الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

محمد بن حمران أشهر في العدالة والعلم من عبد الله بن عاصم والأعدل مقدم. (الثاني) ـ انها أخف وأيسر واليسر مراد الله تعالى (الثالث) ـ مع العمل بروايتنا يمكن العمل بروايته أيضا بأن ننزلها على الاستحباب ومع العمل بروايته لا يمكن العمل بروايتنا. قال السيد في المدارك بعد نقل ذلك عنه : قلت ويؤيده أيضا مطابقته لمقتضى الأصل والعمومات الدالة على تحريم قطع الصلاة ، وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم قال : «قلت في رجل لم يصب الماء. الرواية كما قدمناه». ثم قال : فان التعليل يقتضي وجوب المضي في الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام. انتهى. أقول : ظاهر كلام السيد السند (قدس‌سره) الموافقة للمحقق فيما ذكره من الوجوه المذكورة المرجحة لرواية محمد بن حمران حيث قد زاده تأييدا بالوجوه التي ذكرها.

والجميع منظور فيه من وجوه : (الأول) ـ ما ادعاه في المعتبر من الأشهرية في العلم والعدالة لمحمد بن حمران المؤذن من حيث صيغة التفضيل بعدالة عبد الله بن عاصم ولو في الجملة مع انا لا نعرف لذلك وجها في واحد منهما ، اما محمد بن حمران فهو في كتب الرجال مشترك بين النهدي وهو الثقة وغيره ولا قرينة هنا تعين كونه النهدي الثقة ولم يدع هو ايضا انه النهدي دون غيره ، وهذا مما يوجب ضعف الحديث عند أصحاب هذا الفن بغير خلاف ، واما عبد الله بن عاصم فهو غير مذكور في كتب الرجال بالكلية. والجواب ـ بأنه لعل المحقق استفاد توثيقهما من محل آخر وان لم يتعرض له علماء الرجال حتى انه ربما توهم بعض الحكم بوثاقة عبد الله بن عاصم من هذا الكلام ـ مجازفة لا ينبغي الالتفات إليها فإن المعتمد في ذلك انما هو على علماء هذا الفن المتصدين لتحقيقه.

(الثاني) ـ ان ما رواه عبد الله بن عاصم فقد رواه زرارة في الصحيح ولا ريب في أرجحية زرارة في العدالة والوثاقة وشهرته بذلك على محمد بن حمران لو ثبت أنه النهدي الثقة فبطل هذا الوجه من أصله. وهذا الوجه الثاني وان أمكن عدم وروده

٣٨١

على المحقق حيث انه لم يورد صحيحة زرارة في هذا المقام ولعله لعدم الاطلاع عليها حينئذ لكن يرد على السيد الذي قد أوردها في شرحه دليلا للقول المذكور ومع هذا جمد على كلام المحقق هنا.

(الثالث) ـ ان الأخفية والايسرية ليست من الأدلة الشرعية التي تصلح لتأسيس الأحكام سيما في مقابلة النصوص الواردة عنهم (عليهم‌السلام) وانما هي وجوه تصلح للتأييد أو بيان وجه الحكمة بعد ورود النص بما اقتضته وإلا لانتقض ذلك بكثير من الأحكام المشتملة على الأحكام الشاقة كصوم الهجير والحج في الأوقات الشديدة والجهاد ونحو ذلك ، وبالجملة فالأمر فيما ذكرناه أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان فبطل هذا الوجه ايضا من أصله.

(الرابع) ـ ان دعواه انه لا يكون لرواية محمد بن حمران محمل تحمل عليه لو عملنا على رواية عبد الله بن عاصم مدفوع بإمكان الجمع بين الأخبار بحمل مطلقها على مقيدها ، فإن رواية محمد بن حمران مطلقة في المضي وصحيحة زرارة ورواية عبد الله بن عاصم قد خصتا المضي بالركوع فيرجع قبله ، وبهذا يحصل الجمع بين الاخبار وهو أحد قواعدهم التي يجمعون بها بين الأخبار ، على ان التحقيق عندي ان ظاهر خبر محمد بن حمران ـ كما صرح به في آخره ـ هو ان التيمم انما وقع في آخر الوقت وهذه الرواية احدى روايات القول بالتضييق كما هو أحد الأقوال في المسألة كما أوضحناه سابقا ، ولا ريب انه على هذا القول يجب المضي في الصلاة وعدم قطعها لان المفروض على هذا التقدير انه لم يبق من الوقت إلا بقدر الصلاة فلو قطعها وتوضأ أو اغتسل ثم صلى لزم وقوعها أو وقوع جزء منها خارج الوقت ، وحينئذ ففي الخبر المذكور تأييد لما قدمناه في صدر المسألة من الكلام على كلام السيد المشار اليه فيما تقدم.

(الخامس) ـ ان ما ذكره السيد في وجوه تأييده من التأييد بمطابقة الأصل فإن فيه انه يجب الخروج عنه بالدليل متى قام على خلافه كما صرح به هو وغيره وهو هنا موجود

٣٨٢

كما عرفت ، والرواية الدالة عليه صحيحة باصطلاحه صريحة الدلالة لا مجال للقدح في متنها ولا سندها.

(السادس) ـ ان ما ذكره من العمومات الدالة على تحريم قطع الصلاة لم نقف عليها في خبر من الأخبار ولا نقلها ناقل ، وهو من جملة من صرح بذلك في كتاب الصلاة فقال انه لم يقف على رواية تدل بمنطوقها على ذلك ، ثم قال ـ بعد ان نقل عن جده (قدس‌سره) تقسيم قطع الصلاة الى الأقسام الخمسة ـ ما صورته : «ويمكن المناقشة في جواز القطع في بعض هذه الصور لانتفاء الدليل عليه إلا انه يمكن المصير اليه لما أشرنا إليه من انتفاء دليل التحريم» انتهى وحينئذ فكيف يستند هنا إلى الأدلة الدالة على تحريم قطع الصلاة مع تصريحه بعدمها؟ ثم العجب كل العجب انهم يستدلون هنا بتحريم قطع الصلاة وظاهرهم ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة ـ الإجماع على تحريم قطعها ومع هذا يحملون صحيحة زرارة ونحوها على الاستحباب وهذا من أوضح المناقضات عند ذوي الألباب.

