غاية الفكر

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

غاية الفكر

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ١٤٤

طولي نافٍ ـ بانحلال العلم الإجمالي بجريان هذين الأصلين بعد تساقط الأصلين العرضيّين غير واضح ، بل كما يكون الأصل الطولي النافي معارضاً للأصل في الطرف الآخر ـ فيما إذا كان الأصلان العرضيان غير متسانخين ، ولم يكن هناك أصل طولي مثبت في الطرف الآخر ـ كذلك يعارضه فيما إذا كان هناك أصل طولي مثبت في الطرف الآخر.

وتوضيح ذلك بذكر مثالٍ للمطلب ، فنقول : إنّه لو علم إجمالاً بعد صلاة الصبح والظهر إمّا بأنّ الطهارة الحدثية التي كانت ثابتةً له قبل صلاة الصبح قد ارتفعت حال صلاة الصبح ، وإمّا بنقصان ركعةٍ من صلاة الظهر (١) ، فإنّ كلاًّ من الطرفين في نفسه مجرىً لقاعدة الفراغ ، وقاعدة الفراغ المصحِّحة لصلاة الظهر كما تعارض قاعدة الفراغ المصحِّحة للصبح كذلك تعارض استصحاب الطهارة في الصبح ، وملاك هذه المعارضة هو التكاذب الحاصل بين إطلاقَي الدليلين ، فإنّه كما يعلم بعدم جريان قاعدة الفراغ في كلتا الصلاتين كذلك يعلم بعدم جريان كلا الأمرين : من قاعدة الفراغ في صلاة الظهر ، واستصحاب الطهارة في الصبح ؛ لأنّ جريانهما معاً مستلزم للمخالفة القطعية ، وإذن فيعلم بكذب أحد الدليلين ، وحينئذٍ فكلّ من دليل الاستصحاب المصحِّح للصبح ودليل قاعدة الفراغ المصحِّحة للظهر يكون مكذِّباً للآخر بدلالته الالتزامية ، كما هو الحال في كلّ دليلين علم إجمالاً بكذب أحد مدلوليهما فلا محالة لا يجري استصحاب الطهارة في صلاة الصبح ، كما لا تجري قاعدة الفراغ فيها ؛ لسقوطهما معاً بالمعارضة مع قاعدة الفراغ في صلاة الظهر.

__________________

(١) وإن كان المثال لا يخلو عن مسامحة ، إذ فرضنا الأصلين العرضيّين من سنخٍ واحد ؛ وذلك لأجل توضيح المطلب ، وإلّا فيمكن تصوير أنّهما من سنخين ، كما لا يخفى. (المؤلّف قدس‌سره)

٨١

ومجرّد أنّ هناك أصل طولي في صلاة الظهر يثبت التكليف لا يوجب عدم وقوع المعارضة بين قاعدة الفراغ في صلاة الظهر مع كلٍّ من الأصل العرضي والطولي في الطرف الآخر ، بعد وجود التكاذب الموجب لوقوع التعارض بين الدليلين.

ولا يتوهّم أنّ قاعدة الفراغ في صلاة الظهر والاستصحاب في الصبح أصلان ومثبتاتهما ليست بحجّة ، فكيف ينفي كلّ منهما الآخر بالالتزام الموجب للتكاذب بينهما ، وذلك لأنّ دليل كل منهما دليل اجتهادي ، وهو دال بالالتزام ـ لا محالة ـ على نفي ما ينافي مدلوله وإن كان نفس المجعول أصلاً.

وإن شئت قرَّبت التعارض بينهما : بأنّ الجمع بينهما مخالفة قطعية ، وترجيح كلٍّ منهما بلا مرجّح ، كما أنّ ترجيح كلٍّ من قاعدتي الفراغ على الاخرى بلا مرجّح.

والمتحصّل : أنّ انحلال العلم الإجمالي بالأصل الطولي المثبت في طرفٍ والأصل الطولي النافي في طرفٍ آخر غير واضح.

لا يقال : غاية ذلك الانتهاء إلى البراءة العقلية بعد سقوط الاصول النافية كلّها بالمعارضة مع الأصل العرضي في الطرف الآخر ، فإنّه لو فرض في طرفٍ أصلٌ نافٍ وفي طوله أصل مثبت ، وفي الطرف الآخر أصل نافٍ وفي طوله أصل نافٍ سقط هذان الأصلان النافيان بالمعارضة مع الأصل النافي في الطرف الآخر ، ويجري الأصل الطولي المثبت في الطرف الآخر وينحلّ به العلم الإجمالي ، ونرجع في ذلك الطرف الذي كان فيه أصلان نافيان سقطا بالمعارضة إلى البراءة العقلية.

لأنّه يقال : إنّ هذا لا يتمّ في ما ذكرناه من المثال ونحوه ؛ لوضوح أنّ قاعدة الفراغ واستصحاب الطهارة بالإضافة إلى صلاة الصبح إن سقطا بالمعارضة بقاعدة

٨٢

الفراغ في الظهر كان المرجع فيه أصالة الاشتغال ؛ للشكّ في وجود الشرط ، لا البراءة العقلية.

ثمّ إنّ إشكالاً آخر هناك في انحلال العلم الإجمالي بالاصول الطولية التي يكون بعضها مثبتاً وبعضها نافياً ، وهو ما أشار إليه في الفوائد (١) من أنّه يلزم من وجودها عدمها ، سوف نتعرّض له مع دفعه في تنبيه الانحلال إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : أنّ مقتضى ما افيد في مقام تقريب جريان الأصل الطولي فيما إذا كان الأصلان متسانخين ، من إجمال دليل هذين الأصلين المتسانخين ، باعتبار أنّه دليل واحد ، وقد علم فيه بالتخصيص إجمالاً دون دليل الأصل الطولي ، أنّه إذا علم المكلّف ببولية المائع الأصفر ، أو المائع الأبيض ، وعلم ببولية المائع الأبيض أو نجاسة ماءٍ ، بحيث تكون بولية الأبيض طرفاً لعلمين إجماليّين فبما أنّ المائعين مجرىً لأصالة الطهارة في نفسيهما ، ويعلم بتخصيص دليل الأصل وخروج أحدهما منه فيكون مجملاً ، وأمّا الماء فيكون مشمولاً لدليل الاستصحاب لأجل العلم بطهارته سابقاً ، ولا يعارضه أصالة الطهارة في المائع الأبيض ، إذ المفروض إجمال دليلها.

