الحدائق الناضرة - ج ٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٩

يطرح التراب على الميت فيمسكه ساعة في يده ثم يطرحه ولا يزيد على ثلاثة أكف ، قال فسألته عن ذلك فقال يا عمر كنت أقول : «إيمانا بك وتصديقا ببعثك هذا ما وعدنا الله ورسوله. الى قوله وتسليما» هكذا كان يفعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبه جرت السنة». وعن السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا حثوت التراب على الميت فقل «ايمانا بك وتصديقا ببعثك هذا ما وعدنا الله ورسوله» قال وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول من حثا على ميت وقال هذا القول أعطاه الله تعالى بكل ذرة حسنة». وعن محمد بن مسلم (٢) قال : «كنت مع ابي جعفر (عليه‌السلام) في جنازة رجل من أصحابنا فلما ان دفنوه قام الى قبره فحثا عليه مما يلي رأسه ثلاثا بكفه ثم بسط كفه على القبر ثم قال : اللهم جاف الأرض عن جنبيه واصعد إليك روحه ولقه منك رضوانا واسكن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة من سواك. ثم مضى». وروى الشيخ عن محمد بن الأصبغ عن بعض أصحابنا (٣) قال : «رأيت أبا الحسن (عليه‌السلام) وهو في جنازة فحثا التراب على القبر بظهر كفيه». وفي الفقه الرضوي (٤) «ثم احث التراب عليه بظهر كفيك ثلاث مرات وقل : «اللهم ايمانا بك وتصديقا بكتابك (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ)» فإنه من فعل ذلك وقال هذه الكلمة كتب الله له بكل ذرة حسنة». ويستفاد من الخبرين الأخيرين كون الإهالة بظهر الكفين وبه صرح جملة من الأصحاب أيضا ، وظاهر الاخبار الأخر كونها ببطن الكفين ولا سيما صحيحة عمر بن أذينة المتضمنة لأنه (عليه‌السلام) كان يمسكه في يده ساعة ، والظاهر التخيير جمعا. ثم ان ظاهر الاخبار المذكورة ان الثلاث أقل المراتب المستحبة.

واما ما يدل على كراهية الدفن بغير تراب القبر فهو ما رواه في الفقيه مرسلا (٥)

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٩ من أبواب الدفن.

(٤) ص ١٨.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الدفن.

١٢١

قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر فهو ثقل على الميت». وعن السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى ان يزاد على القبر تراب لم يخرج منه». وعن ابن الجنيد لا يزاد من غير ترابه وقت الدفن ولا بأس بذلك بعد الدفن.

ويكره إهالة ذي الرحم لما في الكافي في الموثق عن عبيد بن زرارة (٢) قال : «مات لبعض أصحاب ابي عبد الله (عليه‌السلام) ولد فحضر أبو عبد الله فلما الحد تقدم أبوه فطرح عليه التراب فأخذ أبو عبد الله (عليه‌السلام) بكفيه وقال لا تطرح عليه التراب ومن كان منه ذا رحم فلا يطرح عليه التراب فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى ان يطرح الوالد أو ذو رحم على ميته التراب ، فقلنا يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتنهانا عن هذا وحده؟ فقال انها كم من ان تطرحوا التراب على ذوي أرحامكم فإن ذلك يورث القسوة في القلب ومن قسا قلبه بعد من ربه». قال في الوافي : «عن هذا وحده اي عن هذا الميت وحده ان نطرح عليه التراب أو عن طرح التراب وحده دون سائر ما يتعلق بالتجهيز فأجاب (عليه‌السلام) بالتعميم في الأول والتخصيص في الثاني فصار جوابا لكلا السؤالين أراد السائل ما أراد» انتهى.

(المطلب الثالث) ـ في الآداب المتأخرة ، ومنها ـ ان يكون القبر مربعا مسطحا ، وان يرفع عن الأرض قدر أربع أصابع مفرجات كما في بعض الأخبار أو مضمومات كما في آخر ، وفي بعضها قدر شبر وهو يؤيد الأول ، ومن ذلك اختلفت كلمة الأصحاب أيضا فالمفيد (قدس‌سره) أربع أصابع مفرجات لا أزيد من ذلك ، وابن ابي عقيل مضمومات ، وابن زهرة وابن البراج خيرا بين أربع أصابع مفرجات وبين شبر ، وان يرشه بالماء.

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الدفن.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الدفن.

١٢٢

ومما يدل على استحباب التربيع ما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أحدهما (عليهما‌السلام) عن الميت؟ فقال يسل من قبل الرجلين ويلزق القبر بالأرض إلا قدر أربع أصابع مفرجات ويربع قبره». إلا ان في الكافي روى هذه الرواية (٢) وفيها بعد قوله «مفرجات» «ترفع قبره» وما تقدم في خبر الأعمش (٣) من قوله (عليه‌السلام) : «. والقبور تربع ولا تسنم». وما رواه في العلل عن الحسين بن الوليد عمن ذكره عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت لأي علة يربع القبر؟ قال لعلة البيت لانه نزل مربعا».

وأما التسطيح فقال في الذكرى : «وليكن مسطحا بإجماعنا نقله الشيخ ، لان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سطح قبر ابنه إبراهيم (٥) وقال القاسم بن محمد : «رأيت قبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والقبرين عنده مسطحة لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» (٦). ولان التربيع يدل على التسطيح ، ولان قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة مسطحة (٧) وهو يدل على انه أمر متعارف ، واحتج الشيخ أيضا في الخلاف بما رواه أبو الهياج (٨) قال : «قال علي (عليه‌السلام) أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا ترى قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته». وفيه أيضا دلالة على عدم رفعه كثيرا ، وفي خبر زرارة وجابر عن الباقر (عليه‌السلام) (٩) «وسوى قبره» «وسوى عليه» دليل على التسطيح» انتهى. أقول : الظاهر ان

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٢٢ من أبواب الدفن.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الدفن.

