الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

أعضائه لجواز وجود ما تكمل به الطهارة ، قال والموالاة ساقطة هنا بخلاف المحدث واحتمل ذلك شيخنا البهائي في الحبل المتين أيضا.

أقول : والظاهر هو القول المشهور للأخبار المتكاثرة ، واستدل على ذلك ايضا بقوله عزوجل «فَلَمْ تَجِدُوا» وقد تقدم الكلام في ذلك في صدر الباب في تفسير الآية المذكورة ، والأظهر الرجوع في ذلك الى الاخبار فإنها صريحة الدلالة في المدعى ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) «في رجل أجنب في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضأ به؟ قال يتيمم ولا يتوضأ». وما رواه في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي (٢) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يجنب ومعه قدر ما يكفيه من الماء لوضوء الصلاة أيتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال لا بل يتيمم ألا ترى انه انما جعل عليه نصف الوضوء». وعن محمد بن حمران وجميل بن دراج في الصحيح (٣) «أنهما سألا أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن امام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم؟ فقال لا ولكن يتيمم الجنب ويصلي بهم فان الله عزوجل جعل التراب طهورا». ورواه الشيخ في الصحيح مثله (٤) إلا انه ترك «بعضهم» وهو أظهر في الاستدلال ، وما رواه الشيخ عن الحسين بن ابي العلاء (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يجنب ومعه من الماء بقدر ما يكفيه لوضوء الصلاة أيتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال يتيمم ألا ترى انه جعل عليه نصف الطهور». وربما لاح من خبري الحلبي والحسين بن ابي العلاء ان من أحدث بالأصغر بعد تيممه عن الجنابة فان الواجب عليه هو التيمم بدلا عن الجنابة كما هو المشهور لا عن الأصغر كما هو قول المرتضى ، إلا انه يمكن تخصيص الخبرين المذكورين بكون السؤال فيهما عن هذا الحكم بعد الجنابة كما يؤنس به التعليل المذكور من قوله (عليه‌السلام) «ألا ترى انه انما جعل عليه نصف الوضوء» كما في الأولى أو «الطهور» كما

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب التيمم.

٢٦١

في الثانية ، فإن الظاهر ان منشأ هذا السؤال ان السائل توهم أفضلية الوضوء على التيمم لكونه طهارة مائية مقدورة للجنب سابغة على الأعضاء فيحصل بها استباحة ما يحصل بالتيمم الذي هو مخصوص بعدم وجود الماء أو عدم إمكان استعماله ، فأجابه (عليه‌السلام) بان الواجب عليه شرعا لرفع حدث الجنابة في الحال المذكورة انما هو التيمم لانه سبحانه بعد تعذر الماء للغسل وجودا أو استعمالا نقله الى التيمم لطفا به وكرما كما دلت عليه آية التيمم المتقدمة وقوله تعالى : «ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ... الآية» ألا ترى انه لمزيد لطفه وعنايته انما جعل عليه نصف الوضوء يعني مسح المغسول منها وهي ثلاثة دون الممسوح منها وهي الثلاثة الأخرى والوضوء مركب من أعضاء ثلاثة مغسولة وأعضاء ثلاثة ممسوحة. وأنت خبير بان ما ذكرنا من الكلام في هذه المسألة متجه فيما إذا كان مكلفا بطهارة واحدة فلو كان مكلفا بطهارتين كالوضوء والغسل بناء على المشهور في غسل الحيض والنفاس ونحوهما من وجوب الوضوء معه فإنها لو وجدت ما يكفي للوضوء دون الغسل توضأت عن الأصغر وتيممت بدلا من الغسل ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب ، ولو وجدت ما يكفي للغسل خاصة قدمته وتيممت عن الحدث الأصغر ، ويحتمل التخيير هنا لأنهما فرضان مستقلان إلا ان الأحوط الأول. ثم انه لا يخفى ايضا ان هذا الحكم آت فيما لو تضرر بعض أعضائه بالغسل أو كان بعض أعضائه نجسا ولا يقدر على طهارته بالماء فإنه يتيمم ولا يجزئه تيمم بعض وغسل بعض ، لأن الطهارة عبادة شرعية موقوفة على التوظيف من الشارع والذي علم منه اما الماء في الجميع أو التراب في الجميع ولم يرد عنه التبعيض ، ونقل في المعتبر عن الشيخ في المبسوط والخلاف انه قال : ولو غسلها وتيمم كان أحوط. وهو ضعيف لما عرفت.

(الحادي عشر) ـ اختلف الأصحاب في من وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة إلا بمزجه بالمضاف على وجه لا يسلبه الإطلاق فهل يجب المزج والطهارة به أم يجوز له ترك المزج والانتقال الى التيمم؟ فذهب جمع من المتأخرين : منهم ـ العلامة

٢٦٢

واتباعه إلى الأول ، ونقل عن جمع من المتقدمين كالشيخ واتباعه الميل الى الثاني ، وربما بني الخلاف هنا على الخلاف المتقدم في معنى الآية ، فإن فسرنا عدم وجود الماء بالقول الثاني المتقدم وهو كون المكلف غير واجد للماء بان يكون في مكان لا ماء فيه فالمتجه قول الشيخ بالانتقال الى التيمم ، فإنه يصدق على هذا من حيث ان الماء لا يكفيه للطهارة انه غير واجد للماء فيصير فرضه التيمم ، وان قلنا ان المراد بعدم وجدان الماء انما هو عدم التمكن منه كما تقدم في القول الأول فالمتجه ما ذكره العلامة لصدق التمكن بالمزج كصدقه بالسعي والطلب وبعض المحققين بنى القولين المذكورين على ان الطهارة بالماء في الصورة المفروضة هل هو من قبيل الواجب المطلق فيجب المزج إذ ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور فهو واجب أو انها واجب مشروط بوجود الماء وتحصيل مقدمة الواجب المشروط غير واجب؟ وقد تقدم البحث في هذه المسألة مستوفى في باب الماء المضاف وبيان ما هو الحق المختار من القولين المذكورين.

