الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

فيها ، إذ من المعلوم منع ذلك من الدفن الذي هو الغرض المترتب عليها كما صرح به الأصحاب في نظائرها وحينئذ فيكون النهي للتحريم ، واما مجرد الصلاة في المقابر فحيث انها لا توجب منعا من التصرف فهي صحيحة وان كانت مكروهة من حيثية أخرى. ثم لا يخفى ان المراد بهذه الأراضي المذكورة ما هو أعم من ان تكون موقوفة على تلك الجهة الخاصة أو انها وجدت في تصرف المسلمين كذلك وان لم يعلم أصلها ولا كيفية أمرها ، فإن تصرف المسلمين واستمرار يدهم عليها موجب لكونها ملكا لهم من هذه الجهة فلا يجوز التصرف فيها بما ينافي الغرض المطلوب المترتب عليها ، اما لو كانت الأرض معلومة بأنها موات مباحة أو مملوكة قد أباحها المالك للمسلمين يتصرفون فيها بما أرادوا أو وقفها عليهم كذلك أو نحو ذلك فإنه خارج عن محل البحث.

واما ما يدل على جواز البناء بل استحبابه على قبور الأئمة (عليهم‌السلام) وجواز الصلاة بل استحبابها عند قبورهم فهي كثيرة مذكورة في كتاب المزار من كتاب البحار ، وعسى ان نبسط الكلام في ذلك في كتاب الصلاة ان شاء الله تعالى.

(الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب كراهية دفن اثنين في قبر واحد ابتداء ، واحتج عليه في المبسوط بقولهم (عليهم‌السلام) : «لا يدفن في قبر واحد اثنان». ولأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أفرد كل واحد بقبر (١) قالوا ومع الضرورة تزول الكراهة بأن يكثر الموتى ويعسر الافراد ، لما روى (٢) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال للأنصار يوم أحد : احفروا ووسعوا وعمقوا واجعلوا الاثنين والثلاثة في القبر الواحد وقدموا أكثرهم قرانا». هذا كله في الابتداء كما قدمناه ذكره.

واما لو دفن ميت في قبر فهل يجوز نبشه ودفن آخر معه؟ ظاهرهم التحريم ، قالوا لان القبر صار حقا للأول بدفنه فيه ، ولاستلزام النبش والهتك المحرمين ، قال في

__________________

(١) كما في المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ١٣٦.

(٢) رواه أبو داود في السنن ج ٣ ص ٢١٤ رقم ٣٢١٥.

١٤١

الذكرى : وعلى التحريم إجماع المسلمين قال : وقول الشيخ في المبسوط «يكره» الظاهر انه أراد التحريم لانه قال بعده «ولو حفر فوجد عظاما رد التراب ولم يدفن فيه شيئا» وناقش في هذا الحكم جملة من أفاضل متأخري المتأخرين منهم السيد السند (قدس‌سره) في المدارك مجيبا عما احتجوا به من تحريم النبش بان الكلام في إباحة الدفن نفسه لا النبش وأحدهما غير الآخر. وزاد في الذخيرة ان الظاهر ان مستند تحريم النبش الإجماع وإجراؤه في محل النزاع مما لا وجه له. وأجاب في المدارك ومثله في الذخيرة عن الدليل الآخر بالمنع من ثبوت حقية الأول بالدفن فيه على وجه يوجب منع دفن آخر ، ثم قال في المدارك بعد المناقشة المذكورة : هذا كله في غير السرداب اما فيه فيجوز مطلقا اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق.

أقول : وعندي في هذه المسألة بجميع شقوقها توقف إذ لم أقف على حديث يتعلق بشي‌ء من ذلك ، وما نقلوه من الاخبار لم أقف عليه في كتب الأخبار الواصلة إلينا ، والشيخ (رضوان الله عليه) وكذا الجماعة كثيرا ما يستندون في كتب الفروع الى الاخبار العامية ويبنون عليها ، وظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في الوسائل التشبث هنا في حكم دفن ميتين في قبر واحد بحديث الأصبغ المتقدم (١) بناء على بعض الاحتمالات المتقدمة فيه ، وقد عرفت ما في الخبر المذكور من الاشكال وتعدد الاحتمال الموجب لسقوطه عن درجة الاستدلال ، نعم ربما يستنبط من الدليل المتقدم (٢) الدال على النهي عن حمل ميتين على سرير واحد المنع ايضا من جعل ميتين في قبر واحد بل ربما كان هذا اولى لطول المقام في ذلك المكان ، ويؤيد ذلك باستمرار الأعصار من زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى يومنا هذا بالوحدة ابتداء واستدامة إلا إذا صار الميت رميما. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.

ثم ان جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) : منهم ـ الشهيدان في الذكرى

__________________

(١) ص ١٣٢.

(٢) ص ٨٢.

١٤٢

والروض تبعا للشيخ قد فرعوا على قوله في حديث أهل أحد : «وقدموا أكثرهم قرانا» فروعا لا فائدة في التطويل بذكرها مع عدم ثبوت أصل الحديث كما أشرنا إليه.

(الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تحريم النبش ، وقد ادعى على ذلك الإجماع جمع منهم كالمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والتذكرة والشهيد في الذكرى وقد استدل في كتاب الوسائل على تحريم النبش بالأخبار الواردة بقطع يد النباش (١) وفيه ان الظاهر من تلك الاخبار بحمل مطلقها على مقيدها ان القطع انما هو من حيث سرقة الكفن لا من حيث النبش ، ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عبد الله بن محمد الجعفي (٢) قال : «كنت عند ابي جعفر (عليه‌السلام) وجاءه كتاب هشام بن عبد الملك في رجل نبش امرأة فسلبها ثيابها ثم نكحها فان الناس قد اختلفوا علينا فطائفة قالوا اقتلوه وطائفة قالوا أحرقوه؟ فكتب إليه أبو جعفر (عليه‌السلام) : ان حرمة الميت كحرمة الحي تقطع يده لنبشه وسلبه الثياب ويقام عليه الحد في الزنا : ان أحصن رجم وان لم يكن أحصن جلد مائة». وفي رواية أبي الجارود عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء». ونحوهما غيرهما ، وعليهما يحمل ما أطلق مثل صحيحة حفص ابن البختري (٤) قال «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : حد النباش حد السارق». وفي رواية إسحاق بن عمار (٥) «ان عليا (عليه‌السلام) قطع نباش القبر فقيل له أتقطع في الموتى؟ فقال انا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا». وهو ظاهر في كون القطع انما هو للسرقة. وبالجملة فإني لا اعرف لذلك غير ما يدعى من الإجماع.

ثم ان الأصحاب قد استثنوا هنا صورا منها ما اتفق عليه ومنها ما اختلف فيه :

(الأولى) ـ إذا وقع في القبر ما له قيمة فإنهم صرحوا بجواز النبش للنهي عن إضاعة المال ، قالوا ولا يجب على مالكه قبول القيمة ، ولا فرق في ذلك بين القليل

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ١٩ من أبواب حد السرقة.

١٤٣

والكثير وان كره النبش لأجل القليل ، قال في الذكرى : وروى «ان المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم طلبه ففتح موضع منه فأخذه فكان يقول انا آخركم عهدا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)». أقول : لا ريب ان هذه الرواية عامية (١) وقد ورد في بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها عن علي (عليه‌السلام) تكذيبه في دعواه ذلك ، وهو الصواب فإن المغيرة بن شعبة وأمثاله من المنافقين في السقيفة يومئذ واين هم من حضور دفنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ ولكن أصحابنا (رضوان الله عليهم) يستلقون أمثال هذه الاخبار في مثل هذه الأحكام العارية عن نصوصهم (عليهم‌السلام).

(الثانية) ـ إذا دفن في الأرض المغصوبة أو المشتركة بغير اذن الشريك ، قالوا فان للمالك والشريك قلعه لتحريم شغل مال الغير وان ادى الى هتك الحرمة لأن حق الحي أولى وان كان الأفضل للمالك تركه خصوصا القرابة ، ولو دفن باذن المالك جاز له الرجوع ما لم يطم لا بعده.

(الثالثة) ـ إذا كفن في ثوب مغصوب جاز نبشه لتخليص المغصوب مع طلب المالك ، ولا يجب عليه أخذ القيمة. وفرق في المنتهى بين الأرض والكفن فقال بعد ان ذكر جواز النبش في الأرض المغصوبة : «اما لو غصب كفنا فكفن به ودفن لم يكن لصاحب الكفن قلعه وأخذ كفنه بل يرجع الى القيمة ، والفرق بينهما بتعذر

__________________

(١) كما في المهذب ج ١ ص ١٣٨ وفي السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٠٣ «وقيل آخر من طلع من قبره «ص» المغيرة بن شعبة لأنه ألقي خاتمه في القبر الشريف وقال لعلى «ع» يا أبا الحسن خاتمي وانما طرحته عمدا لامس رسول الله «ص» وأكون آخر الناس عهدا به قال انزل فخذه. وقيل القى الفأس في القبر. ويقال ان عليا «ع» لما قال له المغيرة ذلك نزل وناوله الخاتم أو الفأس أو أمر من نزل وناوله ذلك وقال له انما فعلت لتقول انا آخر الناس برسول الله «ص» عهدا. واعترض بأن المغيرة لم يكن حاضرا للدفن».

١٤٤

تقويم موضع الدفن وحصول الضرر به بخلاف الكفن» انتهى. ورده في الذكرى بضعف هذا الفرق قال : لإمكانه بإجارة البقعة زمانا يعلم بلى الميت فيه ، قال وأضعف منه الفرق بإشراف الثوب على الهلاك بالتكفين بخلاف الأرض لأن الفرض قيام الثوب. ثم احتمل في الذكرى في كل من الأرض والكفن تحريم النبش إذا ادى الى هتك الميت وظهور ما ينفر منه لما روي (١) «ان حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا». ولو كفن في حرير قيل هو كالمغصوب ، وقيل ان الاولى هنا المنع لان حق الله تعالى أوسع من حق الآدمي.

(الرابعة) ـ إذا بلي الميت وصار رميما قالوا فإنه يجوز نبشه لدفن غيره أو لمصلحة المالك المعير ، ويختلف ذلك باختلاف الترب والأهوية فلو ظنه رميما فنبش فوجد عظاما دفنها وجوبا ، قالوا ومتى علم صيرورته رميما لم يجز تصويره بصورة المقابر في الأرض المسبلة لأنه يمنع من الهجوم على الدفن فيها.

(الخامسة) ـ نبشه للشهادة على عينه وإثبات الأمور المترتبة على موته من اعتداد زوجته وقسمة تركته وحلول ديونه التي عليه ، قال في الذكرى : وهذا يتم إذا كان محصلا للعين ولو علم تغير الصورة حرم.