(٥ و ٧) كما في الأم للشافعي ج ١ ص ٢٤٢.

(٦) كما في سنن ابى داود ج ٣ ص ٢١٥.

(٨) كما في صحيح مسلم ج ١ ص ٣٥٧ وسنن ابى داود ج ٣ ص ٢١٥ رقم ٣٢١٨.

(٩) الأول جملة من خبر زرارة والثاني من خبر جابر ، وقد روى الأول في الوسائل في الباب ٣٣ والثاني في الباب ٣٥ من أبواب الدفن.

١٢٣

التسطيح لما كان مجمعا عليه بين الإمامية (نور الله تعالى مراقدهم) حتى ان جمعا من العامة صرحوا بنسبته إليهم وعدلوا عنه مراغمة لهم كما في المنتهى (١) وأوضحناه بما لا مزيد عليه في سلاسل الحديد ، والشيخ ومن تبعه لم يقفوا عليه في نصوص أهل البيت (عليهم‌السلام) تكلفوا له بهذه الأدلة التي لفقها شيخنا المشار اليه هنا ، والأصل فيها بعد الإجماع المذكور انما هو ما ذكره (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي حيث قال «والسنة ان القبر يرفع أربع أصابع مفرجة من الأرض وان كان أكثر فلا بأس ويكون مسطحا لا مسنما». انتهى. والظاهر ان علي بن بابويه ذكر ذلك في الرسالة على الطريقة المعهودة آنفا وتبعه الجماعة في ذلك كما عرفت في غير موضع مما تقدم ويأتي ان شاء الله تعالى ، والظاهر ان المراد من قوله (عليه‌السلام) : «وان كان أكثر» أي إلى شبر كما ورد مما سيأتي ذكره في المقام ان شاء الله تعالى.

واما رفعه عن الأرض بالقدر المذكور من الاختلاف فيه فالذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما في رواية محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «. ويرفع القبر فوق الأرض أربع أصابع». وموثقة سماعة عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال :

__________________

(١) في الوجيز للغزالى ج ١ ص ٤٧ «التسنيم أفضل من التسطيح مخالفة لشعار الروافض» وفي كتاب رحمة الأمة على هامش الميزان للشعرانى ج ١ ص ٨٨ «ان السنة تسطيح القبور ولما صار شعار الرافضة كان الاولى مخالفتهم الى التسنيم» وفي المهذب للشيرازي ج ١ ص ٢٧ «قال أبو على الطبري في زماننا يسنم القبر لان التسطيح من شعار الرافضة. ولا يصح لأن السنة قد صحت فيه فلا يعتبر بموافقة الرافضة» وفي المنهاج للنووي ص ٢٥ «الصحيح ان تسطيح القبر اولى من تسنيمه» وفي الأم للشافعي ج ١ ص ٢٤٢ «ويسطح القبر فإن النبي «ص» سطح قبر ابنه إبراهيم وكانت مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحا قبورها ووضع الحصباء عليها ولا تثبت الحصباء الا على قبر مسطح» وفي مسند الشافعي على هامش الام ج ٦ ص ٢٦٦ وشرح المنهاج لابن حجر ج ١ ص ٥٦٠ مثله.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الدفن.

١٢٤

«. ويرفع قبره من الأرض أربع أصابع مضمومة وينضح عليه الماء ويخلى عنه». ورواية إبراهيم بن علي عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «ان قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رفع شبرا من الأرض وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمر برش القبور». ورواية محمد بن مسلم المتقدمة وفيها «أربع أصابع مفرجات». ورواية عقبة بن بشير عن مولانا الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعلي : يا علي ادفني في هذا المكان وارفع قبري من الأرض أربع أصابع ورش عليه الماء». وصحيحة حماد ابن عثمان أو حسنته عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان ابي قال لي ذات يوم في مرضه إذا أنا مت فغسلني وكفني وارفع قبري أربع أصابع ورشه بالماء.». ورواية الحلبي (٤) في حديث قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان ابي أمرني ان ارفع القبر من الأرض أربع أصابع مفرجات وذكر ان رش القبر بالماء حسن». وصحيحة الحلبي ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «أمرني ابي ان أجعل ارتفاع قبره أربع أصابع مفرجات وذكر ان الرش بالماء حسن. الحديث». وقد تقدمت عبارة كتاب الفقه وفيها «أربع أصابع مفرجة» وحمل في الذكرى اختلاف الاخبار على التخيير ، وهو جيد ، ثم قال ولما كان المقصود من رفع القبر ان يعرف ليزار ويحترم كان مسمى الرفع كافيا. واما الرش فقد عرفته مما دلت عليه الاخبار المذكورة ، بقي الكلام في كيفيته والأفضل فيها ما ورد في رواية موسى بن أكيل ـ بضم الهمزة وفتح الكاف ـ النميري عن الصادق (عليه‌السلام) (٦) قال : «السنة في رش الماء على القبر ان يستقبل القبلة ويبدأ من عند الرأس إلى عند الرجل ثم يدور على القبر من الجانب الآخر ثم يرش على وسط القبر فكذلك السنة». قال مولانا الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (٧) «فإذا استوى قبره فصب عليه ماء وتجعل القبر امامك وأنت مستقبل القبلة وتبدأ

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الدفن.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ٣٢ من أبواب الدفن.

(٧) ص ١٨.

