الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

أقول : لا يخفى ما في جواب شيخنا المشار اليه من التكلف والشطط والخروج عن حاق كلام ذلك الفاضل الموجب للوقوع في مهاوي الغلط ، وعندي ان جميع ما أطال به هو ومن أشار اليه انما هو تطويل بغير طائل وخروج عن صريح مقتضى كلام ذلك الفاضل ، وذلك فان ذلك الفاضل ادعى ان غاية ما تضمنته تلك الاخبار هو ترتب الثواب على العمل ومجرد هذا لا يستلزم أمر الشارع وطلبه لذلك العمل ، فلا بد ان يكون هناك دليل أخر على طلب الفعل والأمر به ليترتب عليه الثواب بهذه الاخبار وان لم يكن موافقا للواقع ونفس الأمر ، وهذا الكلام جيد وجيه لا مجال لإنكاره ، وحينئذ فقول المجيب ـ ان ترتب الثواب على عمل يساوق رجحانه. إلخ ـ كلام شعري لا معنى له عند التأمل الصادق ، فان العبادات توقيفية من الشارع واجبة كانت أو مستحبة فلا بد لها من دليل صريح ونص صحيح يدل على مشروعيتها ، وهذه الاخبار لا دلالة فيها على الثبوت والأمر بذلك وانما غايتها ما ذكرناه. واما قول ذلك الفاضل : ولو اقتضي ذلك لاستندوا. إلخ فمعناه ـ كما هو ظاهر سياق كلامه ـ انه لو اقتضى ترتب الثواب في هذه الاخبار طلب الشارع لذلك الفعل وجوبا أو استحبابا لكان الواجب عليهم الاستناد الى هذه الاخبار في وجوب ما تضمن الخبر الضعيف وجوبه كما جروا عليه بالنسبة الى ما تضمن الخبر الضعيف استحبابه مع انهم لم يجروا هذا الكلام في الواجب. وحاصل الكلام الإلزام لهم بأنه لا يخلو اما ان يقولوا ان ترتب الثواب في هذه الاخبار يقتضي الطلب والأمر بالفعل أم لا ، فعلى الأول يلزمهم ذلك في جانب الوجوب كما التزموه في جانب الاستحباب مع انهم لا يلتزمونه ، وعلى الثاني فلا بد من دليل آخر يقتضي ذلك ويدل عليه ، والى هذا أشار تفريعا على هذا الكلام بقوله : فلقائل أن يقول. إلخ ، وبذلك يتبين لك ما في تطويل شيخنا المشار اليه ومن نقل عنه واعتمد عليه من الخروج عن كلام هذا الفاضل الى مقام آخر لا تعلق له بما ذكره وهو تطويل بغير طائل. واما دعوى ذلك الفاضل ان الآية أخص مطلقا فصحيح لا ان بينها وبين تلك الأخبار عموما من وجه ، فان

٢٠١

الأخبار دلت على ترتب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم (عليه‌السلام) سواء كان المخبر عدلا أم لا طابق خبره الواقع أم لا من الواجبات كان أم من المستحبات ومورد الآية رد خبر الفاسق تعلق بالسنن أو بغيرها ، ولا ريب ان هذا العموم أخص من ذلك العموم مطلقا لا من وجه ، ومن العجب قول المجيب بناء على زعمه العموم والخصوص من وجه وتقريبه السؤال بما ذكره : «وحينئذ فالجواب ان يقال ان الآية الكريمة انما تدل. إلخ» فإن فيه خروجا عن كلام ذلك الفاضل لان هذه الاخبار لا تدل عنده على مشروعية العمل وانما تدل على مجرد ترتب الثواب بعد ثبوت المشروعية بدليل آخر ، فكيف يحصل التثبت بها في العمل وهل هذا إلا أول المسألة ومحل النزاع؟

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الظاهر ان الكلام في هذه المسألة سؤالا وجوابا ونقضا وإبراما انما ابتنى على هذا الاصطلاح المحدث الذي جعلوا فيه بعض الاخبار ـ وان كانت مروية في الأصول المعتمدة المعتضدة بالقرائن المتعددة ـ ضعيفة ورموا بها من البين ، وصاروا مع الحاجة إليها لضيق الخناق في هذا الاصطلاح يتسترون تارة بأنها مجبورة بالشهرة وتارة بما ذكروه في هذه المسألة من ان العمل في الحقيقة انما هو بهذه الاخبار وأمثال ذلك مما أوضحناه ، وإلا فمتى قلنا بصحة الأخبار المروية في أصولنا المعتبرة وانها معتبرة معتمدة في ثبوت الأحكام كما عليه متقدمو علمائنا الاعلام وجم غفير من متأخريهم فإنه لا مجال لهذا البحث بالكلية ، إذ العامل انما عمل على ذلك الخبر لكونه معتبرا معتمدا ، وهذا هو الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، فإن الاستحباب والكراهة أحكام شرعية كالوجوب والتحريم لا تثبت إلا بالدليل الواضح والمنار اللائح ، ومتى كان الحديث الضعيف ليس بدليل شرعي كما زعموه فلا يثبت به الاستحباب لا في محل النزاع ولا غيره ، والتستر بان ثبوت الاستحباب انما حصل بانضمام هذه الأخبار كما ادعوه يؤدي الى ثبوت الاستحباب بمجرد رؤية حديث يدل على ترتب الثواب على عمل ولو في ظهر كتاب أو في ورقة ملقاة أو بخبر عامي لصدق البلوغ بكل

٢٠٢

من هذه الأمور كما دلت عليه تلك الأخبار ، والتزام ذلك لا يخلو من مجازفة. هذا. وقد نقل بعض مشايخنا عن بعض الأصحاب نظم اخبار المخالفين في هذا السلك فجوز الرجوع إليها في المندوبات ، ثم قال (قدس‌سره) : «ولا ريب ان الأخبار المذكورة تشملهم إلا انه قد ورد النهي في كثير من الاخبار عن الرجوع إليهم والعمل بأخبارهم ، وحينئذ فيشكل الحكم بالرجوع إليها لا سيما إذا كان ما ورد في أخبارهم هيئة مخترعة وصورة مبتدعة لم يعهد مثلها في الأخبار» انتهى. وهو مؤيد لما ذكرناه. وبالجملة فالقدر المعلوم المقطوع به من هذه الأخبار هو مجرد ترتب الثواب على عمل قد ثبت مشروعيته ووردت النصوص به سواء كان الخبر الوارد به مطابقا للواقع أم لا. والله سبحانه أعلم بحقائق أحكامه.