(السادسة) ـ إذا دفن بغير كفن أو صلاة أو غسل أو الى غير القبلة ، وقطع الشيخ في الخلاف بعدم النبش لأجل الغسل قال لانه مثلة ، ورجحه في المعتبر قال لان النبش مثلة فلا يستدرك الغسل بالمثلة ، ومال العلامة في التذكرة إلى نبشه إذا لم يؤد الى فساد لان الغسل واجب فلا يسقط بذلك وكذا في الدفن الى غير القبلة ، والى ما اختاره العلامة من النبش في الصورتين المذكورتين مال الفاضل الخراساني في الذخيرة ، وظاهرهم الاتفاق على عدم النبش في الكفن والصلاة ، قالوا لأن الصلاة تستدرك بالصلاة على قبره والكفن اغنى عنه الدفن لحصول الستر به.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٥١ من أبواب الدفن.

١٤٥

(السابعة) ـ إذا دفن في أرض ثم بيعت قال في المبسوط جاز للمشتري نقل الميت منها والأفضل تركه. ورده الفاضلان بتحريم النبش إلا ان تكون الأرض مغصوبة فيبيعها المالك. واعترضهما الفاضل الخراساني في الذخيرة بأن التعويل في تحريم النبش انما هو على الإجماع وهو لا يتم في محل النزاع. أقول : لقائل أن يقول ان خلاف معلوم النسب لا يقدح في الإجماع كما هو مذكور في قواعدهم. والمسألة بجميع شقوقها وفروعها لا تخلو عندي من الاشكال لعدم الدليل الواضح من اخبارهم (عليهم‌السلام) والله العالم.

(الرابعة) ـ قد صرحوا (رضوان الله عليهم) بأنه يحرم نقل الميت بعد دفنه الى موضع آخر ، لتحريم النبش واستدعائه الهتك ولو الى أحد المشاهد المشرفة ، ونقل العلامة في التذكرة جوازه إليها عن بعض علمائنا ، قال الشيخ (قدس‌سره) في النهاية «وإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله من موضعه ، وقد وردت رواية بجواز نقله الى بعض مشاهد الأئمة (عليهم‌السلام) سمعناها مذاكرة والأصل ما قدمناه» وقال ابن إدريس انه بدعة في شريعة الإسلام سواء كان النقل الى مشهد أو الى غيره ، وعن ابن حمزة القول بالكراهة ، ونقل بعض مشايخنا المتأخرين عن الشيخ وجماعة انهم جوزوا نقله الى المشاهد المشرفة. أقول : وبذلك يشعر كلامه في المبسوط حيث قال بعد الإشارة إلى ورود الرواية كما ذكره في النهاية : «والأول أفضل» فإن ظاهره الجواز وان كان خلاف الأفضل كما يدل عليه قول ابن حمزة ، وقال ابن الجنيد انه لا بأس بتحويل الموتى من الأرض المغصوبة ولصلاح يراد بالميت. وظاهره الجواز من غير كراهة في الصورتين المذكورتين.

أقول : والظاهر عندي هو الجواز (اما أولا) فلان مستند التحريم انما هو الإجماع لى تحريم النبش وهو غير ثابت في محل النزاع. و (اما ثانيا) فلما رواه الصدوق

١٤٦

في الفقيه (١) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) ان الله تبارك وتعالى اوحى الى موسى ابن عمران (عليه‌السلام) ان أخرج عظام يوسف (عليه‌السلام) من مصر ووعده طلوع القمر فأبطأ طلوع القمر عليه فسأل عمن يعلم موضعه فقيل له هنا عجوز تعلم علمه فبعث إليها فاتي بعجوز مقعدة عمياء فقال تعرفين قبر يوسف (عليه‌السلام)؟ قالت : نعم. قال فاخبريني بموضعه قالت لا افعل حتى تعطيني خصالا : تطلق رجلي وتعيد الي بصري وترد الي شبابي وتجعلني معك في الجنة. فكبر ذلك على موسى (عليه‌السلام) فأوحى الله عزوجل اليه انما تعطى علي فأعطاها ما سألت ففعل فدلته على قبر يوسف فاستخرجه من شاطئ النيل في صندوق مرمر فلما أخرجه طلع القمر فحمله الى الشام فلذلك يحمل أهل الكتاب موتاهم الى الشام». ومثله الأخبار الواردة في نقل نوح لعظام آدم (عليهما‌السلام) في تابوت إلى الغري ودفنه فيه (٢) والتقريب فيها ان الظاهر من نقلهم ذلك لشيعتهم وتقريرهم عليه جواز ذلك كما وقع في مواضع ، مثل حديث «ذكري حسن على كل حال» المروي عن موسى (عليه‌السلام) (٣). ومنها جعل المهر اجارة الزوج نفسه مدة كما حكاه الله تعالى عن موسى (عليه‌السلام) في تزويجه ابنة شعيب ، فإن أكثر الأصحاب على القول بذلك للآية الشريفة (٤) ونحو ذلك مما يقف عليه المتتبع ، وبذلك يظهر ما في قول بعض أفاضل متأخري المتأخرين من ان وقوع ذلك في شرع من قبلنا لا يدل على جوازه في شرعنا ، وبما ذكرناه ايضا صرح الفاضل المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه حيث قال : «والظاهر

__________________

(١) ج ١ ص ١٢٣ ورواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الدفن.

(٢) روى ذلك السيد ابن طاوس في فرحة الغري ص ٥٩ طبع المطبعة الحيدرية في النجف ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة ص ٣٨.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٧ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) سورة القصص. الآية ٢٧.