١٢٥

بصب الماء من عند رأسه وتدور به على القبر من اربع جوانب القبر حتى ترجع إلى الرأس من غير ان تقطع الماء فان فضل من الماء شي‌ء فصبه على وسط القبر». وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه من غير اسناد الى أحد. وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في رش الماء على القبر؟ قال يتجافى عنه العذاب ما دام الندى في التراب».

ومنها ـ ان يضع يده على القبر بعد ذلك مستقبل القبلة داعيا بالمأثور ، روى في الكافي في الصحيح عن زرارة (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا فرغت من القبر فانضحه ثم ضع يدك عند رأسه وتغمز كفك عليه بعد النضح». وقد تقدم في رواية محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «ثم بسط كفه على القبر ثم قال : اللهم جاف الأرض عن جنبيه. الى آخر الدعاء». وفي كتاب الفقه الرضوي (٤) على اثر العبارة المتقدمة في الرش «ثم ضع يدك على القبر وأنت مستقبل القبلة وقل : اللهم ارحم غربته وصل وحدته وآنس وحشته وآمن روعته وأفض عليه من رحمتك واسكن إليه من برد عفوك وسعة غفرانك ورحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك واحشره مع من كان يتولاه. ومتى ما زرت قبره فادع له بهذا الدعاء وأنت مستقبل القبلة ويداك على القبر». وروى في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٥) قال : «قلت لأبي الحسن الأول (عليه‌السلام) ان أصحابنا يصنعون شيئا : إذا حضروا الجنازة ودفن الميت لم يرجعوا حتى يمسحوا أيديهم على القبر أفسنة ذلك أم بدعة؟ فقال ذلك واجب على من لم يحضر الصلاة عليه». وعن محمد بن إسحاق (٦) قال : «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) شي‌ء يصنعه الناس عندنا : يضعون أيديهم على القبر إذا دفن الميت؟ قال انما ذلك لمن لم يدرك الصلاة عليه فاما من أدرك الصلاة عليه فلا». وفي الكافي

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٢ من أبواب الدفن.

(٣) ص ١٢١.

(٤) ص ١٨.

(٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الدفن.

١٢٦

في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئا لا يصنعه بأحد من المسلمين كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء وضع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه اثر كف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيقول من مات من آل محمد؟». وعن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (٢) قال : «سألته عن وضع الرجل يده على القبر ما هو ولم يصنع؟ فقال صنعه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ابنه بعد النضح. قال وسألته كيف أضع يدي على قبور المسلمين. فأشار بيده الى الأرض ووضعها عليها ثم رفعها وهو مقابل القبلة». قال شيخنا في الذكرى بعد إيراد خبر زرارة الثاني ومحمد بن إسحاق : «وليس في هاتين مخالفة للأول لأن الوجوب على من لم يحضر الصلاة لا ينافي الاستحباب لغيره ، والمراد به انه يستحب مؤكدا لغير الحاضر للصلاة عليه ولهذا لم يذكر الوجوب في الخبر الآخر فهو وان كان مستحبا للحاضر لكنه غير مؤكد. واخبار الراوي عن عمل الأصحاب حجة في نفسه وتقرير الامام (عليه‌السلام) يؤكده ، وفعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حجة فليتأس به وتخصيص بني هاشم لكرامتهم عليه» انتهى. وهو جيد. إلا انه نقل شيخنا المجلسي في البحار عن العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم قال : «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان إذا مات رجل من أهل بيته يرش قبره ويضع يده على قبره ليعرف انه قبر العلوية وبني هاشم من آل محمد فصارت بدعة في الناس كلهم ولا يجوز ذلك». وهو غريب ، والعجب ان شيخنا المشار اليه نقله ولم ينبه على ما فيه ، والظاهر ان حكمه بالبدعية لما يفعله الناس وعدم جواز ذلك ناشى‌ء عن فهمه من الخبر الاختصاص وغفل عن ملاحظة باقي أخبار المسألة الدالة على العموم كما لا يخفى.

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الدفن.

١٢٧

أقول : والمستفاد من هذه الاخبار ان السنة تتأدى بمجرد وضع اليد على القبر وان الدعاء مع ذلك أبلغ في الفضل وكذلك استقبال القبلة ، وسنن الوضع المذكور لم تجتمع في خبر من هذه الأخبار إلا خبر كتاب الفقه ، والظاهر انه هو مستند المتقدمين فيما ذكروه من هذه السنن الثلاث حسبما ذكرنا في أمثال هذا المقام.

ومنها ـ التلقين وهو التلقين الثالث ولا خلاف فيه بين أصحابنا ، وأنكره الفقهاء الأربعة مع وروده في رواياتهم (١) والأصل فيه عندنا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن يحيى بن عبد الله (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول ما على أهل الميت منكم ان يدرأوا عن ميتهم لقاء منكر ونكير؟ قلت كيف يصنع؟ قال إذا أفرد الميت فليتخلف عنده اولى الناس به فيضع فمه عند رأسه ثم ينادي بأعلى صوته : يا فلان بن فلان أو يا فلانة بنت فلان هل أنت على العهد الذي فارقتنا عليه من شهادة ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله سيد النبيين وان عليا أمير المؤمنين وسيد الوصيين وان ما جاء به محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حق وان الموت حق وان البعث حق وان الله يبعث من في القبور؟ قال فيقول منكر لنكير انصرف بنا عن هذا فقد لقن حجته». وروى في التهذيب عن جابر عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «ما على أحدكم إذا دفن ميته وسوى عليه وانصرف عن قبره ان يتخلف عند قبره ثم يقول : يا فلان بن فلان أنت على العهد الذي عهدناك به من شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وان عليا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) امامك وفلان وفلان حتى يأتي على آخرهم (عليهم‌السلام)؟ فإنه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه قد كفينا الوصول اليه ومسألتنا إياه فإنه قد

__________________

(١) كما في كنز العمال ج ٨ ص ١٢٠ رقم ٢٢٣١ ومجمع الزوائد لابن حجر ج ٣ ص ٤٥ ومنتقى الاخبار متن نيل الأوطار ج ٣ ص ٧٧ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٥٠٦.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الدفن.

