الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

فنفضهما ثم مسح على جبينه وكفيه مرة واحدة».

(الثامن) ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (١) «في التيمم؟ قال : تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك».

(التاسع) ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) قال : «التيمم ضربة للوجه وضربة للكفين».

(العاشر) ـ ما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «سألته عن التيمم؟ فقال مرتين مرتين للوجه واليدين».

(الحادي عشر) ـ ما رواه في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت له كيف التيمم؟ قال هو ضرب واحد للوضوء والغسل من الجنابة : تضرب بيديك مرتين ثم تنفضهما نفضة للوجه ومرة لليدين ، ومتى أصبت الماء فعليك الغسل ان كنت جنبا والوضوء ان لم تكن جنبا».

(الثاني عشر) ـ ما رواه في التهذيب والفقيه في الموثق عن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن التيمم من الوضوء ومن الجنابة ومن الحيض للنساء سواء؟ فقال نعم».

(الثالث عشر) ـ ما رواه في الكافي في الموثق عن ابي بصير (٦) قال : «سألته عن تيمم الحائض والجنب سواء إذا لم يجدا ماء؟ فقال نعم».

(الرابع عشر) ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن حماد بن عيسى في الصحيح أو الحسن عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) «انه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية : «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» (٨) وقال : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١١ من أبواب التيمم.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب التيمم.

(٧) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب التيمم.

(٨) سورة المائدة. الآية ٣٨.

٣٢١

إِلَى الْمَرافِقِ» (١) قال فامسح على كفيك من حيث موضع القطع وقال (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)» (٢).

(الخامس عشر) ـ ما رواه في التهذيب عن ليث المرادي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «في التيمم؟ قال تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك».

(السادس عشر) ـ ما رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة (٤) قال : «سألته كيف التيمم؟ فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه الى المرفقين».

(السابع عشر) ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن التيمم؟ فضرب بكفيه الأرض ثم مسح بهما وجهه ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها ثم ضرب بيمينه الأرض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه ، ثم قال هذا التيمم على ما كان فيه الغسل وفي الوضوء الوجه واليدين الى المرفقين والقى ما كان عليه مسح الرأس والقدمين فلا يؤمم بالصعيد».

(الثامن عشر) ـ ما نقله ابن إدريس في آخر كتاب السرائر من كتاب نوادر احمد بن محمد بن ابي نصر عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٦) قال : «اتى عمار بن ياسر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال يا رسول الله اني أجنبت الليلة ولم يكن معي ماء؟ قال : كيف صنعت؟ قال طرحت ثيابي وقمت على الصعيد فتمعكت فيه. فقال هكذا يصنع الحمار انما قال الله عزوجل «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (٧) فضرب بيديه على الأرض ثم ضرب إحداهما على الأخرى ثم مسح بجبينيه

__________________

(١ و ٧) سورة المائدة. الآية ٦.

(٢) سورة مريم. الآية ٦٥.

(٣ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب التيمم.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب التيمم.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ١١ من أبواب التيمم.

٣٢٢

ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى مسح اليسرى على اليمنى واليمنى على اليسرى».

(التاسع عشر) ـ ما في الفقه الرضوي (١) حيث قال (عليه‌السلام) : «وصفة التيمم للوضوء والجنابة وسائر أبواب الغسل واحد وهو ان تضرب بيديك على الأرض ضربة واحدة ثم تمسح بهما وجهك موضع السجود من أحد الحاجبين الى الذقن ، وروي انه موضع السجود من مقام الشعر الى طرف الأنف ، ثم تضرب بهما اخرى فتمسح بها اليمنى الى حد الزند وروي من أصول الأصابع تمسح باليسرى اليمنى وباليمنى اليسرى على هذه الصفة ، واروي إذا أردت التيمم اضرب كفيك على الأرض ضربة واحدة ثم تضع احدى يديك على الأخرى ثم تمسح بأطراف أصابعك وجهك من فوق حاجبيك وبقي ما بقي ثم تضع أصابعك اليسرى على أصابعك اليمنى من أصل الأصابع من فوق الكف ثم تمرها على مقدمها على ظهر الكف ثم تضع أصابعك اليمنى على أصابعك اليسرى فتصنع بيدك اليمنى ما صنعت بيدك اليسرى على اليمنى مرة واحدة ، فهذا هو التيمم وهو الوضوء التام الكامل في وقت الضرورة».

أقول : هذا ما حضرني من روايات المسألة وسيأتي الكلام ان شاء الله فيها في كل حكم مما يتعلق به في موضعه ، فلنرجع الى ما وعدنا من الكلام في المقامات الخمسة فنقول :

(المقام الأول) ـ في النية وهي وان كانت عندنا غنية عن البيان كما سلف لك تحقيقه في غير مكان ولا سيما في بحث نية الوضوء وما أودعناه فيه من التحقيق الساطع البرهان ، وقد عرفت فيما سبق في باب الوضوء بعد تحقيق الكلام في النية الكلام في قيودها التي ذكروها وما الذي يجب منها وما لا يجب ، إلا انه بقي الكلام هنا في مواضع لم يتقدم لها ذكر فيما سبق :

(الأول) ـ ان المشهور في كلامهم بناء على وجوب نية الرفع أو الاستباحة

__________________

(١) ص ٥.

٣٢٣

في الطهارة انه لا يجوز نية الرفع في التيمم وانما ينوي فيه الاستباحة خاصة ، وذلك للفرق بينهما فإن الاستباحة عبارة عن رفع المنع ورفع الحدث عبارة عن رفع المانع ، فعلى هذا يمتنع نية الرفع من المتيمم ودائم الحدث لاستمرار المانع وعدم إمكان رفعه ولهذا وجب على دائم الحدث تجديد الوضوء لكل صلاة والمتيمم فإنه ينتقض تيممه برؤية الماء مع انه ليس بحدث ، وانما ينويان الاستباحة لأنهما بالطهارتين المذكورتين أبيح لهما الدخول في العبادة وان كان الحدث باقيا.

