غاية الفكر

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

غاية الفكر

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ١٤٤

١
٢

٣
٤

٥
٦

مقدّمة المؤلف :

أيّها القارئ الكريم ، هذا هو جزء من كتابٍ في الاصول شرعت فيه قبل ثلاث سنواتٍ تقريباً ، وقد ابتدأت فيه من القسم الثاني من المباحث الاصولية ، أي مباحث الأدلّة العقلية ، ورتّبته على عشرة أجزاء ، وهذا الذي بين يديك هو الجزء الخامس منها في أكثر مباحث الاشتغال ، أعني في أصل المسألة مع بعض تنبيهاتها. ويليه الجزء السادس في باقي تنبيهات المسألة مع أصل مسألة الأقلّ والأكثر.

ولئِن كان أكثر مطالب هذا الكتاب مخالفاً لِمَا هو المسموع من الكلمات فليس ذلك لأنّي قد اهتديت إلى ما لم يصل إليه الأساتذة والأكابر ، وهيهات لذهني القاصر أن يرتفع إلى ذلك ، وإنّما هو لأنّي لم اوفَّق للعروج إلى آفاق تفكيرهم ومجاراتهم في أنظارهم الدقيقة ، وكلّ رجائي من المولى سبحانه أن يشملني بعنايته ولطفه ، ويوفّقني لاقتفاء أثرهم ، ويعدّني للتشرّف باتّباع خطواتهم المباركة ، إنّه على كلّ شيءٍ قدير.

الراجي عفو ربِّه

محمّد باقر الصدر

٧
٨

غاية الفكر

٥

مباحث الاشتغال

مقدار منجّزيّة العلم الإجمالي.

مدى جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي.

تنبيهات العلم الإجمالي.

٩
١٠

مباحث الاشتغال

١

مقدار

منجّزيّة العلم الإجمالي

الرأي المختار في حقيقة العلم الإجمالي.

المباني المطروحة في حقيقة العلم الإجمالي.

منجّزية العلم الإجمالي وما يتنجّز به.

١١
١٢

والحمد لله ربّ العالمين ، وصَلّى الله عَلى سادة الخلق ، ومصَابيح الحقّ ، وكلمات الله التامات محمَّدٍ وآله الهداة الميامين.

وبعد فالبحث في المقام يقع في ناحيتين :

الاولى : في تحقيق مقدار تنجيز العلم الإجمالي ، ورفعه لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ المنقَّحة كبروياً في مباحث البراءة.

الثانية : في شمول أدلّة الاصول للأطراف بعضاً أو كلاًّ ، ثبوتاً أو إثباتاً.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ المبحوث عنه هنا هو أنّ المقدار الذي ثبت من تنجيز العلم الإجمالي وتبديله لِلّابيان بالبيان هل يوجب خروج أطرافه أو شيءٍ منها عن دائرة أدلّة الاصول ـ إمّا للقصور ثبوتاً ، أو للقصور في مقتضيات مقام الإثبات ـ أوْ لا؟

١٣
١٤

الناحية الاولى

ولتوضيح الحقّ فيها لا بدّ من بيان المختار في حقيقة العلم الإجمالي ، ثمّ نذكر سائر المسالك المعروفة في تصويره مع دفعها ، وبعده نبحث عن مقدار تنجيز العلم الإجمالي وإيصاله للواقع على جميع تلك المباني.

الرأي المختار في حقيقة العلم الإجمالي

مقدّمة :

ولتحقيق الحقّ وتشخيص متعلّق العلم الإجمالي نقدِّم أمرين لهما دخل في حلّ المشكلة :

الأول : أنّ الحمل على قسمين : الحمل الأوّلي الذاتي ، والحمل الشائع الصناعي ، كما هو واضح. والشيء قد يصدق حمل مفهومٍ عليه بالحمل الأولي ، ولا يجوز حمله عليه بالحمل الشائع الصناعي ، ولذا اشترط بعض المحقّقين (١) في التناقض وحدة الحمل ، فمفهوم النوع ـ مثلاً ـ نوع بالحمل الأولي ، وليس نوعاً

__________________

(١) وهو صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم ملا صدرا الشيرازي في الأسفار ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٤

١٥

بالحمل الشائع. وكذلك الجنس.

