الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

عشر بأنه مثله ، ثم قال وخرج بعض الأصحاب وجوب تيممين على غير الجنب بناء على وجوب الوضوء هنا لك ولا بأس به والخبران غير مانعين منه لجواز التسوية في الكيفية دون الكمية» انتهى. قال في المدارك : «وما ذكره أحوط وان كان الأظهر الاكتفاء بالتيمم الواحد بناء على ما اخترناه من اتحاد الكيفية وعدم اعتبار نية البدلية فيكون جاريا مجرى أسباب الوضوء أو الغسل المختلفة ، ولو قلنا باجزاء الغسل مطلقا عن الوضوء كما ذهب اليه المرتضى (رضى الله عنه) ثبت التساوي مطلقا من غير اشكال» انتهى. أقول : لا ريب انه على تقدير القول بوجوب الوضوء مع كل غسل عدا الجنابة فإن الأوفق بقواعدهم وما قرروه في غير مقام من ان تعدد الأسباب يقتضي تعدد المسببات ان الواجب في التيمم بدلا من الغسل غير الجنابة هو التعدد فيتيمم بدلا من الوضوء وآخر بدلا من الغسل ، فقولهم بمساواة الأغسال ان أريد به في الكمية بمعنى الاكتفاء بتيمم واحد فهو خروج عن مقتضى أصولهم وقواعدهم إلا ان كلامهم غير صريح في ذلك ، وان أريد في الكيفية فلا منافاة إذ المراد ان كيفية التيمم عن سائر الأغسال مثل كيفية التيمم عن غسل الجنابة وان وجب تيمم آخر عن الوضوء ، واما على تقدير مذهب المرتضى ـ وهو الأظهر كما تقدم تحقيقه في باب غسل الجنابة ـ فلا إشكال في اجزاء تيمم واحد. واما ما ذكره في المدارك بناء على القول المشهور من وجوب الوضوء مع الأغسال ـ من انه يكفي تيمم واحد بناء على القول باتحاد الكيفية وعدم اعتبار نية البدلية ـ فظني عدم استقامته لان وجوب التعدد على القول المذكور انما استند الى تعدد الأسباب ، فإن سبب الوضوء هو الحدث الأصغر وسبب الغسل هو الحدث الأكبر وهكذا في بدليهما يجب تعددهما لذلك ، والقول باتحاد الكيفية على هذا التقدير لا مدخل له في ذلك بل يجب الإتيان بتيممين بمقتضى السببين المتعددين وان كانا على كيفية واحدة ، اللهم إلا ان يريد الاكتفاء بتيمم واحد على تقدير القول بالتداخل. وفيه ان قيام الدليل على التداخل في الأغسال لا يقتضي انسحابه هنا من غير

٣٤١

دليل. واما عدم اعتبار نية البدلية فهو هنا غير مسلم ، إذ محل البحث المتقدم في اعتبارها وعدمه انما هو في غير هذه الصورة مما لا يحتاج الى التمييز مما لا اشتراك فيه ، واما هنا فقد استقر في ذمته تيمم بدلا عن الوضوء وآخر بدلا عن الغسل فلا ينصرف واحد منهما إلى البدلية عما هو بدل عنه الا بنية البدلية عما هو بدل عنه بعين ما صرحوا به فيما إذا اشتغلت الذمة بفروض واجبة متعددة أداء وقضاء ، فإنه يجب الإتيان بنية الأداء مع قصد الأداء والقضاء مع قصد القضاء كما لا يخفى والله العالم.

(المقام الثالث) ـ في مسح الجبهة ، وقد اختلف الأصحاب في هذا المقام ايضا فالمشهور بين الأصحاب انه يجب مسح الجبهة من قصاص شعر الرأس إلى طرف الأنف الأعلى وهو العرنين لا الأعلى باعتبار النتو كما ربما يتوهمه من لا تحصيل له ، وقال الصدوق في الفقيه : «وإذا تيمم الرجل للوضوء ضرب يديه على الأرض مرة واحدة ثم نقضهما ومسح بهما جبينيه وحاجبيه ومسح على ظهر كفيه. الى آخره» ونقل عن علي بن بابويه مسح الوجه بأجمعه كما تقدم في عبارته ، والصدوق في المجالس اختار مذهب أبيه ونسب مذهبه في الفقيه إلى الرواية ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب : منهم ـ صاحب المدارك وغيره في نقل مذهب الصدوق أنه أضاف الجبينين والحاجبين إلى الجبهة وعبارته في الفقيه ـ كما ترى ـ ظاهرة في اختصاص المسح بالموضعين المذكورين ولا ادري من اي موضع نقلوا عنه هذا القول؟ ولعل الوجه في هذا النقل هو انه حيث كان المسح على الجبهة متفقا عليه وانما الخلاف فيما زاد عليها حملوا كلامه على ذلك ، وقال في المدارك بعد نقل الخلاف في المسألة : والمعتمد وجوب مسح الجبهة والجبينين والحاجبين خاصة ، ثم أورد الآية وساق جملة من الأخبار المشتمل بعضها على الجبين وبعضها على الجبهة وأكثرها على الوجه ، الى ان قال : وبهذه الروايات أخذ علي بن بابويه (قدس‌سره) ويمكن الجواب عنها بالحمل على الاستحباب أو على ان المراد بمسح الوجه مسح بعضه ، قال في المعتبر : والجواب الحق العمل بالخبرين فيكون مخيرا بين مسح الوجه

٣٤٢

وبعضه لكن لا يقتصر على أقل من الجبهة. وهو حسن. اما مسح الحاجبين بخصوصهما فلم أقف على مستنده. انتهى كلامه.