وتفصيل هذه الجملة ببيان ابسط ان يقال يجب ان يعلم ان الحدث لفظ مشترك يطلق على معنيين : (أحدهما) نفس الخارج الناقض للطهارة و (الثاني) أثره وهو المانع من الدخول في العبادة المتوقف رفعه على الطهارة ، والمعنى الأخير هو محل البحث في المسألة لا الأول لامتناع رفع الواقع فإنه قد وقع والواقع لا يرتفع ، وانما المراد رفع المانع أي الأثر الحاصل بسبب الخارج على ما عرفت ، فنية الرفع يقصد بها ازالة المانع المستلزم لازالة المنع كما في طهارة المختار ، ولهذا ان الرفع والاستباحة بالنسبة إليه متلازمان ، ونية الاستباحة يقصد بها ازالة المنع وهو أعم من رفع المانع إذ قد يرتفع المنع ولا يرتفع المانع بالكلية ، كما في المتيمم فإنه يستبيح الصلاة مع عدم ارتفاع حدثه ومن ثم يجب عليه الطهارة المائية عند التمكن منها ، ولو كان الحدث مرتفعا بالتيمم لم تجب الطهارة المائية بذلك الحدث السابق فهو دليل على عدم زوال المانع ، وكما في دائم الحدث فإن الإباحة تحصل له بوضوئه للصلاة الواحدة مع بقاء اثر الحدث المتأخر عن الطهارة والمقارن فلم يحصل فيه سوى زوال المنع ، فان المانع مقارن للطهارة وانما حصل له بالطهارة إباحة الصلاة خاصة وبذلك يظهر الفرق بينهما بالنسبة إلى الطهارة الاضطرارية ودائم الحدث.

قال في المعتبر : التيمم لا يرفع الحدث وهو مذهب العلماء كافة ، ثم احتج عليه بان المتيمم يجب عليه الطهارة عند وجود الماء بحسب الحدث السابق فلو لم يكن الحدث السابق باقيا لكان وجوب الطهارة بوجود الماء إذ لا وجه غيره ، ووجود الماء ليس

٣٢٤

حدثا بالإجماع ، ولانه لو كان حدثا لوجب استواء المتيممين في موجبه ضرورة استوائهم فيه ، لكن هذا باطل لان المحدث لا يغتسل والمجنب لا يتوضأ ، ثم أورد خبرا من طرق العامة يتضمن تسمية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لمن تيمم عن الغسل وصلى جنبا (١) ثم قال : فرع : لو تيمم ونوى رفع الحدث لم يستبح به الصلاة لأن النية تابعة للمشروع وحيث لا مشروعية فلا نية. انتهى.

وذهب جمع من محققي متأخري المتأخرين ـ وهو الحق الحقيق بالاتباع ـ الى عدم الفرق بين الرفع والاستباحة بل هما بمعنى واحد مطلقا ، وذلك فان الحدث بالمعنى الثاني المتقدم وهو الذي يمكن رفعه لا يعقل له معنى في الشرع سوى الحالة التي لا يسوغ للمكلف الدخول في العبادة بها ، ومتى جوز الشارع له الدخول بوجه من الوجوه وسبب من الأسباب فإنه يجب القطع بزوال تلك الحالة وهو معنى الرفع ، غاية الأمر ان زوالها يتفاوت بتفاوت أحوال المكلفين فقد يحصل زوالها مطلقا كما في الطهارة الاختيارية لغير دائم الحدث وقد يحصل إلى غاية كما في المتيمم ودائم الحدث ، وهذا القدر لا يوجب تخصيص كل قسم باسم بحيث لا ينصرف الى غيره ، ونقل هذا القول عن الشهيد (قدس‌سره) في قواعده ومال اليه الشهيد الثاني في شرح الألفية مع زيادة تصلبه في العمل بالقول المشهور في الروض ، قال في شرح الألفية بعد الكلام في المسألة : وذهب المصنف (رضي‌الله‌عنه) في بعض تحقيقاته الى الاكتفاء بنية رفع الحدث بناء على ان المراد منه هو المانع ولولا ارتفاعه لما أبيحت الصلاة أو بجملة على الحدث

__________________

(١) وهو حديث عمرو بن العاص وقد رواه أحمد في مسنده ج ٢ ص ٢٠٥ هكذا : ان عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل احتلم فأجنب والليلة شديدة البرد فخاف الهلاك إذا اغتسل فتيمم وصلى بأصحابه صلاة الصبح ولما حكى ذلك لرسول الله «ص» قال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فذكر له خوفه من الهلاك وان الله يقول «لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» فضحك رسول الله «ص» ولم يقل شيئا ..

٣٢٥

السابق ، والمتأخر من الحدث معفو عنه وان لم ينو إباحته بل لا يكاد يعقل نية الإباحة منه قبل وقوعه وانما هو عفو من الله ، وهذا القول ليس بعيدا عن الصواب فانا لا نعقل من الحدث إلا الحالة التي لا يصح معها الدخول في الصلاة ، فمتى أبيحت الصلاة زالت تلك الحالة فارتفع الحدث بالنسبة الى هذه الصلاة بمعنى زوال المانع وان بقي في غيرها ، وأيضا فإن النية إنما تؤثر في الإباحة من الحدث السابق عليها كما قلناه لا المتأخر إذ لم يعهد ذلك شرعا ، والمتأخر مغتفر في هذه الصلاة والسابق لا مانع من رفعه بالنية. إلى آخر كلامه.

