الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

التيمم اعني قوله عزوجل : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (١) أقول : صدر هذه الآية هكذا : «(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ... الى آخر ما تقدم» ولما قدم سبحانه بيان حكم واجد الماء في الطهارتين من الحدث الأصغر والأكبر عطف عليه بيان حكم من لم يجد ماء أو لم يتمكن من استعماله بالنسبة إليهما أيضا فقال : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى» ـ اي مرضا يضر معه استعمال الماء أو يوجب العجز عن السعي إليه ، قال في مجمع البيان : وهو المروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما‌السلام) وقيل انه لا حاجة الى التقييد لان قوله تعالى : «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» متعلق بالجمل الأربع وهو يشمل عدم التمكن من استعماله لان الممنوع منه كالمفقود ـ «أَوْ عَلى سَفَرٍ» اي متلبسين به إذا الغالب فقدان الماء في أكثر الصحاري ـ «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» وهو كناية عن الحدث إذ الغائط لغة المكان المنخفض من الأرض وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة لتغيب فيه أشخاصهم عن أعين الناظرين كما هو السنة في ذلك فكنى سبحانه عن الحدث بالمجي‌ء من مكانه ، قيل و «أو» هنا بمعنى الواو كقوله تعالى : «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» (٢) والمراد أو كنتم مسافرين وجاء أحد منكم من الغائط ، وبه يحصل الجواب عن الاشكال المشهور الذي أورد على ظاهر الآية وهو انه سبحانه جمع بين هذه الأشياء في الشرط المترتب عليه جزاء واحد هو الأمر بالتيمم مع ان المجي‌ء من الغائط ليس من قبيل المرض والسفر حتى يصح عطفه عليهما بأو المقتضية لاستقلال كل منهما في ترتب الجزاء عليه ، فان كلا من المرض والسفر سبب لإباحة التيمم والرخصة فيه والمجي‌ء من الغائط

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٦.

(٢) سورة الصافات. الآية ١٤٧.

٢٤١

وما عطف عليه سبب لوجوب الطهارة ، ومتى لم يجتمع أحد الآخرين مع واحد من الأولين لم يترتب الجزاء وهو وجوب التيمم. وأجيب عن هذا الاشكال بوجوه أخر في تفسيري البيضاوي والكشاف ـ «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» والمراد جماعهن كما ورد في الأخبار ففي الكافي والعياشي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «هو الجماع ولكن الله ستير يجب الستر ولم يسم كما يسمون». وعن الباقر (عليه‌السلام) (٢) «. وما يعنى بهذا «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» إلا المواقعة في الفرج». ونظير هذه الآية قوله تعالى : «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» (٣) والمس واللمس بمعنى واحد كما صرح به أهل اللغة ، فلا يلتفت الى تفسير جملة من المخالفين بمطلق المس لغير محرم كما هو منقول عن الشافعي ، وقيل انه مذهب عمر ، وخصه مالك بما كان عن شهوة (٤) ـ «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» راجع الى المرضى والمسافرين جميعا : مسافر لا يجد الماء ومريض لا يجد من يوضئه أو يخاف الضرر من استعماله لان وجدانه مع عدم التمكن من استعماله لخوف الضرر في حكم العدم ، ولو كان المراد من وجدانه ما هو أعم من ذلك بحيث يصدق على من يتضرر به انه واجد للماء للزم مثله في من وجد الماء في بئر يتعذر وصوله اليه أو يباع ولكن لا يقدر على شرائه أنه واجد للماء مع انه ليس كذلك إجماعا ، فالمراد بوجدانه في الحقيقة ما هو عبارة عن إمكان استعماله ، والوجه في هذا الإطلاق ان حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء وحال السفر يغلب فيها عدم وجدان الماء ، وقيل ان المراد من الآية ـ كما هو ظاهرها الذي لا يحتاج الى ارتكاب تجوز ولا تأويل ـ انما هو كون المكلف غير واجد للماء بان يكون في موضع لا ماء فيه ، فيكون ترخيص من وجد الماء ولم يتمكن من استعماله في

__________________

(١) رواه عنهما المحدث الكاشاني في الصافي في تفسير آية التيمم ٤٣ في سورة النساء.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب نواقض الوضوء.

(٣) سورة البقرة. الآية ٢٣٨.

(٤) كما في المغني ج ١ ص ١٩٢ وص ١٩٣ وص ١٩٤.

٢٤٢

التيمم لمرض ونحوه مستفادا من السنة المطهرة ، ويكون المرضى ونحوهم غير داخلين في خطاب «فَلَمْ تَجِدُوا» لأنهم يتيممون وان وجدوا الماء ، والظاهر انه الأقرب كما لا يخفى. بقي الكلام في انه لو وجد الماء إلا انه لا يكفي للطهارة الواجبة غسلا كانت أو وضوء ، والمفهوم من كلام جمهور أصحابنا (رضوان الله عليهم) هو وجوب التيمم لأن الطهارة لا تتبعض ، قالوا فان الظاهر من الآية عدم وجدان الماء الذي يكفي لكمال الطهارة ، وأيدوا ذلك بقوله عزوجل في كفارة اليمين «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ» (١) أي من لم يجد إطعام عشرة مساكين ففرضه الصيام ، وقد اتفقوا على انه لو وجد إطعام أقل من عشرة لم يجب عليه ذلك وانتقل فرضه الى الصوم. وعن بعض العامة القول بالتبعيض (٢) ونقله شيخنا الشهيد الثاني عن الشيخ في بعض أقواله ، وعن شيخنا البهائي انه قال وللبحث فيه مجال. وأنت خبير بأن الآية في هذا المقام لا تخلو من الإجمال الموجب لتعدد الاحتمال إلا ان المفهوم من الاخبار الواردة في الجنب يكون معه من الماء بقدر ما يتوضأ به وانه يتيمم مما يؤيد القول المشهور ، إذ لو كان التبعيض واجبا لامروا به (عليهم‌السلام) ـ «فَتَيَمَّمُوا» اي اقصدوا وتحروا وتعمدوا ، والتيمم لغة القصد ومنه قوله تعالى : «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (٣) اي لا تقصدوا الردي من المال تنفقون منه ، وشرعا قصد الصعيد لمسح الوجه واليدين على الكيفية الواردة في النصوص قال في المدارك : والطهارة الترابية التيمم وهو لغة القصد قال عزوجل «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» اي اقصدوا ، ونقل في الشرع الى الضرب على الأرض والمسح بالوجه واليدين على وجه القربة ، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٨٩.