(الثاني عشر) ـ قد صرح الأصحاب بأنه لو كان على بدن المصلى أو ثوبه نجاسة ومعه من الماء ما لا يكفيه إلا لإزالة النجاسة أو الطهارة فإنه يجب تقديم إزالة النجاسة والظاهر ان الحكم بذلك اتفاقي عندهم كما صرح به في المعتبر والمنتهى والتذكرة ، وعلل بأن الطهارة المائية لها بدل وهو التيمم بخلاف إزالة النجاسة فيجب صرفه إليها والتيمم جمعا بين الحقين. وأنت خبير بأن لقائل أن يقول ان الشارع قد قيد جواز التيمم بعدم وجدان الماء والماء في الصورة المفروضة موجود ، وزعم البدلية على إطلاقه ممنوع إذ غاية ما يفهم من الأخبار ثبوت البدلية مع فقد الماء بالكلية أو التضرر باستعماله وكل منهما مفقود في محل النزاع ، على ان دعوى البدلية معارض بتجويز الشارع الصلاة في النجاسة مع تعذر إزالتها أو عاريا على الخلاف في المسألة. وتقديم أحدهما في استعمال هذا الماء الموجود على الآخر يحتاج إلى دليل ، ولا اعلم لهم دليلا وراء الإجماع المدعى والاعتماد عليه لا يخلو من مجازفة كما قدمنا القول فيه في مقدمات الكتاب ، وهؤلاء

٢٦٣

المدعون له قد طعنوا فيه في غير موضع من كتبهم الاستدلالية وان استسلقوه في أمثال هذه المقامات ، نعم لو علم دخول أقوال متقدمي الأصحاب من أرباب النصوص في هذا الإجماع لم يبعد الاعتماد عليه. وبالجملة فالمسألة لعدم النص لا تخلو من اشكال والاحتياط فيها واجب عندي على كل حال بان يتطهر بالماء ويصلي بالنجاسة ثم يعيد في الوقت أو خارجه بعد التمكن من الماء لإزالة النجاسة. ثم انهم قد صرحوا أيضا بان ما ذكر من الحكم المذكور وهو وجوب تقديم إزالة النجاسة والتيمم مخصوص بوجود ما يتيمم به وإلا وجب الوضوء بذلك الماء والصلاة بالنجاسة. وهو مما لا اشكال فيه على القول المذكور. وصرحوا ايضا بتقييد الحكم بالنجاسة الغير المعفو عنها وبكون الثوب لو كانت النجاسة فيه مما يضطر الى لبسه. والجميع مما لا اشكال فيه. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ في عدم الوصلة اليه والتمكن منه والبحث هنا يقع في مواضع ثلاثة :

(الأول) ـ قد صرح الأصحاب بان من عدم الثمن فهو كمن عدم الماء ، وكذا ان وجده بثمن يضر بحاله بمعنى انه ليس للمكلف مال يقوم بذلك من غير تطرق ضرر اليه ونقصان في ماله ، وقيل ان المراد ضرره في الحال يعني حال الشراء وان لم يضر به في المآل ، واما لو لم يترتب عليه الضرر بأي المعنيين اعتبر فإنه يجب الشراء عندهم وان زاد على قيمة المثل أضعافا إذ المناط انما هو الضرر وعدمه كما عرفت. ونقل عن ابن الجنيد الانتقال الى التيمم هنا وعدم وجوب الشراء متى كان غاليا وانه يصلي بتيممه ثم يعيد بعد وجود الماء.

أقول : (اما الأول) من هذه المذكورات فلا اشكال فيه إذ صدق عدم الوجدان فيه ظاهر. و (اما الثاني) فأسنده في المعتبر الى فتوى الأصحاب ، واستدل عليه بان من خشي من نص أخذ ما يجحف به لم يجب عليه العي وتعريض المال للتلف

٢٦٤

وإذا ساغ التيمم هناك دفعا للضرر ساغ له هنا ، وبرواية يعقوب بن سالم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحوهما؟ قال لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع». قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو حسن ويؤيده عموم قوله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٢) وقوله عزوجل : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (٣) و (اما الثالث) فاستدلوا عليه بصحيحة صفوان (٤) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل احتاج الى الوضوء للصلاة وهو لا يقدر على الماء فوجد قدر ما يتوضأ به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لها يشتري ويتوضأ أو يتيمم؟ قال لا بل يشتري قد أصابني مثل هذا فاشتريت وتوضأت وما يشترى بذلك مال كثير». ورواه في الفقيه مرسلا عن الرضا (عليه‌السلام) (٥) أقول : والذي وقفت عليه زيادة على هذا الخبر ما رواه العياشي في تفسيره عن الحسين بن أبي طلحة (٦) قال : «سألت عبدا صالحا عن قول الله عزوجل : «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (٧) ما حد ذلك فان لم تجدوا بشراء أو بغير شراء ان وجد قدر وضوء بمائة ألف أو ألف وكم بلغ؟ قال : ذلك على قدر جدته». وما في دعائم الإسلام (٨) حيث قال : «وقالوا (عليهم‌السلام) في المسافر إذا لم يجد الماء إلا بموضع يخاف على نفسه ان مضى في طلبه من لصوص أو سباع أو ما يخاف منه التلف والهلاك يتيمم ويصلي. وقالوا (عليهم‌السلام) في المسافر يجد الماء بثمن غال ان يشتريه إذا كان واجدا لثمنه فقد وجده إلا ان يكون في دفعه الثمن

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التيمم.

(٢) سورة الحج. الآية ٧٧.

(٣) سورة البقرة. الآية ٥٨١.

(٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب التيمم.

(٧) سورة النساء الآية ٤٣ وسورة المائدة. الآية ٦.

(٨) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ١ و ٢٠ من أبواب التيمم.