ولكنّا نقول : إنّ الأصلين العَرْضِيّين إن كان متسانخين بأن كان كلّ منهما أصل الطهارة ـ مثلاً ـ فتخصيص دليل أصالة الطهارة وإن كان معلوماً بالإجمال إلّا أنّ هذا العلم الإجمالي بتخصيص الدليل وخروج أحد الطرفين عنه الموجب لعدم جريان الأصل في كلٍّ من الطرفين لا يكون سبباً لإجمال دليل الأصل بمعنى سقوط ظهوره ، وإنّما يوجب إجماله الحكمي بمعنى سقوط حجّيته ؛ وذلك لأنّ

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٦

٨٣

المخصّص في المقام مخصّص منفصل ، وهو برهان منجّزية العلم الإجمالي ، فإنّ هذا البرهان هو الموجب لخروج أحد الطرفين عن عموم الدليل ؛ لاستحالة شموله لكلا الطرفين ، وهذا البرهان مخصّص لبّيّ منفصل ، إذ ليس من الوضوح بحيث يُعَد متّصلاً أو المتّصل حتى يوجب سقوط الظهور رأساً.

ومن المعلوم أنّ المخصّص المجمل الدائر بين المتباينين إن كان منفصلاً فلا يوجب سقوط العام عن الظهور ، بل عن الحجّية ، وحينئذٍ فظهور دليل أصالة الطهارة في كلٍّ من الطرفين موجود في نفسه ، وكما يكون ظهوره بالإضافة إلى طرفٍ منافياً لظهوره بالإضافة الى طرفٍ آخر كذلك ينافي ظهور دليل الأصل الآخر ، فمثلاً : فيما إذا علم بنجاسة ثوبٍ أو مائعٍ يكون إطلاق دليل أصالة الطهارة للثوب منافياً لإطلاقه للمائع ولإطلاق دليل أصالة الحلّية للمائع أيضاً ، والإجمال الحكمي لدليل أصالة الطهارة لا يوجب عدم وقوع أصالة الطهارة في الثوب معارضاً لإطلاق دليل أصالة الحلّية للمائع.

والحاصل : أنّ في المقام ظهورات ثلاثة :

أحدها : ظهور دليل أصالة الطهارة في الشمول للثوب.

وثانيها : ظهوره في الشمول للمائع.

وثالثها : ظهور دليل أصالة الحلّية في الشمول للمائع.

وهذه الظهورات ثابتة في نفسها ، فيقع الظهور الأول طرفاً للمعارضة مع الظهورين الآخرين ، وعلى هذا فلا فرق بين ما إذا كان الأصلان من سنخٍ واحدٍ أو من سنخين.

الجهة الثالثة : أنّه قد يتوهّم بناءً على ما افيد ـ من أنّ الأصلين العَرْضِيين إذا كانا متسانخين فيجري الأصل الطولي لإجمال دليلهما دون دليله ـ أنّ لازم ذلك جريان الأصل العرضي الحاكم دون الطولي المحكوم في بعض الموارد ،

٨٤

كما إذا علم بنجاسة ماءٍ أو بولية مائعٍ فإنّ الماء في نفسه مجرىً لاستصحاب الطهارة ثمّ لأصالة الطهارة ، والمائع مجرىً لأصالة الطهارة فقط ، ومعنى هذا أنّ دليل أصالة الطهارة يبتلي بالإجمال ؛ لأنّه شامل في نفسه لكلٍّ من الطرفين ويعلم بتخصيصه بالإضافة إلى أحدهما ، وحينئذٍ يجري الاستصحاب في الماء ، ولا يعارضه دليل أصالة الطهارة بإطلاقه للمائع ؛ لأنّ المفروض إجماله.

والحاصل : بعد فرض أنّ الأصل الطولي يتمّ اقتضاؤه في ظرف معارضة الأصلين العَرْضِيّين وزمانها ففي الفرض المزبور يكون اقتضاء دليل أصالة الطهارة للشمول للماء تاماً في عرض معارضة استصحاب طهارته مع أصالة الطهارة في المائع زماناً ، فكما يكون العلم الإجمالي بتخصيص دليل الأصلين العرضيّين موجباً لإجماله والرجوع إلى الأصل الطولي الثابت بدليلٍ آخر كذلك يكون العلم الإجمالي بتخصيص دليل أصالة الطهارة في المثال موجباً لإجماله وجريان الاستصحاب في الماء بلا معارض.

ولكنّ هذا التوهم مندفع : بأنّ مدلول أصالة الطهارة في الماء يكون تام الاقتضاء وفعلياً في فرض سقوط الاستصحاب ، والتكاذب في دليل أصالة الطهارة في المثال فرع فعلية المدلولين في نفسيهما ، وعليه فالتكاذب في دليل أصالة الطهارة فرع سقوط الاستصحاب فلا يعقل أن يكون موجباً لجريان الاستصحاب.

والحاصل : أنّنا وإن كنّا ندّعي أنّ أصالة الطهارة في الماء تعارض في عرض معارضة الحاكم إلّا أنّ هذا لا ينافي كون فرض معارضتها للأصل في الطرف الآخر هو فرض سقوط الاستصحاب وإجمال دليله ، فكيف يكون إجمال دليل أصالة الطهارة في الطرفين المعلول لإجمال دليل الاستصحاب وسقوطه ، سبباً في عدم إجماله وجريان الاستصحاب؟!