(٢) حكاه في المغني ج ١ ص ٢٣٧ عن احمد وعبدة بن أبي لبابة ومعمر وعطاء والشافعي في أحد قوليه وفي ص ٢٥٨ حكاه عن الشافعي.

(٣) سورة البقرة. الآية ٢٦٧.

٢٤٣

مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ... الآية» انتهى. أقول : لا يخفى ان الآية الأولى التي استدل بها على المعنى اللغوي هي عين الآية الثانية التي استدل بها على المعنى الشرعي إلا أن إحداهما في سورة النساء والأخرى في سورة المائدة وصورتهما معا هكذا : وان كنتم مرضى الى قوله وأيديكم ففي إحداهما بعد ذلك «إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» وفي الأخرى التي ذكرناها هنا «(مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ ... الى آخرها» ولا ريب ان لفظ التيمم في الآيتين إنما أريد به المعنى الشرعي لا اللغوي وحمله إحداهما على المعنى اللغوي والأخرى على الشرعي لا اعرف له وجها مع ان تتمة الآية في الموضعين اعني قوله عزوجل فيهما معا «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» ينادي على صحة ما ذكرنا وحينئذ فالمراد في الآيتين معا اقصدوا صعيدا لمسح الوجه واليدين ، فالمعنى اللغوي للتيمم هو القصد مطلقا والشرعي هو القصد للصعيد لاستعماله في مسح الوجه واليدين على الكيفية المخصوصة وظاهر كلامه في المدارك ان المعنى الشرعي انما هو الضرب على الأرض ومسح الوجه واليدين على الوجه المعلوم شرعا ، والأظهر ما قلناه وهو الذي صرح به أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان ، وعلى ما ذكرنا فالتيمم في الآيتين إنما أريد به المعنى الشرعي لا اللغوي كما ذكره. واما الصعيد فقد اختلف كلام أهل اللغة فيه ، فبعضهم كالجوهري قال هو التراب ووافقه ابن فارس في المجمل ، ونقل ابن دريد في الجمهرة عن ابي عبيدة انه التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ ولا رمل ، وعلى هذه الأقوال اعتمد المرتضى حيث خص التيمم بالتراب الخالص بناء على تفسير الصعيد به في كلام هؤلاء ، الا ان المفهوم من كلام الأكثر لا يساعد عليه ، فنقل في مجمع البيان عن الزجاج انه قال : لا اعلم خلافا بين أهل اللغة في ان الصعيد وجه الأرض. ثم قال : وهذا يوافق مذهب أصحابنا في ان التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن. وقال في المصباح المنير : الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره ، ثم قال ويقال الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه : على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه

٢٤٤

الأرض وعلى الطريق. وفيه ـ كما ترى ـ دلالة على ان الأصل هو المعنى الأول ، وفي الأساس وعليك بالصعيد أي اجلس على الأرض وصعيد الأرض وجهها. وقال المطرزي في المغرب الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره. وفي القاموس الصعيد التراب أو وجه الأرض. ومثل ذلك نقله في المعتبر عن الخليل ونقله ثعلب عن ابن الأعرابي ، ويؤيد ذلك قوله عزوجل «... فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)» (١) أي أرضا ملساء تزلق عليها باستئصال شجرها ونباتها ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد». أي أرض واحدة ، وبذلك يظهر ما في الاستناد الى الآية في هذا المقام من الاشكال ولا سيما وقد ورد الخبر بتفسير الصعيد في الآية بالمكان المرتفع من الأرض كما رواه الصدوق في معاني الاخبار عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «الصعيد الموضع المرتفع والطيب الموضع الذي ينحدر عنه الماء». ومثله في الفقه الرضوي حيث قال (عليه‌السلام) (٤) : «قال الله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، والصعيد الموضع المرتفع عن الأرض والطيب الذي ينحدر عنه الماء». وحينئذ فالأظهر الرجوع الى الاخبار كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في موضعه ـ «طَيِّباً» اختلف المفسرون في المراد بالطيب هنا ، فبعضهم على انه الطاهر وهو مختار مفسري أصحابنا ، وقيل هو الحلال وقيل انه الذي ينبت دون ما لا ينبت كالسبخة وأيدوه بقوله سبحانه : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...» (٥) وقد عرفت تفسيره بما في الخبرين المتقدمين ، الا ان الظاهر

__________________

(١) سورة الكهف. الآية ٤٠.

(٢) في معالم الزلفى ص ١٤٥ باب ٢٣ في صفة المحشر عن الباقر «ع» قال : «إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد من الأولين والآخرين عراة حفاة.» وفي تاريخ بغداد ج ١١ ص ١٣١ وج ١٤ ص ١٩٥ عن النبي «ص» «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة عزلا» وليس في أحاديث أهل السنة كلمة «صعيد واحد».

(٣) رواه عنه المحدث الكاشاني في الصافي في تفسير آية التيمم ٤٣ سورة النساء.

(٤) ص ٥.

(٥) سورة الأعراف. الآية ٥٨.