ومثلهما مفهوم الجزئي فإنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي ، وكلّي بالحمل الشائع. بل كلّ الصور العقلية ـ كصورة الإنسان ـ فإنّها بالحمل الأولي إنسان ، وبالحمل الشائع من الكيفيات العَرَضية القائمة في النفس أو بها ، على ما حقّق في مباحث الوجود الذهني.

فتحصَّل : أنّ الشيء قد لا يصحّ حمل نفسه عليه بالحمل الشائع ؛ وإن كان هو نفسه بالحمل الأوّلي ضرورة.

الثاني : المعروف أنّ انتزاع الكلّي من الجزئيات إنّما هو بتجريدها عن الخصوصيات التي لا يبقى بعدها إلّا صرف الطبيعة المسمّاة بالكلّي.

كما أنّ المعروف لأجل هذا ـ كما صرح به في تقريرات بحث المحقّق العراقي (١) ـ أنّ نسبة الكلّي إلى فرده نسبة الجزء التحليلي إلى الكلّ ، وعلى ذلك بنى أنّ مطابق الصورة العلمية الإجمالية إنّما هو الواقع ؛ ولكن بنحوٍ مجمل ، وليس المعلوم الإجمالي أمراً كلّياً ؛ لشهادة الوجدان بأنّ المعلوم إنّما هو سنخ عنوانٍ إجماليٍّ ينطبق على الواقع بتمامه ، لا بجزءٍ تحليليٍّ منه ، كما في الكلّي.

ووجه الالتزام : بأنّ الكلّي لا ينطبق على الفرد بتمامه ، باعتبار أنّه إنّما يكون كلّياً جامعاً بين فردين إذا الغيت في رتبته خصوصية كلٍّ من الفردين ، وإلّا لم يكن كلّياً ، وعليه فلا ينطبق على فرده بما أنّه متخصّص بما يمتاز به على الفرد الآخر.

ولكنّ التحقيق : أنّ الالتزام بذلك بلا ملزم ، بل قد يكون الكلّي منطبقاً على فرده بتمامه ، كما في موارد التشكيك الخاصّي في الماهيات ، بناءً على إمكانه ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٣٥

١٦

كما هو التحقيق ، بأن تكون الماهية متفاوتةً بنفسها في الأفراد ، بحيث إنّ ما به الاشتراك بينهما بعينه جهة الامتياز بينهما ، كالأربعة والستّة ، فإنّهما مشتركتان في العددية وممتازتان فيها ، ومفهوم العدد ينطبق عليهما بتمامهما ؛ لأنّ المفروض أنّه جهة امتياز كلٍّ منهما ، فهو كما يصدق على ما به يشترك العددان كذلك يصدق على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر.

وكذلك مفهوم الجزئي والمتشخّص فإنّه كلّي لقابليته للصدق على كثيرين ، ولا يعقل فيه دعوى أنّه لا ينطبق على فرده بتمامه ، إذ أنّه إذا الغي من فرده خصوصيته الموجبة لجزئيته يخرج عن كونه مطابقاً له.

وإن شئت قلت : إنّ أيّ متخصّصٍ يفرض ينطبق عليه مفهوم الجزئي ، فإن كان منطبقاً عليه بتمامه فهو المطلوب ، وإن انطبق عليه مع قطع النظر عن خصوصيته التي بها يمتاز على جزئيٍّ آخر ، نقلنا الكلام إلى هذه الخصوصية ، فإنّها أيضاً مصداق لمفهوم الجزئي ، فإن كان منطبقاً عليها بتمامها فهو ، وإلّا ننقل الكلام إلى خصوصياتها ، وهكذا ، حتى ينتهي الأمر إلى انطباق الكلّي على فرده بتمامه ؛ لبطلان التسلسل في الخصوصيات.