١٢٨

لقن حجته فينصرفان عنه ولا يدخلان عليه». وفي الفقه الرضوي (١) «ويستحب ان يتخلف عند رأسه أولى الناس به بعد انصراف الناس عنه ويقبض على التراب بكفيه ويلقنه برفيع صوته فإنه إذا فعل ذلك كفى المسألة في قبره». وقد روى هذه العبارة بأدنى تغيير الصدوق في العلل بسنده عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه الى الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «ينبغي ان يتخلف عند قبر الميت اولى الناس به بعد انصراف الناس عنه ويقبض على التراب بكفيه ويلقنه ويرفع صوته فإذا فعل ذلك كفى الميت المسألة في قبره».

فوائد : (الأولى) ـ قال شيخنا المجلسي في البحار بعد نقل هذا الخبر الأخير : «لا يبعد ان يكون اشتراط انصراف الناس ووضع الفم عند الرأس ـ كما ورد في اخبار أخر ـ للتقية ، والأولى مراعاة ذلك كله».

(الثانية) ـ ظاهر الاخبار المذكورة اختصاص التلقين بالولي ، وقد عرفت معناه فيما تقدم من انه اولى الناس بميراثه كما هو المشهور ، وظاهر كلام الأصحاب انه الولي أو من يأذن له الولي ، وحينئذ فتجوز الاستنابة فيه ، وادعى في الذكرى الإجماع عليه وهل يعتبر اذن الولي في ذلك؟ ظاهر العلامة في المنتهى العدم ، وكأنه يحمل التخصيص في الاخبار على الأولوية ، والظاهر بعده كما تقدمت الإشارة اليه. وقال ابن البراج انه مع التقية يقول ذلك سرا. وهو جيد.

(الثالثة) ـ لم يتعرض الشيخان ولا الفاضلان لكيفية وقوف الملقن ، وقال ابن إدريس انه يستقبل القبلة والقبر ، وقال أبو الصلاح وابن البراج والشيخ يحيى بن سعيد يستدبر القبلة والقبر امامه. ولم أقف فيما وصل إلينا من الأخبار على ما يقتضي شيئا مما ذكره هؤلاء الفضلاء من الأمرين المذكورين ، وقال في الذكرى : «وكلاهما جائز لإطلاق الخبر الشامل لذلك ولمطلق النداء عند الرأس على اي وضع كان المنادي» وهو جيد.

__________________

(١) ص ١٨.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الدفن.

١٢٩

(الرابعة) ـ هل يستحب تلقين الأطفال ونحوهم؟ ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض ذلك حيث قال : «ولا فرق في هذا الحكم بين الصغير والكبير كما في الجريدتين لإطلاق الخبر ، ولا ينافيه التعليل بدفع العذاب كما في عموم كراهة المشمس وان كان ضرره انما يتولد على وجه مخصوص ، واقامة لشعائر الإيمان» انتهى. أقول : مرجع كلامه (قدس‌سره) الى ان علل الشرع ليست عللا حقيقة يدور المعلول مدارها وجودا وعدما وانما هي أسباب معرفات أو لبيان وجه المصلحة والحكمة فلا يجب اطرادها. وهو جيد كما أوضحناه في غير موضع مما تقدم. وقال في الذكرى : «واما الطفل فالتعليل يشعر بعدم تلقينه ، ويمكن ان يقال يلقن اقامة للشعار وخصوصا المميز كما في الجريدتين».

في تجصيص القبور والبناء عليها ومنها ـ انه قد صرح جملة من الأصحاب بكراهة تجصيص القبور والبناء عليها بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع عليه ، قال الشيخ في النهاية : يكره تجصيص القبور وتظليلها. وفي المبسوط تجصيص القبر والبناء عليه في المواضع المباحة مكروه إجماعا. وقال ابن الجنيد : ولا أحب ان يقصص ولا يجصص لان ذلك زينة ولا بأس بالبناء عليه وضرب الفسطاط لصونه ومن يزوره. وظاهره تخصيص الكراهة بالتجصيص دون البناء ، والأصل في هذا الحكم ما رواه في التهذيب في الموثق عن علي بن جعفر (١) قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه». وعن جراح المدائني عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا تبنوا على القبور ولا تصوروا سقوف البيوت فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كره ذلك». وعن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه». ورواه الصدوق في المقنع مرسلا. وفي حديث

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الدفن.

١٣٠

المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه (١) «ونهى ان تجصص القبور». وروى في معاني الأخبار بسند رفعه في آخره إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «انه نهى عن تقصيص القبور». قال وهو التجصيص. وما دلت عليه هذه الاخبار من النهي عن البناء والتجصيص ظاهر في رد ما ذكره ابن الجنيد من تخصيص الكراهة بالتجصيص وان البناء عليه لا بأس به.

وهل كراهة التجصيص مخصوص بما بعد الاندراس أو ما هو أعم من الابتداء وبعد الاندراس؟ قال في المدارك : وإطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في كراهة التجصيص بين وقوعه ابتداء أو بعد الاندراس ، وقال الشيخ لا بأس بالتجصيص ابتداء وانما المكروه إعادتها بعد اندراسها لما روى (٣) من «ان الكاظم (عليه‌السلام) أمر بعض مواليه بتجصيص قبر ابنة له ماتت يفيد وهو قاصد إلى المدينة وكتابة اسمها على لوح وجعله في القبر».