(السابع) ـ قوله : «فان التعليل يقتضي وجوب المضي في الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام» فإن فيه ان صحيحة زرارة أيضا قد اشتملت على مثل هذا التعليل وهو قوله في آخرها : «فان التيمم أحد الطهورين» مع انه (عليه‌السلام) صرح في صدرها بأنه يرجع ما لم يركع ، ومنه يعلم ان التعليل في حد ذاته وان كان ظاهره العموم إلا انه انما وقع تعليلا للنهي بعد الركوع كما في صحيحة زرارة أو بعد الركعتين كما في الصحيحة التي ذكرها فهو مخصوص بما وقع تعليلا له وان كان ظاهره في حد ذاته العموم فإن رواية زرارة الأخيرة ورواية الصيقل قد دلتا على الرجوع بعد صلاة ركعة ، وبذلك يتبين لك قوة القول الأول وان كلماتهم هنا وتعليلاتهم لا تخلو من مجازفة وضعف.

والعجب من السيد المشار اليه ـ كما لا يخفى على من مارس كتابه وعرف طريقته فيه ـ انه مع زيادة مبالغته في التمسك بهذا الاصطلاح المحدث لا يعمل إلا بالخبر الصحيح ويرد في مقابله الأخبار الموثقة بل الحسنة فضلا عن الضعيفة ويخالف الأصحاب في كثير

٣٨٣

مما ظاهرهم الاتفاق عليه تمسكا بهذا الاصطلاح وانه لا يجمع بين الأخبار إلا مع التكافؤ في صحة السند وإلا فتراه يطرح المرجوح ، فكيف خرج عن مقتضى قواعده في هذا المقام بعد نقله لصحيحة زرارة المذكورة وجمد على كلام صاحب المعتبر الذي يفهم من ظاهره انه لم يقف على الصحيحة المشار إليها؟ وإلا فالظاهر انه لو وقف عليها لم يتفوه بشي‌ء من هذه الوجوه الضئيلة والتعليلات العليلة. والله العالم.

تنبيهات

(الأول) ـ قد عرفت انه يجب إتمام الصلاة بعد وجود الماء في أثنائها إما لكونه قد تجاوز محل القطع أو قلنا بالاكتفاء بمجرد الدخول فيها وان تيممه ذلك لا ينتقض في الحال المذكورة ، وانما الكلام في انتقاضه بالنسبة الى غير هذه الصلاة ، فالمنقول عن الشيخ في المبسوط انه ينتقض تيممه بالنسبة إلى غيرها ، وقواه العلامة في المنتهى والتذكرة لأنه متمكن عقلا من استعمال الماء ، قال : والمنع الشرعي لا يرفع القدرة لأنها صفة حقيقية والحكم معلق عليها. وثانيهما منقول عن المحقق حيث قال في المعتبر بعد نقله عن الشيخ انه ينتقض تيممه بالنسبة إلى الصلاة المستأنفة : «ولو قيل لا يبطل تيممه لكان قويا لان وجدان الماء لا يبطل التيمم ما لم يتمكن من استعماله والاستعمال هنا ممنوع منه شرعا ضرورة وجوب المضي في صلاته لأنا نتكلم على هذا التقدير فلا يكون الاستعمال ممكنا فلا ينتقض التيمم». انتهى.

وأنت خبير بان حاصل تعليل القائل بالانتقاض هو صدق التمكن من استعمال الماء عقلا ومنع الشرع من الابطال لا يخرجه عن التمكن فإنه صفة حقيقية لا يتغير بالأمر الشرعي أو النهي ، وعدم فساده بالنسبة إلى الصلاة التي كان فيها للإذن في إتمامها حذرا من إبطال العمل اما غيرها فلا مانع من بطلانه بالنسبة اليه. وضعفه ظاهر فإن الاذن في إتمامها انما هو من حيث صحة التيمم وعدم انتقاضه وبقاء الإباحة به ولا يجوز

٣٨٤

اجتماع الفساد والصحة في طهارة واحدة ، والمنع الشرعي كاف في عدم النقض كالمرض فهو بمنزلة المنع الحسي بل أقوى ، ولان التيمم لم ينتقض بوجود الماء فبعد فقده اولى كذا افاده شيخنا الشهيد الثاني في الروض. وهو جيد متين ، ومنه يظهر ان ظاهره اختيار القول المذكور ، ومثله سبطه في المدارك ، وهو المشهور بين المتأخرين وعليه العلامة في باقي كتبه ، وهو الأظهر لما سيأتي من ان الانتقاض بوجود الماء انما يتحقق فيما إذا تمكن من استعمال الماء بمعنى ان لا يمنع منه مانع حسي ولا شرعي ، وبالجملة فإن إيجاب الشارع إتمام الصلاة والحال ان الماء موجود دليل ظاهر على صحة التيمم وإلا لأوجب إعادتها وبعد الفراغ منها لم يكن ثمة ماء كما هو المفروض فأي موجب هنا للنقض؟ وقد تقدم ان موجب النقض اما الحدث أو التمكن من استعمال الماء وشي‌ء منهما بعد الفراغ من الصلاة غير موجود.

(الثاني) ـ قيل انه يتفرع على مذهب الشيخ في المبسوط ـ من انتقاض التيمم بالنسبة الى ما عدا هذه الصلاة ـ انه لا يجوز العدول عن هذه الصلاة الى فائتة سابقة لانتقاض التيمم بالنسبة الى كل صلاة غير هذه. ورد بان العدول ان كان واجبا فالمعدول اليه بدل مما هو فيها بجعل الشارع فلا موجب للبطلان ، وان كان مستحبا كما في الحاضرة المعدول عنها إلى الفائتة على القول بعدم الترتيب بين الفوائت والحواضر فهو ايضا انتقال من واجب الى واجب غايته ان الانتقال غير واجب متعين ، وبالجملة ان قول الشيخ انما هو بالنسبة إلى الصلوات المستقبلة المحكوم عليها بالصحة من نوع تلك الصلاة التي شرع فيها لا شخصها بعينه.