٢٦٥

ما يخاف منه على نفسه التلف ان عدمه والعطب فلا يشتريه ويتيمم بالصعيد ويصلي».

أقول : لا يخفى ان ما استدل به المحقق في المعتبر على القسم الثاني لا يخلو من نظر وان استحسنه في المدارك ، اما قوله : «من خشي من لص أخذ ما يجحف به. إلخ» فهو مع كونه لا دليل عليه لا يخرج عن القياس ، فان ورود ذلك على تقدير تسليمه في السعي إلى تحصيل الماء لا يوجب انسحابه الى الشراء سيما مع عموم الصحيحة المنقولة في كلامهم والخبرين اللذين اردفناهما بها ، واما الاستناد إلى الرواية فكذلك أيضا ، لأن موردها طلب الماء في الغلوات وهو خارج عن محل المسألة وحمل ما نحن فيه على ذلك لا يخرج عن القياس ، وبالجملة فإن الأخبار التي نقلناها في المسألة عامة للصورة الثانية والثالثة ، حيث ان ظاهرها وجوب الشراء ما وجد الثمن قليلا كان أو كثيرا ، والظاهر انه الى ما ذكرنا ذهب المرتضى على ما نقله في المعتبر حيث قال : «وإذا لم يوجد إلا ابتياعا وجب مع القدرة وان كثر الثمن ، كذا قال علم الهدى ، وقيل ما لم يتضرر به في الحال وهو أشبه» ثم استدل على الأول بأنه واجد للماء ضرورة قدرته عليه بالثمن الموجود ، ثم أورد رواية صفوان إلى ان قال : واما الثاني وهو اشتراط عدم الضرر الحالي فهو اختيار الشيخ ، ثم نقل قول ابن الجنيد الآتي الى ان قال : وقال الشيخ في كتبه كلها لا يجب شراؤه إذا كان مضرا في الحال وهو فتوى فضلائنا وفتوى فقهاء الجمهور ، وانما قلنا انه أشبه لان من خشي. إلى آخر ما قدمناه من نقل دليله. وأنت خبير بان ظاهر إطلاق المرتضى هو ما ذكرناه ، وتقييدهم بالضرر المذكور في مقابلة إطلاقه شاهد لما ندعيه. وهذا الضرر الذي قيدوا به لا يخلو من إجمال ، نعم يمكن التقييد بما دلت عليه رواية الدعائم من انه متى استلزم دفع المال خوف التلف على نفسه والعطب فإنه يجب الانتقال الى التيمم ، ويؤيده ما دل على نفي الحرج في الدين وارادة اليسر دون العسر وسعة الحنيفية (١)

__________________

(١) اما ما دل على نفي الحرج والعسر فالآيتان المتقدمتان ص ٢٦٥ واما ما دل على سعة الحنيفية فروى السيوطي في الجامع الصغير ج ١ ص ١٠٩ قوله (ص) : «بعثت

٢٦٦

ونحو ذلك ، وحينئذ فإن أريد بالضرر المذكور في كلامهم هو ما ذكرناه فالحق ما ذكره في المعتبر ونقله عن الشيخ واتباعه ، وان أراد غير ذلك فالحق ما ذكره المرتضى. وبالجملة فإن هذا الضرر المذكور في كلامهم الذي سوغوا معه التيمم دون الشراء غير منقح ولا مبين ، فربما ظهر من بعض العبارات انه عبارة عن خوف قلة المال خصوصا عند من يقيد بالحال الحاضرة ، قال في الذكرى بعد الإشارة إلى مضمون صحيحة صفوان : هذا مع عدم الضرر الحالي أو المتوقع في زمان لا يتجدد له مال عادة أما معه فلا ، وكذا لو أجحف بماله للحرج. وظاهر إطلاق جملة من العبارات يقتضي عدم الفرق بين المجحف وغيره فإنه ينتقل الى الشراء ، وقيده في الذكرى كما سمعت ومثله العلامة في التذكرة بعدم الإجحاف بالمال وان كان مقدورا للحرج. وفيه منع فان ظواهر الأخبار المتقدمة ترده ، وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال لعموم النصوص المتقدمة وغاية ما يمكن استثناؤه منها بالأدلة العامة من خارج هو الصورة التي ذكرناها ودل عليها الخبر المتقدم.

واما ما نقل عن ابن الجنيد من الانتقال الى التيمم في الصورة الثانية وعدم الشراء فقيل في الاحتجاج له : ان خوف فوات المال اليسير بالسعي إلى الماء مجوز للتيمم فكيف يجب بذل الكثير على هذا الوجه فيه؟ ولتساوي الحكم في تضييع المال القليل والكثير وكفر مستحله وفسق غاصبه وجواز الدفع عنه. وأجيب عن ذلك بالفرق بين جميع ما ذكر وموضع النزاع بالنص ، وبالمنع من مساواة ما يبذله المكلف باختياره وبين ما ينهب منه قهرا لما في الثاني من لزوم الغضاضة والإهانة الموجبة للضرر بخلاف الأول لأن الفرض انتفاء الضرر فيه. وربما أجيب بالفرق بين الأمرين بالعوض والثواب بمعنى ان اللازم من الفرع انما هو الثواب لأنه عبادة اختيارية مطلوبة

__________________

بالحنيفية السمحة.». ورواه الخطيب في تاريخ بغداد ج ٧ ص ٢٠٩ وروى الكليني في فروع الكافي ج ٢ ص ٥٦ من حديث قوله «ص» : «لم يرسلني الله بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة» ..

٢٦٧

للشارع وهو أضعاف ما دفع واللازم في الأصل انما هو العوض وهو مساو لما أخذ منه فلا يتم القياس واستضعفه في الذكرى استنادا إلى انه إذا ترك المال لابتغاء الماء دخل في حيز الثواب ، وزاد عليه في الروض بعد استحسانه بأنه يجمع له حينئذ بين العوض والثواب وهو أعظم من الثواب وحده. وبالجملة فالأولى هو الاستناد في الفرق الى النص مع قطع النظر عن الطعن فيما ذكره بأنه لا يخرج عن القياس كما قدمنا ذكره في الكلام على كلام المعتبر.