أقول : ما ذكره من الجمع بين الاخبار ـ من الجواز ابتداء عملا بهذه الرواية وحمل الأخبار المتقدمة على ما بعد الاندراس ـ ليس ببعيد في مقام الجمع. واحتمل بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين حمل تلك الاخبار على تجصيص بطن القبر وهذه على ظاهره. وجمع في المعتبر بين الاخبار بحمل الرواية المذكورة على الجواز والروايات الأخر على الكراهة مطلقا. وفي المنتهى حمل رواية الكاظم (عليه‌السلام) على التطيين دون التجصيص بناء على جواز التطيين التفاتا إلى إشعار رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «لا تطينوا القبر من غير طينه». فان فيه إشعارا بالرخصة في التطيين. ويمكن ان يقال باختصاصهم (عليهم‌السلام) وأولادهم بجواز التجصيص

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الدفن.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب الدفن.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الدفن.

١٣١

والبناء على القبور كما قال في المدارك.

والمراد بالبناء على القبر المنهي عنه في هذه الاخبار هو ان يتخذ عليه بيت أو قبة كما ذكره في المنتهى ، قال لأن في ذلك تضييقا على الناس ومنعا لهم عن الدفن ، ثم قال : وهذا مختص بالمواضع المباحة المسبلة أما الأملاك فلا.

وكيف كان فيستثنى من ذلك قبور الأنبياء والأئمة (عليهم‌السلام) لإطباق الناس على البناء على قبورهم (عليهم‌السلام) من غير نكير واستفاضة الروايات بالترغيب في ذلك بل لا يبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء ايضا استضعافا لخبر المنع والتفاتا الى ان في ذلك تعظيما لشعائر الإسلام وتحصيلا لكثير من المصالح الدينية كما لا يخفى ، صرح بذلك السيد في المدارك ، وهو جيد.

تنبيه

روى الشيخ في التهذيب بسنده عن الأصبغ بن نباتة (١) قال : قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وفي الفقيه مرسلا قال : «قال أمير المؤمنين من جدد قبرا أو مثل مثلا فقد خرج من الإسلام». قال في الفقيه : «اختلف مشايخنا في هذا الحديث فقال محمد بن الحسن الصفار هو «جدد» بالجيم لا غير. وكان شيخنا محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد (رضي‌الله‌عنه) يحكى عنه انه قال لا يجوز تجديد القبر وتطيين جميعه بعد مرور الأيام عليه وبعد ما طين في الأول ولكن إذا مات ميت وطين قبره فجائز أن يرم سائر القبور من غير ان تجدد. وذكر عن سعد بن عبد الله (رحمه‌الله) انه كان يقول انما هو «من حدد قبرا» بالحاء المهملة غير المعجمة يعني به من سنم قبرا. وذكر عن احمد بن ابي عبد الله البرقي انه قال انما هو «من جدث قبرا» وتفسير الحدث القبر فلا يدرى ما عني به. والذي اذهب اليه أنه «جدد» بالجيم ومعناه نبش قبرا لان من نبش قبرا فقد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب الدفن.

١٣٢

جدده وأحوج إلى تجديده وقد جعله جدثا محفورا ، وأقول ان التجديد على المعنى الذي ذهب اليه محمد بن الحسن الصفار والتحديد بالحاء غير المعجمة الذي ذهب اليه سعد بن عبد الله والذي قاله البرقي من انه جدث كله داخل في معنى الحديث وان من خالف الإمام في التجديد والتسنيم والنبش واستحل شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام. والذي أقوله في قوله (عليه‌السلام) : «من مثل مثالا» انه يعني به من أبدع بدعة ودعا إليها أو وضع دينا فقد خرج من الإسلام ، وقولي في ذلك «قول أئمتي (عليهم‌السلام) فإن أصبت فمن الله على ألسنتهم وان أخطأت فمن عند نفسي» انتهى كلامه.

وقال الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب بعد ذكر هذا الاختلاف في معنى قول البرقي : «ويمكن ان يكون المعنى في هذه الرواية ـ يعني رواية «الحدث» ـ ان يجعل القبر دفعة اخرى قبرا لإنسان آخر لان الحدث هو القبر فيجوز ان يكون الفعل مأخوذا منه قال وكان شيخنا محمد بن محمد بن النعمان (رحمه‌الله) يقول ان الخبر بالخاء والدالين وذلك مأخوذ من قوله تعالى «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» (١) والخد هو الشق يقال خددت الأرض خدا اي شققتها شقا ، وعلى هذه الرواية يكون النهي يتناول شق القبر اما ليدفن فيه أو على جهة النبش على ما ذهب اليه محمد بن علي يعني الصدوق ، قال وكل ما ذكرناه من الروايات والمعاني محتمل والله اعلم بالمراد والذي صدر عنه الخبر».

قال في المدارك بعد نقل ملخص كلام الصدوق : هذا كلامه (رحمه‌الله) وفيه نظر من وجوه ، ولقد أحسن المصنف في المعتبر حيث قال : «وهذا الخبر قد رواه محمد بن سنان عن ابي الجارود عن الأصبغ عن نباتة عن علي (عليه‌السلام) ومحمد بن سنان ضعيف وكذا أبو الجارود فاذن الرواية ساقطة فلا ضرورة إلى التشاغل بتحقيق متنها» انتهى ما ذكره في المعتبر.

وقد اعترضه في الذكرى بان اشتغال هؤلاء الأفاضل بتحقيق هذه اللفظة مؤذن

__________________

(١) سورة البروج. الآية ٤.