ويمكن ان يقال في المقام انه لا يخفى على المتأمل في كلامهم بالنظر الدقيق والناظر فيه بعين التحقيق انه لا منافاة بين القولين المذكورين ، وذلك بان يحمل ما ادعى عليه المحقق الإجماع من ان التيمم لا يرفع الحدث وانه لو تيمم ونوى رفع الحدث لم يستبح الصلاة على معنى انه لا يرفعه على نحو ما يرفعه الماء من رفعه مطلقا وإزالته بالكلية حتى انه لا يؤثر في بطلانه إلا الحدث كما في الطهارة المائية التي لا ينقضها إلا الحدث وان التمكن من الماء لا يؤثر في بطلانه ونقضه ، ومن الظاهر انه بهذا المعنى مجمع عليه إذ لا قائل بأنه يرفع الحدث كرفع الماء وانه لا ينتقض بالتمكن من الماء ، فما ادعاه من الإجماع صحيح لا شك فيه ، واما كونه يرفع الحدث الى وقت التمكن من الماء أو طرو أحد النواقض ـ كما صرح به الشهيد في قواعده وقال به أصحاب القول الثاني ـ فلا مانع منه بالتقريب المتقدم ، إلا انه ربما أشكل بأن المتبادر من معنى الرفع انما هو زوال ذلك المانع بكليته فلا يعود إلا بسبب موجب له كما في الطهارة المائية الرافعة فإنه لا يعود الحدث إلا بسبب آخر ، واما في التيمم فإنه ليس كذلك إذ لو كان رافعا للحدث على الوجه المذكور لما انتقض بالتمكن من الماء لان التمكن من الماء ليس حدثا إجماعا كما سمعت من كلام المحقق ، قولكم : انه رافع إلى غاية هي وجود التمكن من الماء أو حصول الحدث. قلنا : لا ريب انه بالتمكن من الماء أو طرو حدث يعود الأول بعينه حتى كأنه

٣٢٦

لم يزل لا انه يحصل له سبب آخر يوجب التيمم ، فهو ظاهر في انه انما ارتفع المنع المترتب على ذلك المانع لا أصل المانع فإنه باق على حاله في جميع الحالات الى ان يتطهر بالماء ، وبالجملة فإنه متى أحدث ولم يكن ثمة ماء فإنه تحصل له تلك الحالة المانعة من الصلاة المسماة بالحدث وهذه الحالة ثابتة معه الى ان يزيلها بالماء خاصة ، والتيمم إنما أفاده جواز الدخول في المشروط بالطهارة ورفع المنع عنه ، ولهذا لو تيمم بدلا من الجنابة فإن الجنابة باقية الى ان يزيلها بالغسل وان ارتفع المنع عنه في الدخول فيما يشترط بالطهارة بالتيمم.

وكيف كان فالمسألة على المشهور من وجوب نية هذه القيود لا تخلو من الاشكال لما عرفت من عدم النص وتدافع هذه الأقوال والعلل العقلية لا تنتهي إلى ساحل ولو طويت لها المراحل ، واما عندنا فحيث لم يثبت عندنا دليل على وجوب هذه القيود سوى القربة فلا اشكال ، هذا.

واما ما ذكره في شرح الألفية من ان النية انما تؤثر في الحدث السابق. إلخ فإن أريد به بالنسبة إلى دائم الحدث فالوجه فيما ذكره ظاهر لان حدثه مستمر كما هو المفروض فإن النية إنما تؤثر في السابق دون المقارن للنية والمتأخر عنها وحينئذ يكون ذلك عفوا منه سبحانه ، واما بالنسبة إلى المتيمم فلا يخلو من اشكال إذ الظاهر انه بتيممه ترتفع عنه تلك الحالة التي هي عبارة عن المانع ويصح منه كل ما يتوقف على الطهارة غاية الأمر ان ذلك الى غاية مخصوصة ، اللهم إلا ان يقال ان المراد ان ذلك المانع بالنسبة الى ما تقدم على التيمم قد ارتفع بالتيمم مطلقا وزوال بالكلية وبالنسبة الى ما تأخر يرتفع إلى الغاية المذكورة ، إلا ان هذا المعنى بعيد عن سوق العبارة المذكورة بالنسبة إلى التيمم. والله العالم.

(الثاني) ـ اختلف الأصحاب في وجوب نية البدلية في التيمم وعدمه ، فقيل بالوجوب ونقل عن الشيخ في الخلاف كما سيأتي من نقل كلامه في ذلك ، حيث انه يقع أحيانا بدلا من الغسل وأحيانا بدلا من الوضوء مع اختلاف حقيقتهما فاعتبر في النية التعرض

٣٢٧

للبدلية ليتميز أحدهما عن الآخر. ويشكل بان الاحتياج الى التمييز انما يكون في موضع اجتماعهما معا والخطاب بهما كذلك اما لو كان المخاطب به انما هو التيمم عن أحدهما فلا ضرورة إلى التمييز. وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الجواب ـ من ان التمييز يعتبر بالنسبة الى ما يصح وقوع التيمم عنه مطلقا من غير التفات الى ما في الذمة ـ مجرد دعوى عارية عن الدليل بل هو نوع مصادرة كما لا يخفى. وقيل بالعدم مطلقا والظاهر انه المشهور بين المتأخرين كما ذكره بعض الأفاضل. وقيل بالتفصيل وهو وجوب نية البدلية ان قلنا باختلاف صورتي التيمم بدلا عن الحدث الأصغر وعن الأكبر يعني وجوب الضربة في البدل عن الأصغر والضربتين فيما هو بدل عن الأكبر ، وان قلنا باتحاد صورتي التيمم بالضربة فيهما أو الضربتين فلا ، وهو مذهب الشهيد في الذكرى حيث قال : الأقرب اشتراط نية البدلية عن الأكبر أو الأصغر لاختلاف حقيقتهما فيتميزان بالنية وبه صرح الشيخ في الخلاف ، وعليه بنى ما لو نسي الجنابة فتيمم للحدث انه لا يجزئ لعدم شرطه ، وهذا بناء على اختلاف الهيئتين ولو اجتزأنا بالضربة فيهما أو قلنا فيهما بالضربتين أمكن الاجزاء وبه افتى في المعتبر مع ان الشيخ في الخلاف قال في المسألة : فإن قلنا انه متى نوى بتيممه استباحة الصلاة من حدث جاز له الدخول في الصلاة كان قويا قال والأحوط الأول يعني عدم الاجزاء ، وذكر ان لا نص للأصحاب فيها أي في مسألة النسيان. انتهى ما ذكره في الذكرى. أقول : عبارة المعتبر في هذا المقام هكذا : «لو نسي الجنابة فتيمم للحدث فان قلنا بالضربة الواحدة فيهما أجزأ لأن الطهارتين واحدة وان قلنا بالتفصيل لم يجزئه ، وقال الشيخ في الخلاف والذي يقتضيه المذهب انه لا يجوز لانه يشترط ان ينويه بدلا من الوضوء أو بدلا من الجنابة ولم ينو ذلك» انتهى. وأنت خبير بأن غاية ما تدل عليه هذه العبارة هو ان عدم الاجزاء على القول بالتفصيل انما هو من حيث ان الواجب في بدل الجنابة الضربتان وهو لم يأت إلا بواحدة حيث انه انما تيمم بقصد البدلية عن الوضوء لا ان عدم الاجزاء من حيث الإخلال بنية البدلية ،

٣٢٨

وبذلك يظهر انه لا دلالة في عبارة المعتبر على ما ادعاه من التفصيل. وكيف كان فالظاهر هو القول بالعدم مطلقا كما هو المشهور لعدم الدليل وصدق الامتثال بما اتى به لأنه الذي تعلق به الخطاب.