٨٥

وبتعبيرٍ آخر : أنّه لو كان استصحاب الطهارة في الماء جارياً لَمَا حصل إجمال وتكاذب في دليل أصالة الطهارة ؛ لأنّ التكاذب فيه فرع شموله لكلٍّ من الطرفين في نفسه ، ومع جريان الاستصحاب في الماء لا يكون دليل أصالة الطهارة شاملاً في نفسه للماء حتّى يحصل فيه التكاذب والإجمال ، وإذن فإجماله فرع سقوط الاستصحاب ، فلا يكون منشأً لجريانه.

ولا يخفى عليك أنّا قد نقلنا جواباً في مقام دفع شبهة التخيير في جريان الاصول في أطراف العلم ، حاصله : أنّ المحذور إنّما هو في الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ، لا الترخيص في المخالفة القطعية ، وقد ذكرنا عند التكلّم حول شبهة التخيير الفرق بين الأمرين ، وذكرنا : أنّ المحذور إمّا أن يكون في الترخيص القطعي الفعلي في مخالفة الواقع ، وإمّا أن يكون في الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ولو مشروطاً.

وعلى الأول نقضنا بما إذا كان للعلم الإجمالي أطراف ثلاثة فإنّ إعمال الاصول فيها بنحوٍ من أنحاء التخيير لا يؤدِّي إلى الترخيص الفعلي القطعي في مخالفة الواقع ، فراجع.

وأمّا على الثاني ، بمعنى أنّ الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ولو مشروطاً بشرطٍ لا يتحقّق أصلاً ، محال ، بحيث يكون الترخيص في أحد طرفي العلم الإجمالي ، على تقدير نزول المطر ، والترخيص في الطرف الآخر على تقدير عدم نزوله ـ مثلاً ـ محالاً أيضاً ، مع استحالة اجتماع الترخيصين في الفعلية ، فالشبهة المزبورة ـ أي جريان الأصل الحاكم في ما ذكرناه من المثال ، وهو ما إذا علم إجمالاً ببولية مائعٍ أو نجاسة ماءٍ ـ ممّا لا محيص عنها.

وبيانه : أنّ دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى الماء له دلالتان :

إحداهما : دلالته على ثبوت الطهارة الفعلية الظاهرية للماء ، وهذه الدلالة

٨٦

متوقّفة على سقوط الاستصحاب ؛ لأنها فرع الشكّ في الطهارة ، وإذا جرى الاستصحاب لا يبقى شكّ في طهارته ، ففعلية هذه الدلالة متوقّفة على سقوط الاستصحاب.

والاخرى : دلالته على الطهارة الظاهرية المشروطة بسقوط الاستصحاب وعدمه ، المحقق لعنوان الشكّ ، فإنّ الدليل المزبور له مثل هذه الدلالة أيضاً بمعنى أنّه يدلّ على طهارة كلِّ شيءٍ على تقدير تحقّق موضوعه ، وهو الشكّ المساوق لعدم وجود الاستصحاب الحاكم للشكّ ، ككلّ دليلٍ يتكفّل ثبوت حكمٍ على تقديرٍ فإنّه يدلّ على فعلية الحكم عند ثبوت ذاك التقدير ، وهذه الدلالة الثانية على الطهارة المشروطة ليست متوقّفةً على سقوط الاستصحاب ، بل سواء جرى أوْ لا ، يكون دليل أصالة الطهارة دالاً على الطهارة الظاهرية للماء على تقدير سقوط الاستصحاب فيه. كما أنّ دلالة الدليل المزبور على طهارة الطرف الآخر غير مشروطةٍ بعدم جريان الاستصحاب في الماء.

وحينئذٍ فلنا دلالتان لدليل أصالة الطهارة ، وكلاهما غير مشروطٍ بسقوط الاستصحاب في الماء :

الاولى : دلالته على الطهارة الفعلية للمائع.

والثانية : دلالته على طهارة الماء المقيّد بعدم جريان الاستصحاب فيه.

فلو أخذنا بهاتين الدلالتين كان مقتضاهما ثبوت الترخيص الفعلي في طرفٍ وهو المائع ، والترخيص على تقديرٍ في طرفٍ آخر وهو الماء ، والمفروض أنّ الترخيص في تمام الأطراف ولو مشروطاً بشرطٍ لا يتحقّق أصلاً غير معقول ، فيحصل التكاذب بين الدلالتين المزبورتين والإجمال في دليلهما ، وهذا الإجمال ليس مترتّباً على سقوط الاستصحاب ليمتنع أن يكون علّةً لجريانه ، بل لا مانع حينئذٍ من جريان الاستصحاب أصلاً.

٨٧

والحاصل : أنّه إن قيل : إنّ الترخيص المشروط في أطراف العلم محال مطلقاً ، ولو فرض أنّه سنخ ترخيصٍ اخذ بنحوٍ لا يصل إلى مرتبة الفعلية أصلاً ففي المقام يحصل التكاذب في دليل أصالة الطهارة ، من دون أن يتوقّف ذلك على سقوط الاستصحاب بالفعل ؛ لأنّه يدلّ على الترخيص الفعلي في المائع والترخيص المشروط بعدم الأصل الحاكم في الماء ، وهاتان الدلالتان لا يمكن الأخذ بهما ؛ لأنّ نتيجتهما ثبوت الترخيص في جميع أطراف العلم ولو مشروطاً ، والمفروض أنّ الترخيص المشروط كذلك غير معقولٍ أيضاً وإن قيل بأنّ المحال إنّما هو في الترخيصات الفعلية في الأطراف.

وأمّا إذا كان أحدها مشروطاً ـ كما في المقام ـ فلا استحالة فلا محيص عن شبهة التخيير ببعض الأنحاء فيما إذا كانت أطراف العلم ثلاثة ، إذ يمكن إجراء الاصول بنحو التخيير هناك ، بحيث ينتج ترخيصات مشروطة في الأطراف يمتنع فعليتها جميعاً.