١٣٣

بصحة الحديث عندهم وان كان طريقة ضعيفا كما في أحاديث كثيرة اشتهرت وعلم موردها وان ضعف سندها ، فلا يرد ما ذكره في المعتبر من ضعف محمد بن سنان وابي الجارود ، على انه ورد نحوه من طريق ابي الهياج وقد نقله الشيخ في الخلاف وهو من صحاح العامة ، وهو يعطي صحة الرواية بالحاء المهملة لدلالة الاشراف والتسوية عليه ، ويعطي ان المثال هنا هو التمثال هناك ، وقد ورد في النهي عن التصوير وازالة التصاوير أخبار مشهورة ، اما الخروج من الإسلام بهذين فاما على طريقة المبالغة زجرا عن الاقتحام على ذلك واما لانه فعل ذلك مخالفة للإمام (عليه‌السلام) انتهى.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل كلام الذكرى : «ولا يخفى ان مجرد بحث هؤلاء العلماء عن تحقيق لفظ الخبر لا يدل على قبولهم إياه وتصحيحهم له لجواز ان كل واحد منهم يذكر ما وصل اليه من الطريق الذي ينسب اليه وان كان في الطريق خلل ، نعم فيه اشعار ما بذلك لكن مجرد ذلك لا يكفي في صحة الاستدلال به» انتهى.

وفيه نظر ، وذلك (اما أولا) فإن تضعيف الحديث بهذا الاصطلاح المحدث في تنويع الاخبار الى الأربعة المشهورة انما حدث من عصر المحقق ومن تأخر عنه وإلا فالأخبار عند المتقدمين كلها محكوم عليها بالصحة إلا ما نبهوا عليه وظهر لهم ضعفه من جهة أخرى. و (اما ثانيا) فان ما ذكره من ان اشتغالهم بتحقيق هذا اللفظ لا يدل على قبول الخبر ضعيف ، لانه لو لم يكن كذلك كان جاريا مجرى العبث الذي لا فائدة فيه بالمرة وينجر الأمر إلى أمثال ذلك مما بحثوا فيه من الاخبار واختلفوا فيه من الآثار وهو مما لا يلتزمه محصل ، وبالجملة فكلام شيخنا الشهيد هو الأقرب.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المشهور بين الأصحاب ـ كما عرفت ـ كراهة التجديد بعد الاندراس وقد استدلوا بهذا الخبر على ذلك وهو غير بعيد وان أشعر ظاهره بالتحريم فإنه لا يخفى على من له أنس بالاخبار انهم (عليهم‌السلام) كثيرا ما يردفون المكروهات

١٣٤

بما يكاد يلحقها بالمحرمات تأكيدا في الزجر عنها والمستحبات بما يكاد يدخلها في حيز الواجبات حثا على القيام بها ، والظاهر ان الحامل للصدوق بعد اختياره رواية التجديد بالجيم على تفسيره بالنبش هو ترتب الخروج من الإسلام على ذلك مع عدم حرمة التجديد بالمعنى المتبادر فلا يصح ترتب الخروج من الإسلام عليه. وفيه ما عرفت.

ثم لا يخفى ان كلامه (قدس‌سره) في هذا المقام لا يخلو من نظر من وجوه : (منها) ـ ان تفسيره التجديد بالنبش بعيد غاية البعد من ظاهر اللفظ ولا قرينة تؤذن بالحمل عليه في المقام فإرادته من هذا اللفظ انما هو من قبيل المعميات والألغاز. و (منها) ـ ان استلزام النبش للتجديد لا يتم كليا بل قد يكون للتخريب. و (منها) ـ ان كلامه هذا مبني على تحريم النبش وهو محل كلام كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى قريبا. و (منها) ـ ان حكمه بالخروج من الإسلام في مخالفة الإمام في التجديد والنبش والتسنيم غير مستقيم ، فإنه (عليه‌السلام) انما رتب الخروج من الإسلام على أمر واحد لكن هؤلاء الأجلاء قد اختلفوا فيه باعتبار اختلافهم في رواية الخبر ، فالمرتب عليه أمر واحد لكنه باعتبار هذا الاختلاف غير معلوم على التعيين بل هو دائر بين هذه الأفراد المذكورة فكيف يصح ترتبه على الجميع؟ اللهم إلا ان يريد باعتبار ثبوت تحريم هذه الأشياء بأدلة من خارج. وفيه مع الإغماض عن المناقشة في هذه الدعوى انه لا خصوصية لهذه الأشياء المعدودة تستوجب الافراد بالذكر ، إذ كل من فعل فعلا غير مشروع واعتقد استحلاله فإنه مشروع مبدع. وكيف كان فاختلاف هؤلاء الأجلاء في هذه اللفظة مما يضعف الاعتماد على الخبر بأي معنى اعتبر. و (منها) ـ قوله في «من مثل مثالا» بعد تفسيره له بما ذكره : ان أصبت فمن الله وان أخطأت فمن نفسي. فإن فيه انه قد روى في معاني الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) تفسير هذا اللفظ في حديث آخر بما ذكره هنا حيث انه روى في الكتاب المذكور بسنده فيه عن النهيكي بإسناد رفعه الى