ومنها ـ الغسل عند صلاة الحاجة وصلاة الاستخارة ، قيل وليس المراد أي صلاة أوقعها المكلف لأحد هذين الأمرين بل المراد بذلك صلاة مخصوصة ورد النص باستحباب الغسل قبلها أو بعدها وهي مذكورة في مظانها.

والذي وقفت عليه من الاخبار بذلك ما رواه في الكافي عن عبد الرحيم القصير (١) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فقلت جعلت فداك اني اخترعت دعاء ، فقال دعني من اختراعك إذا نزل بك أمر فافزع الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصل ركعتين تهديهما الى رسول الله. قلت كيف اصنع؟ قال تغتسل وتصلي ركعتين ، ثم ساق الخبر مشتملا على كيفية العمل الى ان قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) فانا الضامن على الله تعالى ان لا يبرح حتى تقضى حاجته». وعن مقاتل بن مقاتل (٢) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) جعلت فداك علمني دعاء لقضاء الحوائج ، فقال إذا كانت لك حاجة الى الله تعالى مهمة فاغتسل والبس أنظف ثيابك وشم شيئا من الطيب ثم ابرز تحت السماء فصل ركعتين. الحديث». وروى الشيخ في الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «في الأمر يطلبه الطالب من ربه؟ قال تصدق

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من أبواب الصلوات المندوبة.

٢٠٣

في يومك على ستين مسكينا على كل مسكين صاع بصاع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإذا كان الليل اغتسلت في الثلث الباقي ولبست ادنى ما يلبس من تعول من الثياب ، الى ان قال ثم إذا وضعت رأسك للسجدة الثانية استخرت الله تعالى مائة مرة تقول اللهم إني أستخيرك ، ثم تدعو الله تعالى بما شئت. الحديث». وروى الصدوق في الفقيه عن مرازم عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا فدحك أمر عظيم فتصدق في نهارك على ستين مسكينا على كل مسكين نصف صاع بصاع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من تمر أو بر أو شعير فإذا كان الليل اغتسلت في ثلث الليل الأخير ثم لبست ادنى ما يلبس من تعول من الثياب إلا ان عليك في تلك الثياب إزار ثم تصلي ركعتين ، الى ان قال فإذا وضعت جبينك في السجدة الثانية استخرت الله مائة مرة تقول : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، ثم تدعو الله تعالى بما شئت. الحديث». وما رواه في الكافي عن جميل بن دراج (٢) قال : «كنت عند ابي عبد الله (عليه‌السلام) فدخلت عليه امرأة وذكرت انها تركت ابنها وقد قالت بالملحفة على وجهه ميتا ، فقال لها لعله لم يمت فقومي فاذهبي إلى بيتك فاغتسلي وصلي ركعتين وادعي وقولي : يا من وهبه لي ولم يك شيئا جدد هبته لي ، ثم حركيه ولا تخبري بذلك أحدا. قال ففعلت فحركته فإذا هو قد بكى». وما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن صفوان بن يحيى ومحمد بن سهل عن أشياخهما عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا حضرت لك حاجة مهمة الى الله عزوجل فصم ثلاثة أيام متوالية الأربعاء والخميس والجمعة ، فإذا كان يوم الجمعة ان شاء الله تعالى فاغتسل والبس ثوبا جديدا ثم اصعد إلى أعلى بيت في دارك وصل ركعتين وارفع يديك الى السماء ثم قل. الحديث».

أقول : المستفاد من الاخبار الكثيرة الواردة في صلاة الحوائج انهم (عليهم

__________________

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٨ من أبواب الصلوات المندوبة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الصلوات المندوبة.

٢٠٤

السلام) ربما أمروا بالصلاة والدعاء خاصة وربما أمروا مع ذلك بالغسل في أوقات مخصوصة وربما أمروا بالصوم ايضا ، والمفهوم من ذلك هو استحباب هذه الأشياء لكل حاجة أراد المكلف طلبها الى الله عزوجل. وتتفاوت هذه الأعمال قلة وكثرة بتفاوت الحوائج بضروريتها وعدمها وشدة الحاجة إليها وعدمها فما ذكره بعضهم ـ من اختصاص الاغتسال بصلاة مخصوصة كما تقدمت الإشارة إليه ـ الظاهر انه لا وجه له ، ويؤيد ما ذكرناه قوله (عليه‌السلام) في عبارة كتاب الفقه المتقدمة (١) : «وغسل طلب الحوائج من الله تعالى». واما ما ورد بالنسبة إلى صلاة الاستخارة فما تقدم في موثقة سماعة (٢) من قوله (عليه‌السلام) : «وغسل الاستخارة مستحب». وجملة من الأصحاب قد استدلوا على استحباب الغسل لصلاة الاستخارة بصحيحة زرارة المتقدمة لقوله في آخرها : «ثم إذا وضعت رأسك للسجدة الثانية استخرت الله تعالى مائة مرة». ونحوها رواية مرازم. وأنت خبير بان سياق الروايتين المذكورتين انما هو في طلب الحاجة والصلاة انما هي لها. والمراد بالاستخارة في آخر الروايتين المذكورتين انما هو طلب ان يجعل الله تعالى له الخيرة في هذا الأمر الذي يطلبه وان يختاره له فإنه أحد معاني الاستخارة لا بمعنى المشاورة كما هو المتبادر من لفظ الاستخارة ، وظاهر كلامهم ان الغسل لصلاة الاستخارة وظاهر موثقة سماعة ان الغسل للاستخارة وان كانت بغير صلاة والمتبادر من الاستخارة انما هو معنى المشاورة ، ولكن لم أقف في اخبار الاستخارة على ما يدل على وجوب الغسل في شي‌ء من إفرادها ، وحينئذ فيمكن ان يقال باستحباب الغسل للاستخارة مطلقا بهذا الخبر أو يخص بصلاة الاستخارة كما هو المشهور فيقال باستحباب الغسل للصلاة المروية في الاستخارة بهذا الخبر ، وكيف كان فالظاهر ان الاستدلال لذلك بصحيحة زرارة المشار إليها ونحوها رواية مرازم ليس في محله لما عرفت.