٢٤٥

انه محمول على الفرد الأكمل منهما ولهذا صرح أصحابنا باستحباب التيمم من الربى والعوالي ـ «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ» الباء للتبعيض هنا كما سيأتيك التصريح به ان شاء الله تعالى في صحيحة زرارة الآتية ، وحينئذ فتدل الآية على ان الواجب المسح ببعض الوجه وبعض اليدين كما هو القول المشهور المعتضد بالأخبار الكثيرة ، خلافا لمن أوجب مسح الجميع كعلي بن بابويه أو خير بين الاستيعاب وبين التبعيض كما ذهب إليه في المعتبر وتبعه صاحب المدارك أو استحباب الاستيعاب كما مال إليه في المنتهى ، فان الجميع ـ كما ترى ـ مخالف لظاهر الآية ، والقول بالاستيعاب وان دل عليه بعض الاخبار ولهذا اضطربوا في الجمع بينها وبين اخبار القول المشهور إلا انه قد تقرر في القواعد المروية عنهم (عليهم‌السلام) عرض الأخبار المختلفة على الكتاب العزيز والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه ، وهذه الاخبار الدالة على الاستيعاب مخالفة للآية فيجب طرحها ، وبذلك يظهر لك بطلان هذه الأقوال المتفرعة عليها ـ «منه» اختلفوا في معنى «من» هنا فقيل انها لابتداء الغاية والضمير عائد إلى الصعيد والمعنى ان المسح يبتدئ من الصعيد أو من الضرب عليه ، وقيل انها للسببية وضمير «منه» للحدث المفهوم من الكلام السابق كما يقال تيممت من الجنابة وكقوله سبحانه «مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ...» (١) وقول الشاعر «وذلك من نبإ جاءني» وقول الفرزدق «يغضي حياء ويغضى من مهابته» وقيل انها للتبعيض والضمير للصعيد كما يقال أخذت من الدراهم وأكلت من الطعام ، وهذا هو المنصوص في صحيحة زرارة الآتية ، وقيل إنها للبدلية كما في قوله تعالى : «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ» (٢) وقوله سبحانه : «... لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» (٣) وحينئذ فالضمير يرجع الى الماء والمعنى فلم تجدوا ماء فتيمموا بالصعيد بدل الماء ، وهذا المعنى لا يخلو من بعد ، والمعتمد منها ما ورد به النص الصحيح عنهم (عليهم‌السلام)

__________________

(١) سورة نوح. الآية ٢٥.

(٢) سورة التوبة. الآية ٣٨.

(٣) سورة الزخرف. الآية ٦٠.

٢٤٦

فإن القرآن نزل عليهم ومعانيه منهم تؤخذ ـ «ما يُرِيدُ اللهُ» بفرض الطهارات وإيجابها «لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» ضيق «وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» من الأحداث والذنوب فإن الطهارة كما انها رافعة للاحداث فهي أيضا مكفرة للذنوب «وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» بهذا التطهير وإباحته لكم التيمم وتصييره الصعيد الطيب طهورا لكم رخصة مع سوابغ نعمه التي أنعمها عليكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» نعمته بإطاعتكم إياه فيما يأمركم به وينهاكم عنه.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان تحقيق الكلام في هذا الباب يقتضي بيان الأسباب المسوغة للتيمم من الأعذار المانعة من استعمال الماء وما يجوز به التيمم وما لا يجوز وبيان كيفية التيمم ووقته وبيان أحكامه المتعلقة به وحينئذ فههنا مطالب خمسة :

(المطلب الأول) ـ فيما يسوغ معه التيمممن الأسباب الموجبة لذلك ، وانها ها في المنتهى الى ثمانية وهي فقد الماء والخوف من استعماله والاحتياج اليه للعطش والمرض والجرح وفقد الآلة التي يتوصل بها الى الماء والضعف عن الحركة وخوف الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة وضيق الوقت عن استعمال الماء ، ويمكن إرجاع هذه الثمانية إلى ثلاثة كما اقتصر عليه في الشرائع وهي عدم الماء وعدم الوصلة اليه والخوف ، بل يمكن إرجاع الجميع إلى أمر واحد كما ذكره في الذكرى وهو العجز عن الماء ، وله أسباب يتوقف تفصيلها على رسم مسائل :

(الاولى) ـ في عدم وجوده ، ويدل عليه مضافا الى الآية المتقدمة الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن حمران وجميل بن دراج (١) قالا : «قلنا لأبي عبد الله (عليه‌السلام) امام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه ماء يكفيه للغسل أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم؟ قال لا ولكن يتيمم الجنب ويصلي بهم فان الله تعالى قد جعل التراب طهورا» وزاد في التهذيب (٢) «كما جعل

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب التيمم.

٢٤٧

الماء طهورا». وما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل لا يجد الماء أيتيمم لكل صلاة؟ فقال لا هو بمنزلة الماء». وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول إذا لم يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من الأرض وليصل فإذا وجد ماء فليغتسل وقد أجزأته صلاته التي صلى». وما رواه في الكافي عن ابي عبيدة الحذاء (٣) قال «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة؟ قال إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي. الحديث». الى غير ذلك من الاخبار الآتية ان شاء الله تعالى في مطاوي الأبحاث الآتية. وفي المدارك عن بعض العامة ان الصحيح الحاضر إذا عدم الماء كالمحبوس ومن انقطع عنه الماء يترك التيمم والصلاة لأن التيمم مشروط بالسفر كما يدل عليه قوله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ...» (٤) ثم قال : وبطلانه ظاهر لان ذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب لان عدم الماء في الحضر نادر ، وإذا خرج الوصف مخرج الغالب انتفت دلالته على نفي الحكم عما عدا محل الوصف كما حقق في محله. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لا خلاف بين الأصحاب ـ كما نقله غير واحد منهم ـ في انه لا يشرع التيمم إلا بعد طلب الماء ، قال في المنتهى : «ويجب الطلب عند إعواز الماء فلو أخل به مع التمكن لم يعتد بتيممه ، وهو مذهب علمائنا اجمع» أقول : ويشير اليه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب التيمم.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٢١ من أبواب الحيض.

(٤) ذكر ابن قدامة في المغني ج ١ ص ٢٣٤ انه قول أبي حنيفة في رواية عنه وانه روي عن أحمد اجابته بعدم التيمم عند ما سئل عن مثل ذلك.