(الموضع الثاني) ـ فقد الآلة التي يتوصل بها الى الماء كما إذا مر ببئر أو شفير نهر ولم يتمكن من الوصول الى الماء إلا بمشقة أو تغرير بنفسه ولا آلة معه للاغتراف فإنه يتيمم ، قال في المنتهى : وهو قول علمائنا اجمع. أقول : ويدل عليه مضافا الى الإجماع المذكور المؤيد ايضا بنفي الحرج في الدين (١) ما رواه الصدوق في الصحيح عن الحسين ابن سعيد عن عبيد الله بن علي الحلبي (٢) : «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال ليس عليه ان يدخل الركية لأن رب الماء هو رب الأرض فليتيمم». وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن ابي يعفور وعنبسة بن مصعب جميعا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا أتيت البئر وأنت جنب ولم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد فان رب الماء هو رب الصعيد ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم». وما رواه ثقة الإسلام في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال ليس عليه ان ينزل الركية ان رب الماء هو رب الأرض فليتيمم».

(الموضع الثالث) ـ قد صرح الشيخ بان من منعه الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة عن الخروج للوضوء تيمم وصلى ثم أعاد ، والأصل في الحكم المذكور ما رواه

__________________

(١) راجع التعليقة ١ ص ٢٦٦.

(٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب التيمم.

٢٦٨

الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (١) «انه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة لا يستطيع الخروج من المسجد من كثرة الناس؟ قال يتيمم ويصلي معهم ويعيد إذا انصرف». وعن سماعة في الموثق عن الصادق عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) «انه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة فأحدث أو ذكر انه على غير وضوء ولا يستطيع الخروج من كثرة الزحام؟ قال يتيمم ويصلى معهم ويعيد إذا انصرف». والحكم بالانتقال الى التيمم في الصورة المذكورة مما لا خلاف فيه فيما اعلم وانما الكلام في الإعادة ، وظاهر كلام الشيخ ومن تبعه وجوبها وكذا نقل عن ابن الجنيد ، وقد استشكله جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم بان الأمر يقتضي الاجزاء وقد أدى الصلاة بتيمم صحيح حسبما أمر فلا تتعقبه الإعادة ، ومن أجل ذلك حملوا الأمر بالإعادة على الاستحباب كما هي القاعدة المطردة عندهم في جميع الأبواب.

أقول : والتحقيق عندي في هذه المسألة هو ان يقال لا ريب ان الجمعات والجماعات في وقتهم (عليهم‌السلام) انما كانت للمخالفين والصلاة المذكورة في الخبرين انما هي معهم وذلك المحدث لا يمكنه الخروج للزحام ولا ترك الصلاة معهم للتقية فلذا يعيد حينئذ والوقت غير مضيق ، وذلك لان هذا الزحام المانع انما هو باجتماعهم في الجامع فمتى فرغوا من الصلاة وتفرقوا وخرج هو معهم أعاد صلاته ، وهذا لا اشكال فيه. واما ما ذكره في المعتبر ـ حيث قال : من أحدث في الجامع يوم الجمعة ومنعه الزحام عن الخروج تيمم وصلى لان وقت الجمعة ضيق والتقدير تقدير عدم التمكن من الخروج ومن الماء فيجزيه التيمم ، وهل يعيد؟ الوجه لا ، لانه صلى صلاة مأمورا بها مستجمعة الشرائط حال أدائها فتكون مجزئة ، وقال الشيخ يعيد وكذا قال ابن الجنيد ، وربما

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب التيمم.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب التيمم.

٢٦٩

كان تعويله على رواية السكوني ، ثم ساق الرواية وردها بضعف السند ـ ففيه ان الروايتين اللتين هما المستند في هذه المسألة قد اشتملتا على يوم الجمعة ويوم عرفة ، وفرضه المسألة على ما قرره من ضيق وقت يوم الجمعة وان تم له في يوم الجمعة إلا انه لا يتم له في يوم عرفة لان المراد بالزحام يوم عرفة يعني في صلاة الظهرين في مسجد عرفة ووقت الظهرين غير مضيق فلا يتمشى ما ذكره فيه ، على ان الحق ـ كما عرفت ـ ان الصلاة انما هي مع جماعة المخالفين الذين هم أرباب الجمعات والجماعات في الصدر السابق سيما في المواضع الظاهرة المكشوفة كعرفات ونحوها ، ولا ريب أن المقتدي بهم من الشيعة لا يصليها جمعة وانما يصليها ظهرا ، فلا يتم التقريب الذي ذكره من ان وقت الجمعة ضيق ، وبالجملة فإنه على ما ذكرنا لا اشكال بحمد الملك المتعال (فان قيل) : ان مقتضى ما ذكرتم من الصلاة تقية مع سعة الوقت هو عدم صحة الصلاة فلما ذا أمر (عليه‌السلام) بالتيمم والحال ان الصلاة غير صحيحة ويجب إعادتها بعد خروجهم وتفرقهم؟ (قلنا) يمكن ان يكون لوجه في هذا التيمم ما رواه الصدوق عن مسعدة بن صدقة (١) «ان قائلا قال لجعفر بن محمد (عليه‌السلام) اني أمر بقوم ناصبية قد أقيمت لهم الصلاة وانا على غير وضوء فان لم ادخل معهم قالوا ما شاءوا ان يقولوا فأصلي معهم ثم أتوضأ إذا انصرفت؟ قال سبحان الله أما يخاف من يصلي على غير وضوء ان تأخذه الأرض خسفا». والتقريب فيها انه (عليه‌السلام) منع من الإتيان بصورة الصلاة وان كانت باطلة باعتقاد صاحبها ومريدا للإعادة لها بغير طهارة ، والحال في الصورتين واحدة ، والوضوء هنا متعذر فلا بد من الانتقال الى التيمم ، فالأمر بالتيمم انما هو لما دل عليه هذا الخبر كما عرفت (فان قيل) : يمكن ان يكون مراده (عليه‌السلام) من الخبر المذكور انما هو الأمر بالوضوء والصلاة معهم على حسب الصلاة خلف المخالفين فتكون صلاة صحيحة ، فيكون المنع والتهديد المذكور انما تعلق بالصلاة الصحيحة (قلنا) : هذا المعنى بعيد عن ظاهر الخبر

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب الوضوء.