ومنها ـ غسل يوم الغدير ، قال في التهذيب : «والغسل في هذا اليوم مستحب

__________________

(١) ص ١٨١.

(٢) ص ١٧٩.

٢٠٥

مندوب اليه وعليه إجماع الفرقة» أقول : ويدل عليه قوله (عليه‌السلام) في عبارة كتاب الفقه المتقدمة (١) : «وغسل يوم غدير خم». وما نقله ابن طاوس في الإقبال قال من كتاب محمد بن علي الطرازي قال روينا بإسنادنا الى عبد الله بن جعفر الحميري عن هارون بن مسلم عن ابي الحسن المثنى عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) في حديث طويل ذكر فيه فضل يوم الغدير ، الى ان قال : «فإذا كان صبيحة ذلك اليوم وجب الغسل في صدر نهاره. الحديث». وما رواه الشيخ عن علي بن الحسين العبدي (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا ، الى ان قال ومن صلى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس من قبل ان تزول مقدار نصف ساعة. الحديث».

ومنها ـ غسل ليلة النصف من شعبان ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «صوموا شعبان واغتسلوا ليلة النصف منه. الحديث». وما رواه في المصباح عن سالم مولى أبي حذيفة عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٥) قال : «من تطهر ليلة النصف من شعبان فأحسن الطهر ، وساق الحديث الى قوله : قضى الله تعالى له ثلاث حوائج. ثم ان سأل الله ان يراني في ليلته رآني». أقول : الظاهر ان هذا الخبر من طريق الجمهور ذكره الشيخ هنا تأكيدا.

ومنها ـ غسل ليلة النصف من رجب ويوم المبعث وهو اليوم السابع والعشرون منه ، وقد ذكرهما الشيخ في المصباح والجمل والمبسوط ، وقال الشهيد في الذكرى انه لم يصل إلينا خبر فيهما. وقال المحقق في المعتبر : ربما كان لشرف الوقتين والغسل مستحب

__________________

(١) ص ١٨١.

(٢) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٢٠ من الأغسال المسنونة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الصلوات المندوبة.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ٨ من أبواب الصلوات المندوبة.

٢٠٦

مطلقا ولا بأس بالمتابعة فيه. أقول : ما ذكره في المعتبر محل تأمل فإن استحباب الغسل مطلقا لا دليل عليه بل هو عبادة موقوفة على التشريع وورود الأمر بها من الشارع ، والعجب منه في قوله : «ولا بأس بالمتابعة فيه» مع خروجه عما عليه الأصحاب في جملة من المواضع التي قامت فيها الأدلة على ما ذهبوا اليه بزعم انها ضعيفة السند فكيف يوافقهم هنا من غير دليل؟ أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار مما يتعلق بهذا المقام ما في الإقبال قال وجدت في كتب العبادات عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) انه قال : «من أدركه شهر رجب فاغتسل في اوله ووسطه وآخره خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه».

ومنها ـ الغسل لقضاء صلاة الكسوف مع تركها عمدا واحتراق القرص ، صرح به الشيخ وابن إدريس وابن البراج وأكثر الأصحاب ، وذهب المرتضى في المسائل المصرية الثالثة وأبو الصلاح وسلار الى وجوبه في الصورة المذكورة ، وعن الشيخ في النهاية القول بالوجوب ايضا ، وعن المفيد والمرتضى في المصباح القول بالاستحباب والاقتصار على تركها متعمدا من غير اشتراط لاستيعاب الاحتراق ، قال في المختلف : «وللشيخ قولان كالمذهبين ففي النهاية والجمل والخلاف يجب القضاء مع الغسل وفي موضع من الخلاف انه مستحب ، ولم يتعرض في المبسوط لوجوبه بل قال يقضيها مع الغسل وكذلك قال ابن بابويه ، ولم يتعرض ابن ابي عقيل لهذا الغسل بوجوب ولا استحباب» انتهى. أقول : لا يخفى ان الشيخ في المبسوط صرح بالاستحباب في ضمن تعداد الأغسال المستحبة قال : «وغسل قاضي صلاة الكسوف إذا احترق القرص كله وتركها متعمدا» ولكن العلامة غفل عنه وقت التصنيف ولم يراجعه ، هذا ما حضرني من الأقوال في المسألة.

واما الأخبار المتعلقة بالمسألة المذكورة فقال في المدارك : «والذي وقفت عليه

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب الأغسال المسنونة.