١٣٥

الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «من مثل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من الإسلام فقلت هلك إذا كثير من الناس؟ فقال انما عنيت بقولي من مثل مثالا من نصب دينا غير دين الله تعالى ودعا الناس اليه ، وبقولي من اقتنى كلبا مبغضا لأهل البيت (عليهم‌السلام) اقتناه فأطعمه وأسقاه ، من فعل ذلك فقد خرج عن الإسلام». وحينئذ فلا وجه لهذا الترديد هنا بين كون تفسيره صوابا أو خطأ. اللهم إلا ان يكون مراده بالنسبة الى هذا الحديث ، وفيه ما فيه فإنه متى ورد تفسير هذا اللفظ عنهم (عليهم‌السلام) بمعنى من المعاني فإنه يجب الحمل على ذلك حيثما وجد ذلك اللفظ متى كان المقام لا يأباه كما هو القاعدة الجارية في سائر الألفاظ ، نعم يمكن حمله على الغفلة عن الخبر المذكور. ولم أقف لمن تعرض للكلام على كلامه (قدس‌سره) في المقام سوى ما أشار إليه السيد في المدارك من قوله : «وفيه نظر من وجوه» ولم يبين شيئا من تلك الوجوه.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه وهو ان الظاهر ان مراده بقوله : «قولي في ذلك قول أئمتي. إلخ» اني لا أقول بالرأي في ذلك وانما قولي فيه قول أئمتي (عليهم‌السلام) بناء على ما فهمته من كلامهم وادى اليه نظري ، فإن طابق فهمي ما هو مرادهم ـ وهو الحكم الواقعي الذي هو الحق والصواب ـ فهو من توفيق الله عزوجل لي بواسطتهم حيث اني ناقل عنهم وتابع لهم ، وان أخطأت ولم يطابق فهمي مرادهم فالخطأ مني لا منهم (عليهم‌السلام) فإنهم قالوا ما هو الحق ولكن لم يصل فهمي اليه فالخطأ من عند نفسي. وما ذكره في هذا المقام مشترك بينه وبين جملة العلماء الاعلام في استنباط الأحكام من اخبارهم (عليهم‌السلام) لا كما زعمه بعض المحققين من كون هذا فرقا بين المجتهدين والأخباريين اشارة منه الى ان المجتهدين انما يقولون بالرأي ، فإنه مما لا ينبغي ان يلتفت اليه ولا يعول في مقام التحقيق عليه لاستلزامه الطعن في أجله العلماء الاعلام بل تفسيقهم كما لا يخفى على ذوي الأفهام. نعم يبقى الكلام في انه هل يعاقب على مثل هذا الخطأ أم لا؟

__________________

(١) ص ٥٦ باب ١٥٩.

١٣٦

ظاهر كلامه (قدس‌سره) ـ وهو الذي حققناه في جملة من زبرنا ولا سيما كتاب الدرر النجفية ـ هو العدم ، وربما يفهم من بعضهم العقاب كما هو ظاهر المحدث الأسترآبادي في الفوائد المدنية أو استحقاقه ولكن يتجاوز الله تعالى عنه لاضطراره ، والأظهر هو ما ذكرناه وذلك فان الفقيه الجامع للشرائط إذا بذل وسعه في استنباط الحكم الشرعي بعد تحصيل جميع أدلته والاطلاع على جميع ما يتعلق به من الكتاب والسنة وادى فهمه الى حكم فهو الواجب عليه في حقه وحق مقلده وان فرضناه خطأ ، لأنه أقصى تكليفه ، والسر في ذلك ان العقول والافهام المفاضة من الملك العلام متفاوتة زيادة ونقصانا كما هو مشاهد بالوجدان بين العلماء الأعيان ، فمنهم من فهمه وأدركه كالبرق الخاطف ومنهم كالماء الراكد الواقف وبينهما مراتب لا تخفي على الفطن العارف ، ويؤكده ما ورد في الاخبار «بان الله سبحانه انما يداق العباد على حسب ما أفاض عليهم من العقول» (١). ومن أراد تحقيق الحال زيادة على ما ذكرناه فليرجع الى الدرر النجفية.

ومنها ـ انه يستحب وضع الحصباء وهي صغار الحصى على القبر وواحدها حصبة كقصبة ، وقد روى في الكافي عن ابان عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) محصب حصباء حمراء». ونقل في الذكرى انه روى «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فعله بقبر إبراهيم ولده» (٣). ونقل في المنتهى من طريق الجمهور في حديث القاسم بن محمد (٤) «ان قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصاحبيه مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء».

__________________

(١) هذا مضمون حديث ابى الجارود عن ابى جعفر «عليه‌السلام» المروي في أصول الكافي ج ١ ص ١١.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب الدفن.

(٣) كما في الأم للشافعي ج ١ ص ٢٤٢.

(٤) كما في سنن ابى داود ج ٣ ص ٢١٥.

١٣٧

ومنها ـ ما ذكره الأصحاب من انه يستحب ان يوضع عند رأسه لبنة أو لوح يعلم به. واستدلوا على ذلك بما رواه الشيخ عن يونس بن يعقوب (١) قال : «لما رجع أبو الحسن موسى (عليه‌السلام) من بغداد ومضى إلى المدينة ماتت ابنة له يفيد فدفنها وأمر بعض مواليه ان يجصص قبرها ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر». أقول : ويعضده ما رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين بإسناده عن ابي علي الخيراني عن جارية لأبي محمد (عليه‌السلام) (٢) «ان أم المهدي ماتت في حياة أبي محمد (عليه‌السلام) وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أم محمد (عليه‌السلام)». وروى في المنتهى من طريق الجمهور عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٣) : «لما دفن عثمان بن مضعون أمر رجلا ان يأتيه بصخرة فلم يستطع حملها فقام إليها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال اعلم بها أخي وادفن اليه من مات من أهلي». قال في الذكرى : يستحب ان يوضع عند رأسه حجر أو خشبة علامة ليزار ويترحم عليه كما فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث أمر رجلا بحمل صخرة ليعلم بها قبر عثمان بن مضعون ثم ساق تمام الحديث. أقول : هذا الحديث قد نقله في دعائم الإسلام عن علي (عليه‌السلام) (٤) قال : «ان رسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما دفن عثمان بن مظعون دعا بحجر فوضعه عند رأس القبر وقال يكون علما ليدفن اليه قرابتي». والكتاب وان لم يصلح للاعتماد والاستدلال إلا انه يصلح للتأييد في أمثال هذا المجال.

