الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

أجنب في سفر ولم يجد إلا الثلج أو ماء جامدا؟ فقال هو بمنزلة الضرورة يتيمم ولا ارى ان يعود الى هذه الأرض التي توبق دينه». والتقريب فيها ان الجنابة فيها أعم من الاحتلام وقد امره بالتيمم والحال هذه ولم ينكر عليه ذلك.

و (ثانيها) ـ ما عرفت من استفاضة الآيات والروايات بعدم تكليفه سبحانه بما يؤدي الى الحرج والضرر ، وقد استفاضت الاخبار عنهم (عليهم‌السلام) بان ما خالف كتاب الله يضرب به عرض الحائط وانه زخرف (١) ولا ريب في مخالفة هذه الأخبار لظاهر الكتاب والسنة المستفيضة فيجب الاعراض عنها وإرجاعها إلى قائلها.

و (ثالثها) ـ انه لا يخفى على من نظر في التكاليف الشرعية بعين التحقيق وتأمل فيها بالفكر الصائب الدقيق انه يعلم منها علما جازما لا يخالجه الريب ولا يتطرق اليه العيب ان اعتناء الشارع بالأبدان ورعايته لها مقدمة على رعاية الأديان ، وانه لا يكلف العبد إلا ما يدخل تحت قدرته ووسعه بل دون ذلك ، ألا ترى انه أوجب على المسافر القصر رعاية لمشقة السفر وأوجب على المتضرر بالماء الانتقال الى التيمم وأوجب على المتضرر بالقيام في الصلاة القعود وبالقعود الاضطجاع وعلى المتضرر بالصيام الإفطار ، الى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع ، وكل ذلك منه عن شأنه رعاية للبدن ومحافظة عليه من الضرر ، وجميع هذه الحالات التي نقلهم إليها ربما يطيقون القيام بالحالات التي قبلها إلا انه لما فيها من المشقة والعسر نقلهم عنها الى ما لا مشقة فيه أو ما هو أهون مشقة لطفا بهم وعناية لهم ، ويعضد ما ذكرناه من هذه المقالة جملة من الأخبار الواضحة المنار الساطعة الأنوار ، ومنها ـ موثقة محمد بن علي الحلبي المروية في كتاب التوحيد عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «ما أمر العباد إلا بدون سعتهم وكل شي‌ء أمر الناس بأخذه فهم متسعون له وما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن

__________________

(١) رواها في الوسائل في الباب ٩ من صفات القاضي وما يقضى به.

(٢) في الباب ٥٥ وهو باب الاستطاعة.

٢٨١

الناس لا خير فيهم». وهو صريح في المقام ، وما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن حمزة بن الطيار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «قال لي اكتب فاملى علي ان من قولنا ان الله يحتج على العباد بما آتاهم ، ثم ساق الخبر الى ان قال : ولا أقول انهم ما شاءوا صنعوا ، ثم قال ما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شي‌ء أمر الناس به فهم متسعون له وكل شي‌ء لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم». وما رواه الصدوق في كتاب الاعتقادات عن الصادق (عليه‌السلام) مرسلا (٢) قال : «والله ما كلف الله تعالى العباد إلا دون ما يطيقون لانه كلفهم في كل يوم وليلة خمس صلوات وكلفهم في السنة صوم ثلاثين يوما وكلفهم في كل مائتي درهم خمسة دراهم وكلفهم في العمر حجة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك». وما في المحاسن في الصحيح عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان الله تعالى أكرم من ان يكلف الناس ما لا يطيقون.». وعن هشام بن سالم في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «ما كلف الله تعالى العباد إلا ما يطيقون ، انما كلفهم في اليوم والليلة خمس صلوات وكلفهم من كل مائتي درهم خمسة دراهم وكلفهم صيام شهر رمضان في السنة وكلفهم حجة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك وانما كلفهم دون ما يطيقون». أقول : فانظر إلى صراحة هذه الاخبار وتطابقها فيما ذكرناه مع تأيدها بالدليل العقلي المجمع عليه بين كافة العقلاء من وجوب دفع الضرر عن النفس وعدم جواز التغرير بها.

و (رابعها) ـ الأخبار الدالة على خلاف ما دلت عليه اخبار الخصم في الصورة المذكورة ، ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان المروية في الفقيه (٥) «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة ويخاف على نفسه التلف ان اغتسل؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة». وما رواه الشيخ عن

__________________

(١) رواه في باب حجج الله على خلقه من كتاب التوحيد.

(٢) في الباب ٣.

(٣ و ٤) ص ٢٩٦.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب التيمم.

٢٨٢

جعفر بن بشير عمن رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل أصابته جنابة في ليلة باردة يخاف على نفسه التلف ان اغتسل؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة». ورواية محمد بن سكين وقد تقدمت في صدر المقام (٢) ونحوها من الروايات المتقدمة مما دل بإطلاقه على ان من اصابته جنابة وتضرر بالغسل يتيمم أعم من ان تكون الجنابة من احتلام أو تعمد ، وما في الوسائل ـ من تقييد هذه الأخبار بالاخبار التي استند إليها وهي التي قدمناها ـ مردود بان تلك الأخبار قد أسقطناها لمخالفتها الكتاب العزيز والسنة المطهرة المستفيضة المعتضدة بأدلة العقل ، إذ ذلك قضية العرض على كتاب الله تعالى كما استفاضت به الاخبار عنهم (عليهم‌السلام) وإلا لزم طرح اخبار العرض مع استفاضتها وإجماع الطائفة على العمل بها وفيه من الشناعة ما لا يلتزمه محصل ، وقد روى هذا القائل في كتابه المشار اليه من اخبار العرض ما يكاد يبلغ التواتر المعنوي ، وقد عضد الجميع في ذلك الأخبار التي ذكرناها في المقام الثالث مضافا الى ما سنبينه ان شاء الله تعالى من الطعن في مضامينها وحينئذ فلم يبق لها وجود بالكلية فضلا ان يرتكب بها التخصيص لما ذكرناه من الاخبار.