٢٠٧

من الاخبار في هذه المسألة روايتان ، روى إحداهما حريز عمن أخبره عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل ولم يصل فليغتسل من غد وليقض الصلاة ، وان لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلا القضاء بغير غسل». والثانية رواها محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) وهي طويلة قال في آخرها : «وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاغتسل». وليس في هذه الرواية إشعار بكون الغسل للقضاء بل المستفاد من ظاهرها ان الغسل للأداء ، والرواية الأولى قاصرة من حيث السند وخالية من قيد الاستيعاب ولكن سيجي‌ء ان شاء الله ان القضاء انما يثبت مع ذلك ، والأحوط الغسل للقضاء مع تعمد الترك أخذا بظاهر الرواية المتقدمة وان ضعف سندها ، اما الغسل للأداء مع استيعاب الاحتراق فلا ريب في استحبابه والاولى ان لا يترك بحال لصحة مستنده وتضمنه الأمر بالغسل مع انتفاء ما يقتضي الحمل على الاستحباب» انتهى. وهو ظاهر في عدم وقوفه على دليل يقتضي الدلالة على القول المشهور ، وقد تبعه في ذلك الفاضل الخراساني في الذخيرة فأورد الروايتين المذكورتين لكنه لم يطعن في الأولى بضعف السند بل زيف لها وجوها تجبر ضعفها واختار العمل بظاهرها إلا انه حمل الأمر فيها على الاستحباب كما سيأتي ان شاء الله تعالى نقل كلامه في المقام ، واما الرواية الثانية فإنه اعترف ايضا بما ذكره في المدارك من ان ظاهرها وجوب الغسل في الأداء مع الاحتراق إلا انه عدل عنه ، قال : لانه غير معمول عليه بين الأصحاب فينبغي حمله على الاستحباب. والمحقق الخوانساري في شرح الدروس قد نقل زيادة على الروايتين المذكورتين ما رواه في الفقيه مرسلا عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) الغسل في سبعة عشر موضعا الى ان قال في آخرها : وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأغسال المسنونة.

٢٠٨

فعليك ان تغتسل وتقضي الصلاة.». ثم أطال الكلام في المقام بما لا يخلو من التردد وعدم الانسجام.

أقول : والذي يظهر لي من النظر في روايات المسألة والتأمل فيها ان صحيحة محمد بن مسلم التي قدمنا ذكرها في صدر المطلب برواية الشيخ في التهذيب (١) هي بعينها ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) من قوله : «الغسل في سبعة عشر موضعا. الى آخره». والصدوق وان رواها في الفقيه مرسلة إلا انه رواها في الخصال مسندة عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «الغسل في سبعة عشر موضعا ، ثم ساق الخبر الى ان قال : وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل فعليك ان تغتسل وتقضي الصلاة». وهي ـ كما ترى ـ صحيحة صريحة في القول المشهور ولكنه في المدارك وكذا في الذخيرة لما لم يقفا إلا على ذينك الخبرين المجملين توقفا فيما ذكراه ، ومن الظاهر الذي لا يكاد يختلجه الشك ان هذه الرواية هي الرواية التي نقلها الشيخ في التهذيب لكنه أسقط منها هذه العبارة سهوا وزاد عوضها قوله «فاغتسل» والرواية كما ذكرناه من الزيادة موجودة في كتب الصدوق : الفقيه والخصال والهداية ، والظاهر ان هذه الزيادة سقطت من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له انس بطريقته سيما في التهذيب وما وقع له فيه من التحريف والتصحيف والزيادة والنقصان في الأسانيد والمتون بحيث انه قلما يخلو حديث من ذلك في متنه أو سنده كما هو ظاهر للممارس ، وبذلك يظهر ضعف الاستناد الى روايته في المسألة وضعف ما استنبطه في المدارك منها بناء على نقله لها مع صحة سندها من الغسل للأداء.

بقي الكلام في مرسلة حريز من حيث انها مطلقة في الكسوف من غير تقييد بالاحتراق ، ولكن الظاهر تقييدها بصحيحة محمد بن مسلم التي ذكرناها واعتمدناها وبه

__________________

(١) ص ١٨٠.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأغسال المسنونة.

٢٠٩

تجتمع الأخبار في الدلالة على القول المشهور. ومما يؤيد ما ذكرناه من حمل الرواية المذكورة على الاحتراق قوله (عليه‌السلام) في آخرها : «وان لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلا القضاء بغير غسل». فإنه لو حمل على ظاهره للزم منه وجوب القضاء في صورة عدم العلم مطلقا احترق أو لم يحترق مع ان الأخبار وكلام الأصحاب على تخصيص ذلك بصورة الاحتراق واما مع عدم الاحتراق فلا قضاء. واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ حيث قال يعد ذكر مرسلة حريز : «فان قلت : ظاهر هذه الرواية وهو القضاء في صورة عدم العلم مطلقا غير معمول عليه بين أكثر الأصحاب وتنفيه الأخبار المعتمدة الآتية في محله فينبغي ان يخص بصورة احتراق الجميع ، قلت : الذي يستفاد من الروايات عدم وجوب القضاء إلا في الصورة المذكورة لا عدم الاستحباب ، نعم لو ثبت الإجماع على عدم الاستحباب تعين المصير الى تخصيص الخبر بصورة احتراق الجميع لكن الإجماع غير ثابت ولا ادعاه أحد» انتهى ـ ففيه ان الاستحباب ايضا حكم شرعي يتوقف على الدليل والحال انه لم يقل به هنا أحد ولم يدل عليه دليل ، فحمل الرواية عليه مع إمكان حملها وتقييدها بصورة الاحتراق ـ كما هو القاعدة المطردة من حمل المطلق على المقيد ـ ترجيح من غير مرجح بل الترجيح في جانب ما ذكرناه لما عرفت.