ومما ينبغي التنبيه له انه يجب ان يستثني من وجوب نية البدلية على القول به مطلقا أو على التفصيل المتقدم تيمم الصلاة على الجنازة والتيمم للنوم ، لان كلا منهما جائز بدون الطهارة ولان التيمم فيهما جائز مع وجود الماء ، وكذلك التيمم للخروج من المسجدين بناء على مذهب من يجعل غايته الخروج من المسجدين وان أمكن الغسل فإنه لا وجه لنية البدلية بل صرحوا بأنه لا يجوز النية كذلك ، واما على القول الآخر من ان التيمم انما يشرع مع عدم إمكان الغسل فيكون كغيره مما تقدم.

(الثالث) ـ انه قد اختلف الأصحاب في محل النية في التيمم ، فالمشهور ان محلها عند الضرب على الأرض لأنه أول التيمم وبه قطع في المنتهى ، قالوا فعلى هذا يجب مقارنة النية الضرب على الأرض حيث انه أول أفعاله كما في غيره من العبادات التي يجب مقارنة النية لأول أفعالها ، ولو تأخرت عن ذلك الى مسح الوجه بطل التيمم لخلو بعض أفعاله عن النية ، وقطع العلامة في النهاية بالاجزاء بتأخيرها إلى مسح الجبهة وجعل الضرب خارجا عن حقيقة التيمم ونزله منزلة أخذ الماء في الطهارة المائية حيث لا تحتم النية عنده لعدم كونه أول الأفعال الواجبة بل تؤخر عنه الى غسل الوجه. واعترضه في الذكرى بوجهين : (أحدهما) ـ ان تنزيله منزلة أخذ الماء للطهارة المائية فيه منع ظاهر لأن الأخذ غير معتبر بنفسه ولهذا لو غمس الأعضاء في الماء أجزأ بخلاف الضرب. و (ثانيهما) ـ انه لو أحدث بعد أخذ الماء لم يضر بخلاف الحدث بعد الضرب أقول : وتوضيحه ان الواجب في الوضوء غسل الأعضاء كيف اتفق من غير تقييد بنحو خاص بخلاف التيمم فان الواجب فيه الضرب بنفسه كما دلت عليه الأخبار حتى لو تعرض لهبوب الريح أو وضع جبهته على الأرض ناويا لم يجزئه اتفاقا ، وتخلل الحدث بين أخذ الماء

٣٢٩

وغسل الوجه غير مضر بخلاف تخلله بين الضرب ومسح الجبهة. وقيل عليه اما على الوجه الأول فإن عدم اجزاء وضع الجبهة على الأرض لا يقدح فيما ذهب إليه العلامة بل هو قائل بموجبه إلا انه يجعل نقل التراب على الوجه المخصوص شرطا لصحة التيمم فكأنه واجب خارج. واما الثاني فبان العلامة في النهاية قائل بذلك ومصرح بالتزامه حيث قال : ولو أحدث بعد أخذ التراب لم يبطل ما فعل كما لو أحدث بعد أخذ الماء في كفه. أقول : والتحقيق بناء على ما ذكروه ضعف ما ذهب إليه العلامة في النهاية لاستفاضة الروايات ـ كما مرت بك ـ بالأمر بالضرب ثم المسح ، وهي ظاهرة في ان الضرب أحد واجبات التيمم التي تعلق بها الأمر في تلك الأخبار كمسح الجبهة واليدين ، ومنه يظهر ان التزام العلامة (قدس‌سره) بعدم بطلان التيمم بالحدث بعد الضرب ليس بجيد سيما وقد صرح في الكتاب المذكور ـ على ما نقله عنه جملة من الأصحاب ـ بأن أول أفعال التيمم المفروضة الضرب باليدين على الأرض وهو تدافع ظاهر بين الكلامين.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان جميع هذا الكلام يدور مدار النية المشهورة التي قدمنا نقلها عنهم في غير موضع التي هي عبارة عن التصوير الفكري والحديث النفسي الذي يترجمه قول القائل : أتيمم بدلا من الغسل أو الوضوء لرفع الحدث أو استباحة الصلاة قربة الى الله تعالى ، وقد عرفت مما حققناه في بحث نية الوضوء ان هذا ليس من النية في شي‌ء وان الأمر فيها أوسع من ذلك وان جميع هذا الكلام لا وجه له ولا حاجة إليه في المقام. والله العالم.

(الرابع) ـ انه يجب استدامة حكمها حتى الفراغ بمعنى انه لا ينوي نية تنافي النية الاولى ، وقد تقدم تحقيق البحث في هذه المسألة مستوفى في باب نية الوضوء والكلام في المقامين واحد.

(المقام الثاني) ـ في الضرب باليدين على الأرض ، وقد أجمع الأصحاب على وجوبه وشرطيته في التيمم ، فلو استقبل العواصف حتى لصق صعيدها بوجهه ويديه لم