٢٤٨

قوله عزوجل : «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» وعدم الوجدان لا يتحقق إلا بعد الطلب لإمكان قرب الماء منه ولا يعلمه ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الحسن عن زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل». وعن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) قال : «يطلب الماء في السفر ان كانت الحزونة فغلوة وان كانت سهولة فغلوتين لا يطلب أكثر من ذلك». ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ عن داود الرقي (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أكون في السفر وتحضر الصلاة وليس معي ماء ويقال ان الماء قريب منا فاطلب الماء وانا في وقت يمينا وشمالا؟ فقال لا تطلب الماء ولكن تيمم فإني أخاف عليه التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع». وعن يعقوب بن سالم (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق أو يساره غلوتين أو نحو ذلك؟ قال لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع». وعن علي بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) في حديث قال : «فقال له داود الرقي أفاطلب الماء يمينا وشمالا؟ فقال لا تطلب الماء يمينا ولا شمالا ولا في بئر ، إن وجدته على الطريق فتوضأ وان لم تجده فامض». فإنها محمولة على الخوف كما هو ظاهر الخبرين الأولين وإطلاق الثالث محمول على قيد الخوف المذكور فيهما.

وقد اختلف الأصحاب في حد الطلب ، فقال الشيخ في المبسوط : والطلب واجب قبل تضيق الوقت في رحله وعن يمينه وعن يساره وسائر جوانبه رمية سهم أو سهمين إذا لم يكن هناك خوف. وقال في النهاية : ولا يجوز له التيمم في آخر الوقت إلا بعد طلب الماء

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب التيمم.

(٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٢ من أبواب التيمم.

٢٤٩

في رحله وعن يمينه وعن يساره بقدر رمية أو رميتين إذا لم يكن هناك خوف. ولم يفرق في الأرض بين السهلة والحزنة ، وقال المفيد : ومن فقد الماء فلا يتيمم حتى يدخل وقت الصلاة ثم يطلب امامه وعن يمينه وعن شماله رمية سهمين من كل جهة ان كانت الأرض سهلة وان كانت حزنة طلبه في كل جهة مقدار رمية سهم. وقال ابن زهرة : ولا يجوز فعله إلا بعد طلب الماء رمية سهم في الأرض الحزنة وفي الأرض السهلة رمية سهمين يمينا وشمالا واماما ووراء بإجماعنا. وقال ابن إدريس وحده ما وردت به الروايات وتواتر به النقل في طلبه إذا كانت الأرض سهلة غلوة سهمين وإذا كانت حزنة فغلوة سهم واحد. وقال في المنتهى بعد ان نقل طرفا من عبائر الأصحاب : ولم يقدره المرتضى في الجمل ولا الشيخ في الخلاف والجمل بقدر وقال المحقق في المعتبر : والتقدير بالغلوة والغلوتين رواية السكوني وهو ضعيف غير ان الجماعة عملوا بها ، والوجه ان يطلب من كل جهة يرجو فيها الإصابة ولا يكلف التباعد بما يشق ، ورواية زرارة تدل على انه يطلب دائما ما دام في الوقت حتى يخشى الفوات ، وهو حسن ، والرواية واضحة السند والمعنى. انتهى. وقال في المدارك بعد نقله ذلك : وهو في محله لكن سيأتي ان شاء الله تعالى ان مقتضى كثير من الروايات جواز التيمم مع السعة فيمكن حمل ما تضمنته رواية زرارة من الأمر بالطلب الى ان يتضيق الوقت على الاستحباب ، والمعتمد اعتبار الطلب من كل جهة يرجو فيها الإصابة بحيث يتحقق عرفا عدم وجدان الماء. انتهى. أقول : لا شك ان رواية السكوني وان كانت ضعيفة السند باصطلاحهم إلا ان ضعفها مجبور بعمل الأصحاب قديما وحديثا بها ، إذ لا راد لها سوى المحقق وبعض من تبعه ، والرد بضعف السند قد عرفت انه خال من المستند سوى هذا الاصطلاح الغير المرضى ولا المعتمد ، وعلى تقدير تسليمه فيكفي في صحتها عمل الطائفة بها كما عرفت ، وحينئذ فالمعارضة بينها وبين حسنة زرارة المتقدمة ظاهرة ، ويمكن الجمع بينهما بحمل الطلب الى ان يتضيق الوقت في الحسنة المذكورة على رجاء الحصول كما يشعر به سياقها وحمل الاقتصار على الغلوة والغلوتين ـ كما

٢٥٠

في رواية السكوني ـ على عدم الرجاء مع تجويز الحصول. واما حمل حسنة زرارة كما ذكره في المدارك على الاستحباب ـ كما هي قاعدتهم في جميع الموارد والأبواب ـ فقد بينا ما فيه في غير موضع من الكتاب ، بل الوجه عندي في الجمع بينهما هو ما ذكرناه واليه يشير كلامه في المدارك وكذا في المعتبر من اعتبار رجاء الإصابة في الطلب سواء كان في جميع الوقت أو بعضه (فان قلت) : ما الفرق بين رجاء الإصابة الذي حملت عليه الحسنة المذكورة وتجويز الحصول الذي حملت عليه رواية السكوني؟ (قلت) : الفرق بينهما هو حصول الظن بالحصول في جانب الرجاء وعدمه في مجرد التجويز ، فمتى ظن الحصول وجب عليه الطلب الى ان يتضيق الوقت ولو لم يظنه بل جوز الحصول وعدمه على وجه يتساويان عنده فليس عليه إلا طلب الغلوة والغلوتين باعتبار السهولة والحزونة كما في رواية السكوني. وهو وجه حسن في الجمع بينهما وبه يزول الإشكال في هذا المجال. واما قوله في المدارك ـ إشارة إلى الطعن في حسنة زرارة وما دلت عليه من وجوب التأخير إلى آخر الوقت ـ ان مقتضى كثير من الروايات جواز التيمم مع السعة حتى انه اضطر بسبب ذلك الى حملها على الاستحباب جمعا بينها وبين تلك الاخبار ـ ففيه ان القول بوجوب التأخير إلى آخر الوقت مدلول جملة من الاخبار كما سيأتي بيانه ان شاء الله في محله فبعين ما يقال في الجواب عن تلك الاخبار يجاب عن هذه الحسنة المذكورة ، وليس الدلالة على هذا القول مخصوصا بهذه الرواية كما يشير اليه كلامه وسيصرح به ايضا فيما يأتي حتى انه بحملها على الاستحباب ينسد الكلام في هذا الباب.