أقول : وأنت خبير بأن الاخبار في هذا المقام لا تخلو من اشتباه وإشكال ، فإن جملة منها قد تضمنت لفظ الوجه كالخبر الأول والثاني والثالث والخامس والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والتاسع عشر وجملة منها قد تضمنت لفظ الجبين مفردا وهو الخبر الرابع والسابع والثامن عشر إلا ان فيه بلفظ التثنية ، ومنها ما تضمن لفظ الجبهة وهو الخبر السادس على إحدى روايتي الشيخ في التهذيب واما في رواية الكافي ورواية الشيخ الأخرى التي نقلها بطريق صاحب الكافي انما هو «جبينه» مفردا ، ومن هنا ينقدح الإشكال في انه لا دليل على القول المشهور من وجوب مسح الجبهة إلا على رواية واحدة على تقدير إحدى روايتي الشيخ لها ، واما على تقدير الروايتين الأخريين فلا دليل بالكلية على القول المذكور وتكون هذه الرواية من قبيل الروايات المتضمنة للجبين ، والظاهر في الجمع بين هذه الاخبار هو رد اخبار الوجه والجبين إلى الجبهة وان عبر عنها بهذين اللفظين توسعا وتجوزا فان باب المجاز واسع ، وإلا لاضطربت الاخبار ولزم خلو القول بالجبهة الذي هو المشهور بل المجمع عليه ظاهرا من دليل أو ضعف دليله وندرته بل دلالة الأخبار الكثيرة على خلافه.

وتفصيل هذه الجملة على وجه ابسط ان يقال ان لفظ الجبين الواقع في هذه الاخبار لا يخلو من أحد معان ثلاثة : (الأول) ان يراد معناه لغة وعرفا وهو ما اكتنف الجبهة من جانبيها مرتفعا عن الحاجبين الى قصاص الشعر ، وحينئذ فوروده في مقام البيان في جملة من الاخبار ـ كما عرفت ـ يقتضي الاقتصار عليه دون الجبهة ، وفيه من البعد ما لا يخفى سيما مع استلزامه ترك الجبهة المتفق على تخصيصها بالمسح. و (ثانيها) ان يراد به ما يشمل الجبهة والجبين معا مجازا. وفيه انه خلاف ما عليه الأصحاب من التخصيص

٣٤٣

بالجبهة ويوجب ان يكون ما ذهب إليه الأصحاب من التخصيص خاليا من المستند أو نادر المستند بناء على ما عرفت آنفا ، وهذا الوجه وان كان أقل اشكالا من الأول إلا انه بعيد أيضا غاية البعد. و (ثالثها) وهو الظاهر ان يراد به الجبهة خاصة لمجاز المجاورة ويؤيده ورود الجبين في الاخبار بلفظ الافراد ، وعلى هذا الوجه يتم كلام الأصحاب والظاهر انه هو الذي فهموه من الاخبار المشار إليها واتفقوا على القول به ، وبذلك يظهر انه لا وجه لضم الجبينين إلى الجبهة وجوبا أو استحبابا إذ لا دليل عليه ، ويؤيده هذا الوجه أيضا إطلاق لفظ الجبين على الجبهة في اخبار السجود كما ـ في حسنة عبد الله بن المغيرة وموثقة عمار الدالتين على انه «لا صلاة لمن لا يصيب انفه ما يصيب جبينه» (١). وعلى هذا ايضا تحمل اخبار الوجه فإنه إنما أريد منها الجبهة خاصة ، كما وقع نظيره من اخبار السجود ايضا المختص بالجبهة نصا وفتوى ، كما في صحيحة أبي بصير وحسين بن حماد الدالتين على استواء موضح السجود وموضع القيام ، حيث قال في الأولى (٢) : «اني أحب ان أضع وجهي في موضع قدمي». وفي الثانية (٣) : «في من سجد على موضع مرتفع قال : جر وجهك على الأرض من غير ان ترفعه».

وبالجملة فالمراد في جميع هذه الاخبار انما هو الجبهة خاصة وان اختلفت عبارتها توسعا باعتبار ظهور الحال ومعلومية الحكم يومئذ ، فعبر في بعض بلفظ الجبهة وفي آخر بلفظ الجبين وفي ثالث بلفظ الوجه نظير ما عرفت في باب السجود ، ويوضح ما ذكرناه كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي مما قدمنا نقله من الخبر التاسع عشر وقوله : «تمسح بهما وجهك موضع السجود». فعبر بالوجه وأبدل منه موضع السجود وهو الجبهة. وعلى هذا تجتمع الاخبار في الانطباق على كلام الأصحاب (رضوان الله

__________________

(١) رواهما في الوسائل في الباب ٤ من أبواب السجود.

(٢) رواها في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب السجود.

(٣) رواها في الوسائل في الباب ٨ من أبواب السجود.

٣٤٤

عليهم) ويسقط القول بضم الجبينين وجوبا أو استحبابا كما ذكره السيد في المدارك ومن تبعه ، والظاهر ان الحامل له على هذا القول هو انه قد ذكر في الاستدلال على ما قدمنا نقله عنه الخبر الرابع المشتمل على الجبين ثم عقبه بالسادس الدال على الجبهة بإحدى روايتي الشيخ ثم نقل جملة من اخبار الوجه ، فحمل روايات الوجه على مذهب الشيخ علي بن بابويه يعني مسح الوجه كملا وجمع بينها وبين ما اختاره بالحمل على الاستحباب فبقي عنده التعارض بين خبري الجبهة والجبين فجمع بينهما بوجوب مسح الجميع.

وفيه (أولا) ـ ان موثقة زرارة ـ وهي الخبر السادس ـ المشتملة على مسح الجبهة قد عرفت انها بعينها قد رواها في الكافي بلفظ الجبين والشيخ قد رواها عنه أيضا في موضع آخر بلفظ الجبين ، ولا ريب ان الترجيح للروايتين بلفظ الجبين لتعددها من الشيخين في الكتابين ، مضافا الى ما قدمنا في غير موضع من التنبيه على ما وقع للشيخ في الكتاب المذكور من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في الأخبار متونها وأسانيدها كما هو ظاهر لمن تتبع اخباره ، وبالجملة فالموثقة المذكورة باعتبار اختلاف روايتها لا بد في الاستدلال بها من النظر في الراجح من النقلين ليكون العمل عليه في البين ، ولا ريب في ترجيح نقل صاحب الكافي المتأيد بنقل الشيخ لها كذلك دون ما انفرد هو بنقله لما عرفت من احتمال تطرق السهو اليه ، ولكنه (قدس‌سره) معذور حيث انه لم يراجع الكافي ولم يطلع على رواية الشيخ لها في ذلك الموضع الآخر.

