله في المدارك والذخيرة ان اللغات لا تثبت بالاستدلال ، فان فيه ان كلام أئمة اللغة كما سمعت كله متطابق على تعليل التسمية الموجب لدوران حكم التحريم ونحوه مدار صدق الاسم وقد وقع نحوه في الاخبار ايضا كما رواه في الكافي عن علي بن أبي حمزة عن إبراهيم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ان الله تعالى لما اهبط آدم امره بالحرث والزرع

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من الأشربة المحرمة.

١١٥

وطرح عليه غرسا من غرس الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها ، فقال إبليس ائذن لي ان آكل منه شيئا فأبى أن يطعمه فجاء عند آخر عمر آدم ، وساق الحديث الى ان قال : ثم ان إبليس بعد وفاة آدم ذهب فبال في أصل الكرم والنخلة فجرى الماء في عودهما ببول عدو الله تعالى فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى على ذرية آدم كل مسكر لان الماء جرى ببول عدو الله في النخلة والعنب وصار كل مختمر خمرا لان الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله تعالى». فانظر الى قوله (عليه‌السلام) : «وصار كل مختمر خمرا» من دلالته على دوران التسمية مدار حصول الاختمار كما هو الظاهر من كلام أهل اللغة أيضا وهو الذي أراده المحقق في المعتبر ولكن أولئك الفضلاء لم يعطوا التأمل حقه لا في الاخبار ولا في كلام أهل اللغة فوقعوا فيما وقعوا فيه.

(فان قيل) ان جملة من الاخبار ظاهرة في إطلاق الخمر على المعنى الأخص لعطف المسكر أو النبيذ عليه ونحو ذلك من العبارات الظاهرة بل الصريحة في الاختصاص وعدم صحة الحمل على المعنى الأعم ، وربما أشعر بكونه حقيقة في هذا الفرد في عرفهم (عليهم‌السلام) فيكون حقيقة عرفية خاصة. مثل قوله (عليه‌السلام) في صحيحة علي ابن مهزيار (١) «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر.». وقوله (عليه‌السلام) في رواية عمار (٢) : «لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله». وقوله (عليه‌السلام) في رواية يونس (٣) : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله». ونحو ذلك ، وعلى هذه الروايات اعتمد في المعالم في الحكم بنجاسة كل مسكر بعد اعتراضه على كلام المحقق (قدس‌سره) بما قدمنا نقله.

(قلت) : الذي يظهر لي من تتبع الاخبار في هذا المقام ان الخمر قبل نزول التحريم انما كان يطلق عرفا على عصير العنب وإطلاقه على المعنى الأعم انما وقع في كلام

__________________

(١) ص ٩٩.

(٢) راجع التعليقة ٣ ص ١٠٢.

(٣) ص ١٠٠.

١١٦

الله تعالى وكلام رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باعتبار الأحكام التي رتبوها عليه من حرمة أو نجاسة كما عرفت من الأحاديث المتقدمة فهي حقيقة شرعية في المعنى الأعم وان كانت عرفا انما تطلق على العصير العنبي ، وهم (عليهم‌السلام) ربما اطلقوها على المعنى الشرعي كما تقدم في الحديثين المنقولين عن علي بن الحسين (عليه‌السلام) وربما اطلقوها على المعنى العرفي الدائر بين الناس كما في الاخبار المذكورة.

هذا ، والظاهر اتفاق كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) على تخصيص الحكم بالنجاسة في المسكر بما كان مائعا بالأصالة وان عرض له الجمود دون الجامد بالأصالة كالحشيشة وان عرض له الميعان ، والظاهر ان المستند في ذلك هو ان المتبادر من لفظة المسكر والنبيذ ونحوهما في الأخبار انما هو الأشربة المتخذة من تلك الأشياء المعدودة في الأخبار المتقدمة فيبقى ما عداها على حكم الأصل ، واما ثبوت النجاسة لها بعد الجمود فهو من حيث توقف الطهارة بعد ثبوت النجاسة على الدليل ولم يثبت كون الجمود مطهرا فيبقى على حكم الأصل. والله العالم.