٢٧٠

بمراحل فان السائل إنما سأل عن الصلاة معهم بما هو صورة الصلاة من مجرد الإتيان بهذه الأفعال من غير ان يقصدها صلاة ويعتد بها والجواب انما وقع بإزاء السؤال المذكور ، وظاهر السؤال المذكور ان الرجل غير متمكن من الوضوء في تلك الحال والصلاة معهم ليدفع عن نفسه خوف الشنعة منهم ، وحينئذ فحاصل جوابه (عليه‌السلام) انك لا تأتي بالصلاة وان كنت لا تعتقدها صلاة بغير وضوء بل ان أمكنك الوضوء والصلاة معهم فافعل وإلا فامض ولا تصل. ويجب التنبيه هنا على فوائد

(الأولى) ـ قال المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه بعد ذكر صحيحة صفوان : «الظاهر من الخبر لزوم الشراء ولو كان بأضعاف ثمن المثل ، وقيل يجب ما لم يجحف ، والقول بالوجوب مشكل لان استعمال الوجوب في الاستحباب المؤكد شائع والقرينة «قد أصابني فاشتريت» والترغيب ، فإنه يكون غالبا في المستحبات والترهيب في الواجبات» انتهى. أقول : لا يخفى ما فيه من الغفلة فإن استعمال لفظ الوجوب في الاستحباب المؤكد انما هو فيما إذا ورد في الخبر التعبير بلفظ الوجوب فإنه غير صريح في المعنى الأصولي المشهور كما عرفت في غير موضع بل كما يستعمل في المعنى المشهور يستعمل أيضا في الاستحباب المؤكد ، لا ما إذا ورد الخبر بلفظ الأمر الدال على الوجوب أو بعبارة أخرى من الألفاظ الدالة على الوجوب فإنه يجب الحمل على الوجوب البتة عملا باستعمال اللفظ في حقيقته ، والخبر المذكور هنا لم يشتمل على لفظ الوجوب حتى يتم تأويله المذكور وانما اشتمل على النهي عن التيمم والأمر باشتراء الماء والنهي حقيقة في التحريم والأمر حقيقة في الوجوب ، ولا يجوز العدول عن الحمل على الحقيقة إلا مع وجود الصارف عن ذلك. وليس فليس ، ومجرد استبعاده ذلك لا يكفي في رد الحكم الصريح من هذا الخبر وأمثاله كما عرفت ، واستناده الى ما ذكره ضعيف لا يعول عليه.

(الثانية) ـ قد اختلفت نسخ الحديث في قوله في آخر صحيحة صفوان

٢٧١

«وما يشترى به مال كثير». ففي بعضها كما ذكرنا ، وعلى هذا تكون «ما» حينئذ موصولة و «يشترى» يجوز قراءته بالبناء للفاعل والبناء للمفعول ، والمعنى ان الماء الذي يشترى للوضوء بتلك الدراهم مال كثير لما يترتب عليه من الثواب العظيم والأجر الجسيم وربما تقرأ بالمد «ماء» والمعنى يرجع الى ما ذكر ، وفي بعضها «يسوءني» من المساءة ضد المسرة وعليه فيحتمل ان تكون «ما» نافية أي ما يسوءني بذلك الماء إعطاء مال كثير في الثمن ، ويحتمل ان تكون استفهامية ، وعلى هذا يكون «مال كثير» خبر مبتدأ محذوف أي الذي اشترى به مال كثير ، وفي بعضها «ما يسرني» من المسرة ضد المساءة ، وعلى هذا تكون «ما» موصولة والمال الكثير كناية عن الثواب. والمعنى ان الذي يوجب لي السرور بهذا الشراء هو الثواب العظيم المترتب عليه ، وأكثر المحدثين اعتمدوا على نقل الحديث بما ذكرنا.

(الثالثة) ـ ما تقدم من البحث بالنسبة إلى الماء يأتي مثله بالنسبة الى آلة تحصيله من الدلو والرشاء حيث يتوقف تحصيله عليهما فيجب الشراء على التفصيل المتقدم في شراء الماء ، فمتى تمكن وانتفى الضرر على الخلاف المتقدم وجب لوجوب تحصيل شرط الواجب المطلق بحسب الإمكان ، والقادر على شد الثياب بعضها بعض والتوصل الى الماء بها ولو بشق بعضها وان نقصت أثمانها متمكن مع عدم التضرر بذلك الداخل تحت الحرج المنفي آية ورواية (١).

(الرابعة) ـ قد أشرنا سابقا الى اختلافهم في الحال المعتبرة في الضرر بدفع الثمن الموجب للانتقال الى التيمم هل هي عبارة عن الحال الحاضرة التي هي عبارة عن وقت الشراء ، وهذا هو صريح عبارة المعتبر المتقدمة ، وعلى هذا لا عبرة بخوف ضرره في المآل لإمكان تجدد ما يندفع به الضرر ولعدم التضرر بذلك حينئذ ، أو انها عبارة عن حال المكلف؟ وهو صريح عبارة الذكرى المتقدمة ، وهو الظاهر من كلام

__________________

(١) راجع التعليقة ١ ص ٢٦٦ وج ١ ص ١٥١.