بقي الكلام في ان الأصحاب ذكروا وجوب الطلب بالغلوة والغلوتين كما هو المذكور في رواية السكوني من الجهات الأربع والرواية خالية من ذلك ، ولعل الوجه في تقييدهم إطلاق الرواية بالأربع الجهات انه مع التجويز في الجهات الأربع يجب الطلب في الأربع ، إذ الموجب للطلب هو تجويز الوجود ولهذا لو علم وتيقن انتفاء الوجود في جهة أو جهتين مثلا سقط وجوب الطلب فيهما اتفاقا.

٢٥١

فروع

(الأول) ـ قال في المدارك : قال في المنتهى لو طلب قبل الوقت لم يعتد به ووجب إعادته لأنه طلب قبل المخاطبة بالتيمم فلم يسقط فرضه ، ثم اعترف بان ذلك انما هو إذا أمكن تجدد الماء في موضع الطلب والا لم يجب عليه الطلب ثانيا. وهو جيد ان قلنا ان الطلب انما هو في الغلوات كما رواه السكوني اما على رواية زرارة فيجب الطلب ما أمل الإصابة في الوقت سواء كان قد طلب قبل الوقت أم لا. انتهى. أقول : لا ريب ان عمل الأصحاب في هذا الباب انما هو على خبر السكوني المذكور وجميع ما يذكرونه من فروع هذه المسألة انما هو على تقديره ، ولم يذكر أحد منهم حسنة زرارة في المقام سوى صاحب المعتبر ومثله السيد المذكور ، ولهذا قال العلامة في المنتهى بعد نقل الأقوال في حد الطلب مع اقتفائه كلام المعتبر غالبا : ولم نقف في ذلك إلا على حديث واحد وفي سنده قول ويمكن العمل به لاعتضاده بالشهرة. إلى آخر كلامه.

(الثاني) ـ قد صرح جملة من الأصحاب بأنه انما يجب الطلب مطلقا أو في الجهات الأربع مع احتمال الظفر فلو تيقن عدم الإصابة في جهة من الجهات أو مطلقا فلا طلب لانتفاء الفائدة ، والظاهر انه لا خلاف فيه بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) حتى من القائلين بوجوب التأخير في التيمم كالشيخ واتباعه ، فإن وجوب التأخير عندهم لدليل اقتضاه ودل عليه لا لرجاء الحصول ، ولهذا أنهم أوجبوا التأخير مطلقا وان قطع بعدم الماء كما سيجي‌ء بيانه ان شاء الله تعالى في موضعه. ونقل عن بعض العامة القول بوجوب الطلب وان قطع بعدم الماء (١) ورد بان الطلب مع تيقن عدم الإصابة عبث لا يقع

__________________

(١) لم نعثر على التصريح بذلك نعم ربما يظهر من البحر الرائق ج ١ ص ١٦١ نسبة ذلك الى الشافعي حيث حكى عنه القول بوجوب الطلب مطلقا وقال في ضمن رده : «المسافر يجب عليه طلب الماء ان ظن قربه وان لم يظن قربه لا يجب عليه بل يستحب» وكذا يظهر ذلك من المبسوط ج ١ ص ١٠٨ حيث قال في مقام رده : «الطلب انما يلزمه إذا كان على طمع من الوجود وإذا لم يكن على طمع من الوجود فلا فائدة في الطلب».

٢٥٢

الأمر به من الشارع. وهو جيد. ولو غلب على ظنه العدم فهل يكون حكمه حكم اليقين في عدم وجوب الطلب أم لا؟ قولان ، نقل الأول منهما عن ابن الجنيد واختاره بعض أفاضل متأخري المتأخرين ، نظرا الى قيام الظن مقام العلم في الشرعيات ، ولعدم تناول أدلة وجوب الطلب لظان العدم ، وقيل بالثاني وبه صرح في المنتهى واختاره في المدارك وعللوه بجواز كذب الظن. وهو الأظهر. وما احتج به الفاضل المتقدم ذكره ـ من قيام الظن مقام العلم في الشرعيات ـ على إطلاقه ممنوع بل هو موقوف على الدليل ، وما ادعاه من عدم تناول أدلة الطلب لظان العدم أشد منعا ، وكيف لا وهي مطلقة كما عرفت من حسنة زرارة ورواية السكوني ، خرج من ذلك تيقن عدم وجود الماء لاستلزامه العبث كما عرفت وبقي الباقي.

(الثالث) ـ لو تيقن وجود الماء لزمه السعي إليه ما دام الوقت والمكنة حاصلة سواء كان قريبا أو بعيدا ، وهل يجوز الاستنابة في الطلب اختيارا؟ ظاهر شيخنا في الروض ذلك لكنه اشترط عدالة النائب ، وعندي فيه إشكال لأن ظاهر الأخبار توجه الخطاب الى فاقد الماء نفسه فقيام غيره مقامه في ذلك يتوقف على الدليل نعم لو كان المراد من النيابة نقله وحمله اليه فلا إشكال في جوازه لانه من قبيل طلب الماء في منزله من خادمه أو زوجته وحينئذ فلا وجه لاشتراط العدالة كما ذكره ، واما لو كان المراد انما هو الاعتماد عليه والوثوق به في وجود الماء وعدمه حتى انه يقبل قوله في عدم الماء فالظاهر هو ما ذكرناه ، ويأتي ما ذكره مع تعذر الطلب بنفسه فإنه لا بأس بالاستنابة بل يجب ذلك ، وفي اشتراط عدالة النائب وجهان أظهرهما ذلك مع الإمكان ، ويحسب لهما على التقديرين لو قلنا به في الأول. ولو فات بالطلب غرض مطلوب يضر بحاله كالحطاب والصائد ففي وجوب الطلب عليه لقدرته على الماء أو سقوطه والانتقال الى التيمم دفعا للضرر وجهان ، اختار أولهما في المدارك وثانيهما في المعتبر ، وظاهر الروض التوقف وهو