(الثاني) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممن قال بنجاسة الخمر في ان حكم الفقاع حكمه ، ونقل العلامة في النهاية والمنتهى إجماع علمائنا على ذلك ، وذكر المحقق في المعتبر عن الشيخ انه قال وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر يعني في التنجيس وهذا انفراد الطائفة. ثم قال المحقق : ويمكن ان يقال الفقاع خمر فيلحقه أحكامه اما انه خمر فلما ذكره على الهدى (رضي‌الله‌عنه) قال : قال احمد حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي عن ضمرة قال الغبيراء التي نهى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عنها هي الفقاع قال وعن ابي هاشم الواسطي الفقاع نبيذ الشعير فإذا نش فهو خمر ، قال وعن زيد بن أسلم الغبيراء التي نهى النبي عنها هي الاسكركة (١) وعن ابى موسى انه قال الاسكركة خمر الحبشة ، ومن طريق الأصحاب ما رواه سليمان بن جعفر (٢) قال : «قلت للرضا

__________________

(١) في كتب اللغة (سكركة).

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من الأشربة المحرمة.

١١٧

(عليه‌السلام) ما تقول في شرب الفقاع؟ فقال هو خمر مجهول.». وعن الوشاء (١) قال : «كتبت إليه ـ يعني الرضا (عليه‌السلام) ـ اسأله عن الفقاع؟ فقال حرام وهو خمر». وعنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «هي خمرة استصغرها الناس». وقال ابن الجنيد وتحريمه من جهة نشيشه ومن ضراوة إنائه إذا كرر فيه العمل. (لا يقال) الخمر من الستر وهو ستر العقل ولا ستر في الفقاع (لأنا نقول) التسمية ثابتة شرعا والتجوز على خلاف الأصل فيكون حقيقة في المشترك وهو مائع حرم لنشيشه وغليانه ، وإذا ثبت ان الفقاع خمر وقد بينا حكم الخمر فاطلب حكم الفقاع هناك. انتهى كلامه. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : ويرد على احتجاجه بأخبارنا لإدخاله في حقيقة الخمر نحو ما ذكرناه في احتجاجه السابق لإدخال المسكرات. واما ما حكاه عن المرتضى فغير كاف في إثبات مثله ، فالعمدة إذا على الإجماع المدعي ، ويؤيده ما رواه الكليني (قدس‌سره) عن محمد بن يحيى ثم أورد رواية أبي جميلة البصري المتقدمة.

أقول : ما أورده عليه هنا في الاحتجاج بأخبارنا لإدخال الفقاع في حقيقة الخمر بما ذكره سابقا قد بينا ضعفه وان هذا الإطلاق حقيقة شرعية ، ومن الأخبار الدالة على ما دلت عليه هاتان الروايتان المذكورتان في كلام المحقق (قدس‌سره) قول ابي الحسن (عليه‌السلام) في جواب مكاتبة ابن فضال (٣) «هو الخمر وفيه حد شارب الخمر». وقول الصادق (عليه‌السلام) (٤) في موثقة عمار : «هو خمر». وقوله (عليه‌السلام) في رواية الحسين القلانسي (٥) «لا تقربه فإنه من الخمر». وفي رواية محمد بن سنان (٦) «هو الخمر بعينها». وفي رواية زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) «لو ان لي سلطانا على أسواق المسلمين لرفعت عنهم هذه الخمرة». وفي بعضها (٨) «هو خمر مجهول وفيه حد شارب الخمر». ومن أجل هذه الاخبار رجع صاحب الذخيرة في هذا المقام

__________________

(١ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من الأشربة المحرمة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من الأشربة المحرمة.