إلا انه يبقى الكلام في ان ظاهر الاخبار المذكورة هو الوجوب كما هو قول جماعة من فضلاء الأصحاب على ما قدمناه ولا اعرف عنه صارفا إلا مجرد مناقشات لا يخفى وهنا على المصنف ، قال في المختلف بعد نقل الخلاف في المسألة : «والحق الاستحباب ، لنا ـ الأصل براءة الذمة وقوله (عليه‌السلام) (١) : «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته». وكما لا يجب في الأداء الغسل بل هو مستحب فكذلك القضاء ، ولحديث سعد عن الصادق (عليه‌السلام) وقد تقدم» انتهى. أقول : اما ما ذكره من الأصل فإنه يجب الخروج عنه بالدليل وهو واضح فيما ذكرناه من الاخبار لقوله (عليه‌السلام) في مرسلة

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.

٢١٠

حريز «فليغتسل». وهو أمر والأصل فيه الوجوب ، وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم التي في كتب الصدوق «فعليك ان تغتسل». وظهوره في الوجوب لا ينكر ، وقوله (عليه‌السلام) فيها برواية الشيخ «فاغتسل» والأمر فيه كما في الأول واما ما ذكره من حديث «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته» فإنما هو بمعنى الكيفية التي عليها الصلاة مما هو داخل في حقيقتها لا باعتبار ما كان خارجا عنها ، واما حديث سعد المشار اليه ـ وهو ما قدمه من حديث سعد بن ابي خلف عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان الأغسال أربعة عشر واحد فريضة والباقي سنة». ـ ففيه ان لفظ السنة لا ظهور له في الاستحباب لاستعماله فيما وجب بالسنة كما لا يخفى على من له أنس بالاخبار ، على انه متى أريد به هنا الاستحباب فلا بد من تقييده البتة لظهور وجوب جملة من الأغسال اتفاقا ، والحق ان المراد بالسنة ما هو أعم من المعنيين المذكورين وان منع استعماله كذلك أصحاب الأصول لتصريحهم بعدم جواز استعمال اللفظ في معنييه اشتراكا أو حقيقة ومجازا الا ان ما منعوه موجود في الاخبار كثيرا كهذا الموضع وغيره. واما ما تمسك به الفاضل الخراساني في الذخيرة من عدم دلالة الأمر في أخبارنا على الوجوب فقد عرفت فساده فيما تقدم.

واما ما ذكره جملة من الأصحاب في هذا المقام ـ من ان ظاهر اخبار المسألة الاختصاص بالقمر حتى لجأ بعضهم في الاستدلال على الشمس الى عدم القائل بالفصل فينسحب الحكم فيها ـ ففيه ان ذلك وان لم يذكر في هذه الأخبار المشهورة لكنه مذكور في الفقه الرضوي الذي قد عرفت وستعرف انه معتمد المتقدمين حيث قال (عليه‌السلام) (٢) : «وان انكشفت الشمس أو القمر ولم تعلم به فعليك ان تصليها إذا علمت ، فان تركتها متعمدا حتى تصبح فاغتسل وصل وان لم يحترق القرص فاقضها

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الجنابة.

(٢) ص ١٢.

٢١١

ولا تغتسل». وسيأتي مزيد كلام في هذه العبارة ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة. والله العالم.

ومنها ـ الغسل لأخذ التربة ، روى ذلك في البحار (١) عن مؤلف كتاب المزار الكبير بإسناده عن جابر الجعفي قال : «دخلت على مولانا ابي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) فشكوت اليه علتين متضادتين إذا داويت إحداهما انتقضت الأخرى وكان بي وجع الظهر ووجع الجوف فقال لي عليك بتربة الحسين بن علي (عليهما‌السلام) فقلت كثيرا ما استعملها ولا تنجع في؟ قال جابر فتبينت في وجه سيدي ومولاي الغضب فقلت يا مولاي أعوذ بالله من سخطك ، فقام فدخل الدار وهو مغضب فاتى بوزن حبة في كفه فناولني إياها ثم قال لي استعمل هذه يا جابر فاستعملتها فعوفيت لوقتي ، فقلت يا مولاي ما هذه التي استعملتها فعوفيت لوقتي؟ قال هذه التي ذكرت انها لم تنجع فيك شيئا. فقلت والله يا مولاي ما كذبت فيها ولكن قلت لعل عندك علما فأتعلمه منك يكون أحب الي مما طلعت عليه الشمس ، فقال لي إذا أردت أن تأخذ من التربة فتعمد لها آخر الليل واغتسل لها بماء القراح والبس أطهر أطهارك وتطيب بسعد وادخل فقف عند الرأس فصل اربع ركعات تقرأ ، ثم ساق الخبر في بيان الصلاة وكيفيتها والاذن في أخذ التربة الى ان قال : وتأخذ بثلاث أصابع ثلاث مرات وتدعها في خرقة نظيفة أو قارورة من زجاج وتختمها بخاتم عقيق عليه «(ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ) استغفر الله» فإذا علم الله تعالى منك صدق النية لم يصعد معك في الثلاث قبضات إلا سبعة مثاقيل وترفعها لكل علة فإنها تكون مثل ما رأيت».

ومنها ـ الغسل يوم النيروز لما رواه الشيخ في المصباح عن المعلى بن خنيس عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا كان يوم النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك. الحديث».

__________________

(١) ج ٢٢ ص ١٤٧.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب الأغسال المسنونة.