(الثالث) ـ إطلاق الصلاة في الأخبار المتقدمة يقتضي شمول الحكم المتقدم للنافلة فلو وجد الماء بعد دخوله فيها جرى فيه الخلاف المتقدم فيها ولم ينتقض تيممه بوجود الماء ، وبه جزم الشهيدان في البيان والمسالك ، قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهما : ويحتمل قويا انتقاض تيممه بوجود الماء لجواز قطع النافلة اختيارا فينتفي المانع من استعماله عقلا

٣٨٥

وشرعا. والمسألة عندي محل توقف.

(الرابع) ـ لو وجد الماء في أثناء صلاة يجب قضاؤها بعد وجود الماء كالصلوات المذكورة في المسألة الثانية عند من قال بذلك فالظاهر انتقاض التيمم وانقطاع الصلاة وبه صرح الشهيد في الدروس ، لانه يجب عليه العادة عند وجود الماء عند القائل المذكور وان كان قد فرغ منها فمع وجوده في أثنائها اولى. قيل ويحتمل المنع نظرا الى عموم المنع عن إبطال العمل. وهو ضعيف (أما أولا) ـ فلانا لم نقف على هذا الدليل الذي يكررونه في كلامهم من عموم النهي عن إبطال العمل كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محل أليق. و (اما ثانيا) ـ فلان النهي عن إبطال العمل على تقدير تسليمه انما يتبادر الى العمل الصحيح وهو غير معلوم في صورة النزاع. والظاهر ان الوجهين آتيان فيما لو قلنا باستحباب القطع قبل الركوع. فإنه يحتمل عدم الانتقاض لاستمرار الإباحة إلى الفراغ واستظهره في المدارك ، ويحتمل الانتقاض كما هو قول الشيخ لانتفاء المانع من الاستعمال عقلا وشرعا.

(الخامس) ـ تفرد العلامة (قدس‌سره) بجواز العدول الى النفل مع سعة الوقت جمعا بين عدم إبطال الفريضة وبين أدائها بأكمل الطهارتين قياسا على من أراد تحصيل فضيلة الجماعة. وفيه نظر لعدم الدليل على ما ذكره من النقل ، وجواز العدول في بعض المواضع لدليل اقتضاه لا يقتضي الجواز مطلقا بل هو قياس محض ، على ان العدول الى النفل في معنى القطع ولو جاز العدول الى النفل لجاز الابطال بغير واسطة وهو لا يقول به ، وبالجملة فإن المستفاد من الاخبار وكلام الأصحاب هو تحريم الرجوع بعد فوات محله سواء قلنا ان محله هو الدخول في الصلاة أو الركوع أو غيرهما ، فما ذهب اليه (قدس‌سره) ـ مع كونه كما عرفت بمحل من الضعف ـ مخالف لظاهر الأخبار وكلام الأصحاب.

(المسألة الرابعة) ـ لو أحدث المتيمم في أثناء الصلاة سهوا ووجد الماء فمذهب الشيخين (قدس‌سره) انه يتطهر ويبني وقيل بالإبطال ، وتفصيل الكلام في المسألة

٣٨٦

بوجه ابسط ـ وان كان البحث الكامل فيها كما هو حقه موكول الي ذكرها في محلها ان شاء الله تعالى ـ ان يقال اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الحدث سهوا في الصلاة فالمشهور الابطال به مطلقا وانه لا فرق بين العمد والسهو وعليه يدل إطلاق جملة من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى عند ذكر المسألة ، وقيل بعدم الابطال وانه يتطهر ويبني وعليه تدل أيضا جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة ، وحملت على محامل عديدة أقربها التقية ، وقيل انه ان كان سبقه الحدث في الصلاة وهو متيمم تطهر وبنى والا وجب عليه الإعادة ، ذهب اليه الشيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط وابن ابي عقيل إلا انه لم يشترط النسيان ، وظاهر الصدوق في الفقيه القول بذلك ايضا حيث نقل فيه صحيحة زرارة الآتية ومن ثم أسنده إليه في الذكرى ، والى هذا القول مال جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ المحقق في المعتبر والسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة وهو الأظهر ، إلا انه لما انتهت النوبة إلى الأمين الأسترآبادي جرد لسان التشنيع على الشيخ المفيد في الفوائد المدنية بذهابه الى ذلك وحمله الرواية المذكورة عليه ونسب خلافه في هذه المسألة إلى الاستنباطات الظنية ، قال ـ بعد التشنيع عليه بذهابه الى جواز التمسك بالاستصحاب ـ ما صورته : «وذهابه الى ان من دخل في الصلاة بتيمم ثم سبقه الحدث فأصاب ماء يتوضأ ويبني بخلاف من دخل في الصلاة بوضوء وسبقه الحدث فإنه يتوضأ ويستأنف الصلاة مع انه تواترت الأخبار بان الحدث في أثناء الصلاة ينقضها ، والباعث له على ذلك انه كان في بعض الأحاديث لفظ «أحدث» فسبق ذهنه الى حمله على وقوع الحدث من المصلي وغفل عن احتمال ان يكون أمطر السماء بل هذا الاحتمال أظهر معنى كما حققناه في بعض كتبنا ، الى ان قال هذا كله بعد التنزل عن حمله على التقية والصواب حمله على التقية لأن أبا حنيفة ذهب الى ذلك ولكن ما خص الحكم بالتيمم» (١) انتهى. واقتفاه في الحمل على هذا المعنى الكاشاني في الوافي فقال في ذيل

__________________

(١) في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ١ ص ٢٢٠ «لا يفسد الصلاة لو سبقه الحدث فيها من غير تعمد فإنه يتوضأ ويبنى في صلاته».

٣٨٧

خبر زرارة الآتي : «ثم أحدث فأصاب ماء» على البناء للمفعول اي أحدث حدث ووجد سبب وسنح أمر من أمطار السماء ونحوه من أسباب وجدان الماء ، والكناية عن مثله بالحدث شائعة في كلامهم ، وهذا المعنى أقرب مما فهمه الأكثرون من حمل الحدث على معناه المتعارف إذ لا رابطة بين الحدث بهذا المعنى واصابة الماء المتفرع عليه. انتهى.