و (خامسها) ـ توجه الطعن الى الروايات المذكورة ، اما المرفوعتان فلا صراحة فيهما بل ولا ظاهرية سيما الاولى بحصول ضرر بالغسل يوجب الانتقال الى التيمم وحينئذ فلا تنطبقان على محل النزاع ، ويمكن حملهما على ان وجه الفرق فيهما بين الجماع عن تعمد فيجب عليه الغسل والاحتلام فيتيمم ان ذلك المريض لم يتعمد الجنابة إلا حيث كان قادرا على الاغتسال من غير ضرر ولا مشقة شديدة فأوجب عليه الغسل حينئذ واما الاحتلام فليس كذلك ، وحاصله ان المرض المذكور موجب للتيمم لكن صاحبه متى جامع متعمدا فهو قرينة على قدرته على الاغتسال ، وهذا الوجه كاف في قبول الخبرين وانطباقهما على الأخبار وعدم خروجهما عن موافقة الكتاب والسنة ، ولعل في

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب التيمم.

(٢) ص ٢٧٧.

٢٨٣

قول الصدوق في الفقيه بعد نقل مضمون مرفوعة علي بن احمد : «والجنب إذا خاف على نفسه من البرد يتيمم» ما يشير الى ما ذكرناه ، فان الظاهر انه فهم من الخبر عدم التضرر بالغسل فاردفه بهذا الكلام لدفع ما فيه من الإجمال وبيان انه من تضرر بالغسل انتقل الى التيمم ، وبه يزول ما أوردناه عليه آنفا من الاشكال ويرتفع عن كلامه الاختلال. واما الخبران الآخران فليس فيهما تصريح بالفرق بين كون الجنابة عمدا أو احتلاما بل ظاهرهما وجوب الغسل مطلقا فلا يقومان حجة على التفصيل المدعى في المسألة. وبالجملة فما فيه تفصيل ليس فيه تصريح بالضرر وما فيه تصريح بالضرر فليس فيه تفصيل. ولو قيل ان صحيحة سليمان بن خالد دلت على كونه (عليه‌السلام) قد أصابته جنابة فتحمل ذلك الضرر العظيم في الغسل وجنابته (عليه‌السلام) لا يجوز ان تكون من احتلام لعدم جوازه على المعصوم. قلنا نعم الأمر كذلك ولكن الحمل ايضا على تعمد الجنابة في تلك الحال المحكية في الخبر لا يقصر في البعد عن الأول ، فإن ظاهر الخبر انه (عليه‌السلام) كان في سفر وانه كان وجع وجعا شديدا يمنعه من الحركة والمشي وصب الماء على نفسه فاحتمال انه يجامع على هذه الحال ويتحمل هذه المشقة الشديدة لا يكاد يتصور في عقل عاقل ولا يدخل في فهم فاهم ، واحتمال عروض هذه الحال بعد الجنابة يرده سياق الخبر ، والتعلق بمثل هذا الخبر على ما فيه من التهافت والخروج عن مقتضى العقول السليمة في مقابلة تلك الأخبار المعتضدة بما عرفت لا يخلو من مجازفة. وفيما ذكرناه في المقام كفاية واضحة لذوي الأفهام. والله العالم.

وتمام الكلام في المقام يتوقف على رسم فوائد (الاولى) ـ المشهور بين الأصحاب القائلين بالتيمم في هذه الصورة عدم وجوب الإعادة بعد وجود الماء ، وذهب الشيخ في النهاية والمبسوط الى الوجوب كما تقدم نقله عنه ، والذي يدل على المشهور روايات مستفيضة سيأتي ذكرها في الباب ، واستدل في التهذيب على ما ذهب إليه برواية جعفر ابن بشير المتقدمة في الوجه الرابع من وجوه الطعن ومثلها صحيحة عبد الله بن سنان

٢٨٤

المروية في الفقيه ، والأصحاب قد أجابوا عنهما بالحمل على الاستحباب ، وسيأتي تحقيق المسألة المذكورة ان شاء الله تعالى في الموضع المشار إليه.

(الثانية) ـ لا يخفى انه قد دلت هذه الاخبار التي قدمناها في صدر هذا المقام على ان من به القروح والجروح ينتقل فرضه الى التيمم مع انه قد تقدم في المسألة الحادية عشرة من المسائل الملحقة بالوضوء جملة من الروايات الدالة على وجوب الوضوء وغسل ما حول القرح والجرح إذا لم يكن عليه جبيرة وإلا فغسل الجبيرة أو المسح عليها على التفصيل المتقدم في تلك المسألة ، وقد ذكرنا ثمة وجه الجمع بين أخبار المسألتين بما يرفع عنها التنافي والتدافع في البين. بقي الكلام هنا في الرمد الذي يتضرر صاحبه بغسل عينيه كلتيهما أو إحداهما هل يكون من قبيل مسألة القروح والجروح الموجبة للوضوء بان يغسل ما حول العين ان لم يكن عليها دواء وإلا فيمسح على الدواء الذي عليها أو انه ينتقل فرضه الى التيمم؟ وجهان ، للأول المشاركة في المعنى للقرح المختص بموضع مخصوص من الجسد ، وللثاني الاقتصار على مورد النصوص مما يسمى قرحا ووجع العين ومرضها لا يسمى قرحا لغة ولا عرفا ولا شرعا ، ولم أقف على كلام لأصحابنا (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة ، والذي يقرب عندي في ذلك هو انه ان كان يتضرر بغسل وجهه فإنه ينتقل الى التيمم وان كان لا يتضرر بغسل ما عدا العين فالواجب الوضوء أو الغسل وغسل ما حول العين ولو بنحو الدهن ، وبالجملة فحكمها حكم القروح والجروح وذكر القروح والجروح في بعض الاخبار انما وقع في كلام السائلين فالاعتبار بعموم الجواب وفي بعض يحمل على مجرد التمثيل ، ويزيده تأكيدا ان الواجب شرعا هو الوضوء ولا يجوز الانتقال عنه الى بدله إلا بدليل واضح ، ومجرد تضرر العين خاصة لم يثبت كونه ناقلا شرعيا سيما مع وجود النصوص في نظائره من القرح والجرح وان الحكم فيها هو الوضوء وعدم جواز الانتقال عنه وان الحكم في ذلك الموضع الذي يتضرر بالماء هو تركه بغير غسل ان كان مكشوفا أو المسح على الدواء ان لم يكن