الجهة الرابعة : في البحث عن أصل المطلب ، أي سقوط الأصل الطولي بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ، أو عدم سقوطه وجريانه بعد تساقط الحاكم مع الأصل الآخر.

والتحقيق فيه تبعاً له ـ دام ظلّه ـ وللمحقّق النائيني قدس‌سره السقوط ، إلّا أنّ ما افيد في الفوائد (١) لتقريب ذلك ـ من : أنّ تعارض الاصول إنّما هو باعتبار مؤدّياتها ، والمؤدّى في كلٍّ من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة المشكوك ، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة في كلٍّ من الإناءين فكلٌّ من مؤدّى الاستصحاب والقاعدة يعارض مؤدّى القاعدة في الإناء الآخر ...

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٨

٨٨

الى آخره ـ مخدوش ب :

ما أفاده المحقّق العراقي (١) قدس‌سره : أوّلاً : من إمكان جعل طهارتين طوليّتين بحيث [تكون] إحداهما مترتّبةً على عدم الاخرى ، والمقام من هذا القبيل ، فسقوط مؤدّى الاستصحاب ـ الذي هو الطهارة الاولى ـ لا يوجب سقوط الطهارة الطولية المجعولة في القاعدة.

وما أفاده ثانياً : من أنّه لو فرض أنّ المؤدّى سنخ واحد من الطهارة إلّا أنّه من الممكن جعل ظهورين طوليّين على هذا المجعول بحيث بانعدام حجّية أحدهما تتحقّق حجّية الآخر فالمجعول الوحداني إنّما يسقط في المرتبة الاولى ، بمعنى أنّه لا يثبت بالظهور الأوّل ، فالساقط بالمعارضة إنّما هو حجّية الظهور الأول بلحاظ مدلوله ، لا ذات المدلول من حيث هو ، إذ لا وجه لسقوطه إلّا بمقدار كاشفه ، ولهذا كان المشهور عدم سقوط الأصل الطولي.

وتوجيهه بأحد امور :

الأول : ما قد يتوهّم من : أنّ الأصل الطولي يكون في طول الأصل في الطرف الآخر باعتبار أنّه متأخّر عمّا هو في عرضه ، والمتأخّر عن أحد المتساويين في المرتبة متأخّر عن الآخر.

ويندفع بما حقِّق في محلّه من : أنّ التأخّر الرتبي لشيءٍ عن شيءٍ بملاكٍ يقتضي تأخّره عنه لا يوجب تأخّره عمّا يساويه في المرتبة إذا لم يكن ذلك الملاك حاصلاً له بالإضافة إلى الآخر.

الثاني : ما هو المشهور في مقام تقريب عدم السقوط من : أنّ الأصل الطولي وإن لم يكن في طول الأصل في الطرف الآخر إلّا أنّ اقتضاء الدليل له

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٢١

٨٩

موقوف على سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة ، ومن المعلوم أنّه في المرتبة المتأخّرة عن سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة لا يبقى معارض للأصل الطولي ؛ لأنّ المفروض أنّ الحاكم قد سقط مع الأصل في الطرف الآخر في المرتبة السابقة.

وفيه : أنّ ما يتوقّف عليه اقتضاء دليل الأصل الطولي هو سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة ، لا سقوط الأصل في الطرف الآخر بالمعارضة.

والحاصل : أنّ المعارضة تقتضي سقوطين ، وما هو محقّق لاقتضاء الأصل الطولي منهما هو سقوط الحاكم ، لا سقوط معارضه.

وحينئذٍ : فإمّا أن يُدَّعى أنّ السقوطين لمَّا كانا في عرضٍ واحدٍ فالأصل الطولي المتأخّر عن أحدهما متأخّر عن الآخر أيضاً ، فلا يعقل أن يعارض الأصل في الطرف الآخر بعد تأخّره عن سقوطه وتوقّفه على اضمحلاله ، ويرجع هذا إلى الوجه الأول ، وقد عرفت جوابه.

وإمّا أن يُدَّعى أنّ الأصل الطولي وإن كان متوقّفاً في اقتضائه على سقوط الحاكم فقط إلّا أنّ معنى ذلك أنّه لا بدّ من فرض معارضة الأصل في الطرف الآخر للحاكم في مرتبةٍ سابقةٍ على اقتضاء الأصل الطولي ، إذ لو لا فرضها كذلك لَمَا كان هناك موجب لسقوط الحاكم ، ولَمَا انتهت النوبة حينئذٍ إلى الأصل الطولي ، وإذا فرضنا المعارضة كذلك بين الحاكم وبين الأصل في الطرف الآخر ففي ظرف تحقّق اقتضاء الأصل الطولي يكون الأصل في الطرف الآخر مفروض المعارضة والإجمال والسقوط ، فكيف يعارض الأصل المزبور؟!

ففيه : أنّ اقتضاء الأصل الطولي محقّق في عرض اقتضاء الأصل الحاكم والأصل في الطرف الآخر زماناً ، وإن كان في طول الأول رتبةً ، إذ ظرف المعلول خارجاً هو ظرف علّته ، ففي ظرف تساقط الأصلين العَرْضيّين يكون الأصل الطولي تامّ الاقتضاء ، كما أنّ كلاًّ من الأصلين العرضيّين تامّ الاقتضاء ، وليس

٩٠

ساقطاً في زمانٍ سابق ، ولا معنى للسقوط في مرتبةٍ سابقة ، فقهراً تسقط الاقتضاءات الثلاثة كلّها بالمعارضة. وهذا التحقيق ممّا لا محيص عنه ، وسوف يأتي له مزيد تأييد.