٢٥٣

كذلك لعدم النص في المسألة ، هذا كله فيما إذا كان يمكن حصول الماء قبل ذهاب الوقت والا سقط الطلب قولا واحدا لعدم الفائدة. وهل يقوم الظن هنا مقام اليقين فيجب الطلب مع ظنه؟ قيل نعم والظاهر ان وجهه ما تقدم في سابق هذا الموضع ، والظاهر العدم بناء على رواية السكوني التي عليها مدار كلام الأصحاب في هذه المسألة وفروعها كما أشرنا إليه آنفا لتخصيصها الطلب بالغلوة والغلوتين فيما إذا ظن الماء أو جوزه ، وان خصصناها بالتجويز بناء على ما قدمناه آنفا فهو أظهر ، واما مع تيقن وجود الماء فإنه خارج عن مورد الرواية لدخوله تحت الواجد للماء ، واما على تقدير حسنة زرارة فالأمر ظاهر لإيجابها الطلب في الوقت مطلقا.

(الرابع) ـ لو خاف على نفسه أو ما له بمفارقة رحله لم يجب عليه الطلب دفعا للحرج اللازم من وجوب الطلب والحال هذه ، وعلى ذلك يدل ما تقدم من روايتي داود الرقي ويعقوب بن سالم ، ويؤيده ما رواه الحلبي في الصحيح (١) «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال ليس عليه ان يدخل الركية لأن رب الماء هو رب الأرض فليتيمم».

(الخامس) ـ المشهور بين الأصحاب انه لو أخل بالطلب حتى ضاق الوقت ثم تيمم وصلى فإنه قد أخطأ وصح تيممه وصلاته ، أما الخطأ فظاهر لإخلاله بما وجب عليه من الطلب ، واما صحة تيممه وصلاته فالوجه ان الطلب يسقط مع ضيق الوقت ويجب على المكلف في تلك الحال التيمم لانه غير واجد للماء كما هو المفروض وأداء الصلاة بتلك الطهارة وقد فعل وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء. وعن المبسوط والخلاف عدم صحة تيممه والحال هذه قال في المعتبر : قال الشيخ لو أخل بالطلب لم يصح تيممه ويلزم على قوله لو تيمم وصلى ان يعيد. وفيه إشكال لأن مع ضيق الوقت يسقط الطلب ويتحتم التيمم فيكون مجزئا وان أخل بالطلب وقت السعة لأنه يكون مؤديا فرضه بطهارة

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب التيمم.

٢٥٤

صحيحة وصلاة مأمور بها ، وأبلغ منه من كان معه ماء فوهبه أو اراقه. انتهى. أقول : ممن تبع الشيخ في هذه المقالة الشهيد في الدروس حيث قال : ولو وهب الماء أو اراقه في الوقت أو ترك الطلب وصلى أعاد. لكن لا يخفى ان كلام الشيخ المتقدم ذكره وكذا كلام الدروس لا تقييد فيهما بالضيق وان كان إطلاقهما يقتضي الشمول لذلك إلا انه مع الحمل عليه يشكل بما ذكره في المعتبر فإنه جيد وجيه ، ولو حمل ذلك على السعة توجه ما ذكروه من الإعادة لأنه مأمور بالطلب مع السعة فلو تيمم وصلى والحال هذه كان ما اتى به باطلا ووجب عليه الإعادة بعد الطلب ان كان في الوقت سعة وإلا تيمم وصلى مرة أخرى ، قال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر المذكور : ويمكن ان يحمل كلام الشيخ على ما إذا أخل بالطلب وتيمم مع السعة فإن تيممه لا يصح قطعا. انتهى. واما ما ذكره في الدروس من انه لو وهب الماء أو اراقه في الوقت وصلى أعاد فلعل الوجه فيه ان الصلاة قد وجبت عليه واستقرت في ذمته بطهارة مائية لوجود الماء معه في الوقت وتمكنه من استعماله وتفويت الواجب من قبل نفسه لا يكون عذرا مسوغا للتيمم فيجب الإعادة في الوقت وخارجه. إلا انه على إطلاقه مشكل بل الظاهر ان الحكم فيه يصير كفاقد الماء من جواز التيمم في السعة بعد الطلب أو وجوب التأخير إلى ضيق الوقت. واولى بعدم الإعادة ما لو تيمم وصلى آخر الوقت فإنه مأمور بالصلاة والطهارة وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء ، واما مع السعة فيحتمل القول فيما إذا وجد الماء بعد ان صلى بتيممه في السعة بأنه يجب عليه الإعادة لتوجه الخطاب إليه في أول الأمر بالصلاة بطهارة مائية والحال انه قد وجد الماء في الوقت اما مع الضيق فإنه لا يتجه هذا الاحتمال ونقل في المدارك عن المنتهى انه لو كان بقرب المكلف ماء وتمكن من استعماله وأهمل حتى ضاق الوقت فصار لو مشى اليه ضاق الوقت فإنه يتيمم وفي الإعادة قولان أقربهما الوجوب ، ثم اعترضه بأنه يتوجه عليه ما سبق وأشار به الى ما قدمه في مسألة المخل بالطلب حتى ضاق الوقت حيث اختار فيه ما ذكره المحقق. وهو جيد. بقي الكلام

٢٥٥

في انه هل يأثم بإراقته الماء أو هبته في الوقت مع علمه بعدم الماء وان فرضه ينتقل الى التيمم؟ ظاهر الأصحاب ذلك وهو كذلك كمن أخل بالطلب مع كونه مأمورا به وهذا قد أخل بالطهارة بالماء مع كونه مأمورا بذلك ، وكيف كان فحيث ان الحكم غير منصوص وان كان القول المشهور أوفق بالقواعد الشرعية فلا ينبغي ترك الاحتياط في المسألة.