٢٨٥

كذلك على التفصيل المتقدم في المسألة ، ويؤيده أيضا وجه الجمع الذي قدمناه في المسألة المشار إليها من مسائل توابع الوضوء من ان التيمم مخصوص بالبدلية عن الغسل باعتبار ما على البدن من القروح والجروح التي يتضرر بكشفها الى الهواء وبملاقاتها البرودة أو الوضوء إذا حصل التضرر على الوجه المذكور وإلا فالوضوء أو الغسل دون التيمم والعمل في موضع القرح بما تقدم من التفصيل.

(الثالثة) ـ الظاهر ان المراد بالمرض الموجب للتيمم هو ما يشق معه استعمال الماء بخوف حدوثه أو زيادته أو بطوء برئه ويصعب على وجه لا يتحمل عادة ، لأن التكليف ـ كما عرفت من الروايات المتقدمة ـ انما تعلق بالوسع دون الطاقة بمعنى انه وان أطاقه وأمكن الإتيان به بمشقة فإنه لا يكلف به وانما يكلف بوسعه يعني ما لا مشقة فيه وان كان فيه نوع أذى مثل وجع الرأس في الجملة أو الضرس أو نحو ذلك فإنه لا يوجب الانتقال الى التيمم ، وليس له حد شرعي بل الإنسان على نفسه بصيرة ، وفي موثقة زرارة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) ما حد المرض الذي يفطر فيه الرجل ويدع الصلاة من قيام؟ فقال (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) هو اعلم بما يطيقه». قال في المعتبر : يستبيح المريض التيمم مع خوف التلف ولا يستبيحه مع خوف المرض اليسير كوجع الرأس والضرس ، وهل يستبيحه بخوف الزيادة في العلة أو بطئها أو الشين؟ مذهبنا نعم ، ثم نقل الخلاف من العامة (٢) وفي الشرائع قال لو خشي المرض

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٦ من أبواب القيام في الصلاة.

(٢) في بدائع الصنائع ج ١ ص ٤٨ «إذا كان به جراحة أو جدري أو مرض يضره استعمال الماء فيخاف زيادة المرض باستعمال الماء يتيمم عندنا ، وقال الشافعي لا يجوز التيمم حتى يخاف التلف» وفي المغني ج ١ ص ٢٥٨ «اختلف في الخوف المبيح للتيمم فروي عن احمد واحد قولي الشافعي انه لا يبيحه إلا خوف التلف وظاهر المذهب يبيح التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤه الى ان قال وعليه أبو حنيفة والقول الثاني للشافعي».

٢٨٦

الشديد أو الشين باستعمال الماء جاز له التيمم. وبذلك صرح العلامة في جملة من كتبه ، وظاهر كلامه في النهاية وكذا في الإرشاد تعليق الجواز على مطلق المرض ، وهو ظاهر الذكرى حيث قال : اما الضرر اليسير كصداع أو وجع ضرس فغير مانع ، قاله الفاضلان لانه واجد للماء. ويشكل بالعسر والحرج وبقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لا ضرر ولا ضرار» (١). مع تجويزهما التيمم للشين ، ونقل عن الشيخ علي انه قواه وزاد في الاحتجاج انه لا وثوق في المرض بالوقوف على الحد اليسير ، قال في الذخيرة : «وربما كان الخلاف مرتفعا في المعنى ، فإنه مع الضرر والمشقة الشديدة يجوز التيمم عند الجميع لان المرض والحال هذه لا يكون يسيرا ومع انتقاء المشقة وسهولة المرض لا يسوغ التيمم عند الجميع ايضا وهو غير ثابت» انتهى. أقول : قد عرفت مما قدمناه ان الأظهر هو ما ذكره الفاضلان ، ويؤيده ايضا ان الظاهر من اخبار التضرر بالصيام الموجب للإفطار والتضرر بالصلاة قائما الموجب للجلوس وهكذا بالنسبة إلى الاضطجاع ونحو ذلك هو الضرر الذي لا يتحمل مثله عادة بأن يحصل له مشقة في تحمل ذلك لا مجرد الضرر وحصول الوجع مثلا الذي يمكن تحمله والصبر عليه ، ويدل عليه ما تقدم في موثقة زرارة «هو اعلم بما يطيقه» يعني بما يتمكن من الإتيان به ولا ريب ان التمكن حاصل مع الضرر اليسير. واما جعله في الذخيرة النزاع هنا لفظيا ففيه ان كلام الفاضلين صريح في ان اليسير من الوجع كوجع الرأس والضرس لا يستبيح به التيمم ، وصريح كلام الذكرى فيما طويناه من نقل عبارته (٢) الاستشكال فيما ذكراه هنا ودعوى لزوم الحرج والعسر بذلك وانه ضرر منفي بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا ضرر ولا ضرار» (٣) فكيف يكون النزاع لفظيا والحال كما عرفت.

(الرابعة) ـ قد صرح العلامة وغيره من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان المرجع في معرفة الضرر باستعمال الماء الى الوجدان الحاصل بالتجربة أو غيرها أو

__________________

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٥ من الشفعة و ١٢ من احياء الموات.

(٢) أدرجت عبارة الذكرى في هذه الطبعة تبعا للطبعة القديمة.