٣٣٠

يجزئه ذلك ، لان العبادات الشرعية مبنية على التوقيف والتوظيف من الشارع ولم يرد عنه ما يدل على صحة التيمم بذلك فيكون فعله تشريعا محرما وانما استفاضت الأخبار بما ذكرناه. بقي الكلام في الاكتفاء بمجرد الوضع أو لا بد من الضرب الذي هو عبارة عن الوضع المشتمل على اعتماد؟ قال في الذكرى : «معظم الروايات وكلام الأصحاب بعبارة الضرب وفي بعضها الوضع والشيخ في النهاية والمبسوط عبر بالأمرين ، وتظهر الفائدة في وجوب مسمى الضرب باعتماد ، والظاهر انه غير شرط لان الغرض قصد الصعيد وهو حاصل بالوضع» انتهى. وما اختاره هنا من الاكتفاء بمجرد الوضع قد صرح به في الدروس ايضا ، وحاصل استدلاله الاستناد إلى إطلاق الآية وهو قوله تعالى «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (١) اي اقصدوا وهو حاصل بالوضع. وفيه ان الآية يمكن تقييدها بالأخبار الكثيرة الدالة على الضرب الذي هو ـ كما عرفت ـ عبارة عن الوضع المشتمل على الاعتماد ، وحينئذ فيجب حمل القصد الذي في الآية على هذا القصد المخصوص جمعا بين الآية والأخبار ، وكذا يجب تقييد بعض الأخبار الدالة على مجرد الوضع بهذه الأخبار ايضا ، وبه يظهر ان الأظهر اعتبار الضرب سيما مع أوفقيته بالاحتياط ، والظاهر ان من قال بالوضع حمل جملة أخبار الضرب على الاستحباب كما هي أحد قواعدهم التي بنوا عليها في كثير من الأحكام في الجمع بين المطلق والمقيد ، والأظهر ما قلناه وان احتمل الجمع بينهما بالتخيير إلا ان الظاهر هو الأول مع أوفقيته بالاحتياط كما عرفت.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على رسم مسائل (الأولى) ـ يعتبر في الضرب ان يكون بباطن الكفين لانه المعهود المعروف فينصرف إليه الإطلاق كما في سائر الأحكام ، ويعضده انه المعلوم من صاحب الشرع فيكون خلافه تشريعا محرما نعم لو تعذر الضرب بالباطن لعذر فالظاهر الجواز بالظاهر ، وربما دل عليه عموم بعض أدلة المسألة.

__________________

(١) سورة النساء. الآية ٤٣ وسورة المائدة. الآية ٦.

٣٣١

(الثانية) ـ ينبغي ان يعلم انه لا يعتبر فيما يضرب عليه كونه على الأرض ، فلو كان التراب على بدنه أو ثوبه أو بدن غيره أو ثوبه وضرب عليه أجزأ كل ذلك لإطلاق الأخبار وتخرج الأخبار المتقدمة في التيمم من لبد سرجه وثوبه ونحو ذلك شاهدة وان كان موردها أخص مما نحن فيه ، قال في المدارك : ولو كان على وجهه تراب صالح للضرب فضرب عليه ففي الإجزاء تردد أقربه العدم لتوقف الطهارة على النقل والمنقول خلافه. وقال في الذخيرة : لا يبعد ان يكون مجزيا في الضرب لحصول الامتثال ثم قال وربما يقال بعدم الاجزاء لان ذلك غير المعهود من صاحب الشرع. أقول : الظاهر انه ان كان المراد من هذه العبارة أنه يضرب على هذا التراب الذي في موضع المسح ويجتزئ بذلك فالظاهر انه غير مجزئ والحق فيما ذكره في المدارك ، وان كان المراد انه يضرب يده عليه ثم يرفع يده ويمسح به فالظاهر انه لا مانع منه كما في سائر البدن إذا أراد التيمم من التراب الذي عليه فالحق فيما ذكره في الذخيرة ، وبما ذكرنا صرح شيخنا الشهيد في الذكرى فقال : لو كان على وجهه تراب صالح للضرب وضرب عليه أجزأ في الضرب لا في مسح الوجه فيمسح بعد الضرب.

(الثالثة) ـ ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب انه يشترط في وضع اليدين ان يكون دفعة فلو ضرب بإحدى يديه ثم أتبعها بالأخرى لم يجزئ ففي صحيحة زرارة (١) «ثم أهوى بيديه فوضعهما على الصعيد». وفي حسنة الكاهلي (٢) «فضرب بيديه على البساط». وفي صحيحة أخرى لزرارة (٣) «فوضع أبو جعفر (عليه‌السلام) كفيه على الأرض». وفي موثقة له ايضا (٤) قال : «تضرب بكفيك الأرض». الى غير ذلك من الأخبار التي مرت بك قريبا.

(الرابعة) ـ المشهور بين الأصحاب انه لا يجب علوق شي‌ء من التراب باليدين بل يضرب بهما ويمسح وان لم يعلق بهما شي‌ء ، وعن ظاهر ابن الجنيد وجوب المسح بالتراب المرتفع على

__________________

(١ و ٢ و ٣) ص ٣٢٠.

(٤) ص ٣٢١.

٣٣٢

اليدين وهو مؤذن بالقول بوجوب العلوق ، والى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : منهم ـ شيخنا البهائي في الحبل المتين ونقله فيه عن والده ايضا والمحدث الكاشاني وشيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ، وهو المختار عندي كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

واستدل في المدارك على القول المشهور ـ حيث مال اليه ـ بوجوه : (الأول) ـ عدم الدليل على العلوق (الثاني) ـ إجماع علمائنا على استحباب نفض اليدين بعد الضرب وورود الأخبار الصحيحة به ، ولو كان العلوق معتبرا لما أمر الشارع بفعل ما كان عرضة لزواله (الثالث) ـ ان الصعيد وجه الأرض لا التراب فسقط اعتباره جملة (الرابع) ـ ان الضربة الواحدة كافية مطلقا على ما سنبينه ولو كان المسح بالتراب معتبرا لما حصل الاكتفاء بها إذ الغالب عدم بقاء الغبار من الضربة الواحدة في اليدين.

أقول : اما الجواب عن الأول فبان الدليل على ما ندعيه من اعتبار العلوق هو صحيحة زرارة (١) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) ألا تخبرني من اين علمت وقلت ان المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثم قال يا زرارة قاله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونزل به الكتاب من الله لان الله عزوجل يقول (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، الى ان قال ثم قال (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) (٢) فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحا لانه قال : «بِوُجُوهِكُمْ» ثم وصل بها «وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» اي من ذلك التيمم لانه علم ان ذلك اجمع لا يجري على الوجه لانه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها». والتقريب في الخبر المذكور ان المراد بالتيمم المفسر به الضمير هو التيمم به ، لان حاصل معنى الخبر انه سبحانه إنما أثبت بعض الغسل مسحا ولم يوجب مسح الجميع ، لانه لما علم ان ذلك الصعيد

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٣ من الوضوء و ١٣ من التيمم.