الثالث : ما يمكن أن يقال من : أنّ مانعية الأصل الطولي للأصل في الطرف الآخر غير معقولةٍ فيستحيل وقوعه معارضاً له ، بل لا بدّ أن يكون الأصل في الطرف الآخر ممنوعاً مع قطع النظر عنه ، إذ لا يتصور وقوع المعارضة بين أصلين إلّا إذا كان كلّ منهما يصلح للمانعية عن الآخر في حدِّ نفسه ، وفي المقام ليس كذلك ؛ لأنّه يلزم من مانعية الأصل الطولي عن الأصل في الطرف الآخر عدم مانعيته عنه ، إذ مانعيته كذلك توجب رفع المانع عن جريان الحاكم ؛ لأنّ المانع عنه لم يكن إلّا الأصل في الطرف الآخر ، فلو كان ممنوعاً من جهة الأصل الطولي لجرى الأصل الحاكم لا محالة ، فيسقط الأصل الطولي حينئذٍ لمحكوميّته له ، وترتفع مانعيته ، وإذن فيلزم من مانعيته للأصل في الطرف الآخر ـ بمعنى عدم جريانه بسببه ـ ارتفاع مانعيته ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، فلا يمكن وقوع المعارضة بين الأصل الطولي والأصل في الطرف الآخر بعد عدم صلاحيته للمانعية واستحالتها في حقّه ، فلا يحصل التمانع من الجانبين الموجب للتساقط.

ويندفع هذا البيان : بأنّه بعد فرض نشوء اقتضاء الأصل الطولي المحقّق لمانعيته عن إجمال دليل الأصل الحاكم وسقوطه فلا يعقل أن تكون الممنوعية عن جريان الأصل في الطرف الآخر ، الناشئ من مانعية الأصل الطولي الناشئة من اقتضائه الناشئ من إجمال دليل الحاكم وسقوطه موجباً لجريانه والأخذ بدليله.

والحاصل : أنّ سقوط الأصل في الطرف الآخر المسبّب عمّا هو معلول لسقوط الحاكم لا يعقل أن يكون موجباً لجريانه وثبوته ، بل هو قريب من عدم الرطوبة الناشئة من عدم تأثير النار في مقتضاها وهو الإحراق ، فإنّ هذه الحصّة

٩١

من عدم الرطوبة لا يعقل أن تكون محقّقةً للإحراق ومتمِّمة لعلّته ، وإذن فمانعية الأصل الطولي معقولة ؛ لأنّها وإن كانت توجب ـ على فرض ثبوتها ـ رفع المعارض للأصل الحاكم إلّا أنّ هذا الارتفاع للمعارض لمّا كان مسبّباً عن مانعية الأصل الطولي ، المسبّبة عن سقوط الحاكم فلا يجوز أن يكون مصحِّحاً لجريانه ، فتدبّره فإنّه دقيق.

فتلخّص : أنّ الوجوه المزبورة لا تنهض على عدم سقوط الأصل الطولي بالمعارضة ، والمتعيّن على هذا سقوطه ، ووجهه وإن اتّضح بما سبق إلّا أنّنا نقرِّب ذلك في المقام بتقريبٍ لا يخلو من تفصيل ؛ ليتّضح المطلب تمام الوضوح ، وذلك بتقديم أمرين :

أحدهما : أنّ العلم الإجمالي سواء تعلّق بتكليفٍ مردّدٍ أو بتخصيصٍ مردّدٍ يكون منجِّزاً ، فكما أنّ العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة منجِّز للجامع ـ بمعنى مصحِّحيّته للعقاب على مخالفته ـ وتتعارض الاصول في الأطراف بلحاظ ذلك ، كذلك العلم الإجمالي بتخصيص عمومٍ من العمومات بأحد فردين وخروجه منه ، فإنّه يوجب قصور العموم عن الشمول لكلا الفردين ، وهو يوجب تعارض عموم العامِّ لكلٍّ من الفردين مع عمومه للفرد الآخر ، ويبقى العامّ مجملاً بالإضافة إلى كلٍّ منهما.

ثانيهما : أنّ العلم الإجمالي اذا كان أحد طرفيه منجِّزاً في الزمان السابق أو في الرتبة السابقة صار هذا على مبانيهم مانعاً عن تنجيز العلم الإجمالي ، بمعنى أنّه إذا كان علماً بالتكليف المردّد لم يتنجّز التكليف في الطرف الآخر ، وإذا كان علماً بخروج فردٍ مردّدٍ عن عامٍّ لم يصر العامّ مجملاً بالإضافة إلى الفرد الآخر ؛ لانحلال العلم الإجمالي بالمنجِّز القائم في أحد طرفيه في الرتبة السابقة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ المكلف في المقام لمّا كان يعلم بنجاسة أحد

٩٢

إناءين وفرض أنّ أحدهما مجرىً لاستصحاب الطهارة في نفسه فهو يعلم بخروج هذا الطرف عن عموم دليل الاستصحاب ، أو خروج الطرف الآخر عن عموم دليل أصالة الطهارة ، إذ لا يعقل شمول الاستصحاب المؤمِّن لفرده ، وشمول أصالة الطهارة لفردها أيضاً ، وإلّا يلزم المخالفة القطعية ، فأحد الدليلين يعلم بتخصيصه ، وهذا العلم يوجب ، أوّلاً : عدم إمكان إعمال العمومين في كلا الدليلين ، وحيث يكون ترجيح كلٍّ من عموم دليل الاستصحاب وعموم دليل القاعدة على الآخر بلا مرجّحٍ فيتساقطان ، فالعلم الإجمالي بتخصيص أحد الدليلين يؤثّر في إجمال كلٍّ من الدليلين ، وبعد عروض الإجمال لدليل الاستصحاب لمكان العلم الإجمالي المزبور يتمّ اقتضاء أصالة الطهارة في مورده ، ويحصل علم إجمالي آخر : إمّا بخروج هذا المورد عن دليل أصالة الطهارة ، أو خروج الطرف الآخر ، إذ دخولهما معاً مستلزم للمخالفة القطعية ، فكما كان يعلم إمّا بخروج ذاك المورد عن الاستصحاب أو الآخر عن دليل أصالة الطهارة ـ إذ لو لم يكن شيء منهما خارجاً لَلَزِمت المخالفة القطعية ـ كذلك يعلم ـ بعد تمامية اقتضاء أصالة الطهارة في ما كان مورداً للاستصحاب ـ بعدم شمول دليل القاعدة لأحد الطرفين ، فهذا العلم الإجمالي موجود لا محالة.