٢٨٧

اخبار عدل ، ولو حصل الظن باخبار فاسق أو صبي أو امرأة أو مخالف غير متهم في دينه قال في التذكرة الأقرب القبول لأنه يجري مجرى العلامات كما يقبل قول القصاب الفاسق في التذكية ، وبذلك ايضا صرح جملة ممن تأخر عنه. وأيده بعضهم بأن غاية ما تفيده الآية الشريفة اعتبار ظن الضرر فيكفي حصوله بأي وجه اتفق ، وظاهره في المنتهى انه لا يقبل هنا قول الذمي وان كان عارفا وقصر الحكم على قول العارف المسلم والعارف الفاسق أو المراهق لحصول الظن بالضرر. وفيه انه خلاف ما صرحوا به في غير هذا الموضع من الرجوع الى قول الكافر متى أفاد الظن إذ المراد انما هو على حصوله بأي نوع اتفق.

(الخامسة) ـ لو كان الحكم هو التيمم وخالف المكلف فتوضأ أو اغتسل والحال انه لم يجز له شرعا فهل يجزئ؟ قيل فيه نظر ، من امتثال أمر الوضوء أو الغسل ومن عدم الإتيان بالمأمور به الآن فيبقى في عهدة التكليف ، والنهي عن استعماله في الطهارة المقتضي للفساد في العبادة. أقول : لا ريب ان الوجه هو الثاني ، والأول ضعيف فإنه غير مكلف في هذه الحال بالوضوء أو الغسل حتى يستند الى امتثال الأمر.

(السادسة) ـ إذا أمكن تسخين الماء للمتضرر بالبرودة واستعماله على وجه يأمن الضرر وجب ولم يجز له التيمم ، ولو احتاج الى شراء حطب أو استيجار من يسخنه وجب مع المكنة ، ولو احتاج تحصيل الماء إلى حركة عنيفة لا يمكن تحملها عادة لكبر أو مرض جاز له التيمم ، ولو وجد من يناوله الماء بأجرة وجب مع المكنة ، وأدلة الجميع ظاهرة.

(السابعة) ـ الظاهر انه لا فرق في الجبائر والقروح التي يجب معها الوضوء بين ان تكون في موضع يسير أو في أكثر العضو ، فإنه يغسل الباقي ويعمل في موضع الجبر أو الجراحة ما تقدم في حكم الجبائر ، بخلاف ما إذا استوعبت العضو المغسول أو الممسوح فإنه ينتقل الى التيمم ، مع احتمال غسل الأعضاء الصحيحة أو مسحها والعمل في هذا

٢٨٨

العضو كملا بما هو حكم الجبائر والقروح على التفصيل المتقدم في تلك المسألة ، ولم أقف على من تعرض لهذه المسألة ، والاحتياط فيها عندي بالعمل بالكيفية المذكورة والتيمم بعد ذلك لعدم النص الظاهر ، وان أمكن اندراجها في عموم اخبار القروح والجروح المشتملة على الوضوء.

(المقام الثالث) ـ في خوف العطش ، الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الانتقال الى التيمم لو لم يكن معه من الماء إلا ما يضطر اليه لشربه ويخاف العطش ان استعمله في طهارته ، قال في المعتبر : وهو مذهب أهل العلم كافة. أقول : ويدل عليه مضافا الى الإجماع المذكور جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد الحلبي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الجنب يكون معه الماء القليل فان هو اغتسل به خاف العطش أيغتسل به أو يتيمم؟ قال بل يتيمم وكذلك إذا أراد الوضوء». وعن سماعة في الموثق (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته؟ قال يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء فان الله عزوجل جعلهما طهورا : الماء والصعيد». وعن ابن سنان ـ والظاهر انه عبد الله ـ في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «انه قال في رجل أصابته جنابة في السفر وليس معه إلا ماء قليل يخاف ان هو اغتسل ان يعطش؟ قال : ان خاف عطشا فلا يهرق منه قطرة وليتيمم بالصعيد فان الصعيد أحب الي». ورواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن ابن سنان مثله (٤) وما رواه في الكافي في الحسن عن ابن ابي يعفور (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يجنب ومعه من الماء قدر ما يكفيه لشربه أيتيمم أو يتوضأ؟ قال يتيمم أفضل ألا ترى انه انما جعل عليه نصف الطهور». والأخبار المذكورة ظاهرة في المراد مؤيدة بما تقدم قريبا من دلالة الاخبار في جملة من الأحكام على ان عنايته سبحانه بالأبدان أشد من الأديان ، ولا ينافي ذلك لفظ «أحب الي» ولفظ «أفضل» فإن

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب التيمم.

٢٨٩

الواجب أحب إليه (عليه‌السلام) وهو الذي فيه الفضل ، وافعل التفضيل ليس على بابه هنا كما هو شائع في الاخبار وغيرها.

بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ لو خشي العطش على رفيقه أو على دوابه فالذي صرح به جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى انه يجب التيمم ايضا ، مستندين في الأول إلى أن حرمة أخيه المسلم كحرمته وان حرمة المسلم آكد من حرمة الصلاة ، وفي الثاني الى ان الخوف على الدواب خوف على المال ومعه يجوز التيمم. أقول : اما ما علل به الأول فجيد ، ويؤيده جواز قطع الصلاة لحفظ المسلم من الغرق أو الحرق وان كان في ضيق الوقت ، وان حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة الى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة الدالة بعمومها على هذا الحكم. واما الثاني فمحل نظر ، وما استند اليه من جواز التيمم للخوف على المال ممنوع لعدم الدليل عليه بل هي بالدلالة على خلافه أشبه كما تقدم بيانه ، على ان مطلق ذهاب المال غير مسوغ للتيمم ولهذا وجب صرف المال الكثير في شراء الماء كما تقدم ذكره ، مع انه يمكن ذبح الدابة أو بيعها أو إتلافها ، وبالجملة فإن صدق الوجدان بالنسبة إليه حاصل وعدم الاضطرار اليه ظاهر فجواز التيمم والحال كما عرفت غير جيد ، نعم ينبغي ان يستثني من ذلك ما لو كان محتاجا إلى الدابة بحيث يضره فوتها كما إذا كان في سفر لا يمكن قطعه إلا بها أو يحتاج إليها لنقل أثقاله وأحماله فإنه يجوز ان يصرف الماء إليها لما عرفت