(٢) سورة النساء. الآية ٤٣ وسورة المائدة ، الآية ٨.

٣٣٣

لا يأتي على الوجه كله من جهة أنه يعلق ببعض الكف ولا يعلق بالبعض الآخر قال سبحانه «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» وحينئذ فقوله : «لانه علم ان ذلك اجمع لا يجري على الوجه» اي علم ان ذلك الصعيد المضروب عليه وهو المدلول عليه في الرواية بالتيمم بمعنى المتيمم به ، ولا يخفى ما فيه من الاشعار بالعلوق بل الدلالة الصريحة حيث جعل العلوق بالبعض دون البعض علة للعلم بان ذلك لا يجري بأجمعه على الوجه ، وهذا الوجه الذي ذكرناه مبني على كون «من» في الآية للتبعيض وان قوله (عليه‌السلام) «لانه علم ان ذلك أجمع. إلخ» تعليل لقوله : «اثبت بعض الغسل مسحا» كما اختاره شيخنا البهائي في الحبل المتين اي جعل بعض المغسول ممسوحا حيث اتى بالباء التبعيضية لأنه تعالى علم ان ذلك الصعيد العالق بالكف لا يجري على الوجه كله لانه يعلق ببعض الكف ولا يعلق ببعضها ، وبذلك يظهر لك دلالة الرواية على اشتراط العلوق ، ومنه يعلم ايضا عدم جواز التيمم بالحجر الخالي كما هو مذهب ابن الجنيد ايضا ، والقائلون بالقول المشهور من عدم اشتراط العلوق وجواز التيمم بالحجر يحملون «من» في الآية على ابتداء الغاية والضمير راجع الى التيمم بالمعنى المصدري كما هو المعبر به في الرواية أو الى الصعيد المضروب عليه كما تقدم ، ولهذا أجاب العلامة في المنتهى وكذا الشهيد في الذكرى عن الاستدلال بالرواية بأن لفظ «من» في الآية مشترك بين التبعيض وابتداء الغاية فلا أولوية في الاحتجاج بها. ولا يخفى ان ظاهر التعليل لا يساعده إذ الإشارة في قوله : «لانه علم ان ذلك اجمع لا يجري على الوجه» انما هي إلى التيمم بمعنى المتيمم به لا بالمعنى المصدري ولا الصعيد المضروب عليه كما ذكروه. وبالجملة فإن ظاهرية كون «من» في الآية للتبعيض بالنظر الى ما ذكرناه مما لا يتجشم إنكاره إلا مع عدم إعطاء النظر حقه من التأمل في المقام ، ولهذا ان صاحب الكشاف مع كونه حنفي المذهب ومذهب أبي حنيفة عدم اشتراط العلوق خالف الحنفية في ذلك واختار في تفسيره هذا الوجه ، وقال (١)

__________________

(١) ج ١ ص ٢٧٠ وقد نسب فيه الى ابى حنيفة عدم اشتراط العلوق.

٣٣٤

انه الحق بل ادعى انه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل «مسحت برأسي من الدهن أو من الماء أو من التراب» إلا معنى التبعيض وحكم بان القول بأنها لابتداء الغاية تعسف.

واما الجواب عن الثاني فهو ما ذكره جملة من القائلين بهذا القول في المسألة ، والظاهر ان أولهم في ذلك شيخنا المحقق المدقق الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي كما نقله عنه في الحبل المتين ، حيث قال : «وأقوى ما استدل به الأصحاب على عدم اشتراط العلوق هو استحباب نفض اليدين بعد الضرب كما نطقت به الأخبار ، ولو كان العلوق معتبرا لما أمر الشارع بفعل ما هو عرضة لزواله. وأجاب عن ذلك والدي (قدس‌سره) في شرح الرسالة بأن الأخبار الدالة على استحباب النفض لا دلالة فيها على عدم اعتبار العلوق بل ربما دلت على اعتباره كما لا يخفى ، ولا منافاة بينهما لان الاجزاء الصغيرة الغبارية اللاصقة لا تتخلص بأجمعها من اليدين بمجرد حصول مسمى النفض ، وليس في الاخبار ما يدل على المبالغة فيه بحيث لا يبقى شي‌ء من تلك الاجزاء لاصقا بشي‌ء من اليدين البتة ، ولعل النفض لتقليل ما عسى ان يصير موجبا لتشويه الوجه من الاجزاء الترابية الكثيرة اللاصقة باليدين ، قال : وبالجملة فالاستدلال باستحباب النفض على عدم اشتراط العلوق محل نظر ، واما الاستدلال عليه بمنافاته لجواز التيمم بالحجر ففيه ان ابن الجنيد وكل من يشترط العلوق لا يجوزون التيمم بالحجر. انتهى كلامه. وهو كلام سديد ومن تأمل الآية والحديث حق التأمل وأصغى الى ما تلوناه لا يرتاب في كون القول باشتراط العلوق أوضح دليلا وأحوط سبيلا» انتهى كلام شيخنا البهائي ، وهو مع كلام والده جيد متين وجوهر ثمين.

واما الجواب عن الثالث فقد علم مما ذكرناه في الجواب عن الثاني ، فإنه لما دلت الآية بمعونة الصحيحة المذكورة على اعتبار العلوق وجب القول به وتخصيص ما دل من الاخبار على مطلق الأرض بذلك ، واما الآية فقد عرفت مما قدمنا اختلاف اللغويين في تفسير الصعيد فيها وقد عرفت ما ورد في تفسيرها عن أهل البيت (عليهم

٣٣٥

السلام) وقد قدمنا انه لا وجه للتعلق بها في المقام ، على ان الاخبار فيها ما هو بلفظ الأرض وفيها ما هو بلفظ التراب وفيها ما هو بلفظ الصعيد وقضية حمل مطلقها على مقيدها هو التخصيص بالتراب.

واما الجواب عن الرابع فبالمنع مما ادعاه من ان الضربة الواحدة لا يبقى منها غبار يمسح به الوجه واليدين كما هو ظاهر. والله العالم.