وإنّما الكلام في أنّ هذا العلم الإجمالي هل يكون هناك مانع عن تنجيزه وإيجابه لإجمال دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى كلا الطرفين ، أو لا يكون منجِّزاً وموجباً للإجمال ، فلا يمنع عن الأخذ بالقاعدة وإعمال دليلها في ما كان مورداً للاستصحاب.

وغاية ما يقرَّب به عدم التنجيز وعدم إيجابه للإجمال دعوى : أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي المزبور منجَّز بمنجِّزٍ سابق ، بمعنى أنّ دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى غير ما كان مورداً للاستصحاب قد أصبح مجملاً بالعلم الإجمالي

٩٣

الأول ، فلا يبقى مجال لتنجيز العلم الإجمالي الثاني.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ لدينا عِلمين إجماليّين : أحدهما العلم بعدم شمول دليل الاستصحاب لِمَا لَه حالة سابقة ولنفرضه الماء ، أو عدم شمول القاعدة للآخر ولنفرضه الثوب. والآخر العلم بعدم شمول دليل القاعدة للثوب ، أو عدم شمولها للماء ، فبين العِلمين طرف مشترك ، وهو عدم شمول دليل القاعدة للثوب ، فإنّه طرف لكلا العلمين الإجماليّين ، وحيث إنّه منجَّز بالعلم الإجمالي الأول أوّلاً ، فلا يبقى مجال لتنجّزه بالعلم الثاني فينحلّ العلم الثاني ككلّ علمٍ يتنجّز أحد طرفيه سابقاً.

ولكنّ هذه الدعوى ممنوعة ؛ لأنّ الطرف المشترك ـ وهو عدم شمول دليل القاعدة ـ لم يثبت له التنجّز لا في زمانٍ سابقٍ على العلم الإجمالي الثاني ، ولا في رتبةٍ سابقة عليه.

والحاصل : لا بدّ إمّا من إثبات السبق الزماني لتنجّز الطرف المشترك على العلم الثاني ، أو السبق الرتبي له ، وكلاهما ممنوع.

أمّا الأول فلأنّ المنجِّز للطرف المشترك مع قطع النظر عن العلم الثاني هو العلم الإجمالي الأول ، والعلمان متقارنان زماناً ، وليس لأحدهما سبق زماني على الآخر ليتنجّز الطرف المشترك به في زمانٍ سابقٍ بحيث يمنع عن تنجيز المتأخّر.

وأمّا الثاني فلأنّ العلم الإجمالي الثاني معلول لتمامية اقتضاء دليل القاعدة بالإضافة الى الماء ليحصل العلم الإجمالي بتخصيصه بأحد الطرفين ، وتمامية اقتضائه كذلك معلول لإجمال دليل الاستصحاب بالإضافة الى الماء ، وإلّا لم يكن لدليل القاعدة اقتضاء الشمول للماء ، وإجمال دليل الاستصحاب كذلك وسقوطه معلول للعلم الإجمالي الأول. وإذن فالعلم الإجمالي الثاني متأخّر مرتبةً عن

٩٤

سقوط الاستصحاب وإجمال دليله المعلول للعلم الأول ، لا عن إجمال دليل القاعدة بالإضافة إلى الثوب وسقوطها فيه.

والحاصل : أنّ العِلمين الإجماليّين اللذَين لهما طرف مشترك إنّما يمنع أحدهما عن تنجيز الآخر إذا كان الآخر متأخّراً عن تنجّز الطرف المشترك للعلم الآخر ، إمّا زماناً وإمّا رتبةً. ففي المقام العلم الإجمالي الثاني إنّما يصير ممنوعاً عن التنجيز وغير مؤثّرٍ في إجمال دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى الطرفين إذا كان الطرف المشترك بينه وبين العلم الآخر ـ وهو عدم شمول قاعدة الطهارة للثوب ـ قد تنجّز ، بمعنى أنّه قد صارت القاعدة مجملةً بالإضافة إلى الثوب في زمانٍ سابقٍ أو في رتبةٍ سابقة ، وشيء منهما غير حاصل ، فالعلم الاجمالي الثاني لا مانع من تنجيزه ، فإنّ الثابت في المرتبة السابقة عليه سقوط الاستصحاب في طرف الماء وإجمال دليله ، لا سقوط أصالة الطهارة في الثوب وإجمال دليلها ، فالعلم الإجمالي بسقوط أصالة الطهارة في الثوب أو أصالة الطهارة في الماء لا مانع عن تنجيزه ، بمعنى إيجابه لإجمال دليل الأصل بالإضافة الى كلٍّ من الطرفين ؛ لأنّه معلول ومتأخّر مرتبةً عن سقوط الاستصحاب في الماء وإجماله من ناحية العلم الإجمالي الأوّل ، لا أنّه معلول ومتأخّر رتبةً عن سقوط قاعدة الطهارة في الثوب حتّى يمتنع أن يكون هو المؤثر في إسقاط أصالة الطهارة فيه. نعم ، العلم الإجمالي المزبور يكون متأخّراً عمّا هو في عرض سقوط أصالة الطهارة في الثوب وهو سقوط الاستصحاب كما عرفت ، إلّا أنّ تأخّر العلم الإجمالي رتبةً عن شيءٍ لا يوجب تأخّره عمّا يساويه ، كما ذكرنا سابقاً.

وإنّما أوضحتُ هذا المطلب بما لا مزيد عليه لأنّي وجدت شبهة عدم سقوط الأصل الطولي عالقةً في الأذهان ، فقدَّمت هذا البيان لدفع الشبهات الموجودة في المقام ، ومن الله الهداية والتوفيق.