فقد ثبت بهذا البرهان مع براهين التشكيك الخاصّي إمكان انطباق الكلّي على فرده بتمامه ، فافهم واغتنم.

حدود المعلوم بالإجمال :

إذا تقرّر هذان الأمران نقول : إنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع بين الأطراف ، ولكن بتقريبٍ لا يرد عليه المحاذير التي سوف نشير إلى توجّهها على القول بتعلّقه بالجامع.

وتحقيقه : أنّ العلم الإجمالي عبارة عن التصديق بجزئيٍّ متخصّصٍ

١٧

بخصوصيةٍ واقعيةٍ بنحوٍ يكون خارجاً عن حدِّ الجامعية إلى مرتبة الفردية ، ويكون في عين الحال قابلاً للصدق على أكثر من واحدٍ بحسب الخارج ؛ لأنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي ، فإنّ العالم بالإجمال يتصور مفهوم الإنسان الجزئي المتعيّن بنحوٍ لا ينطبق على غيره ويصدّق بوجوده ، فما تعلّق به التصديق العلمي هو هذا المفهوم الجامع بين الأطراف مع كونه جزئياً بالحمل الأوّلي. ونحن اذا حلّلنا ما في نفس العالم بالإجمال نرى اموراً :

أحدها : العلم التصوري ، أي حضور صورةٍ جزئيةٍ بالحمل الأوّلي ، بمعنى تصور مفهوم الإنسان الجزئي.

ثانيها : التصديق بأنّ ذاك المعلوم التصوري له وجود ، فالمصدّق به ليس وجود هذا الإنسان أو ذاك بعينه ، بل وجود جزئي متعيّن من الإنسان.

ثالثها : احتمال أن يكون مطابق الصورة المذكورة زيداً أو عَمراً.

وعلى هذا لا ترد سائر الإشكالات الموردة على الالتزام بأنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع أو الواقع على سبيل الإجمال ، إن لم نلتزم بأنّ المعلوم جامع ملغي عنه الخصوصيّات ، وكذلك لم ندّع أنّه نفس الواقع والخصوصيّة بالحمل الشائع أي واقع ما يأبى الصدق على كثيرين على سبيل الإجمال. وسوف نذكر الإشكالات على المسلَكَين مفصّلاً ، إلّا أنّنا نشير إليها هنا لبيان عدم ورودها على التقريب المذكور.

أمّا الإشكالات على كون الجامع هو المعلوم الإجمالي فهي :

أولاً : ما يظهر من نهاية الأفكار (١) ، من أنّ الصورة الإجمالية ليست نسبتها إلى الخصوصية الواقعية نسبة الجزء إلى الكلّ ، بل تنطبق عليها بتمامها ، فلا يمكن

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧

١٨

الالتزام بأنّ العلم الإجمالي عبارة عن العلم التفصيلي بالجامع ، إذ يكون المعلوم منطبقاً على الواقع حينئذٍ بجزئه ، بل هو عبارة عن صورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع.

وثانياً : أنّ الجامع يعلم باستحالة وجوده بلا خصوصية ، فلا بدّ أن ينتهي العلم الإجمالي إلى العلم بالخصوصية الواقعية على سبيل الإجمال ، كما سيأتي بيانه مفصّلاً إن شاء الله ، فراجع.

وهذان الإشكالان لا يردانِ على تقريب القول بالجامع بتعلّق العلم الإجمالي بمفهومٍ جزئيٍّ بالحمل الأولي ، وكلّيٍّ بالحمل الشائع.