٢٧٢

الشهيد الثاني في الروض فيعم الضرر الحالي والمتوقع حيث يحتاج الى المال المبذول في مستقبل الزمان الذي لا يتجدد له فيه مال عادة ، فمتى لم يضره بذلك الثمن في الحال والمآل على الوجه المذكور وجب الشراء. وأنت خبير بأن الأخبار المتقدمة وهي أخبار المسألة مطلقة في هذا الحكم كما ذكرناه آنفا ، وتقييدها بالضرر المستفاد من الأدلة العامة يقتضي الاقتصار على الحال الحاضرة لإناطة الحكم بها وصدق عدم الضرر يومئذ وإمكان تجدد ما يندفع به الضرر في المآل ، ومنه يظهر قوة ما ذهب إليه في المعتبر.

(الخامسة) ـ لو بذل له الماء بثمن إلى أجل يقدر عليه عند الحلول فقد صرح العلامة وجملة من الأصحاب بوجوب الشراء لان له سبيلا الى تحصيل الماء ، واستشكل بعض في ذلك بان شغل الذمة بالدين الموجب للذلة ـ مع عدم الوثوق بالوفاء وقت الحلول وتعريض نفسه لضرر المطالبة وإمكان عروض الموت وهو مشغول الذمة ـ ضرر عظيم ، وفي حكمه الاقتراض للشراء. أقول : والمسألة لعدم النص محل توقف.

(السادسة) ـ لو وهبه الماء وإعارة الآلة فظاهر الأصحاب وجوب القبول هنا بخلاف ما إذا وهبه الثمن ، وعللوا الأول بأنه لا منة في هبة الماء ولا إعارة الآلة فلا يسوغ له التيمم لانه قادر على استعمال الماء بقبول ذلك فيكون كواجده ، وهذا بخلاف هبة الثمن فإنها لاشتمالها على المنة عادة الموجبة للغضاضة والامتهان لا يجب تحملها ولا قبولها وان قل الثمن ، هذا هو المشهور ، ونقل عن الشيخ انه أوجب القبول لوجوب تحصيل شرط الواجب المطلق ، وكذا يجري الكلام في هبة الآلة أيضا ، ويأتي على ما ذكره الشيخ هنا ايضا وجوب القبول ، وظاهر المدارك الميل الى ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) حيث قال بعد نقل قول الشيخ : «واستشكله المصنف في المعتبر بان فيه منة بالعادة ولا يجب تحمل المنة. وهو ضعيف لجواز انتفاء المنة ومنع عدم وجوب تحملها إذا توقف الواجب عليه. ولو امتنع من قبول الهبة لم يصح تيممه ما دام الماء أو الثمن باقيا في يد المالك المقيم على البذل» انتهى كلامه (رحمه‌الله) وهو جيد ، ويؤيده انهم صرحوا أيضا في

٢٧٣

كتاب الحج بعدم حصول الاستطاعة بما يهبه له لعدم وجوب قبول الهبة لاشتمالها على المنة ، مع ان ظواهر الأخبار ـ كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى ـ دالة على وجوب القبول ، وبالجملة فالظاهر هو ما ذهب اليه الشيخ (قدس‌سره) سيما مع موافقته الاحتياط المطلوب في المقام ، حيث ان المسألة عارية عن النص فيجب الوقوف فيها على جادة الاحتياط.

(المسألة الثالثة) ـ في الخوف والمراد به ما هو أعم من خوف لص أو سبع أو نحو ذلك أو خوف المرض وحدوثه أو زيادته أو خوف العطش ، فههنا مقامات ثلاثة :

(الأول) ـ في خوف السبع واللص ونحوهما ، وقد صرح الأصحاب بأنه لا فرق في جواز التيمم بين ان يخاف لصا أو سبعا على نفسه أو ماله ، قال العلامة في المنتهى : السبب الثاني ان يخاف على نفسه أو ماله لصا أو سبعا أو عدوا أو حريقا أو التخلف عن الرفقة وما أشبه فهو كالعادم ، لا نعرف فيه خلافا لانه غير واجد إذ المراد بالوجدان ان يمكن الاستعمال لاستحالة الأمر بما لا يطاق ، ثم استدل على ذلك برواية يعقوب بن سالم ورواية داود الرقي. أقول : والروايتان قد قدمناهما في صدر المسألة الاولى ، وظاهرهما بل صريحهما تخصيص العذر بالخوف على النفس ، واما الخوف على المال فلم أقف فيه على مستند إلا انه اتفاقي بينهم. وصريح الروض ـ وهو ظاهر غيره ايضا ـ انه لا فرق في المال بين كونه له أو لغيره ، وهو أشد. إشكالا. واما ما في المسالك ـ حيث قال بعد ذكر العموم في الخوف للنفس والمال : «ولا فرق بين كثير المال وقليله ، والفارق بينه وبين الأمر ببذل المال الكثير لشراء الماء النص لا يكون الحاصل في مقابلة المال في الأول هو الثواب لبذله في عبادة اختيارا وفي الثاني العوض وهو منقطع ، لان تارك المال للص وغيره طلبا للماء داخل في موجب الثواب ايضا» انتهى ـ ففيه انا لم نقف على نص يدل على وجوب الانتقال الى التيمم للخوف على المال سوى الروايتين المشار إليهما ، وظاهرهما بل صريحهما ينادي بأن المراد انما هو الخوف على النفس كما عرفت لقوله في الاولى «لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع».