(الثاني) ـ لو كان معه ماءان طاهر ونجس وخشي العطش فالذي صرح به في المعتبر انه يتيمم ويستبقي الطاهر لشربه ، لانه قادر على شرب الطاهر فلا يستبيح النجس فجرى وجود النجس مجرى عدمه ، قال : ويستوى الحكم بذلك في الوقت وقبله لما ذكرناه. لا يقال بعد دخول وقت الصلاة يصير استعمال الماء مستحقا للطهارة ، لأنا نمنع الاستحقاق وانما نسلمه لو استغنى عن شربه وليس مستغنيا بالنجس لتحقق التحريم في شربه مع وجود الطاهر. انتهى. قال في المدارك بعد نقل ملخص ذلك :

٢٩٠

«وهو جيد ان ثبت تحريم شرب النجس مطلقا» وهو مؤذن بالمناقشة في تحريم المأكولات والمشروبات النجسة.

أقول : وحيث كان الحكم بتحريم المأكولات والمشروبات النجسة مجمعا عليه بين الأصحاب كما لا يخفى على من لاحظ كلامهم في كتاب الأطعمة والأشربة وظاهر السيد السند (قدس‌سره) المناقشة في ذلك فلا بأس بذكر ما وقفت عليه من الدليل على صحة ما أجمعوا عليه وان كان خارجا عن محل البحث ، فمن ذلك ما ورد في تحريم الأكل من أواني الكفار التي علم تنجيسهم لها كما رواه الصدوق في الصحيح عن سعيد الأعرج (١) «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل ويشرب؟ قال : لا». وعن زرارة في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «انه قال في آنية المجوس إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء». وما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم (٣) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ فقال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر». وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته عن آنية أهل الكتاب فقال لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير». وعن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «في آنية المجوس؟ فقال إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء». الى غير ذلك من الاخبار التي من هذا الباب ، ولا يخفى انه لا وجه للنهي فيها الذي هو حقيقة في التحريم إلا تحريم شرب المتنجس واكله ، ومن ذلك ما ورد في تحريم السمن والزيت ونحوهما إذا ماتت فيه الفأرة وكان مائعا وهي أخبار كثيرة (٦) ومن ذلك الأخبار المستفيضة الواردة بإراقة

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرمة وهذه رواية المحاسن والمتقدمة برقم (٢) رواية الفقيه.

(٦) رواها في الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٢٩١

الركوة والتور إذا وقعت فيهما الإصبع القذرة (١) ولو جاز شرب الماء لما كان للأمر بالإراقة وجه ، وما ورد من اراقة مرق اللحم إذا وجدت في القدر فأرة ميتة وأكل اللحم بعد غسله (٢) الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع للاحكام ، ومن الظاهر انه لا خصوصية لهذه المعدودات وأمثالها تقتضي قصر الحكم عليها بل الحكم بهذه الاخبار وأمثالها جار في كل نجس كما في غير هذا المقام من الأحكام الشرعية ، إذ الأحكام الشرعية لم ترد بقواعد كلية وانما تستفاد القواعد بها بتتبع الجزئيات كالقواعد النحوية ، وبالجملة فالظاهر ان هذه المناقشة انما وقعت غفلة عن ملاحظة الأدلة وإلا فهي بعد المراجعة في الدلالة على المراد كالشمس المشرقة على جميع البلاد. والله العالم.

(الثالث) ـ قد تكرر في عبارات الأصحاب عد خوف حدوث الشين من أسباب الخوف الموجبة للانتقال الى التيمم ، قال في المنتهى : «لو خاف الشين باستعماله الماء جاز له التيمم قاله علماؤنا اجمع» وهو ظاهر في دعوى الإجماع على ذلك ، ولم أجد له في اخبار التيمم مع كثرة نصوصه واخباره ذكرا ولا أثرا ، والشين ـ على ما ذكره في الروض ـ ما يعلو البشرة من الخشونة المشوهة للخلقة وربما بلغت تشقق الجلد وخروج الدم ، ونقل عن العلامة في النهاية انه قد صرح بأنه لا فرق بين شدته وضعفه ، وهو ظاهر الروض ايضا حيث قال : «ولا فرق في الشين بين شدته وضعفه للإطلاق وصرح به المصنف (قدس‌سره) في النهاية وقيده في المنتهى بكونه فاحشا لقلة ضرر ما سواه» وأنت خبير بأنه حيث لا نص على الشين بخصوصه في الأخبار. فلا معنى لجعله سببا مستقلا بل الظاهر كونه كسائر الأمراض ، فإن بلغ الأمر فيه الى ان يكون مرضا لا يتحمل

__________________

(١) تقدمت في ضمن الاخبار الدالة على نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة ج ١ ص ٢٨١.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٢٩٢

مثله عادة كما في سائر الأمراض فالحكم فيه هو الانتقال الى التيمم والحاقه بالأمراض التي يشق تحملها لدخوله تحت أدلتها وإلا فلا ، ودعوى شيخنا فيما تقدم من عبارته الإطلاق بعدم الفرق بين شدته وضعفه مع عدم وجود النص عليه بخصوصه لا اعرف له وجها ، ويؤيد ما ذكرنا ما نقل عن الشيخ في الخلاف من انه قال : إذا لم يخف التلف ولا الزيادة في المرض غير انه يشينه استعمال الماء ويؤثر في خلقته ويغير شيئا منه ويشوه به يجوز له التيمم لأن الآية عامة في كل خوف وكذلك الأخبار ، وللشافعي فيه قولان ، فاما إذا لم يشوه خلقته ولا يزيد في علته ولا يخاف التلف وان اثر قليلا فلا خلاف انه لا يجوز له التيمم. انتهى. والله العالم.