(الخامسة) ـ ينبغي ان يعلم ان وجوب الضرب باليدين معا انما هو مع الإمكان ، فلو قطعت إحداهما بحيث لم يبق من محل الفرض شي‌ء سقط الضرب بها واقتصر على الضرب بالأخرى ومسح الوجه بها ، ولو بقي من محل الفرض شي‌ء ضرب به ، ولو قطعتا معا فإن بقي من محل الفرض شي‌ء فهو كما تقدم وان لم يبق شي‌ء بالكلية سقط الضرب بهما ، والمفهوم من كلام الأصحاب ان الواجب حينئذ هو مسح الجبهة بالتراب لان سقوط أحد الواجبين لعذر لا يستلزم سقوط ما لا عذر فيه ، وظاهر المبسوط سقوط التيمم والصلاة في الصورة المفروضة ، قال في المختلف : قال الشيخ في المبسوط : إذا كان مقطوع اليدين من الذراعين سقط عنه فرض التيمم. وهذا على إطلاقه ليس بجيد ، فإنه ان أراد سقوط فرض التيمم على اليدين أو سقوط جملة التيمم من حيث هو فهو حق ، وان عنى به سقوط جميع اجزائه فليس بجيد لانه يجب عليه مسح الجبهة لأنه متمكن من مسحها فيجب لوجود المقتضى وانتفاء المانع. احتج الشيخ بان الدخول في الصلاة انما يسوغ مع الطهارة المائية فإن تعذرت فمع مسح الوجه والكفين لقوله تعالى : «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» وإذا كان المنع انما يزول بفعل المجموع ولم يتحقق بفعل البعض لم يزل المنع. والجواب ان التكليف بالصلاة غير ساقط عنه هنا وإلا سقط مع الطهارة المائية إذا قطع أحد الأعضاء وليس كذلك إجماعا ، وإذا كان التكليف ثابتا وجب فعل الطهارة ولا يمكن استيفاء الأعضاء وليس البعض شرطا في الآخر فيجب الإتيان بما يتمكن منه ، والظاهر ان مراد الشيخ ما قصدناه. انتهى. أقول : الظاهر ان هذه الحجة انما هي

٣٣٦

من كلامه (قدس‌سره) لا من كلام الشيخ ، لعدم انطباقها على الترديد بين الاحتمالين الذي ذكره في عبارة الشيخ. ولقوله أخيرا : والظاهر ان مراد الشيخ ما قصدناه. وبالجملة فإن تعليله ينافي ترديده وتأويله الذي حمل كلام الشيخ عليه.

وربما استدل على وجوب التيمم بما بقي والصلاة في الصورة المذكورة بما روي من قوله (عليه‌السلام) (١) : «الميسور لا يسقط بالمعسور». وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) : «إذا أمرتكم بشي‌ء فاتوا منه ما استطعتم». وفيه خدش فان هذين الخبرين وان تناقلهما الأصحاب في كتب الاستدلال إلا اني لم أقف عليهما في شي‌ء من الأصول.

وبالجملة فالمسألة عندي هنا لا تخلو من شوب الاشكال لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وكذا في الوضوء لو قطعت يداه في فوق المرفقين بحيث لم يبق من محل الغسل شي‌ء ، اما لو بقي شي‌ء ولو طرف العضد الذي هو أحد جزئي المرفق فإن صحيحة علي بن جعفر (٣) قد دلت على الاكتفاء بما بقي في عضده ، ومثل ذلك ما لو كان في كفه قروح أو جروح تمنع من الضرب أو كان كفه نجسا بنجاسة تتعدى الى التراب متى ضرب عليه ، ومع تعذر الإزالة ينتقل الى الضرب بظهر الكف ان لم يكن كذلك وإلا اقتصر على مسح الجبهة. والاحتياط في أمثال هذه المواضع مما لا ينبغي الإخلال به

(السادسة) ـ اختلف الأصحاب في عدد الضربات في التيمم ، فقال الشيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط ضربة للوضوء وضربتان للغسل ، وهو اختيار الصدوق في الفقيه وسلار وابي الصلاح وابن إدريس وأكثر المتأخرين. وقال السيد المرتضى في شرح الرسالة الواجب ضربة واحدة في الجميع ، وهو اختيار ابن الجنيد وابن ابي عقيل

__________________

(١) رواه النراقي في العوائد ص ٨٨ ومير فتاح في العناوين ص ١٤٦ عن عوالي اللئالي عن على «ع».

(٢) رواه مسلم في صحيحة ج ١ ص ٥١٣ والنسائي ج ٢ ص ١ وابن حزم في المحلى ج ١ ص ٦٤ بإسناد متصل الى ابى هريرة.

(٣) ج ٢ ص ٢٤٥.

٣٣٧

والمفيد في المسائل الغرية ، واختاره جمع من متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك وهو الظاهر. ونقل عن المفيد في الأركان الضربتان في الجميع ، وحكاه المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والمختلف عن علي بن بابويه ، ومقتضى كلامه في الرسالة على ما نقل عنه في الذكرى اعتبار ثلاث ضربات ، فإنه قال : إذا أردت ذلك فاضرب بيديك على الأرض مرة واحدة وانفضهما وامسح بهما وجهك ثم اضرب بيسارك الأرض فامسح بها يمينك من المرفق إلى أطراف الأصابع ثم اضرب بيمينك الأرض فامسح بها يسارك من المرفق إلى أطراف الأصابع. ولم يفرق بين الوضوء والغسل ، ونقل في المعتبر القول بالثلاث عن قوم منا بعد ان نقل عن علي بن بابويه المرتين في الجميع. ورجح المحقق الشيخ حسن في المنتقى القول بالمرتين ونقل انه مذهب جماعة من قدماء الأصحاب.