أقول : اما ما ذكره المحدث الأمين ففيه (أولا) ان دعواه تواتر الأخبار بان الحدث في أثناء الصلاة ينقضها مجازفة ظاهرة ، نعم ورد ذلك في جملة من الأخبار إلا ان بإزائها من الأخبار ايضا ما هو أصح سندا وأكثر عددا وأصرح دلالة مما يدل على عدم النقض وانه يتطهر ويبني كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في محله ، وباختلاف الأخبار في هذا المضمار اختلفت كلمة علمائنا الأبرار فذهب الى القول بكل منها قائل وبذلك يظهر لك ما في كلامه من الإجمال بل الإهمال.

و (ثانيا) ـ ان ما فهمه الشيخ المفيد (قدس‌سره) من الخبر المذكور هو الذي فهمه كل من وقف على الخبر المذكور من عصر الأئمة (عليهم‌السلام) الى الآن ممن قال به أو لم يقل إخباري أو مجتهد ما عداه وعدا المحدث المشار اليه حيث تبعه واقتفاه ، وقد وافق الشيخ المشار اليه على القول بمضمون الخبر المذكور جملة من الأصحاب المتقدم ذكرهم ومن جملتهم ـ كما عرفت ـ أستاذه صاحب المدارك ، وحينئذ فالتشنيع الذي ذكره لا يختص بالشيخ المفيد بل بجملة العلماء الاعلام وكفي به شناعة في المقام.

و (ثالثا) ـ ان ما فهمه الشيخ المذكور وجملة الأصحاب (رضوان الله عليهم) ليس من قبيل الاستنباطات الظنية كما زعمه وانما هو المعنى المتبادر من اللفظ عند إطلاقه ، والتبادر امارة الحقيقة كما صرحوا به ، ولو كان حمل اللفظ على معناه المتبادر منه من قبيل الاستنباطات الظنية لكان هو ايضا من جملة القائلين بتلك الاستنباطات ، اللهم إلا ان يدعى في ذلك إلهاما روحانيا ، كما يعطيه بعض تلك المنامات

٣٨٨

التي أوردها في ذلك الكتاب بل الخرافات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب ، نعم ان ذلك انما يتوجه إليه في استنباطه هذا المعنى الذي اختص به وذهب اليه واعتمد في المقام عليه بل هو في الحقيقة أشبه شي‌ء بالألغاز الذي هو بمراحل عن الحقيقة فضلا عن المجاز.

و (رابعا) ـ انه من الجائز خروج هذا الخبر مخرج التقية كما صرح به في آخر كلامه واستصوبه ، ومن الظاهر انه لا يتم ذلك إلا بحمل الحدث على المعنى الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولا ريب ان الخبر الخارج مخرج التقية مما قد رخصوا في العمل به حال التقية ومطلقا بالنسبة الى من لا يعلم بالتقية حتى يظهر وجه التقية فيه فلم لا حمل كلام الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) على هذا الحمل الصحيح العاري عن الريب وكف لسان قلمه عن الطعن عليه والعيب؟ ولكنه قد أولع في هذا الكتاب بتجريد لسان الطعن على العلماء الاعلام ، ومن أراد الوقوف على ما وقع لنا معه في مثل هذا المقام من الجواب عن جملة من متفرداته ولا سيما مطاعنه في جملة من فضلائنا الكرام فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية وحواشينا على كتابه.

واما ما ذكره المحدث الكاشاني ففيه زيادة على ما عرفت انه قد اعترف بان ما حمل عليه الأصحاب الخبر هو المعنى المتعارف ، ولا ريب ان الواجب هو الحمل عليه لانه المتبادر الى الفهم والمعنى بالحمل عليه صحيح لا غبار عليه والحمل على خلافه يحتاج إلى قرينة صارفة عنه. قوله ـ انه لا رابطة بين الحدث بهذا المعنى واصابة الماء المتفرع عليه ـ فيه ان القائل بذلك لا يجعل الفاء هنا للتفريع بل هي كالفاء في الحديث الآخر في قوله : «فصلى ركعة فأحدث» فإنه لا ارتباط ايضا بين الصلاة ركعة والحدث بأي المعنيين اعتبر ، بل حاصل المعنى هو السؤال عن رجل اتفقت له هذه الأمور وهو انه لما صلى اتفق له سبق حدث منه واتفق وجود ماء في تلك الحالة ، والسؤالات المبنية على الفروض في الأخبار من هذا القبيل غير عزيز.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الدليل الذي استند اليه الشيخان في هذه المسألة هو

٣٨٩

ما رواه الشيخ في تتمة صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة في صدر المسألة الثالثة (١) قال : «قال زرارة فقلت له دخلها وهو متيمم فصلى ركعة فأحدث فأصاب ماء؟ قال يخرج ويتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم». وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «قلت له رجل دخل في الصلاة وهو متيمم فصلى ركعة ثم أحدث فأصاب الماء؟ قال يخرج ويتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم».

قال المحقق في المعتبر : «من صلى بتيمم ثم أحدث في أثناء الصلاة ووجد الماء روى محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) «انه يخرج ثم يتوضأ ويبني ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم». وهذه الرواية متكررة في الكتب بأسانيد مختلفة وأصلها محمد بن مسلم وفيها اشكال من حيث ان الحدث يبطل الطهارة وتبطل ببطلانها الصلاة واضطر الشيخان بعد تسليمها الى تنزيلها على المحدث سهوا ، والذي قالاه حسن لأن الإجماع على ان الحدث عمدا يبطل الصلاة فيخرج من إطلاق الرواية فيتعين حملها على غير صورة العمد لأن الإجماع لا تصادمه الرواية. ولا بأس بالعمل بها على الوجه الذي ذكره الشيخان فإنها رواية مشهورة ، ويؤيدها ان الواقع من الصلاة وقع مشروعا مع بقاء الحدث فلا يبطل بزوال الاستباحة كصلاة المبطون إذا فجأه الحدث ، ولا يلزم مثل ذلك في المصلي بطهارة مائية لأن حدثه مرتفع فالحدث المتجدد رافع لطهارته فتبطل لزوال الطهارة» قال في المدارك بعد نقله ملخصا : هذا كلامه (قدس‌سره) وقوته ظاهرة.