و (ثانيا) ـ ان ما ادعاه من ان روايات الوجه التي نقلها هي مستند الشيخ علي ابن بابويه فالظاهر انه ليس كذلك ، فإنها وان تضمنت ذكر الوجه إلا انها قد تضمنت مسح الكفين خاصة كما هو القول المشهور وابن بابويه قال بمسح الذراعين ، بل دل بعضها وهو الخبر الثالث مما قدمناه من الأخبار بعد ذكر مسح الوجه على انه مسح كفيه ولم يمسح الذراعين بشي‌ء ، والعجب انه قد ذكر هذا الخبر في جملة ما أورد ومع هذا يزعم انها مستند ابن بابويه. والتحقيق ان الوجه في هذه الأخبار انما هو حمل الوجه على

٣٤٥

الجبهة كما قدمنا تحقيقه ، واخبار علي بن بابويه انما هي الخبر الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر المشتملة على مسح الوجه كملا والذراعين من المرفقين لا هذه الأخبار التي توهمها ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

و (ثالثا) ـ ان ما نقله عن المعتبر في كلامه المتقدم من التخيير بين مسح الوجه وبعضه واستحسنه فهو بعيد من الحسن بمراتب كما لا يخفى على ذي الفهم الصائب ، ومثله ما وقع له في مسح اليدين من المرفقين كما دلت عليه اخبار علي بن بابويه المشار إليها فإنه جوز ذلك جمعا بين الأخبار وهو من الفساد بوجه لا يخفى على ذوي الأفكار ، وذلك فإنه قد تقدم في صحيحة زرارة الواردة في تفسير الآية (١) التنصيص بالنص الصريح الذي ليس عنه محيص في الآية والخبر المذكور على التبعيض في الوجه واليدين ، وقد استفاض في الاخبار ان ما خالف كتاب الله فهو زخرف وانه يضرب به عرض الحائط (٢) والاخبار المذكورة محمولة عند محققي أصحابنا على التقية (٣) التي هي في اختلاف الأخبار أصل كل بلية فلا ينبغي ان يلتفت إليها ولا يعرج عليها.

و (رابعا) ـ ان قوله ايضا : «واما مسح الحاجبين خاصة فلم أقف على مستنده» موجب للطعن عليه في ذكره له بالخصوص دون سائر أجزاء الوجه بقوله : «والمعتمد وجوب مسح الجبهة والجبينين والحاجبين» بقي الكلام في ذكر الصدوق له في عبارته التي قدمنا نقلها عنه في الفقيه والظاهر ان كلامه هذا مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي فإني لم أعثر عليه في غيره ، حيث انه (عليه‌السلام) بعد ان ذكر ما قدمنا نقله عنه قال في آخر البحث «وقد روى انه يمسح الرجل على جبينيه وحاجبيه ويمسح على ظهر كفيه» أو ان هذه الرواية التي ذكرها (عليه‌السلام) وصلت الى الصدوق (قدس‌سره) ولم

__________________

(١) ص ٣٣٣.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٩ من صفات القاضي وما يقضى به.

(٣) ذكر الشيرازي الشافعي في المهذب ج ١ ص ٣٢ في بيان كيفية التيمم مسح الوجه اجمع واليدين الى المرفقين وكذا في المغني ج ١ ص ٢٥٤ وبدائع الصنائع والبحر الرائق.

٣٤٦

تصل إلينا ، وعبارة الصدوق المتقدمة عين هذه العبارة وظاهرها هو تخصيص المسح بهذين الموضعين دون الجبهة. وكيف كان فالأحوط ضم الجبينين والحاجبين الى مسح الجبهة لهذه الرواية سيما مع عمل الصدوق بها.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض بعد ذكر مسح الجبهة وتحديدها : وهذا القدر متفق عليه وزاد الصدوق مسح الحاجبين ايضا وفي الذكرى لا بأس به ، وزاد بعضهم مسح الجبينين وهما المحيطان بالجبهة يتصلان بالصدغين لوجوده في بعض الاخبار والزيادة غير المنافية مقبولة ، ولا بأس به. ولا يجب استيعاب الوجه على المشهور لدلالة أكثر الاخبار على مسح الجبهة ونقل المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في المسائل الناصرية إجماع الأصحاب (رضوان الله عليهم) عليه ، ويدل عليه الباء في قوله تعالى : «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» لما تقرر من انها إذا دخلت على المتعدي تبعضه كما اختاره جماعة من الأصوليين وأهل العربية وقد نص على ذلك أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) في حديث زرارة المتقدم في الوضوء (١) ثم ذكر مذهب علي بن بابويه وطعن في اخباره بضعف السند ، ثم قال ويمكن حملها على الاستحباب.

أقول : لا يخفى ما في كلماتهم هنا من البعد عن ساحة الأخبار الواردة في المسألة كما عرفت مما قدمنا ذكره ومما في كلامه هنا (أولا) نسبته الى الصدوق مسح الحاجبين مع انه ذكر الحاجبين والجبينين مخصصا للمسح بهما لا زائدا لهما على الجبهة. و (ثانيا) ما ادعاه من دلالة أكثر الاخبار على مسح الجبهة مع انه لا وجود له كما عرفت إلا في رواية واحدة على تقدير أحد الطريقين وإلا فلا وجود لها بالكلية. و (ثالثا) ما ادعاه من حمل روايات علي بن الحسين على الاستحباب الذي اتخذوه ذريعة في جميع الأبواب ولا دليل عليه من سنة ولا كتاب مع مخالفته هنا لنص القرآن العزيز والخبر الصحيح الصريح في الباب.

__________________

(١) ص ٣٣٣.