١٤٧

ان الغرض من نقل هذا الخبر جواز نقل الميت الى المشاهد المشرفة بل استحبابه كما ذهب إليه الأصحاب وعليه عملهم من زمان الأئمة إلى زماننا هذا» انتهى. وان كانت العبارة لا تخلو من سهو وتساهل في التعبير فان جواز النقل واستحبابه الذي ذهب إليه الأصحاب انما هو قبل الدفن كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى لا بعد الدفن لما عرفت من ان المشهور بينهم هو التحريم ، ومورد الخبر انما هو النقل بعد الدفن ، ولهذا ان بعضهم أنكر الاستدلال بالخبر المذكور وجعله مقصورا على شرع من قبلنا كما عرفت و (اما ثالثا) فلما نقل عن جملة من علمائنا من انهم دفنوا ثم نقلوا مثل الشيخ المفيد فإنه دفن في داره مدة ثم نقل الى جوار الإمامين الكاظمين (عليهما‌السلام) والسيد المرتضى فإنه دفن في داره ثم نقل الى جوار الحسين (عليه‌السلام) ونقل ايضا ان شيخنا البهائي دفن بأصبهان ثم نقل الى المشهد الرضوي على مشرفه السلام ، ومن الظاهر ان وقوع ذلك في تلك الأوقات المملوءة بالفضلاء لا يكون إلا بتجويزهم. و (اما رابعا) فإن الأصل هنا الجواز بل الاستحباب ، وبه يجب التمسك الى ان يقوم دليل المنع ، وليس إلا الإجماع المدعى على تحريم النبش وهو غير جار فيما نحن فيه.

هذا كله فيما لو كان بعد الدفن اما قبله فالظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في كراهة نقل الميت الى غير بلده إلا الى المشاهد المشرفة ، قال في المعتبر : «يكره نقل الميت الى غير بلد موته وعليه العلماء اجمع ، وقال علماؤنا خاصة يجوز نقله الى مشاهد الأئمة (عليهم‌السلام) بل يستحب ، اما الأول فلقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «. عجلوهم الى مضاجعهم.». وهو دليل على الاقتصار على المواضع القريبة المعهودة بالدفن ، واما الثاني فعليه عمل الأصحاب من زمن الأئمة (عليهم‌السلام) الى الآن وهو مشهور بينهم لا يتناكرونه ، ولانه يقصد بذلك التمسك بمن له أهلية الشفاعة وهو حسن بين الأحباء توصلا إلى فوائد الدنيا فالتوصل إلى فوائد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٧ من أبواب الاحتضار.

١٤٨

الآخرة أولى» انتهى. وعليه اقتصر في المدارك في الاستدلال على الحكم المذكور ونحوه في الذكرى ايضا وغيره في غيرها. أقول : وظاهر كلماتهم في هذا المقام يدل على عدم وقوفهم على دليل من الاخبار وإلا لنقلوه ولو تأييدا لهذه الأدلة العقلية باصطلاحهم كما هم عادتهم في جميع الأحكام.

والذي وقفت عليه مما يدل على النقل الى المواضع الشريفة للتبرك والتيمن لشرفها روايات : منها ـ ما رواه في الكافي بسنده عن علي بن سليمان (١) قال : «كتبت إليه أسأله عن الميت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل الى الحرم أيهما أفضل؟ فكتب يحمل الى الحرم ويدفن فهو أفضل». وما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن سليمان (٢) قال : «كتبت الى ابي الحسن (عليه‌السلام) اسأله عن الميت يموت بمنى أو بعرفات (الوهم منى).». ثم ذكر مثل الأول. وما رواه الديلمي في إرشاد القلوب (٣) والسيد عبد الكريم بن السيد احمد بن طاوس في كتاب فرحة الغري من حديث اليماني الذي قدم بأبيه على ناقة إلى الغري ، قال في الخبر : «انه كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) إذا أراد الخلوة بنفسه ذهب الى طرف الغري فبينما هو ذات يوم هناك مشرف على النجف فإذا رجل قد اقبل من اليمن راكبا على ناقة قدامه جنازة فحين رأى عليا (عليه‌السلام) قصده حتى وصل اليه وسلم عليه فرد عليه وقال من اين؟ قال من اليمن. قال وما هذه الجنازة التي معك؟ قال جنازة أبي لادفنه في هذه الأرض. فقال له علي (عليه‌السلام) لم لا دفنته في أرضكم؟ قال اوصى بذلك وقال انه يدفن هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال (عليه‌السلام) أتعرف ذلك الرجل؟ قال : لا. قال : انا والله ذلك الرجل (ثلاثا) فادفن مقام فدفنه». وفي مجمع البيان عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) في حديث قال : «لما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت الى

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٥ من أبواب مقدمات الطواف.

(٣) ص ٢٥٥.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الدفن.

١٤٩

ارض الشام فدفنه في بيت المقدس». ورواه الراوندي في كتاب قصص الأنبياء بإسناده الى الصدوق بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) مثله (١) ويعضده ما تقدم من حديثي نقل آدم ويوسف فإنه متى جاز بعد الدفن فقبله بطريق اولى.

وقال في الذكرى : ولو كان هناك مقبرة بها قوم صالحون أو شهداء استحب النقل إليها أيضا لتناله بركتهم. وهو حسن. أقول : ويؤيده ما رواه الكشي في كتاب اختيار الرجال (٢) عن العياشي قال : «سمعت علي بن الحسن يقول مات يونس بن يعقوب بالمدينة فبعث إليه أبو الحسن الرضا (عليه‌السلام) بحنوطه وكفنه وجميع ما يحتاج اليه وأمر مواليه وموالي أبيه وجده ان يحضروا جنازته وقال لهم هذا مولى لأبي عبد الله (عليه‌السلام) كان يسكن العراق ، وقال لهم احفروا له في البقيع فان قال لكم أهل المدينة انه عراقي ولا ندفنه في البقيع فقولوا لهم هذا مولى لأبي عبد الله (عليه‌السلام) وكان يسكن العراق فان منعتمونا ان ندفنه في البقيع منعناكم ان تدفنوا مواليكم في البقيع فدفن في البقيع.».