(المطلب الثاني) ـ فيما يجوز به التيمم وما لا يجوز ، وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام في مواضع (الأول) ـ هل يكفي مجرد ما صدق عليه اسم الأرض أو يشترط خصوص التراب؟ قولان ، فقال الشيخ لا يجوز إلا بما يقع عليه اسم الأرض إطلاقا سواء كان عليه تراب أو كان حجرا أو حصى أو غير ذلك ، وبذلك صرح في المبسوط والجمل والخلاف ، كذا نقله عنه في المعتبر ، وهو مذهب ابن الجنيد والمرتضى في المصباح واختاره المحقق والعلامة ، وهو المشهور بين المتأخرين ، وعن المرتضى في شرح الرسالة انه قال لا يجزئ في التيمم إلا التراب الخالص أي الصافي من مخالطة ما لا يقع عليه اسم الأرض كالزرنيخ والكحل وأنواع المعادن ، كذا نقله عنه في المعتبر ايضا ، والظاهر ان قوله : «أي الصافي» من كلام المحقق تفسيرا لعبارة السيد (قدس‌سره) ونقل هذا القول عن ابي الصلاح وظاهر المفيد ، ومنشأ الخلاف في هذا المقام هو الخلاف بين أهل اللغة في تفسير الصعيد في الآية وقد تقدم ذكره في صدر الباب ، فالمرتضى (رضي‌الله‌عنه) ومن قال بمقالته تمسكوا بأحد القولين والآخرون تمسكوا بالقول الآخر ، وقد قدمنا ان الحق في هذا المقام هو عدم الرجوع الى الآية في ذلك (اما أولا) فلاختلاف أهل اللغة كما عرفت وان كان كلام الأكثر هو الموافق

٢٩٣

للقول المشهور. (وثانيهما) وهو المعتمد انه قد ورد تفسير الصعيد في الخبرين المتقدمين بأنه الموضع المرتفع من الأرض ، وحينئذ فإذا كان مراده سبحانه من هذا اللفظ انما هو هذا المعنى كما ورد عن نوابه (عليهم‌السلام) وحملة كتابه الذين يجب اتباعهم فيما به أخبروا وعنه عبروا فلا ينبغي العدول عنه الى كلام أهل اللغة وان اتفقوا ولا غيرهم لأنهم (صلوات الله عليهم) اعرف الناس بما فيه وما يراد بباطنه وخافية وحينئذ فالواجب الرجوع في هذا المقام الى الاخبار الواردة في هذا المضمار :

ومما يدل على القول المشهور جملة من الاخبار ، ومنها قول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة ابن سنان (١) «إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من الأرض وليصل.». وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي (٢) «ان رب الماء هو رب الأرض فليتيمم». وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (٣) «فان فاتك الماء لم تفتك الأرض». فإنه لو لم يرتب الحكم على الأرض بقول مطلق لما رتب عليها في هذه الاخبار وكذا في الاخبار الواردة في كيفية التيمم كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ، فقد عبر عما يتيمم به بلفظ الأرض في عدة منها ، ويؤيده أيضا تفسير أهل اللغة الصعيد بالأرض في غير هذه الآية وهو قوله سبحانه : «فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً» (٤) أي أرضا ملساء يزلق عليها باستئصال شجرها ونباتها ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٥) : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد». اي على أرض واحدة.

إلا انه يمكن معارضة هذه الاخبار بما ورد من هذا القبيل بلفظ التراب كما في

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب التيمم.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب التيمم.

(٤) سورة الكهف ، الآية ٣٨.

(٥) راجع التعليقة ٢ ص ٢٤٥.

٢٩٤

صحيحة جميل بن دراج عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ان الله عزوجل جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة رفاعة (٢) «إذا كانت الأرض مبتلة ليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم منه.». وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الله بن المغيرة (٣) قال : «إذا كانت الأرض مبتلة وليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم من غباره أو شي‌ء مخبر.». وفي رواية علي بن مطر عن الرضا (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم بالطين؟ قال نعم. الحديث». وفي رواية معاوية بن ميسرة (٥) «يمضي على صلاته فان رب الماء هو رب التراب».

وبالجملة فالروايات في هذا الباب قد اشتمل بعضها على الأرض وبعضها على التراب وبعضها على الصعيد المحتمل لكل منهما ، والأقرب حمل الأرض على التراب توسعا في الإطلاق حيث انه هو الفرد الأكمل الأكثر دورانا ، ويؤيده ما في التيمم بسائر افراد الأرض غير التراب مثل الحجر وما فيه من الخلاف والاشكال كما سيأتي في مسألة اشتراط العلوق ، وكذا الأرض السبخة وارض الجص والنورة والغبار ونحو ذلك من أقسام الأرض الذي لا ينتقل اليه إلا مع فقد التراب ، فهو في المرتبة الثانية عن التراب فلا ينصرف إليه إطلاق الأرض في هذه الأخبار ، وهذا واضح بحمد الله سبحانه.

وعن المرتضى الاحتجاج بعد الآية بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٦) «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا». قال : ولو كانت الأرض طهورا وان لم تكن ترابا لكان لفظ ترابها لغوا. وأجاب عنها في المعتبر بان التمسك بها تمسك بدلالة الخطاب

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب التيمم.

(٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب التيمم.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

(٦) المروي في الوسائل في الباب ٧ من أبواب التيمم.