٣٤٧

فروع : (الأول) ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الابتداء في المسح بالأعلى وعلله في الذكرى اما لمساواة الوضوء واما تبعا للتيمم البياني. ورده في المدارك بان ضعفهما ظاهر. أقول : اما التعليل الأول فلا ريب في ضعفه لانه لا يخرج عن مجرد القياس ، واما الثاني فهو جيد لو ثبت ذلك في التيمم البياني كما ذكره إلا انه لا وجود له في شي‌ء منها على تعددها وكثرتها كما عرفت مما قدمناه وهو اخبار المسألة كملا لم يشذ منها شاذ ، وانما تضمنت الأمر أو الاخبار بمسح الوجه أو الجبين أو الجبهة كيف اتفق من غير تعرض لبيان الكيفية بالكلية ، ولو دلت على ما ذكره كلا أو بعضا لكان القول بذلك جيدا كما حققناه في مسألة الابتداء بالأعلى في غسل الوجه. وحيث ان صاحب المدارك ممن ناقش ثمة في وجوب الابتداء بالأعلى مع اشتمال الوضوء البياني عليه نسب القول بذلك هنا بناء على وجود ذلك في التيمم البياني إلى الضعف ، وهو غير جيد لما عرفت ثمة وكان الطريق الأليق له هنا في المناقشة انما هو منع وجود ذلك في التيمم البياني كما ذكرنا ، نعم قد ورد ذلك في عبارة الفقه الرضوي كما قدمناه ولعلها هي المستند في الحكم المذكور عند المتقدمين كما عرفت في غير موضع وان غفل عنه المتأخرون لعدم ظهور الكتاب المذكور عندهم.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب وجوب المسح بالكفين معا دفعة فلو مسح بإحداهما لم يجزئ ، ونقل عن ابن الجنيد انه اجتزأ باليد اليمنى لصدق المسح ، وهو ضعيف مردود بالأخبار المتقدمة لاشتمالها فعلا وقولا على المسح بهما معا.

(الثالث) ـ الظاهر ان المراد من المسح باليدين أو بالكفين هو الاكتفاء بجزء من كل من اليدين بحيث يمره على الممسوح وان يستوعب الممسوح بالمسح بهما ، واما استيعاب الماسح فالظاهر عدمه لعدم إمكانه كما لا يخفى ، ويشير الى ما ذكرنا قوله (عليه‌السلام) في الحديث الرابع حكاية عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ثم مسح جبينه بأصابعه» واما ما ذكره في المدارك بعد ذكر الرواية المذكورة ـ من ان الاولى المسح

٣٤٨

بمجموع الكفين عملا بجميع الاخبار ـ فلا اعرف له وجها ، فإنه ان أراد استيعاب الماسح حال المسح كما هو ظاهر كلامه فهو متعذر ، إذ لا يخفى أن الجبهة لا يزيد قدرها على مقدار إصبعين أو ثلاث أصابع مضمومة فكيف ينطبق على هذا المقدار مجموع الكفين مع ما هما عليه من السعة والانتشار عرضا وطولا؟ نعم لو كان الممسوح مجموع الوجه لربما أمكن ذلك اما في الجبهة فهو غير ممكن ، وان أراد بمجموع الكفين يعني بجزء من كل منهما بحيث يحصل استيعاب الجبهة بهما معا فهو ما نقوله وهو الذي دل عليه الخبر فلا معنى لهذه الأولوية بعد ذكر الخبر الدال على ذلك ، والظاهر انه تبع في ذلك ما ذكره في الذكرى بقوله : «الأقرب وجوب ملاقاة بطن الكفين للجبهة» وفيه ما عرفت. وبالجملة فإن غاية ما يفهم من الاخبار المتقدمة انه يمسح بيديه جبهته أو جبينه مع انطباق الماسح على الممسوح أعم من ان يكون كلا أو بعضا ، وحينئذ فيحمل إطلاقها على ما دلت عليه الصحيحة المذكورة من الاكتفاء بجزء من كل منهما لا المجموع ، مع انهم قد صرحوا في مسألة السجود على الكفين بالاكتفاء بالمسمى بل نقل في المدارك ثمة انه لا يعرف خلافا في ذلك ، وسؤال الفرق متجه إذ لا مستند للجميع إلا الإطلاق ، هذا مع إمكان الانطباق كما ذكرناه ، واما مع عدمه كما عرفت فالأمر أهون من ذلك.

(المقام الرابع) ـ في مسح الكفين وهو المشهور بين الأصحاب وحدهما من الزند إلى أطراف الأصابع ، والزند مفصل الكف والذراع ويسمى الرسغ بضم الراء ثم السين المهملة ثم الغين المعجمة ، وفي المسألة قولان آخران : (الأول) قول علي ابن بابويه وابنه في المجالس بمسح اليدين من المرفقين الى رؤوس الأصابع. و (الثاني) ـ ما نقله ابن إدريس عن بعض الأصحاب ان المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رؤوسها.

ويدل على القول المشهور ـ وهو المؤيد المنصور ـ الأخبار الكثيرة المؤيدة بظاهر الآية ، ثم لا يخفى ان الأخبار المذكورة أكثرها قد صرح بالكفين وبعض بلفظ اليدين وقضية حمل المطلق على المقيد التخصيص بالكفين ، وهي ظاهرة في رد القولين الآخرين

٣٤٩

للتخصيص بالكفين كما عرفت ولا سيما الخبر الثالث وقوله (عليه‌السلام) : «ولم يمسح الذراعين بشي‌ء» فإنه صريح في رد ما ذهب اليه ابن بابويه ، وقوله (عليه‌السلام) في الخبر الأول والثاني : «ومسح يديه فوق الكف قليلا» إشارة إلى إدخال جزء من الذراع من باب المقدمة فإنه صريح في رد القول الثاني.

ومما يدل على مذهب ابن بابويه الخبر الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر ، وهي ـ كما عرفت ـ مطروحة عندنا مردودة إلى قائلها لمخالفتها لظاهر القرآن المأمور بعرض الأخبار عليه والأخذ بما وافقه ورد ما خالفه ، وقد عرفت مما أوضحناه في سابق هذا المقام مخالفتها لظاهر الآية المفسرة في الرواية الصحيحة بالتبعيض في كل من الوجه واليدين فلا مسح على اليدين كملا لا تخييرا ولا استحبابا كما صار إليه أصحابنا (رضوان الله عليهم) جمعا بين أخبار المسألة ، والعجب منهم كيف الغوا هذه القواعد الشرعية التي استفاضت اخبار أئمتهم (عليهم‌السلام) بها ونبذوها وراء ظهورهم ، فليت شعري لمن ألقيت هذه القواعد ومن خوطب بها سواهم؟ وهم قد ألغوها في جميع أبواب الفقه وعكفوا على الجمع بين الأخبار بالكراهة والاستحباب مع ظهور الحمل على التقية في مواضع ومخالفة القرآن في مواضع كما حققناه في أبواب هذا الكتاب وسنشير اليه فيما يأتي ان شاء الله تعالى في غير هذا الباب ، ما هذا إلا عجب عجاب.