٢١٢

تتمة

قال الفاضل ابن فهد في المهذب : «تنبيه : يوم النيروز يوم جليل القدر وتعيينه من السنة غامض مع ان معرفته أمر مهم من حيث انه تتعلق به عبادة مطلوبة للشارع والامتثال موقوف على معرفته ، ولم يتعرض لتفسيره أحد من علمائنا سوى ما قاله الفاضل محمد ابن إدريس ، وحكايته : والذي حققه بعض محصلي أهل الحساب وعلماء الهيئة وأهل هذه الصنعة في كتاب له ان يوم النيروز يوم العاشر من أيار. وقال الشهيد وفسر بأول سنة الفرس أو حلول الشمس برج الحمل أو عاشر أيار. فالثالث إشارة إلى قول ابن إدريس والأول إشارة الى ما هو مشهور عند فقهاء العجم في بلدهم فإنهم يجعلونه عند نزول الشمس الجدي وهو قريب مما قاله صاحب الأنواء ، وحكايته : اليوم السابع عشر من كانون الأول هو صوم اليهود وفيه ترجع الشمس مصعدة الى الشمال ويأخذ النهار من الليل ثلاث عشرة ساعة وهو مقدار ما يأخذ في كل يوم وتنزل الشمس برج الجدي قبله بيومين ، وبعض العلماء جعله رأس السنة وهو النيروز ، فجعله حكاية عن بعض العلماء وقال بعد ذلك : اليوم التاسع من شباط وهو يوم النيروز ويستحب فيه الغسل وصلاة أربع ركعات لما رواه المعلى بن خنيس عن الصادق (عليه‌السلام) ثم ذكر الخبر فاختار التفسير الأخير وجزم به. والأقرب من هذه التفاسير انه نزول الشمس برج الحمل لوجوه : (الأول) ـ انه اعرف بين الناس وأظهر في استعمالهم ، وانصراف الخطاب المطلق الشامل لكل مكلف الى معلوم في العرف وظاهر في الاستعمال اولى من انصرافه الى ما كان على الضد من ذلك ، ولانه المعلوم من عادة الشرع وحكمته ، ألا ترى كيف علق أوقات الصلوات بسير الشمس الظاهر وصوم رمضان برؤية الهلال وكذا أشهر الحج؟ وهي أمور ظاهرة يعرفها عامة الناس بل الحيوانات. فان قلت : استعماله في نزول الشمس برج الحمل غير ظاهر الاستعمال في بلاد العجم حتى انهم لا يعرفونه

٢١٣

وينكرونه على معتقده فلم خصصت ترجيح العرف الظاهر في بعض البلاد دون بعض؟ وأيضا فإن ما ذكرته حادث ويسمى النيروز السلطاني والأول أقدم حتى قيل انه منذ زمان نوح (عليه‌السلام) ، فالجواب عن الأول ان العرف إذا تعدد انصرف الى العرف الشرعي فان لم يكن فإلى أقرب البلاد واللغات الى الشرع فينصرف إلى لغة العرب وبلادها لأنها أقرب الى الشرع ، وعن الثاني بأن التفسيرين معا متقدمان على الإسلام (الثاني) ـ انه مناسب لما ذكره صاحب الأنواء من ان الشمس خلقت في الشرطين وهما أول الحمل ، فيناسب ذلك إعظام هذا اليوم الذي عادت فيه الى مبدإ كونها (الثالث) ـ انه مناسب لما ذكره السيد رضي الدين بن طاوس (قدس‌سره) ان ابتداء العالم وخلق الدنيا كان في شهر نيسان ولا شك ان نيسان يدخل والشمس في الحمل ، وإذا كان ابتداء العالم في هذا اليوم يناسب ان يكون يوم عيد وسرور ، ولهذا ورد استحباب التطيب فيه بأطيب الطيب ولبس أنظف الثياب ومقابلته بالدعاء والشكر والتأهب لذلك بالغسل وتكميله بالصوم والصلاة المرسومة له حيث كان فيه ابتداء النعمة الكبرى وهي الإخراج من حيز العدم الى الوجود ثم تعريض الخلق لثوابه الدائم ولهذا أمرنا بتعظيم يوم المبعث والغدير حيث كان فيهما ابتداء منصب النبوة والإمامة وكذا المولدين. (فان قلت) : نسبته الى الفرس تؤيد الأول فإنهم واضعوه والثاني وضعه قوم مخصوصون ولم يوافقهم الباقون (قلنا) : يكفي في نسبته إليهم ان يقول به طائفة منهم وان قصروا في العدد عمن لم يقل به ، ألا ترى الى قوله تعالى : «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ...» (١) وليس القائل بذلك كل اليهود ولا كل النصارى ، ومثل قوله : «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...» (٢) وليس الإشارة الى أهل الكتاب بأجمعهم بل الى عبد الله بن سلام وأصحابه (زيادة) ـ ومما ورد في فضله ويعضد ما قلناه ما حدثني المولى السيد المرتضى

__________________

(١) سورة التوبة. الآية ٣٠.

(٢) سورة الرعد. الآية ٣٦.

٢١٤

العلامة بهاء الدين علي بن عبد الحميد النسابة دامت فضائله رواه بإسناده إلى المعلى بن خنيس عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان يوم النيروز هو اليوم الذي أخذ فيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) العهد بغدير خم فأقروا له بالولاية فطوبى لمن ثبت عليها والويل لمن نكثها ، وهو اليوم الذي وجه فيه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عليا (عليه‌السلام) الى وادي الجن فأخذ عليهم العهود والمواثيق ، وهو اليوم الذي ظفر فيه بأهل النهروان وقتل ذا الثدية ، وهو اليوم الذي يظهر فيه قائمنا أهل البيت وولاة الأمر ويظفره الله تعالى بالدجال فيصلبه على كناسة الكوفة ، وما من يوم نيروز إلا ونحن نتوقع فيه الفرج لانه من أيامنا حفظه الفرس وضيعتموه ، ثم ان نبيا من أنبياء بني إسرائيل سأل ربه ان يحيى القوم «الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» (٢) فأماتهم الله تعالى فأوحى الله تعالى اليه ان صب عليهم الماء في مضاجعهم فصب عليهم الماء في هذا اليوم فعاشوا وهم ثلاثون ألفا فصار صب الماء في يوم النيروز سنة ماضية لا يعرف سببها إلا الراسخون في العلم ، وهو أول يوم من سنة الفرس ، قال المعلى : واملى علي ذلك فكتبته من إملائه». وعن المعلى ايضا (٣) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) في صبيحة يوم النيروز فقال يا معلى أتعرف هذا اليوم؟ قال : قلت لا ولكنه يوم تعظمه العجم وتتبارك فيه ، قال كلا والبيت العتيق الذي ببطن مكة ما هذا اليوم إلا لأمر قديم أفسره لك حتى تعلمه. قلت تعلمي هذا من عندك أحب الى من ان تعيش أترابي ويهلك الله عدوكم ، قال يا معلى يوم النيروز هو اليوم الذي أخذ الله تعالى فيه ميثاق العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وان يدينوا برسله وحججه وأوليائه ، وهو أول يوم طلعت فيه الشمس وهبت فيه الرياح اللواقح وخلقت فيه زهرة الأرض ، وهو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح (عليه‌السلام) على الجودي