ومنها ـ ما صرح به جملة من الأصحاب من كراهة الجلوس على القبر والمشي عليه والصلاة عليه واليه والاستناد اليه ، اما الجلوس عليه فادعى عليه في الخلاف الإجماع

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب الدفن.

(٣) رواه أبو داود في سننه ج ٣ ص ٢١٢.

(٤) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الدفن.

١٣٨

واستدل بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) : «لان يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثيابه فتصل النار الى بدنه أحب الي من ان يجلس على قبر». وبقول الكاظم (عليه‌السلام) فيما قدمناه من موثقة علي بن جعفر (٢) : «لا يصلح البناء على القبر ولا الجلوس». أقول : ان الرواية الأولى عامية كما نبه عليه ايضا بعض متأخري أصحابنا ولكن الثانية ظاهرة الدلالة على ذلك ونحوها رواية يونس بن ظبيان المتقدمة (٣) حيث تضمنت النهي عن القعود عليه ، إلا انه قد روى الصدوق في الفقيه عن الكاظم (عليه‌السلام) (٤) «إذا دخلت المقابر فطأ القبور فمن كان مؤمنا استروح الى ذلك ومن كان منافقا وجد ألمه». ويمكن حمله على القاصد زيارتهم بحيث لا يتوصل الى قبر إلا بالمشي على آخر كما ذكره في الذكرى أو يقال تختص الكراهة بالقعود لما فيه من اللبث المنافي للتعظيم ، ولعله الأقرب. واما الاستناد اليه والمشي عليه فقد صرح الشيخ بكراهتهما مدعيا في الخلاف الإجماع على ذلك في الأول ، ولم أقف في الأخبار على ما يدل على ما ذكره بل دلت مرسلة الفقيه على عدم كراهة المشي وان تأولها في الذكرى بما قدمناه ذكره ، واما الصلاة عليه فقد تقدم في رواية يونس بن ظبيان (٥) ما يدل على ذلك ، واما الصلاة إليه فلما سيأتي ان شاء الله تعالى في بحث المكان من كتاب الصلاة.

تتمة مهمة تشتمل على مسائل :

(الأولى) ـ قال شيخنا الشهيد في الذكرى بعد ذكر جملة من الاخبار الدالة على ان البناء على القبور والقعود عليها والتجصيص والصلاة عليها مكروه : وروى الصدوق عن سماعة (٦) «انه سأله عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها فقال زيارة القبور لا بأس بها ولا يبنى عندها مساجد». قال الصدوق : «وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا تتخذوا

__________________

(١) رواه أبو داود في سننه ج ٣ ص ٢١٧ وابن ماجة في سننه ج ١ ص ٤٧٤.

(٢ و ٣ و ٥) ص ١٣٠.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٦٢ من أبواب الدفن.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ٦٥ من أبواب الدفن.

١٣٩

قبري قبلة ولا مسجدا فان الله تعالى لعن اليهود لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١). قلت : هذه الاخبار رواها الشيخان والصدوقان وجماعة المتأخرين في كتبهم ولم يستثنوا قبرا ، ولا ريب ان الإمامية مطبقة على مخالفة قضيتين من هذه إحداهما البناء والأخرى الصلاة في المشاهد المقدسة ، فيمكن القدح في هذه الاخبار بأنها آحاد وبعضها ضعيف الاسناد وقد عارضها أخبار أخر أشهر منها ، وقال ابن الجنيد لا بأس بالبناء عليه وضرب الفسطاط لصونه ومن يزوره ، أو تخصص هذه العمومات بإجماعهم في عهود كانت الأئمة (عليهم‌السلام) ظاهرة فيهم وبعدهم من غير نكير وبالأخبار الدالة على تعظيم قبورهم وعمارتها وأفضلية الصلاة عندها وهي كثيرة ، ثم ساق بعض الاخبار الدالة على ذلك.

أقول : والحق ان أكثر هذه الاخبار المذكورة فيها هذه الأحكام لا ظهور لها في التعلق بهم (عليهم‌السلام) وانما ذكر ذلك في القليل منها وهو الذي يحتاج إلى تأويل لمعارضته بما هو أشهر وأظهر مثل خبر الصدوق عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالنهي عن اتخاذ قبره قبله ومسجدا ، فاما الأحاديث الأولة التي اجملنا النقل فيها فقد عرفت الكلام فيها في الدلالة على ما استدل بها عليه ، واما حديث سماعة المتضمن للنهي عن بناء المساجد في المقابر فالوجه فيه انه لا خلاف بين الأصحاب في أن الأراضي المحبوسة على المنافع العامة كالشوارع والمشارع والمساجد والمقابر والرباطات والمدارس والأسواق لا يجوز لأحد التصرف فيها على وجه يمنع الانتفاع بها فيما هي متخذة له وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث قال : بقاع الأرض اما مملوكة أو محبوسة على الحقوق العامة كالشوارع والمساجد والمقابر والرباطات أو منفكة عن الحقوق الخاصة والعامة وهي الموات. الى آخر كلامه ، ثم ساق الكلام في المحبوسة على المنافع العامة وبين عدم جواز الانتفاع بها والتصرف فيها على وجه يمنع من تحصيل الغرض المطلوب منها ، وهذا الخبر صريح في ذلك باعتبار بعض هذه الأراضي وهي المقابر حيث منع من بناء المساجد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦٥ من أبواب الدفن.

١٤٠