واما القول الثاني فيدل عليه الحديث الرابع عشر ، وهو مع ضعفه وشذوذه لا يبلغ قوة المعارضة لما عرفت من الأخبار المجمع على العمل بها قديما وحديثا بين الطائفة المحقة فيجب إطراحه وإرجاعه إلى قائله (عليه‌السلام) والظاهر انه الى هذه الرواية أشار مولانا الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي بقوله : «وروي من أصول الأصابع. إلخ».

واعلم انه قد استدل في المدارك على القول المشهور بعد نقل الأقوال المتقدمة واختياره المشهور هنا فقال : لنا قوله تعالى «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» والباء للتبعيض كما بيناه ، وأيضا فإن اليد هي الكف الى الرسغ يدل عليه قوله تعالى : «وَالسّارِقُ

٣٥٠

وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» (١) والإجماع منا ومن العامة منعقد على انها لا تقطع من فوق الرسغ وما ذاك إلا لعدم تناول اليد له حقيقة ، ثم قال : ويدل عليه أيضا الأخبار المستفيضة.

أقول : لا يخفى ما في كلامه هنا من النظر الظاهر (اما أولا) ـ فإن الآية إنما تنفي مذهب ابن بابويه خاصة دون القول بالمسح من أصول الأصابع إلى رؤوسها لصدق البعضية هنا ، فلا يتم استدلاله مطلقا على المدعى. و (اما ثانيا) ـ فان ما ذكره من ان اليد هي الكف الى الرسغ على إطلاقه ممنوع ، فان اليد لها إطلاقات ومعان عديدة : منها ـ يد السارق وهي من أصول الأصابع. ومنها ـ يد المتيمم وهي من الزند على الأشهر الأظهر رواية وفتوى ، ومنها ـ يد المتوضئ وهي من المرفقين ، ومنها اليد عرفا وهي من الكتف. و (اما ثالثا) ـ وهو أعجبها وأغربها ، فإن استدلاله على ما ادعاه ـ من كون اليد من الرسغ بآية «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ ... الآية» مع ان يد السارق كما عرفت اتفاقا وبه اعترف في آخر كلامه وبحثه بقوله : وموضع القطع من أصول الأصابع عند الأصحاب ـ عجيب غريب من مثل هذا المحقق الأريب. وبالجملة فكلامه هنا مختبط لا اعرف له وجها وجيها ، والأظهر هو الرجوع فيما ادعاه الى الاخبار خاصة كما ذكره بقوله : ويدل عليه الاخبار المستفيضة. إلخ.

فروع : (الأول) ـ المشهور وجوب الابتداء بالمسح من الزند الى رؤوس الأصابع فلو نكس بطل ، ولم أقف لهم على دليل إلا ما ذكره بعضهم من المساواة للوضوء وهي لا تنهض بالدلالة. والمسألة محل اشكال والاحتياط يقتضي ما قالوه سيما مع ترجحه بظاهر الرواية المنقولة في كتاب الفقه وقوله (عليه‌السلام) : «ثم تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصول الأصابع من فوق الكف ثم تمرها على مقدمها على ظهر الكف» فإنه ظاهر في الابتداء من الزند ، وقوله : «من فوق الكف» بدل من قوله «من أصول الأصابع».

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٣٨.

٣٥١

(الثاني) ـ المشهور ان محل المسح في الكفين ظهورهما لا بطونهما. بل ظاهر كلامهم ان هذا الحكم مجمع عليه بين القائلين بتخصيص المسح بالكف ، وأكثر الأخبار المتقدمة وان كانت مطلقة في الحكم المذكور إلا ان الخبر الخامس والثامن عشر قد صرحا بان الممسوح عليه ظهر الكف لا بطنها وعليهما يحمل إطلاق غيرهما من الاخبار.

(الثالث) ـ يجب تقديم اليمنى على اليسرى ، وربما علل بأنه بدل مما يجب فيه التقديم. وهو ضعيف. والروايات المتقدمة أكثرها مطلق إلا ان خبر السرائر وهو الثامن عشر قد تضمن انه مسح اليسرى على اليمنى واليمنى على اليسرى ، والظاهر انه وان كان العطف فيه بالواو التي لا تفيد الترتيب وانما تفيد لغة مجرد الجمع إلا ان المراد هو الترتيب بينهما ، فإنه كثيرا ما يقع العطف بها كذلك في مقام الترتيب توسعا واعتمادا على ظهور الحكم ، ألا ترى انه مع وجوب تقديم المسح على الجبهة على مسح الكفين فجملة من الاخبار انما اشتملت على العطف بينهما بالواو ، وكل ذلك توسعا لظهور الحكم وشهرته ، وأمثال ذلك مواضع لا تحصى يقف عليها المتتبع ، وأصرح منها في ذلك قوله (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي : «ثم تضرب بهما اخرى فتمسح بها اليمنى» فان عطف المسح بالفاء على الضرب يقتضي تقديم اليمنى ، والظاهر ان لفظ «بها» في العبارة غلط من الناسخ ، وقوله في الرواية التي نقلها «ثم تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصول الأصابع من فوق الكف ثم تمرها على مقدمها على ظهر الكف ثم تضع أصابعك اليمنى على أصابعك اليسرى فتصنع بيدك اليمنى ما صنعت بيدك اليسرى على يدك اليمنى مرة واحدة» فإنه ظاهر بل صريح في الترتيب وتقديم اليمنى ، وبالجملة فالعمل على وجوب تقديم اليمنى على اليسرى كما عليه الأصحاب وان كانت أبواب المناقشة مفتوحة إلا انها عند التأمل والإنصاف غير متجهة.

(الرابع) ـ الظاهر وجوب المسح بباطن الكف دون ظاهرها لانه هو المتبادر

٣٥٢

والمتكرر الذي ينصرف إليه الإطلاق ، إلا ان يحصل العذر من المسح به فيجوز بالظهر مع احتمال التولية.