__________________

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٨ من أبواب الصلوات المندوبة.

(٢) سورة البقرة. الآية ٢٤٤.

٢١٥

وهو اليوم الذي أحيا الله تعالى فيه القوم «الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ» (١) وهو اليوم الذي هبط فيه جبرئيل (عليه‌السلام) على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو اليوم الذي كسر فيه إبراهيم (عليه‌السلام) أصنام قومه ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمير المؤمنين (عليه‌السلام) على منكبه حتى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام وهشمها. الخبر بطوله». والشاهد في هذين الحديثين من وجوه : (الأول) ـ قوله (عليه‌السلام) «هو اليوم الذي أخذ الله تعالى فيه العهد بغدير خم» وهذا تأريخ وكان ذلك سنة عشر من الهجرة وحسب فوافق نزول الشمس الحمل في التاسع عشر من ذي الحجة على حساب التقويم ولم يكن الهلال رؤي في مكة ليلة الثلاثين فكان الثامن عشر على الرؤية (الثاني) ـ كون صب الماء في ذلك اليوم سنة شائعة ، والظاهر ان مثل هذه السنة العامة الشاملة لعامة المكلفين انما يكون صب الماء في وقت لا ينفر منه الطبع ويأباه ولا يتصور ذلك مع كون الشمس في الجدي لأنه في غاية القر في غالب البلاد الإسلامية (الثالث) ـ قوله (عليه‌السلام) في الحديث الثاني : «وهو أول يوم طلعت فيه الشمس» وهو مناسب لما قيل ان الشمس خلقت في الشرطين (الرابع) ـ قوله : «وخلقت فيه زهرة الأرض» وهذا انما يكون في الحمل دون الجدي وهو ظاهر» انتهى ما ذكره في المهذب.

ولا يخفى ما فيه على الفطن النبيه فإن إثبات الأحكام الشرعية بأمثال هذه الوجوه التخريجية الوهمية لا يخلو من مجازفة سيما مع ما فيها من الاختلال الذي لا يخفى على من خاض بحار الاستدلال وليس في التعرض لنقضها كثير فائدة مع ظهور الحال فيما ذكرناه ولا اعرف لذلك دليلا شرعيا ولا مستندا مرعيا غير مجرد اتفاق الناس على ذلك ، وقد أطال شيخنا المجلسي في البحار في بيان ما في جملة هذه الأقوال من الاختلال واعترض

__________________

(١) سورة البقرة. الآية ٢٤٤.

٢١٦

كلام المهذب ايضا بوجوه ليس هذا موضع ذكرها. والعلم عند الله سبحانه.

ومنها ـ غسل الجمعة ، وقد اختلف فيه الأصحاب (رضوان الله عليهم) فالمشهور استحبابه ، وقال الصدوق في الفقيه : غسل يوم الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر ، ثم قال وغسل يوم الجمعة سنة واجبة. وقال في الكافي : باب وجوب الغسل يوم الجمعة ، ثم أورد الأخبار المتضمنة للوجوب ، وبذلك نسب إليهما القول بالوجوب وفيه ما سيأتي بيانه في المقام ان شاء الله تعالى ، والى هذا القول مال شيخنا البهائي في الحبل المتين ونقل القول بالوجوب ايضا عن والد الصدوق ، والى هذا القول ذهب شيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني وأيده ونصره وصنف فيه رسالة.

ومنشأ هذا الخلاف اختلاف الاخبار ظاهرا ، وها نحن نبدأ أولا بذكر أخبار المسألة كملا كما هي قاعدتنا في الكتاب ثم نعطف الكلام ان شاء الله تعالى على تحقيق القول فيما يستفاد منها وما تجتمع عليه بوجه لا يزاحمه الاشكال ولا يتطرق اليه ان شاء الله تعالى الاختلال.

فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن محمد بن عبد الله بن المغيرة عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الغسل يوم الجمعة فقال واجب على كل ذكر وأنثى من عبد أو حر». ورواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن المغيرة عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) مثله (٢) وما رواه ثقة الإسلام عن منصور بن حازم في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «الغسل يوم الجمعة على الرجال والنساء في الحضر وعلى الرجال في السفر». ورواه في موضع آخر كذلك (٤) وزاد عليه «وليس على النساء في السفر». وقال (٥) : وفي رواية أخرى «ورخص للنساء في السفر لقلة الماء». وعن زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (٦)

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ٧ من أبواب الأغسال المسنونة.