واما ما رواه في دعائم الإسلام عن علي (عليه‌السلام) (٣) ـ «انه رفع اليه ان رجلا مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة فأنهكهم عقوبة وقال ادفنوا الأجساد في مصارعها ولا تفعلوا كفعل اليهود تنقل موتاهم الى بيت المقدس ، وقال انه لما كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاها الى دورها فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مناديا فنادى ادفنوا الأجساد في مصارعها». ـ فأول ما فيه ان الكتاب المذكور غير معتمد ولا مشهور ، قال شيخنا المجلسي في البحار : «كتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهمون أنه تأليف الصدوق وقد ظهر لنا انه تأليف أبي حنيفة النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية وكان مالكيا أولا ثم اهتدى وصار إماميا

__________________

(١ و ٣) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الدفن.

(٢) ص ٢٤٥.

١٥٠

واخبار هذا الكتاب أكثرها موافق لما في كتبنا المشهورة لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق (عليه‌السلام) خوفا من الخلفاء الإسماعيلية ، وتحت سر التقية أظهر الحق لمن نظر فيه متعمقا ، واخباره تصلح للتأييد والتأكيد. إلى آخر كلامه» و (ثانيا) ـ انه يمكن حمله على حصول النقل من مسافة يوجب تغير الميت وانفجاره ، فقد صرح الشهيد الثاني بأنه يجب تقييد الحكم المذكور بما إذا لم يخف هتك الميت بانفجاره ونحوه لبعد المسافة أو غيرها. وهو جيد. ويمكن ان يقال ان الكوفة من حيث هي ليست من الأماكن التي يستحب النقل إليها مع منافاته للتعجيل المأمور به. وكيف كان فهذا الخبر ليس له قوة المعارضة لما ذكرناه. واما ما تضمنه من نهي الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن نقل قتلي أحد فهو مما صرح به الأصحاب أيضا فإنهم استثنوا من هذا الحكم الشهداء كما صرح به شيخنا المشار اليه وغيره ، قالوا فإن الأولى دفنه حيث قتل لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) : «ادفنوا القتلى في مصارعهم». وهذا الحديث ايضا شاهد به.

(الخامسة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب بتحريم شق الثوب الا على الأب والأخ فإنه جائز ، وظاهر إطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين الرجال والنساء ، وقيل بجواز ذلك للنساء مطلقا ، قال في الذكرى : وفي نهاية الفاضل يجوز شق النساء الثوب مطلقا وفي الخبر إيماء اليه. وأراد بالخبر ما يأتي من شق الفاطميات على الحسين (عليه‌السلام) وذهب ابن إدريس إلى التحريم مطلقا ولم يستثن أحدا ، قال في المدارك : «وفي رواية الحسن الصيقل (٢) «لا ينبغي الصراخ على الميت ولا شق الثياب». وهو ظاهر في الكراهة ومقتضى الأصل الجواز ان لم يثبت النهي عن إضاعة المال على وجه العموم» انتهى. وربما أشعر هذا الكلام بأنه لا دليل على التحريم من النصوص في خصوص هذا المقام إلا ان يثبت دليل على إضاعة المال على وجه العموم.

__________________

(١) رواه السيوطي في الجامع الصغير ج ١ ص ١٤.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٨٤ من أبواب الدفن.

١٥١

والذي وقفت عليه من النصوص المتعلقة بهذا المقام بالخصوص منها ما تقدم نقله عن المدارك من رواية الحسن الصيقل رواها في الكافي وفي الذكرى رواها عن الحسن الصفار والظاهر انه سهو من قلمه. ومنها ـ ما رواه في التهذيب قال : وذكر احمد بن محمد بن داود القمي في نوادره قال روى محمد بن عيسى عن أخيه جعفر بن عيسى عن خالد بن سدير أخي حنان بن سدير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل شق ثوبه على أبيه أو على امه أو على أخيه أو على قريب له؟ قال لا بأس بشق الجيوب فقد شق موسى بن عمران على أخيه هارون (عليهما‌السلام) ولا يشق الوالد على ولده ولا زوج على امرأته وتشق المرأة على زوجها ، وإذا شق الزوج على امرأته أو والد على ولده فكفارته حنث يمين ولا صلاة لهما حتى يكفرا أو يتوبا من ذلك ، وإذا خدشت المرأة وجهها أو جزت شعرها أو نتفته ففي جز الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وفي الخدش إذا دميت وفي النتف كفارة حنث يمين ، ولا شي‌ء في اللطم على الخدود سوى الاستغفار والتوبة ، ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليهما‌السلام) وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب». ومنها ـ ما رواه في الكافي بسنده عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسن الأفطس (٢) «أنهم حضروا يوم توفى محمد بن علي بن محمد باب ابي الحسن (عليه‌السلام) يعزونه ، الى ان قال إذ نظر الى الحسن بن علي (عليهما‌السلام) قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه. الحديث». وقال الصدوق (٣) «لما قبض علي بن محمد العسكري رؤي الحسن بن علي (عليهما‌السلام) قد خرج من الدار وقد شق قميصه من خلف ومن قدام». وروى الوزير السعيد علي بن عيسى الإربلي في كتاب كشف الغمة من كتاب الدلائل لعبد الله بن جعفر الحميري

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الكفارات.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٨٤ من أبواب الدفن.