(الخامس) ـ لو كان له يد زائدة فالكلام فيها كما تقدم في الوضوء.

(السادس) ـ لو كان على بعض أعضائه جبائر من الوجه أو اليدين مسح على الجبائر كما تقدم في الوضوء إذا لم يتمكن من حلها ، والنصوص وان كانت خالية من خصوص ذكر هذا الفرع إلا ان المفهوم من عمومها الدلالة على ان الجبيرة قائمة مقام الجسد عند تعذر حلها فيجب الغسل فيها في موضع الغسل والمسح في موضعه مع تعذره وكذا المسح في التيمم ، ولأن اللازم من عدم المسح عليها ترك الصلاة وسقوطها في الصورة المذكورة إذ لا تصح بدون طهارة ، ومن المعلوم بطلانه ، فليس إلا ما قلناه ، والظاهر انه لا خلاف فيه. ولو كانت مكشوفة مسح عليها.

(السابع) ـ لو كانت مواضع المسح نجسة يتعذر تطهيرها فالظاهر وجوب المسح عليها ، إذ اشتراط طهارتها مخصوص بصورة الإمكان ومع التعذر يسقط ، ويدل عليه إطلاق الأخبار المتقدمة ، والظاهر انه لا خلاف فيه فيما اعلم. وكذا لو كانت النجاسة في الأعضاء الماسحة فإنه يضرب بها على الأرض ويمسح إلا ان تكون نجاستها متعدية فتتعدى الى التراب المضروب عليه وينجس بذلك فيشكل الحكم لما عرفت سابقا من اشتراط طهارة التراب الذي يمسح به ، والظاهر هنا سقوط الفرض ويدخل تحت مسألة فاقد الطهورين وقد تقدم الكلام فيها ، ويحتمل التولية.

(الثامن) ـ يجب استيعاب الممسوح من الجبهة وظهر الكفين بالمسح بلا خلاف يعرف بل في المنتهى انه قول علمائنا وأكثر العامة ثم علله بأن الإخلال بمسح البعض إخلال بالكيفية المنقولة فلا يكون الآتي بذلك آتيا بالتيمم المشروع ، وإطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين ان يكون الإخلال بمسح البعض عمدا أو نسيانا ولا في البعض بين القليل والكثير وبذلك صرح في المعتبر ، وهو كذلك لصدق الإخلال

٣٥٣

بالكيفية الشرعية فيبطل ، واما الماسح فلا ، اما الأول فلظواهر الأخبار المتقدمة بأنه يمسح جبهته وظهر كفيه والمتبادر استيعابهما. واما الثاني فلصدق المسح المأمور به بدون ذلك وتخرج صحيحة زرارة الدالة على مسح النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جبينه بأصابعه شاهدة على ذلك.

(المقام الخامس) في بيان جملة من الواجبات : (الأول) ـ الترتيب ، والظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في انه يجب الضرب أولا ثم مسح الجبهة ثم ظهر الكف الأيمن ثم ظهر الكف الأيسر ، وقد صرح بالإجماع على الحكم المذكور في المنتهى والتذكرة ، واحتج عليه في التذكرة بقوله تعالى : «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» فإن الواو للترتيب عند الفراء ، وبان التقديم لفظا يستدعي سببا لاستحالة الترجيح من غير مرجح ولا سبب إلا التقديم وجوبا ، وبأنه (عليه‌السلام) رتب في مقابلة الامتثال فيكون واجبا. ولا يخفى ما في الجميع من القصور وعدم الصلوح لتأسيس حكم شرعي.

وقال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) : كل من أوجب الترتيب في المائية أوجبه هنا والتفرقة منفية بالإجماع وقد ثبت وجوبه هناك فيثبت هنا. وفيه ما في سابقه. أقول : اما وجوب الضرب أولا ثم مسح الجبهة ثانيا ثم اليدين ثالثا فإنه مدلول جملة من الأخبار المتقدمة كالأول والخامس والثامن عشر والتاسع عشر وعليها يحمل ما أطلق من باقي الاخبار ، وانما يبقى الكلام في اليد اليمنى واليسرى وترتب إحداهما على الأخرى ، وقد تقدم الكلام فيه في الفرع الثالث من الفروع المتقدمة.

(الثاني) ـ المباشرة بنفسه ، ويدل عليه مضافا الى إجماع الأصحاب على ذلك قوله عزوجل «فَتَيَمَّمُوا» فان الخطاب فيه للمكلفين المأمورين بالتيمم والصلاة ، وحقيقة الأمر طلب الفعل من المأمور. نعم لو تعذر ذلك منه لمرض ونحوه فالظاهر جواز التولية ، لكن هل يضرب المتولي بيدي العليل على الأرض ثم يرفعهما ويمسح بهما وجهه ويديه أو ان المتولي يضرب بيدي نفسه ويمسح بهما وجه العليل ويديه؟ لم أقف

٣٥٤

في ذلك على نص ، ويحتمل ان يقال انه ان أمكن الوجه الأول فهو الاولى بالتقديم وإلا فالثاني ، والأمر بالتولية في التيمم في الجملة مع العذر قد ورد في جملة من الأخبار لكن كونها على اي من الوجهين المتقدمين لم أقف على نص يدل عليه.