١١٨

عما ذكره سابقا مما قدمنا نقله عنه ، حيث قال بعد إيراد جملة من هذه الأخبار : لا يخفى انه وان أمكن إيراد النظر السابق هنا لكن الإنصاف ان من هذه الاخبار يستفاد انه مثل الخمر في جميع الأحكام ويؤيده رواية أبي جميلة البصري ، ثم ساق الرواية كما قدمناه. واما صاحب المدارك فإنه قال : والحكم بنجاسته مشهور بين الأصحاب وبه رواية ضعيفة السند جدا نعم ان ثبت إطلاق الخمر عليه حقيقة كما ادعاه المصنف في المعتبر كان حكمه حكم الخمر ، وقد تقدم الكلام فيه. انتهى. وقوله : «وقد تقدم الكلام فيه» إشارة إلى مناقشته التي أشرنا إليها آنفا في عموم إطلاق الخمر ، فظاهره هنا التوقف أو عدم القول بالنجاسة لعدم صدق الإطلاق عنده وحكمه بضعف الخبر الدال على النجاسة ، والعجب منه (قدس‌سره) حيث لم يقف على ضابطة ولم يرجع الى رابطة فإن الخبر الذي طعن عليه بالضعف وان كان كذلك لكن اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور جابر لضعفه إذ لا مخالف في المسألة ، ولهذا ان المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا نقله عنه انما اعتمد على الإجماع وأيده بالرواية ، وهو (قدس‌سره) في غير موضع من كتابه قد جرى على هذه الطريقة وقد ذكر في مسألة الدم الأقل من حمصة بعد ان نقل الروايات الدالة على نجاسته وطعن فيها بضعف السند مع كونها مطابقة لمقتضى الأصل كما ذكره : «إلا انه لا خروج عما عليه معظم الأصحاب» انتهى. وعلى هذا فقس.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المفهوم من كلام الأصحاب ان الحكم بالتحريم والنجاسة تابع للاسم فحيث ما صدق الاسم تعلقت به الأحكام ، قال في المسالك بعد ذكر المصنف الفقاع : «الأصل فيه ان يتخذ من ماء الشعير كما ذكره المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في الانتصار لكن لما كان النهي عنه معلقا على التسمية ثبت له ذلك سواء عمل منه أم من غيره ، فما يوجد في أسواق أهل الخلاف مما يسمى فقاعا يحكم بتحريمه تبعا للاسم إلا ان يعلم انتفاؤه قطعا» ونحوه كلام سبطه في المدارك حيث قال بعد نقل كلام المرتضى في

١١٩

الانتصار : وينبغي ان يكون المرجع فيه الى العرف لانه المحكم فيما لم يثبت فيه وضع شرعي ولا لغوي.

أقول : المفهوم من الاخبار ان الفقاع على قسمين : منه ما هو حلال طاهر وهو ما لم يحصل فيه الغليان والنشيش أيام نبذه ، ومنه ما هو حرام نجس وهو ما يحصل فيه الغليان ، والى ذلك أشار ابن الجنيد فيما نقله عنه في المعتبر فيما قدمناه من عبارته ، وجملة من الأصحاب قد عدوا كلام ابن الجنيد خلافا في المسألة حيث ان ظاهرهم القول بالتحريم مطلقا ، والحق في المسألة هو مذهب ابن الجنيد وعليه تدل صحيحة ابن ابي عمير عن مرازم (١) قال : «كان يعمل لأبي الحسن (عليه‌السلام) الفقاع في منزله ، قال ابن ابي عمير ولم يعمل فقاع يغلى». ورواية عثمان بن عيسى (٢) قال : «كتب عبد الله بن محمد الرازي الى ابي جعفر (عليه‌السلام) ان رأيت ان تفسر لي الفقاع فإنه قد اشتبه علينا أمكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليه‌السلام) لا تقرب الفقاع إلا ما لم تضر آنيته أو كان جديدا. فأعاد الكتاب اليه اني كتبت اسأل عن الفقاع ما لم يغل فأتاني ان اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار ولم اعرف حد الضراوة والجديد وسأل أن يفسر ذلك له وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأواني؟ فكتب يجعل الفقاع في الزجاج وفي الفخار الجديد الى قدر ثلاث عملات ثم لا يعد منه بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد والخشب مثل ذلك». والمستفاد منها ان الفقاع الذي يتعلق به التحريم وخرجت الاخبار بالمنع عنه وانه خمر هو الذي يغلى وغليانه عبارة عن هيجانه واغتلامه وان من الفقاع ما لا يكون كذلك وهو حلال ، وحينئذ فإطلاق أصحابنا القول بالتحريم وجعلهم التحريم دائرا مدار صدق اسم الفقاع ليس في محله.

ثم ان ظاهرهم ـ كما تقدم في عبارة المحقق ـ انه لا يشترط فيه بلوغ حد الإسكار وظاهر الاخبار ايضا ان المدار في الفرق بين الحلال والحرام من قسميه انما هو الغليان

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٩ من الأشربة المحرمة.

١٢٠