٩٥

فرضيّة الترتّب بين طرفي العلم الإجمالي

التنبيه الثاني : فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي بالتكليف في طول عدم الطرف الآخر ومترتّباً على عدمه ، كوجوب الحجّ المرتّب على عدم التكليف بالدّين ، ونحو ذلك.

والذي يظهر أنّه لا خلاف منهم في إثبات التكليف المترتّب بإجراء الأصل النافي للتكليف المترتّب عليه.

وقد ذكر المحقّق العراقي (١) هذا بعنوان النقض على مختاره من علّية العلم الإجمالي الموافقة القطعية ، وإبائه عن الترخيص ولو في بعض الأطراف بتقريب :

أنّه على هذا المبنى لا مجال لإجراء الأصل المرخّص في جانب الدَّين المشكوك ؛ لأنّ في رتبة جريانه لم يثبت تكليف بالحجّ ليكون العلم الإجمالي منحلا ، بل ثبوت التكليف بالحجّ إنّما يكون في رتبةٍ متأخّرةٍ عن جريان الأصل النافي للدَين ، فهو في مرتبة جريانه يكون العلم الإجمالي قائماً ، فينافي مع علّيته التامة.

وأجاب عن ذلك بتفصيلٍ ملخّصه : أنّ التكليف المترتّب تارةً يكون مترتّباً على العدم الواقعي للتكليف الآخر ، واخرى يكون مترتّباً على الأعمِّ من العدم الواقعي والظاهري ، وثالثةً يكون مترتّباً على المعذورية من جهة التكليف الآخر ولو عقلاً.

أمّا في الأول فلا مانع من إجراء الأصل التنزيلي النافي للدَين ، وذلك بتقريب : أنّه بعد أن كان وجوب الحجّ من الآثار الشرعية لعدم الدَّين ، فدليل

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣١٥

٩٦

الأصل التنزيلي لاستصحاب عدم الدَّين ـ مثلاً ـ يقتضي بإطلاق التنزيل فيه ترتّب جميع الآثار الشرعية لهذا العدم التي منها وجوب الحجّ ، فإنّه أثر شرعي لعدم الدَّين الذي هو مدلوله المطابقي ، وحينئذٍ فيرفع اليد عن المدلول المطابقي لدليل الأصل التنزيلي ، وهو نفي التكليف بالدَين ظاهراً ، ويؤخذ بمدلوله الالتزامي وبإطلاق التنزيل فيه ، الذي هو من شئون المدلول المطابقي وهو وجوب الحجّ ، وحينئذٍ ينحلّ العلم الإجمالي ، وفي الرتبة المتأخّرة يؤخذ بالمدلول المطابقي ، إذ في هذه المرتبة لا يبقى مانع عن نفي الدَّين بعد انحلال العلم الإجمالي في المرتبة السابقة بالمدلول الالتزامي لدليل الأصل.

والحاصل : أنّ دليل استصحاب عدم الدَّين يكون له مدلولان : أحدهما مطابقيّ وهو نفي الدَّين ، والآخر ثابت بإطلاق التنزيل وهو وجوب الحجّ ، فيؤخذ بالمدلول الثاني أوَّلاً ثمّ الأول.

وأمّا في الثاني فلا يأتي البيان السابق لتصحيح إجراء أصالة الحلّية ، إذ دليل أصالة الحلّية لا يتكفّل لتعبّدين : أحدهما بالحلّية ، والآخر بأثرها ليؤخذ بالتعبّد الثاني أوَّلاً ، بل لا بدّ من الالتزام بالأخذ بالمدلول المطابقي له وهو الحلّية والترخيص ، إلّا أنّ هذه الحلية ليست مجعولةً بلحاظ التوسعة والمعذّرية ، بل يكون الغرض منها مجرّد ترتّب الوجوب الذي هو أثرها عليه ، فلا بأس بجعل هذا السنخ من الحلّية في طرف ، ولا موجب للالتزام برفع اليد عن دليل الأصل بالمرّة.

وأمّا في الثالث فتنجيز العلم الإجمالي بحدِّ ذاته غير معقول ؛ لأنّ منجّزية كلّ علمٍ لطرفٍ ملازم لمنجّزيته للطرف الآخر ، وفي المقام منجّزية العلم الإجمالي في أحد الطرفين توجب الجزم بعدم وجود الطرف الآخر واقعاً ... الى آخره.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ تنجيز العلم الإجمالي في الصورة الثانية ـ أي فيما إذا

٩٧

كان أحد التكليفين مترتّباً على عدم الآخر الأعمّ من الظاهري والواقعي ـ غير معقول ، بمعنى أنّ مانعية العلم الإجمالي المزبور عن جريان أصالة الحلّية في الطرف المترتّب عليه ، أي في طرف الدَّين ممتنعة ، فمثلاً لو نذر صوم يومٍ على تقدير ثبوت الحكم بحلّية مائعٍ مخصوصٍ أعمّ من الواقعية والظاهرية فيكون له علم إجمالي بوجوب الصوم ، أو حرمة المائع المخصوص ، إلّا أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون مانعاً عن جريان أصالة الحلّية في المائع ، فلا حاجة لأن يتكلّف لجريانها بما افيد من البيان ممّا لا يخلو عن المناقشة أيضاً.