(السادس) ـ لو أخل بالطلب وضاق الوقت فتيمم وصلى ثم وجد الماء في محل الطلب من الغلوات أو مع أصحابه الباذلين له أو في رحله فهل يحكم بصحة ما فعل من التيمم والصلاة أو يجب عليه القضاء؟ قولان أحدهما العدم وهو اختيار السيد في المدارك وقبله المحقق الأردبيلي ، ووجهه ظاهر مما تقدم في سابق هذه المسألة فإنها من جزئياتها ، والمشهور وجوب القضاء استنادا الى ما رواه الشيخ عن ابي بصير (١) قال : «سألته عن رجل كان في سفر وكان معه ماء فنسيه وتيمم وصلى ثم ذكر ان معه ماء قبل ان يخرج الوقت؟ قال عليه ان يتوضأ ويعيد الصلاة». وأنت خبير بان ظاهر الخبر المذكور (أولا) ـ انما هو النسيان وهو أخص من المدعى. و (ثانيا) ـ ان تيممه وقع في السعة وهو خلاف المفروض في كلامهم ، والعجب ان شيخنا الشهيد الثاني في الروض حيث قيد إطلاق عبارة المصنف بضيق الوقت قال وانما قيدنا المسألة بالضيق تبعا للرواية وفتوى الأصحاب. والرواية ـ كما ترى ـ صريحة في السعة وليس غيرها في المسألة. و (ثالثا) ـ انه قد صرح بأنه لو تيمم في الصورة المذكورة حال السعة بطل تيممه وصلاته وان لم يجد الماء بعد ذلك ، قال لمخالفته الأمر وان جوزنا التيمم مع سعة الوقت بعد الطلب. انتهى. ولا ريب ان هذا مدلول الخبر المذكور كما عرفت. ثم قال : واعلم ان الأصل يقتضي عدم وجوب إعادة الصلاة مع مراعاة التضيق وان أساء بترك الطلب لإيجابه الانتقال إلى طهارة الضرورة ، لكن لا سبيل الى رد الحديث المشهور ومخالفة الأصحاب. وفيه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب التيمم.

٢٥٦

ما عرفت من ان الخبر ظاهر بل صريح في السعة ، وبه يظهر ان الأظهر هو القول بعدم الإعادة في المسألة المذكورة ، وما ادعاه ايضا من التقييد في كلام الأصحاب محل نظر لما عرفت في عبارة الشيخ من الإطلاق وكذا عبارة العلامة التي ارتكب التقييد فيها. والله العالم.

(السابع) ـ قال في المعتبر : لو نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم أجزأه وهو اختيار علم الهدى. وقال الشيخ ان اجتهد وطلب لم يعد وإلا أعاد ، لنا ـ انه صلى بتيمم مشروع فلا يلزمه الإعادة ، ولان النسيان لا طريق إلى إزالته فصار كعدم الوصلة ، الى ان قال : وفي رواية أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «يتوضأ ويعيد». وفي سندها عثمان بن عيسى وهو ضعيف فهي إذن ساقطة. انتهى. وقال في الذكرى : ولو نسي الماء أجزأ عند المرتضى لعموم «رفع عن أمتي الخطأ» (٢). والشيخ يعيد ان لم يطلب ، لهذا الخبر ، وضعف بعثمان بن عيسى. وقول الشيخ أقرب للتفريط. والشهرة تدفع ضعف السند. انتهى. أقول : التحقيق عندي ان ظاهر الخبر المشار اليه هو الإعادة في صورة النسيان مع سعة الوقت مطلقا طلب أو لم يطلب ، والواجب العمل به وضعفه باصطلاحهم مجبور بالشهرة كما ذكره في الذكرى واخبار الطلب يجب تخصيصها بالخبر المذكور ، وبه يظهر ضعف ما اختاره في الذكرى ايضا كما ضعف ما اختاره في المعتبر ، نعم لو كان الذكر حال الضيق فالمتجه الاجتزاء بما فعل كما تقدم وهو خارج عن مورد الخبر كما عرفت. واما قوله في المعتبر : لنا ـ انه صلى بتيمم مشروع ، فإن أراد ولو في حال السعة فهو مجرد مصادرة ، وان أراد في حال الضيق فهو صحيح لما سلف.

(الثامن) ـ لو كان معه ماء فأراقه قبل الوقت أو مر بماء فلم يتطهر قبل الوقت والحال انه لا ماء ثمة تيمم وصلى ولا اعادة عليه إجماعا كما في المنتهى ، ولو كان ذلك

__________________

(١) ص ٢٥٦.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من الخلل في الصلاة و ٥٦ من جهاد النفس.

٢٥٧

بعد دخول الوقت فقد عرفت مما تقدم انه كذلك وان علم باستمرار الفقدان ، لانه صلى صلاة مأمورا بها بتيمم مشروع وقضية امتثال الأمر الاجزاء ، والمحقق في المعتبر ذكر الحكم المذكور ولم ينقل الخلاف فيه إلا عن العامة (١) وهو مؤذن بدعوى الإجماع عليه ، وقطع الشهيد في الدروس والبيان بوجوب الإعادة هنا للتفريط وقد سبق نقل عبارته من الدروس ، واحتمل ذلك في التذكرة.

(التاسع) ـ اختلف الأصحاب فيما لو كان الماء موجودا عنده فأخل باستعماله حتى ضاق الوقت عن استعماله فهل ينتقل الى التيمم ويؤدي أو يتطهر بالماء ويقضي؟ قولان ، اختار أولهما العلامة في المنتهى لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة حماد بن عثمان (٢) «هو بمنزلة الماء». وانما يكون بمنزلته لو ساواه في أحكامه ، ولا ريب في انه لو وجد الماء وتمكن من استعماله وجب عليه الأداء فكذا ما لو وجد ما سواه ، قال في المدارك بعد نقل ذلك : قلت ويد عليه فحوى قوله (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي (٣) : «ان رب الماء هو رب الأرض». وفي صحيحة جميل (٤) «ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وهذا القول لا يخلو من رجحان ، ولا ريب ان التيمم والأداء ثم القضاء بالطهارة المائية أحوط. انتهى واختار ثانيهما المحقق في المعتبر حيث قال : من كان الماء قريبا منه وتحصيله ممكن لكن مع فوات الوقت أو كان عنده وباستعماله يفوت لم يجز التيمم وسعى إليه لأنه واجد. انتهى. وهو اختيار السيد في المدارك حيث قال بعد فرض المسألة : فهل يتطهر ويقضي أو يتيمم ويؤدي؟ قولان ، أظهرهما الأول وهو خيرة المصنف في المعتبر لأن الصلاة مشروطة بالطهارة والتيمم انما يسوغ مع العجز عن استعمال الماء والحال ان المكلف واجد للماء متمكن من استعماله غاية الأمر ان الوقت لا يتسع لذلك ولم يثبت كون ذلك مسوغا للتيمم. انتهى. قال في الروض : وفرق المحقق الشيخ علي بين

__________________

(١) نقل الخلاف في المغني ج ١ ص ٢٤١ عن الأوزاعي.