١٥٢

عن ابي هاشم الجعفري (١) قال : «خرج أبو محمد في جنازة أبي الحسن (عليهما‌السلام) وقميصه مشقوق فكتب اليه ابن عون من رأيت أو بلغك من الأئمة (عليهم‌السلام) شق قميصه في مثل هذا؟ فكتب إليه أبو محمد (عليه‌السلام) : يا أحمق وما يدريك ما هذا؟ قد شق موسى بن عمران على هارون». وروى مثل ذلك الكشي في كتاب الرجال (٢) إلا ان فيه «فكتب إليه أبو عون الأبرش».

أقول : لا يخفى ان الظاهر من قوله (عليه‌السلام) في رواية الحسن الصيقل : «لا ينبغي» بمعونة ما نقلناه عن التهذيب انما هو التحريم (اما أولا) فلان استعمال هذا اللفظ في التحريم شائع في الأخبار كما عرفت في غير موضع من هذا الكتاب. و (اما ثانيا) فلان الظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب ان الصراخ محرم وانما الجائز النوح بالصوت المعتدل والقول بحق ، فكذا يجب القول في الشق والا لزم استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو حقيقته ومجازه وهم لا يقولون به ، ويخرج خبر خالد بن سدير المتضمن لإيجاب الكفارة على الزوج في الشق على زوجته والوالد على ولده شاهدا على ذلك ، وبه يظهر صحة ما ذكره الأصحاب من الحكم المذكور وان حمله في المدارك الرواية المشار إليها على الكراهة من حيث ان لفظ «لا ينبغي» في عرف الناس بمعنى الكراهة ليس بجيد. نعم قد دلت رواية خالد بن سدير على استثناء شق المرأة على زوجها زيادة على ما ذكره الأصحاب من الشق على الأب والأخ فيجب القول به. واما ما يدل على الشق على الأب والأخ فهو فعل الامام الحسن العسكري على أبيه وأخيه (عليهم‌السلام) وفعل موسى بن عمران على أخيه هارون (عليهما‌السلام) وفي استدلاله (عليه‌السلام) واحتجاجه على من لأمه في الشق بشق موسى على أخيه هارون ما يؤيد ما قدمناه من ان ما يحكونه عن الأنبياء السابقين يكون حجة ودليلا للحكم في شريعتنا ما لم يعلم الاختصاص ، ومثله حديث خالد بن سدير واستدلال الصادق (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٨٤ من أبواب الدفن.

١٥٣

بشق موسى بن عمران على أخيه هارون. والله العالم.

(المقصد الخامس)

في التعزية وما يتبعها ، والعزاء ممدودا : الصبر ، والتعزية تفعلة من العزاء ، وعزيته تعزية قلت له أحسن الله تعالى عزاءك اي رزقك الصبر الجميل ، والمراد بها طلب التسلي عن المصيبة بإسناد الأمر إلى قضاء الله وقدره وذكر ما وعد الله تعالى على ذلك من الأجر والثواب ، وأقل مراتبها ان يراه صاحب المصيبة لما رواه في الفقيه مرسلا (١) قال : وقال (عليه‌السلام) : «كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة».

والبحث في هذا المقصد يقع في مقامات : (الأول) ـ قد استفاضت الاخبار باستحباب التعزية ، فروى في الكافي عن وهب بن وهب عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من عزى مصابا كان له مثل اجره من غير ان ينتقص من أجر المصاب شي‌ء». وعن ابي الجارود عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان فيما ناجى به موسى ربه قال يا رب ما لمن عزى الثكلى؟ قال أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي». وعن علي بن عيسى بن عبد الله العمري عن أبيه عن جده عن أبيه (٤) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) من عزى الثكلى اظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله». وعن إسماعيل الجزري عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبى بها». وعن السكوني عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) (٦) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبر بها». وروى هذين

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٨ من أبواب الدفن.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٤٦ من أبواب الدفن.

١٥٤

الخبرين الأخيرين الصدوق في الفقيه (١) مرسلين قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخرهما». وروى الصدوق في المجالس والعيون بسنده عن محمد بن علي عن أبيه الرضا عن موسى بن جعفر (عليهم‌السلام) (٢) قال : «رأى الصادق (عليه‌السلام) رجلا قد اشتد جزعه على ولده فقال يا هذا جزعت للمصيبة الصغرى وغفلت عن المصيبة الكبرى لو كنت لما صار اليه ولدك مستعدا لما اشتد عليه جزعك فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك». وروى المشايخ الثلاثة في أصولهم والصدوق في ثواب الأعمال عن رفاعة بن موسى النخاس عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) «انه عزى رجلا بابن له فقال له الله خير لابنك منك وثواب الله خير لك منه فلما بلغه جزعه عليه عاد اليه فقال له قد مات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فما لك به أسوة؟ فقال انه كان مراهقا فقال ان امامه ثلاث خصال : شهادة ان لا إله إلا الله ورحمة الله وشفاعة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلن تفوته واحدة منهن ان شاء الله تعالى» قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في البحار : قوله (عليه‌السلام) : «الله خير لابنك منك». أقول : لما كان الغالب ان الحزن على الأولاد يكون لتوهم أمرين باطلين : (أحدهما) انه على تقدير وجود الولد يصل النفع من الوالد اليه وان هذه النشأة خير له من النشأة الأخرى والحياة خير له من الموت فأزال (عليه‌السلام) وهمه بان الله سبحانه ورحمته خير لابنك منك ومما تتوهمه من نفع توصله اليه على تقدير الحياة والموت مع رحمة الله خير من الحياة. و (ثانيهما) ـ توقع النفع منه مع حياته أو الاستئناس به فأبطل (عليه‌السلام) ذلك بان ما عوضك الله تعالى من الثواب على فقده خير لك من كل نفع توهمته أو قدرته في حياته. قوله : «فعاد اليه» يفهم منه استحباب المعاودة وتكرار التعزية

__________________

(١) ج ١ ص ١١٠ وفي الوسائل في الباب ٤٦ من أبواب الدفن.