(الثالث) ـ أوجب الأصحاب هنا أيضا الموالاة وأسنده في المنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، واحتج عليه بقوله تعالى : «فَتَيَمَّمُوا» أوجب علينا التيمم عقيب ارادة القيام إلى الصلاة ولا يتحقق إلا بمجموع اجزائه فيجب فعلها عقيب الإرادة بقدر الإمكان. ورده في المدارك بأنه غير جيد إذ من المعلوم ان المراد بالتيمم هنا المعنى اللغوي وهو القصد لا التيمم بالمعنى الشرعي. أقول : فيه ما تقدم في صدر الباب في تفسير الآية المذكورة من ان التيمم فيها إنما أريد به المعنى الشرعي وهو القصد الى التراب للمسح على الوجه واليدين على الوجه المأمور به شرعا ، ولا ريب ان مراده عزوجل هنا بقرينة ما قبل هذه الكلمة وما بعدها ليس مجرد القصد وانما هو القصد المخصوص وهو عبارة عن قصد الصعيد والمسح به كما ذكر عز شأنه ، وبه يتم الاستدلال الذي ذكره العلامة (قدس‌سره) من انه أوجب علينا التيمم الذي هو القصد المخصوص عقيب ارادة القيام إلى الصلاة. الى آخر ما ذكره. ثم نقل في المدارك عن الذكرى انه استدل عليه أيضا بأن التيمم البياني عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأهل بيته توبع فيه فيجب للتأسي ، ثم اعترض عليه بان فيه نظرا إذ التأسي انما يجب فيما يعلم وجوبه وهو منتف هنا إذ من الجائز ان تكون المتابعة إنما وقعت اتفاقا لا لاعتبارها بخصوصها. أقول : التحقيق ان هنا شيئين : (الأول) ـ ان يفعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو الإمام (عليه‌السلام) فعلا لبيان ما أمر الله سبحانه من الأوامر المجملة المطلقة المحتملة الوقوع على أنحاء متعددة ووجوه متكثرة وفي هذه الحال يجب ان يقيد بفعله (عليه‌السلام) إطلاق تلك الأوامر ويحكم به على مجملها ويكون موضحا لها ومبينا فيجب العمل عليه كما أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في باب الوضوء في مسألة الابتداء بغسل الوجه من الأعلى (الثاني) ـ ان يفعله (عليه‌السلام)

٣٥٥

اتفاقا كسائر أفعاله لا بخصوص ما تقدم ، وهذا هو الذي يتجه فيه المناقشة بما ذكره (قدس‌سره) وان كان قد خالف نفسه فيه في غير موضع من شرحه كما أوضحنا ذلك في شرحنا على الكتاب حيث استدل بالتأسي على الوجوب في مواضع عديدة ، إلا أن الحق انه لا دلالة فيه ، وما ذكره شيخنا الشهيد هنا انما هو من قبيل الأول لأن التيمم الذي أمر الله به سبحانه مجمل وبيانهم (عليهم‌السلام) كمية وكيفية موجب لتفسير ذلك الإجمال ورافع لتعدد الاحتمال في ذلك المجال فيجب الأخذ به بغير اشكال.

(الرابع) ـ ذكر جمع من الأصحاب ايضا ان من الواجب هنا طهارة مواضع المسح من النجاسة ، واستدل عليه في الذكرى بان التراب ينجس بملاقاة النجاسة فلا يكون طيبا ، وبمساواته أعضاء الطهارة المائية. واعترضه في المدارك بان الدليل الأول أخص من المدعى ، والثاني قياس محض ، وان مقتضى الأصل عدم الاشتراط والمصرح باعتبار ذلك قليل من الأصحاب. أقول : وهو جيد ، ويؤيده عموم الأدلة أو إطلاقها لعدم التصريح أو الإشارة في شي‌ء منها الى هذا الشرط. ثم ذكر ان الاحتياط يقتضي المصير الى ما ذكروه. وهو كذلك. والله العالم.

(المطلب الرابع) ـ في بيان وقته ، اتفق الأصحاب على انه لا يصح التيمم للفريضة قبل الوقت وانه يصح مع تضيقه ، وانما الخلاف في انه يصح مع السعة أم لا؟ فقيل بالصحة مطلقا وهو مذهب الصدوق وقواه في المنتهى والتحرير ونقله الشهيد عن ظاهر الجعفي واستقربه في البيان ، وقيل انه لا يجوز إلا في آخر الوقت ذهب اليه الشيخ في أكثر كتبه والمرتضى وأبو الصلاح وسلار وابن إدريس وهو ظاهر المفيد ، وهو المشهور كما نقله في المختلف حيث قال : المشهور ان تضيق الوقت شرط في صحة التيمم فلو تيمم في أول الوقت لم يصح تيممه وان كان آيسا من الماء في آخر الوقت. وقيل بالتفصيل بأنه ان علم أو ظن عدم وجود الماء الى آخر الوقت جاز التقديم وإلا فلا ، ونقل عن ابن الجنيد حيث قال على ما نقله عنه في المختلف : طلب الماء قبل التيمم مع الطمع في وجوده والرجاء

٣٥٦

للسلامة واجب على كل أحد إلى آخر الوقت مقدار رمية سهم في الحزونة وفي الأرض المستوية رمية سهمين ، فان وقع اليقين بفوته الى آخر الوقت أو غلب الظن كان تيممه وصلاته في أول الوقت أحب الي. والى هذا القول ذهب العلامة في جملة من كتبه واستجوده المحقق في المعتبر ، وعليه تجتمع الأخبار كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

ويدل على القول الأول الأخبار المستفيضة الدالة على ان من تيمم وصلى ثم وجد الماء والوقت باق فإنه لا اعادة عليه ، وكثير منها يدل بإطلاقه ومنها ما يدل بصريحه ، ومن الصريح في ذلك رواية علي بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له أتيمم وأصلي ثم أجد الماء وقد بقي علي وقت؟ فقال لا تعد الصلاة فإن رب الماء هو رب الصعيد.». ورواية معاوية بن ميسرة (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل في السفر لا يجد الماء تيمم وصلى ثم اتى الماء وعليه شي‌ء من الوقت أيمضي على صلاته أم يتوضأ ويعيد الصلاة؟ قال : يمضي على صلاته فان رب الماء هو رب التراب». وموثقة علي بن أسباط عن عمه عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت؟ قال قد مضت صلاته وليتطهر». وموثقة أبي بصير (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل تيمم وصلى ثم بلغ الماء قبل ان يخرج الوقت؟ فقال ليس عليه إعادة الصلاة». ورواية يعقوب بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت؟ قال قد مضت صلاته وليتطهر». وصحيحة زرارة (٦) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) فإن أصاب الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت؟ قال تمت صلاته ولا اعادة عليه». وأجاب الشيخ عن صحيحة زرارة وما في معناها بحمل قوله : «وهو في وقت» على انه صلى في وقت لا على اصابة الماء. ولا يخفى ما فيه من البعد الظاهر لكل ناظر ، وموثقة أبي بصير صريحة فيما ادعيناه غير قابلة لتأويله بوجه. وأجيب

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

٣٥٧

عنها ايضا بالحمل على ما إذا ظن المكلف الضيق وانكشف فساد ظنه. وهو بعيد أيضا غاية البعد. وصحيحة العيص (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يأتي الماء وهو جنب وقد صلى؟ قال يغتسل ولا يعيد الصلاة». وهذه الرواية مما تدل بإطلاقها على ذلك وان لم تكن صريحة كما قبلها ، ونحوها صحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء؟ فقال لا يعيد ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين». وصحيحة عبيد الله بن علي الحلبي (٣) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء؟ قال يتيمم بالصعيد فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة». وحسنة الحلبي (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من الأرض ويصلى فإذا وجد ماء فليغتسل وقد أجزأته صلاته التي صلى». وفي معناها صحيحة عبد الله بن سنان (٥).