٢٩٥

وهي متروكة في معرض النص إجماعا. وقيل عليه ان قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا». لا ريب انه مذكور في معرض التسهيل والتخفيف وبيان امتنان الله سبحانه على هذه الأمة المرحومة وهو من قبيل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة». وظاهر انه لو كان غير التراب من اجزاء الأرض طهورا ايضا لكان ذكر التراب لغوا صريحا وتوسيطه في البين مخلا بانطباق الكلام على ما يقتضيه المقام وكان مقتضى الحال ان يقول : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» فإنه أدخل في الامتنان ، وليس هذا استدلالا بمفهوم الخطاب بل أمر آخر وهو لزوم خروج الكلام النبوي عن قانون البلاغة على ذلك التقدير ، عن ان دلالة الخطاب إذا اعتضدت بالقرائن الحالية أو المقالية فلا كلام في اعتبارها ولذلك يعزر من قال لخصمه انا لست زانيا ، وبهذا يظهر ان كلام السيد في أعلى مراتب السداد. انتهى. وهو جيد. والجواب الحق انما هو ان ما نقله السيد من لفظ الحديث بقوله «وترابها» وان تناقلوه في كتب الفروع كذلك إلا ان متن الحديث في كتب الأخبار خال من هذه الزيادة ، وقد نقل في الوسائل اربع روايات واحدة من الكافي والثانية من الفقيه واثنتان من الخصال والجميع خال من هذه الزيادة ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور وضعف المعارض المذكور ، الا انه سيجي‌ء ان شاء الله تعالى في مسألة اشتراط العلوق وعدمه ما يوضح الحال زيادة على ما ذكرناه في هذا المجال.

(الثاني) ـ ذهب ابن ابي عقيل ـ كما تكاثر النقل عنه بذلك في كتب الأصحاب ـ إلى جواز التيمم بالأرض وبكل ما كان من جنسها كالكحل والزرنيخ لانه يخرج من الأرض ، وهو مذهب أبي حنيفة (٢) كما ذكره في المعتبر ، والمشهور العدم

__________________

(١) راجع التعليقة ١ ص ٢٦٦.

(٢) في المغني ج ١ ص ٢٤٧ حكاه عنه وعن مالك.

٢٩٦

وهو المستفاد من الأخبار لتصريحها بالأرض فيكون الحكم تابعا لما صدق عليه إطلاق الأرض وهذه الأشياء لا تسمى أرضا ، وما علله به من ان يخرج من الأرض لا يجدي طائلا إذ مورد النصوص هو ما يسمى أرضا لا ما يخرج منها وان لم يسم بذلك ، وربما يستدل له بما رواه الراوندي في نوادره بسنده فيه عن علي (عليه‌السلام) (١) قال : «يجوز التيمم بالجص والنورة ولا يجوز بالرماد لانه لم يخرج من الأرض. فقيل له أيتيمم بالصفا البالية على وجه الأرض؟ قال : نعم». ومثلها رواية السكوني (٢) كما سيأتي ان شاء الله تعالى ، والمنافاة منهما غير ظاهرة لان محل توهم المنافاة هو قوله (عليه‌السلام) «لانه لم يخرج من الأرض». بدعوى ان فيه إشارة الى ان ما خرج من الأرض وان لم يصدق عليه اسم الأرض يجوز التيمم به ، ومن الجائز والمحتمل قريبا ان مراده (عليه‌السلام) انما هو بيان ان الرماد لا تعلق له بالأرض بالكلية ، ويؤيده قوله في رواية السكوني بعد هذا الكلام : «وانما يخرج من الشجر» والمراد المبالغة في نفي الأرضية عنه بالكلية ، فكيف يجوز التيمم به مع دلالة الأخبار المستفيضة على الاختصاص بالأرض؟ وكيف كان فالخروج بهما عن صراحة تلك الصحاح المستفيضة مما لا يتجشمه من له أدنى معرفة.

(الثالث) ـ الحجر الخالي من الغبار ، وقد اختلف فيه كلامهم ، فقيل بجواز التيمم به مطلقا وهو قول الشيخ في المبسوط والخلاف ، وقيل بالعدم مطلقا وهو منقول عن ظاهر ابن الجنيد حيث قال : ولا يجوز من السبخ ولا مما أحيل عن معنى الأرض المخلوقة بالطبخ والتحجير خاصة. وهذا القول لازم للمرتضى ومن يقول بمقالته من التخصيص بالتراب ايضا كما لا يخفى وان لم أعثر على من نسب ذلك اليه ، وقيل بالتفصيل بين حالي الاختيار والضرورة فيمتنع على الأول ويجوز على الثاني ، قال الشيخ في النهاية : ولا بأس

__________________

(١) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٦ من أبواب التيمم.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٨ من أبواب التيمم.

٢٩٧

بالتيمم بالأحجار وارض النورة وارض الجص إذا لم يكن يقدر على التراب. ويقرب منه كلام المفيد في المقنعة حيث قال : وان كان في أرض صخر وأحجار ليس عليها تراب وضع يديه عليها ومسح بهما وجهه وكفيه كما ذكرنا في تيممه بالتراب وليس عليه حرج في الصلاة بذلك لموضع الاضطرار. وقال ابن إدريس ولا يعدل الى الحجر والمدر إلا إذا فقد التراب. وحجة القول المشهور واضحة لصدق الأرض على الحجر فيدخل تحت الأخبار المتقدمة. واما القول بالتفصيل فقد رده جملة من الأصحاب بأنه مع كونه لا دليل عليه لا وجه له فان الحجر ان صدق عليه اسم الأرض جاز التيمم به مع وجود التراب وعدمه وان لم يصدق عليه امتنع كذلك كما صرح به ابن الجنيد فلا وجه للتفصيل المذكور. واما ما ذكره بعض أفاضل متأخري المتأخرين في الجواب عن ذلك ـ حيث قال : وفيه نظر إذ يجوز ان يكون التيمم عند فقد التراب للإجماع عليه لا لدخوله في الصعيد كما جاز التيمم بالوحل وان لم يكن داخلا في الصعيد إجماعا لنص خاص دل عليه ـ ففيه ان الإجماع عليه انما هو من حيث دخوله تحت اسم الأرض لما نقله العلامة من الإجماع على ان التيمم لا يقع إلا بالتراب أو الأرض فالإيراد بحاله ، واما تعلقه بجواز التيمم بالوحل وان لم يكن داخلا في الصعيد فهو مردد بأن الأخبار قد صرحت بدخوله في الصعيد ، ففي رواية زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء وفيها طين ما يصنع؟ قال يتيمم فإنه الصعيد. الحديث». ومرسلة علي بن مطر عن بعض أصحابنا (٢) قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم بالطين؟ قال نعم صعيد طيب وماء طهور». دل الخبران على ان الطين داخل في الصعيد الذي تضمنته الآية ، ويؤيد ما ذكرناه ان المحقق في المعتبر استدل على جواز التيمم بالوحل بعد فقد الصعيد والغبار فقال : «لنا ـ انه بممازجة الماء لا يخرج عن كونه أرضا وصعيدا» ومع الإغماض عن ذلك فان الفرق بين ما نحن فيه وبين