وأنكر ابن إدريس هذا القول وأوجب الإعادة سواء كان حدثه عمدا أو سهوا قال في المختلف : وهو الأقوى عندي ، لنا ـ ان صحة الصلاة مشروطة بدوام الطهارة وقد زال الشرط فيزول المشروط ، ولأن الإجماع واقع على ان ناقض الطهارة مبطل للصلاة ولأن الصلاة لو فعلت بطهارة مائية انتقضت بالحدث فكذا الترابية لأنها أحد الطهورين ، ولان

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١ من قواطع الصلاة.

٣٩٠

الإجماع واقع على ان الفعل الكثير مبطل للصلاة وهو حاصل هنا بالطهارة الواقعة في أثناء الصلاة. احتج الثلاثة بما رواه زرارة ومحمد بن مسلم ، ثم أورد الخبر المتقدم ثم عقبه بخبر زرارة المتقدم ايضا ثم اردفهما برواية زرارة المتقدمة في المسألة الثالثة المتضمنة للقربتين حيث أمر فيها بالقطع والبناء ايضا ثم قال : والجواب عن الحديث الأول انا نحمل الركعة على الصلاة كما تقدم إطلاقا الاسم الجزء على الكل ، وقوله «يخرج ويتوضأ ثم يبنى على ما مضى من صلاته» إشارة إلى الاجتزاء بتلك الصلوات السابقة على وجدان الماء ، وعن الثاني بذلك ايضا ، ويحتمل انه يرجع استحبابا إذا صلى ركعة واحدة وقوله : «ويبني على ما مضى من صلاته» لا يشير به الى تلك الركعة السابقة بل الى الصلوات السابقة على التيمم ، وعن الثالث بالمنع من صحة السند ، على ان الأحاديث لا تدل على التفصيل الذي ذكره الشيخان من وجوب الوضوء والإتمام مع النسيان والاستئناف مع العمد فالذي ذهبا اليه لم تدل الأحاديث عليه. انتهى.

والشهيد في الذكرى نقل عن ابن إدريس انه رد الرواية للتسوية بين نواقض الطهارتين وان التروك متى كانت من النواقض لم يفرق بين العامد فيها والساهي ، ثم نقل عنه انه قال : وانما ورد هذا الخبر فأوله بعض أصحابنا بصلاة المتيمم ، ثم اعترضه فقال قلت : الأول محل النزاع والرواية مصرحة بالمتيمم فكيف يجعل تأويلا؟ ثم انه في الذكرى نقل عن المختلف رد الرواية لاشتراط صحة الصلاة بدوام الطهارة ولما قاله ابن إدريس وقال الطهارة المتخللة فعل كثير ، ثم اعترضه بان كل ذلك مصادرة ، ثم نقل عن المختلف انه أول الرواية بحمل الركعة على الصلاة تسمية للكل باسم الجزء ، وبان المراد مما مضى من صلاته ما سبق من الصلوات السابقة على وجدان الماء ، ثم رده فقال : قلت لفظ الرواية «يبني على ما بقي من صلاته» وليس فيها «ما مضى» فيضعف التأويل مع انه خلاف منطوق الرواية صريحا. انتهى. أقول : كلام شيخنا المذكور بان لفظ الرواية «يبني على ما بقي من صلاته» لعله كان هو الموجود في نسخ الكتاب الذي عنده وإلا فإن

٣٩١

الموجود فيما وصل إلينا من كتب الأخبار والمنقول في كتب الفروع أيضا انما هو «ما مضى من صلاته» كما ذكره العلامة. وكيف كان فإنه قد علم بما ذكره شيخنا المشار اليه الجواب عما ذكره العلامة في المختلف إلا انه مع وجود الخبر كما ذكره العلامة (قدس‌سره) فتأويله بما ذكره في غاية البعد. وأشد بعدا حمل الركعة على الصلاة كملا.

وللمحقق الشيخ حسن في المنتقى هنا كلام جيد لا بأس بنقله وان طال به زمام الكلام لما يترتب عليه من النفع في غير مقام ، قال بعد نقل كلمات القوم التي ذكرناها في هذه المسألة : والتحقيق عندي في هذا المقام ان الخبرين الصحيحين ليسا بصريحين في إفادة الحكم المتنازع فيه بل هما محتملان لإرادة البناء على الصلاة التي صلاها تامة بالتيمم وقوله (عليه‌السلام) في آخر الكلام «التي صلى بالتيمم» قرينة قوية على ارادة هذا المعنى فيكون مفاد الخبرين حينئذ عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة بالتيمم بعد وجدان الماء ، وهو معنى صحيح وارد في اخبار كثيرة مضى بعضها وسيأتي سائرها ، وإذ قد عرفت اعترافهم بالمضايقة في المعنى الذي وقع فيه النزاع باعتبار مخالفته لما هو المعهود في قواطع الصلاة فلا بد في المصير اليه من صراحة اللفظ فيه ، وقول العلامة ان الأحاديث لا تدل على التفصيل ليس بجيد لأنها بتقدير دلالتها على أصل الحكم لا تخلو من ظهور في الاختصاص بحالة عدم العمد ، وحمله الركعة على الصلاة تعسف زائد لا حاجة له اليه ، وقول الشهيد ان لفظ الرواية «يبني على ما بقي» عجيب فإن الرواية مذكورة في التهذيب مرتين كما بيناه وفي الفقيه وكلها متفقة مع تعدد النسخ على لفظ «ما مضى» وحكاها كذلك ايضا الشيخ في الخلاف والمحقق في المعتبر حتى ان الشهيد (قدس‌سره) نقلها في مسألة من وجد الماء في أثناء الصلاة في حمله كلام الشيخ في الخلاف بهذه الصورة ، وفي عبارات القدماء شهادة بهذا ايضا لوقوفهم في التأدية مع ألفاظ النصوص غالبا. وقد اتفق لوالدي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد مناقشة العلامة بنحو ما قاله الشهيد (قدس‌سره) حتى انتهى الى هذا الموضع فذكره بصورة ما في الذكرى اعتمادا على تحقيق الشهيد وحسن ظنه به وهو أعجب

٣٩٢

من صنع الشهيد (قدس‌سره) لكن المعلوم من طريقة والدي في هذا الشرح مشاركة جماعة المتأخرين في تخفيف المراجعة والاتكال على حكايات السلف وقد عدل عن ذلك فيما بعد حيث انكشف له حقيقة الحال ، هذا مع ان الفرق بين اللفظين هنا والتفاوت بين مفاديهما قليل عند التأمل وان الجمع بين كلمة «يبني» وبين كلمة «ما بقي» باقيتين على ظاهر هما غير متصور ، وليس التجوز في «يبني» حرصا على نفي الاحتمال بأولى من حمل «ما بقي» على ارادة ما سلم من الحدث المبطل وقوفا مع المعهود واقتصارا على إثبات الأحكام الشرعية على ما يتضح اليه السبيل وينتفي فيه الاحتمال القادح في دلالة الدليل. انتهى كلامه.