(٢) ص ٢٤٨.

(٣) ص ٢٥٤.

(٤) ص ٢٤٧.

٢٥٨

ما لو كان الماء موجودا عنده بحيث يخرج الوقت لو استعمله وبين من كان الماء بعيدا عنه بحيث لو سعى اليه لخرج الوقت فأوجب الطهارة المائية على الأول دون الثاني ، مستندا الى انتفاء شرط التيمم وهو عدم وجدان الماء في الأول وعدم صدق الوجدان في الثاني ، ثم اعترضه فقال : وأنت خبير بان المراد بوجدان الماء في باب التيمم وفي الآية فعلا أو قوة ، ولهذا يجب على الفاقد الطلب والشراء لصدق الوجدان ، ولو كان المراد الوجدان بالفعل لم يجب عليه ذلك لانه تعالى شرط في جواز التيمم عدم الوجدان ، فلا يتم حينئذ ما ذكره من الفرق لصدق الوجدان في الصورتين بالمعنى المعتبر شرعا ، فلا بد من الحكم باتفاقهما اما بالتيمم كما ذكره المصنف أو بالطهارة المائية كما ذكره المحقق. انتهى كلامه. وهو جيد وجيه.

أقول : والتحقيق عندي في هذه المسألة هو ما ذهب إليه العلامة من وجوب التيمم والأداء فإنه هو الأقرب الى الانطباق على القواعد الشرعية (أما أولا) ـ فلظواهر الأخبار التي احتج بها العلامة ولهذا قال في المدارك بعد ان ايدها بما ذكره : وهذا القول لا يخلو من رجحان. و (اما ثانيا) ـ فلانه لا يخفى ان المكلف مأمور بالصلاة في وقتها آية ورواية ، غاية الأمر أنها مشروطة بالطهارة المائية إن أمكنت وإلا فبالترابية لما دلت عليه الآية والاخبار المستفيضة ، وحيث انه لم يتمكن من المائية هنا لاستلزام استعمالها خروج الوقت تعينت الترابية ، كما لو وجد ماء يستلزم السعي إليه خروج الوقت فإنه يتيمم اتفاقا كما تقدم. و (اما ثالثا) ـ فلانه لا ريب أن مشروعية التيمم انما هو للمحافظة على إيقاع الصلاة في وقتها وإلا كان الواجب مع فقد الماء أو تعذر استعماله تأخير الصلاة عن وقتها الى ان يتمكن من استعماله فيقضي الصلاة كما هو مقتضى كلام هذا القائل والمعلوم من الشرع خلافه ، وحينئذ فمجرد وجود الماء في الصور المفروضة مع استلزام استعماله خروج الوقت في حكم العدم ، وبذلك يظهر ان قوله في المدارك انه لم يثبت كون عدم اتساع الوقت مسوغا للتيمم ليس في محله ، وكيف لا ونظر الشارع أولا

٢٥٩

وبالذات انما هو الى الصلاة والإتيان بها في وقتها ونظره الى الطهارة بالماء انما هو ثان وبالعرض حيث انها شرط لها فكيف يقدم ما هو بالعرض على ما هو بالذات مع ان الشارع قد جعل له عوضا عنه تأكيدا للمحافظة عليها في وقتها؟ وكيف لا يكون عدم اتساع الوقت مسوغا للتيمم والعلة في مشروعيته انما هو المحافظة على الإتيان بالصلاة في وقتها كما عرفت؟ ولعله لهذا الوجه لم يعد في المسوغات فإنه حيث كان هو الأصل في مشروعية التيمم اكتفي بذلك عن عده في المسوغات ، وكيف كان فإنه وان كان ما اخترناه هو الأنسب بالقواعد الشرعية المؤيدة بما تقدم من تلك الأخبار المروية إلا انه حيث كانت المسألة عارية عن النصوص على الخصوص فالأحوط بعد الصلاة بالتيمم أداء إعادة الصلاة بالطهارة المائية قضاء.

ثم انه لا يخفى عليك ان هذا البحث كما يجري في هذه المسألة يجري أيضا في مسألة عدم اتساع الوقت لإزالة النجاسة عن الساتر الذي لا يجد غيره. وكذا تحصيل الساتر إذا توقف على زمان يفوت به الوقت ، فهل يصلي بالنجاسة في الاولى وعاريا في الثانية في الوقت أداء أو يقدم إزالة النجاسة أولا وكذا تحصيل الساتر ثم يصلي قضاء؟ القولان المتقدمان ، واما ما ذكره المحقق الثاني من التفصيل فقد عرفت بما قدمنا نقله عن الروض انه غير واضح السبيل.

(العاشر) ـ لو وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته فالظاهر انه في حكم العدم وضوء كان أو غسلا ، ونسبه في المنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ونحوه في التذكرة ، ولم ينقل الخلاف في المعتبر والمنتهى والتذكرة في هذه المسألة إلا عن العامة (١) وقال في الروض : وربما حكي عن الشيخ في بعض أقواله التبعيض وهو مذهب العامة. وقطع العلامة في النهاية بأن المحدث لو وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته لم يجب عليه استعماله بل يتيمم ، واحتمل في الجنب مساواته للمحدث ووجوب صرف الماء الى بعض

__________________

(١) راجع التعليقة ٢ ص ٢٤٣.

٢٦٠