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب التيمم.

٢٩٨

التيمم بالوحل ظاهر فان النص لما دل على جواز التيمم بالوحل وان لم يكن صعيدا صار مستثنى بالنص ، وما ادعاه من استثناء التيمم بالحجر بالإجماع ممنوع (أولا) ـ بما عرفت من قول ابن الجنيد بالمنع من ذلك مطلقا وقول المرتضى من التخصيص بالتراب ومثله قول ابي الصلاح كما تقدم. و (ثانيا) ـ انه انما يتم لو كان الإجماع على صحة التيمم به في الصورة المذكورة وان لم يكن أرضا ، وهو غير مسلم لدعوى العلامة الإجماع على عدم التيمم إلا بالتراب أو الأرض ، وحينئذ فالقول بالتيمم به انما هو من حيث كونه أرضا فلا يجدي ما أجاب به. ويمكن ان يقال في الجواب ان ظاهر كلام المفصلين ان مذهبهم في هذه المسألة هو وجوب التيمم بالتراب كما ذهب اليه المرتضى إلا انهم يجعلون بعده مرتبة ثانية مع فقده وهو الأرض التي من جملتها الحجر ، ولعل وجهه الجمع بين الآية بناء على تفسير الصعيد فيها بالتراب كما هو أحد قولي اللغويين والأخبار الدالة على التيمم بالأرض كما قدمناها فيحملون الأخبار على فقد التراب ويخصونها بالآية ، وهو وجه وجيه. واما المعارضة بقول جملة من اللغويين أيضا بأن الصعيد هو الأرض فلا يرد عليهم لأنهم ربما ترجح عندهم المعنى الذي اختاروه بوجوه لم ندركها. وبالجملة فهذا الوجه في حد ذاته لا يخلو من حسن وقوة سيما مع أوفقيته بالاحتياط المطلوب في الدين.

بقي هنا شي‌ء وهو ان صحيحة زرارة الآتية ان شاء الله تعالى في بيان كيفية التيمم قد دلت على اشتراط العلوق وهو مما يمنع من جواز التيمم بالحجر الخالي من التراب وهو لازم لكل من اشترط العلوق ، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها ان شاء الله تعالى. والله العالم.

(الرابع) ـ المشهور بين الأصحاب جواز التيمم بأرض الجص والنورة قبل الإحراق ، ومنع ابن إدريس من ذلك مدعيا انها معدن ، واعتبر الشيخ في النهاية في جواز التيمم بها فقد التراب كما تقدم في الحجر ، وردهما الأصحاب (رضوان الله عليهم) بالضعف لصدق الأرضية ومنع المعدنية ، وردوا تفصيله في النهاية هنا بما ردوه به في الحجر

٢٩٩

وقد عرفت بما حققناه ثمة إمكان الجواب عما أوردوه عليه وانه لا يخلو من وجه وجيه واما بعد الإحراق فذهب الشيخان الى المنع من التيمم بهما والظاهر انه المشهور لخروجهما بالإحراق عن اسم الأرض ، وعن المرتضى في المصباح وسلار (رضي‌الله‌عنهما) الجواز ، قال في المعتبر : وما ذكره علم الهدى هو رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (١) «انه سئل عن التيمم بالجص؟ فقال نعم. فقيل بالنورة؟ فقال نعم. فقيل بالرماد. فقال لا انه لا يخرج من الأرض إنما يخرج من الشجر». وهذا السكوني ضعيف لكن روايته حسنة لأنه أرض فلا يخرج باللون والخاصية عن اسم الأرض كما لا تخرج الأرض الصفراء والحمراء. قال في المدارك بعد نقله : والاولى اعتبار الاسم كما اختاره في المنتهى. أقول : قد تلخص ان في المسألة أقوالا ثلاثة : (ثالثها) ـ ما اختاره في المدارك ونقله عن المنتهى ومرجعه الى التوقف في الحكم لان حاصل كلامه انه ان صدق عليه اسم الأرض جاز التيمم به وإلا فلا ، وهو مؤذن بعدم معلومية الصدق وعدمه عنده وهذا الكلام بظاهره مناف لما يأتي منه في كتاب الصلاة في السجود على الخزف حيث قال ثمة : «ويمكن ان يستدل على الجواز بما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٢) «انه سأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب اليه بخطه : ان الماء والنار قد طهراه». وجه الدلالة انها تدل بظاهرها على جواز السجود على الجص ، والخزف في معناه» وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في قوله بجواز السجود على الجص بعد الإحراق ، ومسألتا السجود والتيمم من باب واحد لاشتراط الأرضية فيهما وان كانت دائرة السجود أوسع بالنسبة إلى الكاغد وما أنبتت الأرض. وقد ظهر مما حققناه ان الأظهر هو الجواز لهذه الصحيحة المذكورة بالتقريب الذي ذكرناه ولرواية السكوني

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٨ من أبواب التيمم.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٨١ من النجاسات و ١٠ مما يسجد عليه.

٣٠٠