والأصل في الاختلاف بين هذه الأقوال اختلاف الروايات كما عرفت ، فمنها ما تضمن المرة ومنها ما تضمن المرتين ومنها ما تضمن الثلاث ، والظاهر ان مستند القول المشهور هو الجمع بين أخبار المرة والمرتين بحمل ما دل على المرة على الوضوء وما دل على المرتين على الغسل ، وبذلك جمع الشيخ في كتابيه بين الأخبار وتبعه الأصحاب كما هي عادتهم في أكثر الأبواب واحتجوا على هذا التفصيل بالخبر العاشر (١) ولا يخفى ان الخبر المذكور محتمل لمعنيين : (أحدهما) ـ ان المراد بقوله : «ضرب واحد للوضوء والغسل» اي نوع واحد للطهارتين المذكورتين كما يقال الطهارة على ضربين مائية وترابية ثم بين ان الضرب على الأرض مرتين ، وعلى هذا يكون الخبر من الاخبار الدالة على المرتين مطلقا. و (ثانيهما) ـ ان يكون الضرب بمعنى الضربة وقوله : «والغسل من الجنابة» مبدأ كلام آخر ، وحاصله ان ضربة واحدة للوضوء والغسل له ضربتان وعلى هذا الاحتمال يتم الاستدلال ، إلا انه باعتبار قيام الاحتمال الأول ومساواته لما ذكر فالحمل

__________________

(١) لا يخفى ان رقم الاخبار المذكور هنا وفي الصفحة ٣٣٩ و ٣٤٠ خطأ فيما وقفنا عليه من النسخ ويلزم اضافة عدد واحد اليه فالصحيح هنا (الحادي عشر).

٣٣٨

على أحدهما ترجيح من غير مرجح ، وقد تقرر في قواعدهم ايضا انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال. واستدل العلامة في المنتهى على ذلك ايضا بعد هذا الخبر قال : وروى ـ يعني الشيخ ـ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان التيمم من الوضوء مرة واحدة ومن الجنابة مرتان». ولا يخفى ان هذا الخبر مما لم نقف له على وجود في كتب الأخبار ولا نقله ناقل غيره ومن تبعه كالشهيدين في كتب الاستدلال بل هو وهم محض كما نبه عليه المحققان السيد السند في المدارك والشيخ حسن في المنتقى وبذلك يظهر لك انه لا مستند لهذا القول مع ان ظواهر جملة من روايات الغسل (٢) ترده ولا سيما رواية عمار المشتملة على تعليمه التيمم بدلا من الغسل فإنها إنما اشتملت على الضربة ، وأظهر من ذلك دلالة الحديث الحادي عشر على ان تيمم الوضوء والجنابة والحيض سواء ، وبالجملة فضعف هذا القول مما لا ينبغي ان يستراب فيه. واما ما يدل على القول بالضربة الواحدة فالخبر الأول من الاخبار المتقدمة والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع (٣). واما ما يدل على القول بالضربتين فالثامن والتاسع والرابع عشر والثامن عشر. واما ما يدل على الثلاث فالسادس عشر. وأنت خبير بأنه لا ريب في ضعف القول بالثلاث لندرته وان صح مستنده بهذا الاصطلاح فإنه محمول على التقية (٤) كما صرح به جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) فهو قول مرغوب عنه.

وانما يبقى الكلام في الجمع بين روايات المرة وروايات المرتين ولا يخلو من أحد وجوه : (الأول) ـ ما هو المشهور من الجمع بالتفصيل ، وقد عرفت ما فيه (الثاني) ـ ما ذهب إليه في المنتقى حيث اختار العمل بأخبار التثنية من حمل أخبار المرة على ارادة بيان كيفية المسح دفعا لتوهم شموله لأعضاء الطهارة التي ينوب عنها التيمم كما وقع لعمار.

__________________

(١) تعرض له في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب التيمم.

(٢) الظاهر «التيمم».

(٣) والثامن ، ويضاف الى كل من الرقم المتقدم س ٩ والأرقام الآتية عدد واحد.

(٤) حكاه في البحر الرائق ج ١ ص ١٤٥ عن ابن سيرين ومن تبعه.

٣٣٩

والظاهر بعده لكثرة الأخبار الواردة بذلك وتعددها في موارد وقلة ما يدل على هذا القول الذي اختاره ، والمتبادر منها انما هو قصد التعليم وارادة بيان كيفية التيمم كما في اخبار الوضوء البياني (الثالث) ـ ما ذهب اليه المرتضى ومن تبعه من متأخري المتأخرين من حمل أخبار التثنية على الاستحباب. وفيه ما عرفت مما قدمناه في غير باب (الرابع) ـ وهو الأظهر عندي ما ذكره شيخنا المجلسي في البحار من حمل اخبار المرتين على التقية ، قال (قدس‌سره) : «والأقرب عندي حمل اخبار المرتين على التقية لأنه قال الطيبي في شرح المشكاة في شرح حديث عمار : ان في الخبر فوائد : منها ـ ان في التيمم تكفي ضربة واحدة للوجه والكفين وهو مذهب علي (عليه‌السلام) وابن عباس وعمار وجمع من التابعين ، وذهب عبد الله بن عمر وجابر من التابعين والأكثرون من فقهاء الأمصار الى ان التيمم ضربتان (١) انتهى. فظهر من هذا ان القول المشهور بين المخالفين الضربتان وان الضربة مشهورة عندهم من مذهب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وعمار التابع له في جميع الأحكام وابن عباس الموافق لهما في أكثرها ، فتبين ان اخبار الضربة أقوى واخبار الضربتين حملها على التقية أولى وان كان الأحوط الجمع بينهما فيهما» انتهى كلامه زيد مقامه ، وهو المختار ، ومنه يعلم الوجه في الخبر الخامس عشر (٢) الذي يدل على مذهب علي بن بابويه فإنه لا محمل له إلا التقية ولا سيما مع اشتماله على مسح الوجه كملا واليدين من المرفقين المخالف للقرآن كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى بأوضح بيان.

تنبيه

قال في الذكرى : «ظاهر الأصحاب ان الأغسال سواء في كيفية التيمم ، قال في المقنعة بعد ذكر تيمم الجنب وكذلك تصنع الحائض والنفساء والمستحاضة بدلا من الغسل ، وروى أبو بصير ثم ساق الخبر الثاني عشر من الاخبار المتقدمة ثم أشار الى الخبر الحادي

__________________

(١) حكاه في بداية المجتهد ج ١ ص ٦٤ عن مالك وابى حنيفة والشافعي.

(٢) الرقم خطأ كما تقدم ويضاف اليه عدد واحد وكذا في السطر الأخير من هذه الصفحة.

٣٤٠