والتقريب في الروايات المذكورة ان بعضها قد رتب فيه التيمم على عدم وجود الماء فلا يتقيد بغيره إلا بدليل ، وبعضها ظاهر كالصريح في انه لو تيمم في السعة وصلى ثم وجد الماء والوقت باق فلا اعادة عليه ، وتأويل الشيخ قد عرفت ما فيه ، وبعضها دل بإطلاقه على ذلك ايضا.

واما ما رواه الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن يقطين (٦) ـ قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل تيمم وصلى فأصاب بعد صلاته ماء أيتوضأ ويعيد الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال إذا وجد الماء قبل ان يمضي الوقت توضأ وأعاد فان مضى الوقت فلا اعادة عليه». وموثقة منصور بن حازم عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) «في رجل تيمم وصلى ثم أصاب الماء؟ قال اما انا فكنت فاعلا اني كنت أتوضأ وأعيد».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

٣٥٨

فقد حملهما الأصحاب على الاستحباب ، والثاني منهما ظاهر في ذلك فان تخصيصه (عليه‌السلام) الإعادة بنفسه مشعر بذلك ولو كان حكما كليا عاما لما حسن هذا التخصيص كما لا يخفى ، وسيأتي ان شاء الله تعالى في المطلب الخامس مزيد بيان في هذه المسألة.

واستدل جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) لهذا القول بالآية وهي قوله عزوجل : «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... الى ان قال فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (١) فإنه سبحانه أوجب التيمم على المكلف عند ارادة القيام إلى الصلاة إذا لم يجد الماء فلا يتقيد بضيق الوقت وأجاب المرتضى في الانتصار بان الاستدلال بها يتوقف على إثبات أن للمكلف ان يريد الصلاة في أول الوقت ونحن نخالفه فيه ونقول ليس ذلك له. وأجيب عنه بأنه مع تسليم تحريم الإرادة في أول الوقت عند العلم بالحكم فإنه لا يلزم منه عدم وجودها فإذا وجدت وجب المشروط وهو إيجاب التيمم ، وايضا ليس المراد الإرادة المتصلة بفعل الصلاة لشرعية الطهارة في أول الوقت لمن أراد الصلاة في آخره فإذا أراد الصلاة المتأخرة عن زمان الإرادة والحال انه لا مانع من ذلك فقد تحقق الشرط. أقول : والأظهر هو الرجوع الى ما قدمناه من الأخبار فإنها مكشوفة القناع لا يداخلها الجدال والنزاع.

ويدل على القول الثاني جملة من الأخبار : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سمعته يقول إذا لم تجد ماء وأردت التيمم فأخر التيمم الى آخر الوقت فان فاتك الماء لم تفتك الأرض». وحسنة زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل». وموثقة ابن بكير عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) في حديث قال فيه : «فإذا تيمم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت فإن

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٨.

(٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب التيمم.

٣٥٩

فاته الماء فلن تفوته الأرض». ورواية محمد بن حمران (١) وقوله (عليه‌السلام) في آخرها : «واعلم انه ليس ينبغي لأحد ان يتيمم إلا في آخر الوقت». وموثقة ابن بكير المروية في قرب الاسناد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أجنب فلم يصب الماء أيتيمم ويصلي؟ قال لا حتى آخر الوقت انه ان فاته الماء لم تفته الأرض». وقوله (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (٣) : «وليس للمتيمم ان يتيمم إلا في آخر الوقت أو الى ان يتخوف خروج وقت الصلاة».

ولا يخفى على المتأمل ما في دلالة هذه الاخبار على القول المذكور من الصراحة والظهور ، فإنها قد اشتملت على الأمر بالتأخير في بعض والأمر حقيقة في الوجوب والنهي عن التقديم في بعض وهو حقيقة في التحريم. واما ما ذكره في المدارك ـ من المناقشة في ان لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة ـ فهو مبني على العرف الجاري بين الناس وإلا فهي في الاخبار قد استفاض ورودها بمعنى التحريم ، وقد عرفت في غير موضع مما قدمنا ان لفظ «ينبغي ولا ينبغي» في الاخبار من جملة الألفاظ المتشابهة لاستعمالها في الاخبار في الوجوب والتحريم تارة ولعله الأكثر كما لا يخفى على المتدبر ، وفي الاستحباب والكراهة أخرى ، فلا يحملان على أحد المعنيين إلا مع القرينة ، والقرينة هنا في حمله على التحريم الروايات المذكورة مع هذا الخبر بالتقريب المتقدم. واما المناقشة في حسنة زرارة ـ بأنها متروكة الظاهر إذ لا يعلم قائلا بوجوب الطلب في مجموع الوقت سوى المحقق في المعتبر ـ فهو مردود (أولا) ـ بأنه لا مانع من العمل بالخبر إذا دل على الحكم وان لم يكن به قائل ومن ثم قد عمل المحقق بذلك كما نقله عنه. و (ثانيا) ـ انه لا يلزم من رد الخبر من هذه الجهة لعدم القائل به رده في الحكم الآخر وهو وجوب التأخير مع وجود القائل به ودلالة النصوص عليه. و (ثالثا) ـ انه قد صرح هو وغيره بحمل الأمر بالطلب في الخبر على الاستحباب حيث

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب التيمم.

(٣) ص ٥.

٣٦٠