(٢) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٦٨ من أبواب الدفن.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٩ من أبواب الدفن.

١٥٥

مع بقاء الجزع. قوله : «انه كان مراهقا» في بعض النسخ كما في الكافي «مرهقا» فهو على بناء المجهول من باب التفعيل أو من الأفعال ، قال في النهاية : الرهق : السفه وغشيان المحارم وفيه فلان مرهق اي متهم بسوء وسفه. وفي القاموس الرهق محركة : السفه والنوك والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم ، والمرهق كمكرم : من أدرك ، وكمعظم : الموصوف بالرهق أو من يظن به السوء. انتهى. والمراد ان حزني ليس بسبب فقده بل بسبب انه كان يغشى المحارم. انتهى ملخصا. وروى في الكافي عن علي بن مهزيار (١) قال : «كتب أبو جعفر (عليه‌السلام) الى رجل ذكرت مصيبتك بعلي ابنك وذكرت انه كان أحب ولدك إليك وكذلك الله انما يأخذ من الولد وغيره ازكى ما عند اهله ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة فأعظم الله تعالى أجرك وأحسن عزاءك وربط على قلبك انه قدير وعجل الله تعالى عليك بالخلف وأرجو ان يكون الله تعالى قد فعل ان شاء الله تعالى». وروى في الفقيه مرسلا (٢) قال : «اتى أبو عبد الله (عليه‌السلام) قوما قد أصيبوا بمصيبة فقال : جبر الله وهنكم وأحسن عزاءكم ورحم متوفا كم ثم انصرف».

وفي المقام فوائد (الأولى) ـ قد عرفت معنى التعزية فيما تقدم وهي جائزة قبل الدفن وبعده لما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن هشام بن الحكم (٣) قال : «رأيت موسى بن جعفر (عليه‌السلام) يعزى قبل الدفن وبعده». ويحتمل انه (عليه‌السلام) جمع بين الأمرين في مصيبة واحدة. والأفضل كونها بعد الدفن كما هو المشهور لما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن». وعن احمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «التعزية

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٩ من أبواب الدفن.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٧ من أبواب الدفن.

(٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٤٨ من أبواب الدفن.

١٥٦

الواجبة بعد الدفن». أقول : الوجوب هنا اما بالمعنى اللغوي أو لتأكيد الاستحباب. وروى في الفقيه مرسلا (١) قال : «قال (عليه‌السلام) التعزية الواجبة بعد الدفن ، وقال كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة». وروى في الكافي عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «ليس التعزية إلا عند القبر ثم ينصرفون لا يحدث في الميت حدث فيسمعون الصوت». قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : «يعني ان التعزية تحصل بالاجتماع الذي يقع عند القبر فينبغي للناس بعد ما فرغوا من الدفن ان يعجلوا في الانصراف ولا يلبثوا هناك للتعزية لئلا يحدث في الميت حدث في قبره من عذاب أو صيحة فيسمعوا الصوت ويفزعوا من ذلك ويكرهوه» انتهى.

(الثانية) ـ هل لها حد معين أم لا؟ قال في المبسوط : الجلوس للتعزية يومين أو ثلاثة أيام مكروه إجماعا. وأنكر هذا القول ابن إدريس فقال بعد نقل كلام الشيخ المذكور : «قال محمد بن إدريس لم يذهب أحد من أصحابنا المصنفين الى ذلك ولا وصفه في كتابه وانما هذا من فروع المخالفين وتخريجاتهم ، وأي كراهة في جلوس الإنسان في داره للقاء إخوانه والدعاء لهم والتسليم عليهم واستجلاب الثواب لهم في لقائه وعزائه» انتهى وانتصر في المعتبر للشيخ فقال بعد نقل ملخص كلام ابن إدريس : «والجواب ان الاجتماع والتزاور من حيث هو مستحب اما لو جعل لهذا الوجه واعتقد شرعيته فإنه يفتقر إلى الدلالة ، والشيخ استدل بالإجماع على كراهيته إذ لم ينقل عن أحد من الصحابة والأئمة (عليهم‌السلام) الجلوس لذلك فاتخاذه مخالفة لسنة السلف لكن لا يبلغ ان يكون حراما» انتهى. وظاهر شيخنا الشهيد في الذكرى الانتصار لابن إدريس حيث قال : ولا حد لزمانها عملا بالعموم نعم لو أدت التعزية إلى تجديد حزن قد نسي كان تركها اولى ، ويمكن القول بثلاثة أيام لنقل الصدوق عن الباقر (عليه‌السلام) (٣)

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٨ من أبواب الدفن.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٦٧ من أبواب الدفن.