٢١٧

في حديث قال : «الغسل واجب يوم الجمعة». ورواه الصدوق في الخصال في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «الغسل في يوم الجمعة واجب. الى تمام الخبر». وروى الصدوق في العلل في الصحيح عن محمد بن احمد بن يحيى رفعه (٢) قال : «غسل الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر إلا انه رخص للنساء في السفر لقلة الماء». وما رواه الكليني عن حريز في الحسن أو الصحيح عن بعض أصحابنا عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا بد من الغسل يوم الجمعة في السفر والحضر ومن نسي فليعد من الغد» قال «وروي فيه رخصة للعليل». وما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «اغتسل يوم الجمعة إلا ان تكون مريضا أو تخاف على نفسك». وعن علي بن يقطين في الصحيح (٥) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن النساء أعليهن غسل الجمعة؟ قال نعم». وما رواه الشيخ والصدوق عن سماعة بن مهران في الموثق (٦) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجمعة فقال واجب في السفر والحضر إلا انه رخص للنساء في السفر لقلة الماء». وهذه الاخبار هي أدلة القول بالوجوب كما ينادي به ظاهرها ، ومنها ـ ما رواه الشيخ عن علي بن يقطين في الصحيح (٧) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الغسل في يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال سنة وليس بفريضة». وعن زرارة في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (٨) قال : «سألته عن غسل يوم الجمعة؟ قال هو سنة في السفر والحضر إلا ان يخاف المسافر على نفسه القر». وعن علي (٩) ـ والظاهر انه ابن

__________________

(١) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٣ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٢ و ٤ و ٥ و ٧ و ٨ و ٩) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأغسال المسنونة.

٢١٨

أبي حمزة ـ قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل العيدين أواجب هو؟ قال هو سنة. قلت فالجمعة؟ قال هو سنة». وروى المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة مرسلا (١) قال : «روي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال : غسل الجمعة والفطر سنة في السفر والحضر».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان من ذهب من أصحابنا إلى الوجوب أخذ بظاهر الأخبار الأولة وأجاب عن الاخبار الأخيرة بحمل السنة فيها على ما ثبت وجوبه بالسنة ، قال شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث اختار هذا القول : «وأنت خبير بان الجمع بينها بحمل السنة على ما ثبت وجوبه بالسنة والفريضة على ما ثبت وجوبه بالكتاب غير بعيد ، وهو اصطلاح الصدوق في الفقيه كما يشعر به قوله : «الغسل كله سنة ما خلا غسل الجنابة» وهذا الذي اصطلح عليه ليس من مخترعاته بل ورد في كثير من الاخبار عن أئمتنا (عليهم‌السلام) كما رواه في التهذيب عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) بطرق عديدة «ان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة». قال الشيخ يريد ان فرضه عرف من جهة السنة لأن القرآن لا يدل على فرض غسل الميت ، وكما رواه عن سعد بن ابي خلف (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : الغسل في أربعة عشر موطنا واحد فريضة والباقي سنة». قال العلامة في المختلف : المراد بالسنة ما ثبت من جهة السنة لا من طريق القرآن. ولا حاصل ان إطلاق السنة على ذلك المعنى غير عزيز وحمل السنة عليه ليس بأبعد من حمل الوجوب في قوله (عليه‌السلام) : «الغسل واجب يوم الجمعة». وقوله (عليه‌السلام) «انه واجب على كل ذكر وأنثى من عبد أو حر». على المبالغة في الاستحباب ، ومنع كون الوجوب حقيقة شرعية في المعنى المصطلح عليه بين الفقهاء يأتي مثله في السنة ، وبهذا يظهر ان قول الصدوقين غير بعيد عن الصواب» انتهى. واما من ذهب الى القول

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب التيمم.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الجنابة.

٢١٩

بالاستحباب كما هو المشهور عملا بظاهر الأخبار الأخيرة من حمل السنة على معنى المستحب فإنه حمل الوجوب في الاخبار التي استند إليها الخصم على المعنى اللغوي أو تأكد الاستحباب لعدم ثبوت كون الوجوب عندهم (عليهم‌السلام) حقيقة في المعنى الاصطلاحي ، قال المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المنتقى ـ بعد ان نقل عن الشيخ حمل لفظ الوجوب في الاخبار على تأكد الاستحباب ـ ما صورته : «وكثيرا ما يذكر الشيخ هذا الكلام في تضاعيف ما يستعمل فيه هذا اللفظ وهو مطابق لمقتضى أصل الوضع وان كان المتبادر في العرف الآن خلافه ، فان العرف المقدم على اللغة هو الموجود في زمن الخطاب باللفظ ولا دليل على ان المعنى العرفي لهذا اللفظ كان متحققا في ذلك الوقت فيحمل على المعنى اللغوي. ويبقى الكلام في الخبر المتضمن للأمر بالاغتسال يوم الجمعة ولو قلنا بان الأمر في مثله يفيد الوجوب لاقتضت رعاية الجمع بينه وبين ما تضمن كون الغسل سنة ان يحمل على الندب» انتهى.

أقول : لا يخفى ان ما ذكره شيخنا البهائي في الحبل المتين من استعمال السنة فيما ثبت وجوبه بالسنة أكثر كثير في الاخبار ، ومنه ـ زيادة على ما ذكره من الخبرين ـ ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «ان الله عزوجل فرض الركوع والسجود والقراءة سنة فمن ترك القراءة متعمدا أعاد صلاته ومن نسي القراءة فقد تمت صلاته». ورواية الحسين بن النضر الأرمني الواردة في اجتماع الميت مع الجنب في السفر (٢) وفيها قال : «يغتسل الجنب ويترك الميت لان هذا فريضة وهذا سنة». ورواية التفليسي الواردة في ذلك ايضا (٣) حيث قال فيها «إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض». ومرسلة محمد بن عيسى الواردة في ذلك ايضا (٤) وفيها «لان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت سنة». وكذا ما ذكره المحقق المشار اليه من ان الوجوب

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب القراءة.

(٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ١٨ من أبواب التيمم.

٢٢٠