أقول : وما ذكره من الاحتمال المذكور وما ذيله به جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، وبه تنطبق الروايتان المذكورتان على القواعد الشرعية من غير حاجة الى تخصيصهما باستثناء الصورة التي جعلوها محل النزاع بناء على ما فهموه من الروايتين المذكورتين ، هذا ، واحتمال التقية فيهما أقرب قريب كما تقدمت الإشارة اليه. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب وكان من الماء ما يكفي أحدهم خاصة ، فإن كان ملكا لأحدهم اختص به ولم يجز له بذله لغيره مع مخاطبته باستعماله ووجوب صرفه في طهارته ، ولو كان مباحا حازه من سبق اليه من المحدث والجنب ولو توافيا عليه دفعة اشتركا ، وان كان ملكا لهم أو لمالك يسمح به فلا ريب ان لمالكه الخيرة في تخصيص من شاء به ، انما يبقي الكلام في الاولى من الثلاثة وكذا لو كان منذورا أو موصى به للأحوج ، فقال الشيخ في النهاية : إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم فليغتسل به الجنب وليتيمم المحدث ويدفن الميت بعد ان يؤمم. وقال في الخلاف ان كان الماء لأحدهم فهو أحق به وان لم يكن لواحد بعينه تخيروا في التخصيص ، لأنها فروض اجتمعت وليس بعضها اولى من بعض فتعين التخيير ولان الروايات قد اختلفت على وجه لا ترجيح فتحمل على التخيير. وقال ابن إدريس

٣٩٣

ان كان ملكا اختص بالمالك وان كان مباحا فلمن حازه ، وان تعين عليهما تغسيل الميت ولم يتعين أداء الصلاة لخوف فوات وقتها فعليهما ان يغسلاه بالماء الموجود ، فان خافا فوات الصلاة فإنهما يستعملان الماء ولا يغسلان به الميت. ونقل المحقق في الشرائع قولا باختصاص الميت به ، قال في المدارك : ولم أعرف قائله ، وبذلك ظهر ان في المسألة أقوالا أربعة.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي نجران (١) «انه سأل أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب والثاني ميت والثالث على غير وضوء وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم ، من يأخذ الماء وكيف يصنعون؟ قال يغتسل الجنب ويدفن الميت بتيمم ويتيمم الذي هو على غير وضوء ، لان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة والتيمم للآخر جائز».

ورواه الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي نجران عن رجل حدثه قال : سألت الرضا (عليه‌السلام) وذكره نحوه (٢) إلا ان الذي فيه «ويدفن الميت» من غير قوله «بتيمم».

وما رواه في التهذيب عن الحسن التفليسي (٣) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ما يكفي أحدهما أيهما يغتسل؟ قال إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض».

وعن الحسين بن النضر الأرمني (٤) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما أيهما يبدأ به؟ قال يغتسل الجنب ويترك الميت لان هذا فريضة وهذا سنة». ورواه الصدوق في العلل والعيون بسنده عن الحسين بن النضر مثله (٥).

وعن علي بن محمد عن محمد بن علي عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه‌السلام) (٦)

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب التيمم.

٣٩٤

قال : «قلت له الميت والجنب يتفقان في مكان لا يكون فيه الماء إلا بقدر ما يكتفي به أحدهما أيهما اولى ان يجعل الماء له؟ قال يتيمم الجنب ويغسل الميت بالماء».

وعن ابي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قوم كانوا في سفر فأصاب بعضهم جنابة وليس معهم من الماء إلا ما يكفي الجنب لغسله يتوضأون هم هو أفضل أو يعطون الجنب فيغتسل وهو لا يتوضأون؟ قال يتوضأون هم ويتيمم الجنب».

إذا عرفت هذا فاعلم ان جملة من الأصحاب : منهم ـ السيد السند في المدارك رجحوا العمل بصحيحة عبد الرحمن بن ابي نجران لصحة سندها وضعف ما عارضها من مرسلة محمد بن على وتأيدها بروايتي التفليسي والأرمني. واستدلوا للقول بتقديم الميت بان الجنب يستدرك طهارته والميت لا استدراك لطهارته ، وبرواية محمد بن علي المذكورة ورد الأول بأن الاعتبار لا يعارض النص مع انه معارض بتعبد الجنب بطهارته بخلاف الميت فإنه قد خرج عن التكليف بالموت ، وبان للجنب غايتين استباحة الصلاة وطهارة بدنه من الحدث وللميت الثانية لا غير. والثاني بالطعن في الرواية بضعف السند وبالإرسال والإضمار فلا تصلح لمعارضة الخبر الصحيح.

أقول : والحق انه مع العمل بهذا الاصطلاح المحدث فلا ريب في قوة ما ذكروه ، واما مع عدم ذلك كما هو الحق الذي عليه متقدمو الأصحاب (رضوان الله عليهم) فالوجه ان يقال بما ذهب اليه الشيخ من التخيير مع أولوية الجنب ، وهذا هو الظاهر من كلام المحقق في المعتبر حيث انه بعد فرض المسألة قال : فالأشهر من الروايتين اختصاص الجنب به ، ثم نقل عبارة الخلاف الدالة على التخيير ونقل رواية التفليسي وعدها مع رواية الأرمني رواية واحدة ثم أردفها بمرسلة محمد بن علي ثم رجح رواية التفليسي بأنها متصلة الاسناد وان العامل بها من الأصحاب كثير والأخرى مقطوعة ، ثم قال : والذي ذكره الشيخ ليس موضع البحث فانا لا نخالف في ان لهم الخيرة لكن

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب التيمم.