١٥٧

«يصنع للميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات». ونقل عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمر فاطمة (عليها‌السلام) ان تأتي أسماء بنت عميس ونساؤها وان تصنع لهم طعاما ثلاثة أيام فجرت بذلك السنة». قال وقال الصادق (عليه‌السلام) (٢) «ليس لأحد ان يحد أكثر من ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها حتى تقضي عدتها». قال (٣) : «واوصى أبو جعفر (عليه‌السلام) بثمانمائة درهم لمأتمه وكان يرى ذلك من السنة لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمر باتخاذ الطعام لآل جعفر». وفي كل هذا إيماء الى ذلك. والشيخ أبو الصلاح قال : من السنة تعزية أهله ثلاثة أيام وحمل الطعام إليهم. ثم نقل كلام الشيخ في المبسوط وملخص كلام ابن إدريس عليه وكلام المعتبر على ابن إدريس ، ثم قال في الرد على كلام المعتبر : قلت الأخبار المذكورة مشعرة به فلا معنى لاعتراضه حجة التزاور وشهادة الإثبات مقدمة ، إلا ان يقال لا يلزم من عمل المأتم الجلوس للتعزية بل هو مقصور على الاهتمام بأمور أهل الميت لاشتغالهم بحزنهم ، لكن اللغة والعرف بخلافه ، قال الجوهري : «المأتم : النساء يجتمعن قال وعند العامة المصيبة» وقال غيره «المأتم : المناحة» وهما مشعران بالاجتماع. انتهى ما ذكره في الذكرى في هذا المقام. وهو جيد. والى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين بل الظاهر انه هو المشهور.

(الثالثة) ـ قال في المنتهى : «ويستحب التعزية لجميع أهل المصيبة كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم عملا بالعموم ، وينبغي ان يخص أهل العلم والفضل والخير والمنظور إليهم من بينهم يميز به ليتأسى به غيره والضعيف عن تحمل المصيبة لحاجته إليها ، ولا ينبغي ان يعزى النساء الأجانب خصوصا الشواب بل تعزيهم نساء مثلهم» انتهى.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦٧ من أبواب الدفن.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٨٢ من أبواب الدفن.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٦٨ من أبواب الدفن.

١٥٨

أقول : وفي الفقه الرضوي (١) قال : «وعز وليه فإنه روى عن الصادق (عليه‌السلام) انه قال : من عزى أخاه المؤمن كسي في الموقف حلة ، الى ان قال (عليه‌السلام) وان كان المعزى يتيما فامسح يدك على رأسه فقد روي ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال من مسح يده على رأس يتيم ترحما له كتب الله له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة. وان وجدته باكيا فسكته بلطف ورفق فاني اروي عن العالم (عليه‌السلام) انه قال إذا بكى اليتيم اهتز له العرش فيقول الله تبارك وتعالى من ذا الذي أبكى عبدي الذي سلبته أبويه في صغره وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا يسكته عبد مؤمن إلا وجبت له الجنة».

(الرابعة) ـ الأفضل في التعزية ما هو المأثور عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) مما تقدم في رواية رفاعة بن موسى ورواية علي بن مهزيار ومرسلة الفقيه (٢) وروى شيخنا الشهيد الثاني في كتاب مسكن الفؤاد عن ابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده (عليهم‌السلام) (٣) قال : «لما توفي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جاء جبرئيل والنبي مسجى وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم‌السلام) فقال السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... الآية» (٤) ألا ان في الله عزوجل عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا لما فات فبالله عزوجل فثقوا وإياه فارجوا فان المصاب من حرم الثواب وهذا آخر وطئي من الدنيا». وعن جابر بن عبد الله (رضي‌الله‌عنه) (٥) قال : «لما توفي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص فقالوا السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ان في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا عن كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا وانما المحروم من حرم الثواب والسلام

__________________

(١) ص ١٨.

(٢) ص ١٥٥ و ١٥٦.

(٣ و ٥) رواه في البحار ج ١٨ ص ٢١٣.

(٤) سورة آل عمران. الآية ١٨٢.

١٥٩

عليكم ورحمة الله وبركاته». وروى الخبر الأول في الكافي عن الحسين بن المختار عنه (عليه‌السلام) (١) والخبر الثاني عن زيد الشحام عنه (عليه‌السلام) (٢).

(المقام الثاني) ـ لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في استحباب الإطعام عن أصحاب المصيبة ثلاثة أيام ، وعلى ذلك دلت جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «لما قتل جعفر بن ابي طالب أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فاطمة ان تتخذ طعاما لأسماء بنت عميس ثلاثة أيام وتأتيها ونساؤها وتقيم عندها ثلاثة أيام فجرت بذلك السنة ان يصنع لأهل المصيبة طعام ثلاثا». ورواه الصدوق مرسلا (٤) الى قوله «فجرت بذلك السنة». وفي الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٥) قال : «يصنع لأهل الميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات». ورواه البرقي في المحاسن في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٦) وفي متنه قال : «يصنع للميت الطعام للمأتم ثلاثة أيام بيوم مات فيه». وعن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٧) قال : «ينبغي لجيران صاحب المصيبة أن يطعموا الطعام عنه ثلاثة أيام». ورواه الصدوق بإسناده عن ابي بصير مثله (٨) وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن مرازم (٩) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لما قتل جعفر بن ابي طالب دخل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على أسماء بنت عميس ، الى ان قال فقال اجعلوا لأهل جعفر طعاما فجرت السنة إلى اليوم». وعن العباس بن موسى بن جعفر عن أبيه (عليه‌السلام) (١٠) «انه سأله عن المأتم فقال ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال ابعثوا الى أهل جعفر طعاما فجرت السنة إلى اليوم». وعن عمر بن علي بن الحسين (عليه‌السلام) (١١) قال :

__________________

(١ و ٢) ج ١ ص ٦٠.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١) رواه في الوسائل في الباب ٦٧ من أبواب الدفن.

١٦٠