والوجه في استحالة مانعية العلم الإجمالي المزبور عن جريان أصالة الإباحة في المائع هو : أنّ تنجيز العلم الإجمالي موقوف على عدم انحلاله بالعلم التفصيلي بأحد طرفيه ، فإنّ العلم التفصيلي بذلك وإن لم يكن موجباً للانحلال الحقيقي عند المحقّق العراقي إلّا أنّه مانع عنده عن تأثير العلم الإجمالي وتنجيزه ، وإذن فالعلم الإجمالي في المقام تنجيزه متوقّف على عدم حصول العلم التفصيلي بوجوب الصوم ومشروط بذلك ، وإلّا لو حصل العلم التفصيلي بذلك لَما نجّز ، وعدم حصول العلم التفصيلي بوجوب الصوم موقوف على عدم جريان أصالة الإباحة في المائع ، وإلّا لو جرت أصالة الإباحة في المائع لحصل العلم التفصيلي بوجوب الصوم ، إذ المفروض أنّ وجوب الصوم لا يتوقّف إلّا على ثبوت الحلّية ولو ظاهراً في المائع ، فحيث تجري أصالة الحلّية في المائع يتحقّق وجوب الصوم جزماً ، فيتّضح أنّ تنجيز العلم الإجمالي في المقام مشروط بعدم حصول العلم التفصيلي بوجوب الصوم ، وعدم حصول العلم التفصيلي بذلك مشروط بعدم جريان الإباحة في المائع ، ومعنى هذا أنّ تنجيز العلم الإجمالي المزبور متوقّف ـ بواسطةٍ ـ على عدم جريان الإباحة في المائع ، فلا يعقل أن يكون تنجيزه مانعاً عن جريانها ، إذ أنّ ما يكون متوقّفاً على عدم شيءٍ لا يعقل أن يكون هو المانع عن

٩٨

وجوده ، وإلّا لزم كون الشيء محقّقاً لشرط وجوده ، وهو محال ، وهذا بخلافه في سائر موارد العلم الإجمالي فإنّه لا يكون فيها جريان أصالة الإباحة في أحد طرفيه مانعاً عن تنجيز العلم الإجمالي وموجباً لانحلاله.

والحاصل : أنّ عدم جريان الإباحة في المائع في المقام من مبادئ تنجّز العلم الإجمالي ، فهو في مرتبةٍ سابقةٍ على تنجّزه ككلِّ شرطٍ بالنسبة إلى مشروطه ، بمعنى أنّه لا بدّ أن يثبت في المرتبة السابقة على تنجّزه عدم جريان الأصل في المائع ، وفي هذه المرتبة السابقة لا مانع من جريان الأصل أصلاً ، فتدبّره فإنّه دقيق.

ويرد عليه ثانياً : أنّ لازم ما ذكره في الصورة الاولى من الأخذ أوّلاً بالمدلول الالتزامي لدليل الأصل التنزيلي ، وبتعبيرٍ آخر : بمدلول الإطلاق فيه من ثبوت وجوب الحجّ ، ثمّ يؤخذ بالمدلول المطابقي له وهو الترخيص في طرفه ، محذور لا يلتزم به أحد.

وتوضيح ذلك : أنّه لو فرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم الدين واقعاً وكانت قد تواردت على المكلّف كلتا الحالتين : من ثبوت الدَّين في زمانٍ ، وعدمه في زمانٍ ويشكّ في المتأخّر منهما فإنّه لا إشكال من أحدٍ ـ بناءً على جريان الاستصحاب في نفسه في المقام ـ في وقوع المعارضة بين استصحاب الدَّين واستصحاب عدم الدَّين ، مع أنّ لازم ما ذكره أن يكون استصحاب الدَّين حاكماً على استصحاب عدم الدَّين.

وتحقيق ذلك : أنّ موضوع كلٍّ من استصحاب عدم الدَّين واستصحاب وجوده هو الشك في الدَّين ، ولاستصحاب عدم الدَّين اقتضاءان ومدلولان : أحدهما مدلول مطابقيّ وهو نفي الدَّين ، والآخر مدلول ثابت بإطلاق التنزيل بلحاظ الآثار وهو وجوب الحجّ ، ولا بأس بتسميته بالمدلول الالتزامي. وبناءً

٩٩

على ما افيد يكون ثبوت المدلول المطابقي لاستصحاب عدم الدَّين في طول مدلوله الالتزامي ، ومتوقّف على ثبوته في المرتبة السابقة لينحلّ به العلم الإجمالي. وثبوت المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَّين في المرتبة السابقة متوقّف على تمامية أركان الاستصحاب المزبور في هذه المرتبة : من اليقين بعدم الدَّين حدوثاً ، والشكّ فيه بقاءً ، وإلّا لو لم تكن أركان الاستصحاب تامّةً في هذه المرتبة لَما كان هناك مجال لإجراء استصحاب عدم الدّين حينئذٍ ولو بمقدار مدلوله الالتزامي.

ومن الواضح أنّ استصحاب بقاء الدَّين بلحاظ مدلوله المطابقي ـ وهو وجود الدَّين ـ يلغي الشكّ في الدَّين ، ويهدم بذلك أركان استصحاب عدم الدَّين ، فلا يبقى مجال لإعمال مدلوله الالتزامي في المرتبة الاولى ؛ لانهدام أركانه ، ولا لإعمال مدلوله المطابقي ، وهو نفي الدَّين في المرتبة المتأخّرة ؛ لأنّه فرع ثبوت المدلول الالتزامي له في الرتبة السابقة ، والمفروض أنّه محكوم في الرتبة السابقة باستصحاب وجود الدَّين.

والحاصل : أنّ استصحاب عدم الدَّين لو كان يقتضي ثبوت مدلوله المطابقي ابتداءً لكان معارضاً لاستصحاب وجود الدَّين ، كما هو الشأن في سائر موارد توارد الحالتين ، إذ كلّ منهما يلغي الشكّ في الدَّين فلا حكومة لأحدهما على الآخر ، ولكنّ المفروض أنّ اقتضاءه لمدلوله المطابقي فرع تمامية اقتضائه لمدلوله الالتزامي وفعليته ، بحيث لو لا فعلية المدلول الالتزامي أوَّلاً لَما كان للدليل اقتضاء للمدلول المطابقي لاستصحاب عدم الدَّين ؛ لمنافاته حينئذٍ لبرهان منجِّزية العلم الإجمالي المخصّص لأدلّة الاصول ، فإذا كان اقتضاء الاستصحاب للمدلول المطابقي متوقّفاً على اقتضائه للمدلول الالتزامي فلا محالة يكون استصحاب وجود الدَّين حاكماً على المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَّين ؛ لأنّه رافع

١٠٠