٢٧٤

ومن الظاهر ان التغرير بالنفس انما هو عبارة عن تعريضها لما يوجب الهلاك ، وفي الثانية «فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع» (١). وهي ظاهرة ايضا فيما ذكرناه. نعم قد ورد النص ببذل المال الكثير في الشراء كما تقدم من صحيحة صفوان (٢) وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا على وجوب الانتقال الى التيمم لخوف ضياع المال إلا ما في المدارك من دعوى عموم ما يدل على رفع الحرج والعسر ، قال : ولا ريب ان تعريض المال للصوص حرج عظيم ومهانة على النفس بخلاف بذل المال اختيارا فإنه لا غضاضة فيه على أهل المروة بوجه ، قال ولعل ذلك هو الفرق بين الموضعين. انتهى وزاد بعضهم الاستناد الى ما دل على وجوب حفظ المال وصيانته. أقول : وفيه انه معارض بما دل على وجوب الوضوء والغسل من الآية والروايات المستفيضة وهو أصرح واضح فيجب تقديم العمل به وإرجاع ما خالفه اليه بالحمل على غير الصورة المذكورة على ان دعوى لزوم الحرج بتعريض المال للصوص ووجوب الحفظ وصيانة المال في هذه الحالة ممنوعة سيما الثاني فإنه مصادرة ظاهرة ، ومع التسليم فنقول عامان تعارضا وتقييد ما ذكرناه من العموم ليس اولى من تقييد ما ذكروه وبذلك لا يتم الاستدلال ، وعلى كل تقدير فهذه الأدلة مع تسليمها لا تشمل مال الغير ومدعاهم كما تقدم حفظ المال مطلقا له ولغيره وهو أظهر فسادا ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لمن عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

وألحق الأصحاب بالخوف على النفس والمال الموجب للانتقال الى التيمم الخوف ايضا على العرض والبضع والخوف من الفاحشة سواء في ذلك الرجل والمرأة ، وكذا لو خاف على اهله ان مضى الى الماء لصا أو سبعا. وجزم في المعتبر بان الخوف الحاصل بسبب الجبن كذلك ، وتنظر فيه العلامة في المنتهى مع ان المنقول عنه في غيره القول بالأول وهو المشهور بينهم ، وأيده بعضهم بأنه ربما ادى الجبن الى ذهاب العقل الذي

__________________

(١) تقدمتا ص ٢٤٩.

(٢) ص ٢٦٥.

٢٧٥

هو أقوى من كثير مما يسوغ التيمم لأجله.

(المقام الثاني) ـ في خوف المرض الشديد باستعمال الماء اما بخوف حدوثه أو زيادته أو بطوء برئه سواء كان عاما لجميع البدن أو مختصا بعضو ، ويدل على ذلك من الآيات عموما قوله عزوجل : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (١) «ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» (٢) «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (٣) «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها» (٤) والوسع دون الطاقة ، روى العياشي في تفسير هذه الآية عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٥) «(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) فيما افترض عليها إلا وسعها أي إلا ما يسعه قدرتها فضلا ورحمة». وقوله تعالى : «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (٦) «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (٧) وخصوصا قوله عزوجل فيما تقدم من الآية التي في صدر الباب «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ...» وقد تقدم تفسيره عنهم (عليهم‌السلام) اي مرضا يضر معه استعمال الماء أو يوجب العجز عن السعي اليه ، ومن الاخبار عموما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٨) : «بعثت بالحنيفية السمحة». وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٩) «لا ضرر ولا ضرار». وقولهم (عليهم‌السلام) (١٠) : «ان دين محمد أوسع مما بين السماء والأرض ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم وان الدين أوسع من ذلك». وخصوصا الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (١١) قال :

__________________

(١) سورة الحج. الآية ٧٧.

(٢) سورة المائدة. الآية ٦.

(٣) سورة البقرة. الآية ٥٨١.

(٤) سورة البقرة. الآية ٢٨٦.

(٥) رواه الكاشاني في الصافي في تفسير الآية.

(٦) سورة النساء الآية ٢٩.

(٧) سورة البقرة. الآية ٥٩١.

(٨) راجع التعليقة ١ ص ٢٦٦.

(٩) رواه في الوسائل في الباب ٥ من الشفعة و ١٢ من احياء الموات.

(١٠) ورد قوله «ان الخوارج. إلخ» في صحيحة البزنطي المتقدمة ج ١ ص ٦٩.

(١١) رواه في الوسائل في الباب ٥ من أبواب التيمم.

٢٧٦

«سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجنب تكون به القروح؟ قال لا بأس بان لا يغتسل يتيمم». وعن احمد بن محمد بن ابي نصر في الصحيح عن الرضا (عليه‌السلام) (١) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ قال لا يغتسل يتيمم». وفي الكافي عن محمد بن سكين وغيره عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قيل له ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات؟ فقال قتلوه ألا سألوا ألا يمموه ان شفاء العي السؤال». قال (٣) : «وروي ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل». ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن ابن ابي عمير مثله (٤) إلا انه قال : «قيل يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله...» وذكر الحديث ، ورواه الصدوق مرسلا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٥) وعن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات؟ فقال قتلوه ألا سألوا فإن دواء العي السؤال». وعن جعفر بن إبراهيم الجعفري عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) قال : «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات؟ فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قتلوه قتلهم الله تعالى انما كان دواء العي السؤال». وروى الصدوق في الصحيح عن محمد ابن مسلم (٨) «انه سأل الباقر (عليه‌السلام) عن الرجل يكون به القروح والجراحات فيجنب؟ قال لا بأس بأن يتيمم ولا يغتسل». قال (٩) «وقال الصادق (عليه‌السلام) المبطون والكسير يؤممان ولا يغسلان».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم الفرق في تجويز التيمم بين متعمد الجنابة وغيره ، وأسند المحقق في المعتبر الى الشيخين ان من

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩) رواه في الوسائل في الباب ٥ من أبواب التيمم.