أمّا الأول فلما عرفت في المقدمة الثانية من أنّ عنوان الجزئي الذي هو المعلوم الإجمالي وإن كان جامعاً وكلّياً إلّا أنّه منطبق على فرده بتمامه ، وليس كسائر الكلّيات التي لا تنطبق على المشخّصات. فالجامع المزبور يحكي عن الواقع الجزئي بما أنّه جزئي ، بخلاف سائر الكلّيات التي تحكي عن ذات المتشخّص لا بما أنّه متشخّص ، فانطباق المعلوم على الواقع بتمامه وحكايته عنه لا يتوقّف على الالتزام بكون العلم الإجمالي مبايناً للعلم التفصيلي ومتقوّماً بصورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع ، بل يتمّ مع الالتزام برجوعه إلى العلم التفصيلي ، وكونه صورةً تفصيليةً للجامع ، ولكن للجامع المحتوي على نكتةٍ توجب انطباقه على فرده بتمامه ، كما بيّناه.

وأمّا الثاني فلأنّ المعلوم الإجمالي سنخ كلّي لا يعقل أن يكون متشخّصاً بأمرٍ زائدٍ على ما ينطبق عليه حتى يُدَّعى تعلّق العلم بذلك الأمر الزائد أيضاً ، فإنّ مفهوم الإنسان يحتاج في تشخّصه إلى أكثر من الحصّة التي ينطبق عليها ؛ لأنّه لا ينطبق على المشخّصات. وأما مفهوم الانسان الجزئي فهو لا يحتاج في تشخّصه إلى أكثر ممّا ينطبق عليه ؛ لأنّه ينطبق على نفس المتشخّص بما أنّه كذلك ،

١٩

فلا علم لنا بأكثر من هذا الكلّي ، وليس ذلك إلّا لأنّه جامع بين الجزئية بالحمل الأولي والكلّية بالحمل الشائع.

وأمّا الإشكالات على كون العلم الإجمالي متعلّقاً بالخصوصية الواقعية على نحوٍ مجمل فهي :

أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان القاضي بأنّ كلّ خصوصيةٍ من خصوصيات الأطراف مشكوكة وليست بمعلومة ، وإلّا لزم اجتماع الشكّ والعلم ، وهو محال.

وثانياً : أنّه لو فرض وجود كِلا الإنسانين فأيّهما يكون هو المعلوم مع استواء نسبة العلم إلى كلٍّ منهما؟

وثالثاً : ما سنحقّقه من استحالة الإجمال في الصورة العلمية ، بل هي : إمّا تفصيلية شخصية ، أو كلية.

وكلّ هذا لا يرد على ما عرفت ، من كون المعلوم الإجمالي هو خصوصية واقعية بالحمل الأوّلي ، لا بالحمل الشائع.

أمّا الأول فلأنّه إنّما يرد إذا قلنا : إنّ واقع الخصوصية والأمر الخارجي معلوم بالصورة الإجمالية ، وأمّا إذا كان المعلوم عنوان الإنسان الخاصّ لا واقعه فلم يجتمع اليقين والشكّ على متعلّقٍ واحد ؛ لأنّ الشكّ متعلّق بوجود الإنسان الجزئي بالحمل الشائع ، والعلم متعلق بوجود الإنسان المتخصّص بالحمل الأولي.

وأمّا الثاني فلأنّنا لم نلتزم بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع الحقيقي حتى يُسأل عمّا هو متعلّقه في الفرض المذكور ، بل بالجامع.

وأمّا الثالث فلأنّ الصورة تفصيلية ولا إجمال فيها ، بمعنى أنّها صورة لجامعٍ معيّنٍ لا لفردٍ مجملٍ حتى تكون مجملة ، وإذن فالمعلوم الإجمالي كلّيّ بالحمل الأولي ولا يرد عليه إشكالات تعلّق العلم الإجمالي بالكلّي ، وجزئي بالحمل الآخر ولا يرد عليه إشكالات تعلّقه بالجزئي.

٢٠