٣٩٥

البحث في من الأولى أولوية لا تبلغ اللزوم ولا تنافي التخيير. انتهى. وهو ظاهر في ان المراد بقوله أولا : «ان الأشهر من الروايتين اختصاص الجنب به» انما هو اختصاص أولوية وبهذا جمع بين الخبرين المذكورين في كلامه ، والظاهر انه لم تحضره صحيحة عبد الرحمن المذكورة يومئذ وإلا لذكرها ، هذا فيما إذا كان الماء لباذل أجنبي أو مشترك بين الجميع مع فرض ان حصة كل واحد منهم لا تفي بحاجته فإنه يستحب له بذلها للأحوج مع عدم رجاء ما يحصل به الإكمال ، واما لو كان منذورا به للأحوج أو موصى به كذلك فالتخيير غير متجه في المقام بل يحتاج الى النظر في الراجح من الاخبار الواردة في المسألة ولا ريب في حصوله في جانب القول بتقديم الجنب للصحيحة المذكورة المعتضدة بالروايتين الأخريين سيما مع تضمنها للعلة المذكورة المصرح بها في غير موضع ايضا. واما ما ذهب اليه ابن إدريس من التفصيل المتقدم نقله عنه فإنه مبني على طرح روايات المسألة كما لا يخفى ، وضعفه لذلك أظهر ظاهر.

وينبغي التنبيه على فوائد (الاولى) ـ لو أمكن الجمع بأن يتوضأ المحدث ثم يجمع الماء ويغتسل به الجنب الخالي بدنه من النجاسة ثم يجمع ماؤه ويغسل به الميت وجب بناء على القول بان المستعمل في الحدث الأكبر يكون مطهرا. قيل : ولو جامعهم ذات دم أو ماس ميت فإشكال والتخيير حسن واستعمال القرعة أولى ، أما العطشان فهو اولى من الجميع قطعا.

(الثانية) ـ قال في الذكرى بعد الإشارة إلى خبر عبد الرحمن بن ابي نجران : «وفيه إشارة الى عدم طهورية المستعمل وإلا لأمر يجمعه» وأورد عليه بان جمعه لا يلزم منه ان يجتمع منه ما يكفي واحدا فإنه أعم من ذلك ولا دلالة للعام على الخاص وجائز ان يعلم (عليه‌السلام) منه عدم اجتماع ما يرفع حدثا آخر. وفيه انه يمكن ان يكون مبنى كلام شيخنا المشار اليه على عدم الاستفصال المفيد عندهم للعموم في المقال ، لأنهم قد صرحوا في غير مقام بان ترك الاستفصال يفيد العموم في المقال. نعم يمكن ان يقال ان

٣٩٦

الرواية محمولة على ما هو الغالب من عدم إمكان هذا الجمع في مثل هذا الماء القليل الذي لا يكفي إلا لأحدهم كما هو المفروض في أصل المسألة.

(الثالثة) ـ لو كان الماء مباحا وجب على كل من الحيين المبادرة إليه فإن سبق أحدهما إلى حيازته ملكه وان اتفقا جميعا اشتركا ، ولو تغلب أحدهما على الآخر في حيازته بعد استوائهما في السبق اليه فلا خلاف ولا ريب في انه يأثم ، وهل يملك أم لا؟ فالمحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة على الأول لأن الوصول الى المباحات لا يفيد الملك لافتقار تملك المباحات إلى الحيازة مع النية ولم يحصل الشرطان إلا للمتغلب واستشكله الشهيد في الذكرى بإزالة أولوية غيره وهي في معنى الملك ، قال : وهو مطرد في كل أولوية كالتحجير. وفيه ما عرفت من عدم حصول شرطي الحيازة إلا للمتغلب فيملك وان أثم ، هذا ما يقتضيه الجري على قواعدهم وإلا فالمسألة لعدم النص لا تخلو من توقف.

(الرابعة) ـ قال المحقق في المعتبر : هل يجوز لمالك الماء ان يبذله لغيره مع وجوب الصلاة؟ الوجه لا لأن الطهارة تعينت عليه وهو متمكن من الماء والعدول الى التيمم مشروط بالتعذر والتقدير عدمه ، ويؤيد ذلك رواية وهب بن حفص عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) ثم ساق الرواية كما قدمناه ، وقال : وذكر النجاشي ان وهب بن حفص كان واقفيا لكنه ثقة. انتهى. واعترضه في الذكرى بأنه ليس في الخبر تخصيص باختصاصهم بملكه ولعلهم مشتركون ولكن الجنب لا يكتفي بنصيبه. أقول : الظاهر ان استناد المحقق إلى الرواية لا يتوقف على اختصاصهم بالملك بل يكفيه تحقق اشتراكهم فيه ، فان ظاهر سياق الخبر ان الماء مشترك بين القوم كملا إلا ان حصة الجنب لا تكفيه لغسله وحصة كل منهم تكفي لوضوئه فسأل انه هل يجوز لهم أو يجب عليهم ان يدفعوا حصصهم من الماء الى الجنب ليغتسل به كملا ويتيممون هم أو يتوضأ كل واحد بنصيبه ويتيمم الجنب؟ فأجاب (عليه‌السلام) بما يدل على ما ذكره المحقق (قدس‌سره)

٣٩٧

من ان مالك الماء الذي يجزئه لطهارته لا يجوز له ان يعطيه غيره بل يتوضأ به والجنب لعدم وفاء حصته بالغسل ينتقل الى التيمم ، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.

(المسألة السادسة) ـ الظاهر انه لا خلاف نصا وفتوى في انه متى وجد الماء وتمكن من استعماله انتقض تيممه فلو فقده بعد ذلك وجب عليه اعادة التيمم ، وقد نقل الإجماع على ذلك المحقق في المعتبر ، والمراد من التمكن من استعماله ان لا يكون له مانع حسي من تغلب على الماء أو كونه في بئر ولا وسيلة اليه أو كونه في يد من لا يبذله أو يتوقف بثمن لا يمكنه ونحو ذلك ، ولا شرعي من مرض وخوف عطش ونحو ذلك مما قد تقدم

ومما يدل على أصل الحكم من الأخبار قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) وقد سأله : «يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار؟ فقال نعم ما لم يحدث أو يصب ماء. قلت فإن أصاب الماء ورجا ان يقدر على ماء آخر وظن انه يقدر عليه فلما اراده تعسر ذلك عليه؟ قال ينتقض تيممه وعليه ان يعيد التيمم».