٢٧٧

أجنب نفسه مختارا لم يجز له التيمم وان خاف التلف أو الزيادة في المرض. أقول : لا ريب ان عبارة المفيد على ما في المختلف صريحة في ذلك حيث قال : من أجنب مختارا وجب عليه الغسل وان خاف منه على نفسه ولم يجزه التيمم ، بهذا جاء الأثر عن أئمة آل محمد (عليهم‌السلام). وفي المختلف عن ابن الجنيد ايضا انه قال : ولا اختار لأحد ان يتلذذ بالجماع اتكالا على التيمم من غير جنابة اصابته فان احتلم أجزأه. واما الشيخ فالذي نقله عنه في المختلف ان خائف التلف على نفسه يتيمم ويصلي ويعيد الصلاة إذا وجد الماء واغتسل ، وهذا القول منقول عنه في النهاية والمبسوط واما في التهذيب فإنه جعل الاولى ان يغتسل على كل حال وظاهر المعتبر ان القول الذي نقله عنه موافقا لمذهب المفيد هو قوله في الخلاف ، وحينئذ فيختص خلافه في المسألة بقوله في الخلاف. ثم لا يخفى ان الصدوق في الفقيه قال (١) : «وسئل الصادق (عليه‌السلام) عن مجدور أصابته جنابة فقال ان كان أجنب هو فليغتسل وان كان احتلم فليتيمم». وظاهر نقله الرواية والجمود عليها أنه يفتي بمضمونها بناء على قاعدته في أول الكتاب التي بنوا عليها مذاهبه فيه ، ولم أعثر على من نسب ذلك اليه مع ان الأمر كما ترى ، إلا انه قال بعد هذه الرواية المذكورة : «والجنب إذا خاف على نفسه من البرد يتيمم» وهذه الزيادة محتملة لأن تكون من كلامه وان تكون من الخبر ، ويؤيد الأول ان هذا الخبر الذي نقله عن مرفوعة علي بن أحمد الآتية وهي عارية عن هذه الزيادة ، وكيف كان فإنه لا يخفى مدافعة هذه الزيادة للخبر الذي ذكره وان كان التأويل ولو بتمحل ممكنا ، والى هذا القول ذهب في الوسائل.

وها انا اذكر جملة ما وقفت عليه من أدلة القول المذكور وأبين ـ بحمد الله سبحانه ـ ما فيها من الضعف والقصور ومنه يظهر قوة القول المشهور وانه هو المؤيد المنصور ، فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام عن عدة من أصحابنا عن علي بن احمد رفعه عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة؟ قال ان أجنب

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب التيمم.

٢٧٨

هو فليغتسل وان كان احتلم فليتيمم». وعن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه (١) قال : «ان أجنب نفسه فعليه ان يغتسل على ما كان منه وان احتلم فليتيمم». وصحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى ان يكون الماء جامدا؟ فقال يغتسل على ما كان حدثه رجل انه فعل ذلك فمرض شهرا من البرد فقال اغتسل على ما كان فإنه لا بد من الغسل. وذكر الصادق (عليه‌السلام) انه اضطر اليه وهو مريض فأتوه به مسخنا وقال لا بد من الغسل». وصحيحة سليمان بن خالد عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «انه سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف ان هو اغتسل ان يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال يغتسل وان اصابه ما اصابه ، قال وذكر انه كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح باردة فدعوت الغلمة فقلت لهم احملوني فاغسلوني فقالوا انا نخاف عليك فقلت لهم ليس بد فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا علي الماء فغسلوني».

هذا ما وقفت عليه من أدلة القول المذكور وتطرق الطعن إليها ظاهر من وجوه (أحدها) ـ ان ظاهر المرفوعتين المتقدمتين ـ وهو ايضا ظاهر عبارتي شيخنا المفيد وابن الجنيد ـ ان الجماع في حال عدم الماء أو التضرر به الموجب للتيمم غير جائز ولا مشروع ، ومن ثم وجب على من تعمد ذلك في الحال المذكورة الغسل وان اصابه ما أصابه عقوبة له بخلاف ما لو احتلم فإنه يجزئه التيمم لعدم التعمد والتقصير ، والقول بذلك مع كونه مخالفا للإجماع كما نقله في المعتبر مردود بما رواه في الكافي في الصحيح أو الموثق عن إسحاق بن عمار (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يكون معه أهله في السفر لا يجد الماء أيأتي أهله؟ قال ما أحب ان يفعل إلا ان يخاف على نفسه. قال قلت طلب بذلك اللذة أو يكون شبقا الى النساء؟ قال ان الشبق يخاف على

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب التيمم.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من مقدمات النكاح.

٢٧٩

نفسه. قلت طلب بذلك اللذة؟ قال هو حلال. قلت : فإنه يروى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان أبا ذر سأله عن هذا فقال : ائت أهلك تؤجر. فقال يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) آتيهم واؤجر؟ فقال رسول الله كما انك إذا أتيت الحرام وزرت فكذلك إذا أتيت الحلال أجرت. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ألا ترى انه إذا خاف على نفسه فاتى الحلال أجر؟». وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الرجل يكون مع أهله في السفر فلا يجد الماء يأتي أهله؟ فقال ما أحب ان يفعل ذلك إلا ان يكون شبقا أو يخاف على نفسه. قلت يطلب بذلك اللذة؟ قال هو حلال قلت فإنه روي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان أبا ذر سأله عن هذا فقال ائت أهلك تؤجر. فقال يا رسول الله واؤجر؟ فقال كما انك إذا أتيت الحرام وزرت فكذلك إذا أتيت الحلال أجرت ، فقال ألا ترى انه إذا خاف على نفسه فاتى الحلال أجر؟». وهذان الخبران مع صحتهما ظاهران في المراد عاريان عن وصمة الإيراد. وما رواه في التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) عن ابي ذر والصدوق في الفقيه عن ابي ذر (رضي‌الله‌عنه) (٢) «انه اتى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال يا رسول الله هلكت جامعت على غير ماء. قال فأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمحمل فاستترت به وبماء فاغتسلت انا وهي ، ثم قال يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين». والتقريب فيه ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أقرّه على ما فعل ولم ينكر عليه ، ومقتضى المرفوعتين المذكورتين وكلام الفاضلين المذكورين لو صح ما ذكروه تغريره لفعله امرا محرما ، ونحوها صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن رجل

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب التيمم.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٩ و ٢٨ من أبواب التيمم.

٢٨٠