وفي رواية السكوني (٢) «لا بأس بان يصلي صلاة الليل والنهار بتيمم واحد ما لم يحدث أو يصب الماء».

وروى الشيخ عن الحسين العامري (٣) عن من «سأله عن رجل أجنب فلم يقدر على الماء وحضرت الصلاة فتيمم بالصعيد ثم مر بالماء ولم يغتسل فانتظر ماء آخر وراء ذلك فدخل وقت الصلاة الأخرى ولم ينته الى الماء وخاف فوت الصلاة؟ قال يتيمم ويصلي فان تيممه الأول انتقض حين مر بالماء ولم يغتسل».

وروى العياشي في تفسيره عن أبي أيوب عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «التيمم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضأ من غدير ماء ، أليس الله تعالى يقول :

__________________

(١ و ٣ و ٤) المروي في الوسائل في الباب ١٩ من أبواب التيمم.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب التيمم.

٣٩٨

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.) قال : قلت فإن أصاب الماء وهو في آخر الوقت؟ قال فقال : قد مضت صلاته. قال قلت فيصلي بالتيمم صلاة أخرى؟ قال إذا رأى الماء وكان يقدر عليه انتقض التيمم».

وقال (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (١) : «وان مر بماء فلم يتوضأ وقد كان تيمم وصلى في آخر الوقت وهو يريد ماء آخر فلم يبلغ الماء حتى حضرت الصلاة الأخرى فعليه ان يعيد التيمم لان ممره بالماء نقض تيممه».

وبالجملة فإن أصل المسألة مما لا خلاف فيه ولا اشكال وانما الإشكال في انه بعد وجود الماء هل يعتبر في انتقاض التيمم مضى زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة المائية أم لا؟ وجهان بل قولان : أحدهما نعم لامتناع التكليف بعبادة في وقت لا يسعها فإذا تلف الماء مثلا قبل مضي زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة تبين عدم التكليف باستعمال الماء فيلزم بقاء التيمم لان النقض انما يتحقق مع تمكنه من البدل. واليه مال في المدارك وهو ايضا ظاهر المنتهى ، وثانيهما انه لا يعتبر لصدق التمكن من استعمال الماء بحسب الظاهر.

أقول : الحق ان الحكم في المسألة المذكورة لا يخلو من اشكال وذلك فإنه بالنظر الى ظواهر الاخبار مثل قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة : «أو يصب ماء» وقوله فيها : «فإن أصاب ماء» وفي رواية السكوني «أو يصب الماء» يترجح القول الثاني لأنه رتب النقض على مجرد الإصابة أعم من ان يمضي زمان يتمكن فيه من الإتيان بالطهارة أم لا ، والى هذا القول يميل كلام الصدوق في الفقيه حيث قال : «ومتى أصاب المتيمم الماء ورجا ان يقدر على ماء آخر أو ظن انه يقدر عليه كلما أراد فعسر عليه ذلك فان نظره الى الماء ينقض تيممه» انتهى. وهو ايضا ظاهر شيخنا البهائي في الحبل المتين.

وربما استدل عليه أيضا بأن الخطاب متوجه الى المكلف بالطهارة المائية وتوجه

__________________

(١) ص ٥.

٣٩٩

التكليف بالطهارة المائية ينافي بقاء التيمم. وأجيب عنه بان المراد بتوجه الخطاب بالطهارة المائية ان كان بفعلها في نفس الأمر فممنوع ، وان كان توجه الخطاب بالاشتغال بها فمسلم لكن الكبرى ممنوعة.

وعندي في هذا الاستدلال والجواب على الإطلاق نظر ، والتحقيق في ذلك ان يقال ان كان وجدان الماء بعد التيمم في الوقت وقبل الصلاة فلا ريب انه مكلف باستعمال الماء والخطاب متوجه اليه بغير اشكال ، وإيجاب الشارع الطهارة المائية عليه في تلك الحال لا يجامع بقاء التيمم البتة. وقول المجيب هنا على هذا التقدير ـ انه ان كان مكلفا بالطهارة في نفس الأمر. إلخ يعني ان التكليف بالطهارة كاملة لا يجوز تعلقه بالواقع ونفس الأمر لتبين خلافه كما هو المفروض ـ فيه انه يكفي في تعلق التكليف ظن بقاء الماء المدة المذكورة استصحابا للحال فيكون مجرد وجوده ناقضا وان طرأ عليه بعد ذلك التلف قبل مضي المدة المذكورة ، وان كان وجدان الماء في غير وقت الصلاة كما هو ظاهر إطلاق الأخبار المتقدمة وغيرها من اخبار المسألة فلا معنى لهذا الاستدلال من أصله ، لأنه لا يتوجه اليه الخطاب بالكلية ، هذا بالنظر الى ظواهر الاخبار.

وبالنظر الى انه يلزم من القول بذلك التكليف بعبادة في وقت لا يسعها وهو ممنوع عقلا وشرعا يترجح القول الأول ، فإن تلف الماء قبل مضي زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة كاشف عن عدم التكليف باستعماله فيلزم بقاء التيمم لان النقض لا يتحقق إلا بالتمكن من البدل كما تقدم.

وتنظر فيه شيخنا البهائي (قدس‌سره) في الحبل المتين بأنه لا ملازمة بين عدم تكليف المتيمم باستعمال الماء وبين بقاء تيممه من غير إيجاب تيمم آخر عليه. قال : بل الظاهر ان يكون نفس وجود الماء المظنون بقاؤه ذلك المقدار استصحابا للحال ناقضا فيجب به تيمم آخر إذا لم يبق ذلك المقدار بطرو انعدام عليه أو سبق آخر اليه مثلا ، والتزام القول بأنه يجوز للمتيمم لفقد الماء بعد وجوده فعل مشروط بالطهارة كابتداء

٤٠٠