غاية الفكر

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

غاية الفكر

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ١٤٤

فيه خصوصية من الخصوصيات الواقعية لم يكن يزيد في اثره على الإلزام المتعلّق بصِرف الجامع ، وإنّما الأثر لخصوصية الظُهر وخصوصية الجمعة ، والمفروض أنّهما غير منكشفتين.

فإن قلت : قد ذكرت سابقاً : أنّ التصديق العلمي إنّما يتعلّق بعنوان الجامع المتخصّص بما أنّه فانٍ في فرده ، لا بما هو ، فقهراً يتنجّز فرده.

قلت : إنّ الجامع المزبور وإن كان محطّاً للتصديق العلمي بما أنّه فانٍ ومرآة ولكن لا بما أنّه مرآة وحاكٍ عن الخصوصية الواقعية بخصوصها ، بل بما أنّه فانٍ في صِرف وجوده ، بمعنى أنّ صرف وجود هذا الجامع معلوم ، فكيف يسري التنجّز إلى الخصوصية الواقعية بخصوصها؟

ثالثها : ما أفاده في نهاية الأفكار (١) أيضاً من : أنّه لو سُلِّم وقوف التنجّز على الجامع نقول بعد انحصار فرد هذا الجامع بإحدى الخصوصيتين : لا بدّ في مقام الخروج عن عهدة التكليف بهذا الجامع المنحصر فرده بإحدى الخصوصيتين من الإتيان بكلتا الخصوصيتين ، إذ مع الإتيان بإحداهما مع احتمال انحصاره بالاخرى يشكّ في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم.

ويرد عليه : أنّه بعد فرض اختصاص التنجّز بالجامع فالمقدار المنجّز من التكليف الواقعي هو مقدار تعلّقه بأحد الفعلين ، لا تعلّقه بأحدهما المعيَّن ، وعليه فعند الإتيان بأحد الفعلين يقطع بفراغ الذمّة عن المقدار الواصل المنجّز ؛ وذلك لأنّ تعلّق الوجوب بالجامع الذي هو المنجّز لا يقتضي من الحركة إلّا بمقدار أحد الفعلين. فالجامع في نفس الأمر وإن احتُمل كونه متعيّناً بنحوٍ لا يحصل امتثاله بالفعل المأتيّ به إلّا أنّه بما أنّه معلوم لا يكون متخصّصاً بخصوصية الظهر

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٨

٤١

ولا الجمعة ، فلا يقتضي أكثر من الإتيان بأحدهما.

وإن شئت قلت : إنّ مصداقية المأتيّ به من أحد الفعلين في الواجب الواقعي وإن كانت مشكوكةً إلّا أنّ مصداقيته للمقدار المعلوم منه معلومة ، فالمكلف بعد الإتيان بالظهر ـ مثلاً ـ لا يشكّ في الخروج عن عهدة المقدار المعلوم أصلاً.

رابعها : ما في مقالات المحقق العراقي (١) من : أنّ تنجّز الأحكام إنّما هو من لوازم وجودها خارجاً ، لا من لوازم صورها الذهنية ، غاية الأمر أنّ الحكم بوجوده الخارجي إنّما يكتسب التنجّز باعتبار انكشافه بصورته ، ولا يفرّق في صورته التي تكسبه التنجّز بين أن تكون صورةً إجماليةً له أو تفصيلية.

والحاصل : أنّ التنجّز ليس ثابتاً لنفس الصورة العلمية حتى يقال بعدم سريانه تبعاً للعلم ، بل هو ثابت للحكم الواقعي ، ومجرّد كون ثبوته له باعتبار الصورة العلمية لا يوجب تبعيّته لها في عدم السراية.

ويرد عليه :

أولاً : أنّ التنجّز بمعنى استحقاق العقاب على شيءٍ من لوازم العلم والوجود العلمي للتكليف ، فتمام الموضوع والسبب له هو العلم ، ولذا لا فرق في استحقاق العقاب بين موارد إصابة القطع وموارد خطئه. وأمّا التكليف بوجوده الواقعي فليس هو موضوع الاستحقاق وملزومه ، ولا جزء موضوعه أصلاً ، كما نقّحنا ذلك مفصّلاً في مبحث التجرّي ، فراجع.

وثانياً : أنّه لو فرض كون التنجّز من لوازم الوجود الخارجي للحكم ، لا العلمي ، إلّا أنّنا نقول : إنّه لا يكفي في اكتساب الحكم الواقعي للتنجّز انكشافه بالصورة الإجمالية التي نِسبتها اليه نسبة المجمل إلى المفصَّل ، بناءً على تعقّل

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٦

٤٢

ذلك ، والالتزام بأنّ العلم الإجمالي صورة إجمالية للواقع ، فإنّه مع ذلك لا يكون الواقع منجّزاً بالصورة الإجمالية أصلاً ؛ وذلك لأنّها غير طاردةٍ للشكّ الذي هو مناط المعذّرية عقلاً.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ انكشاف الشيء والعلم به بوجوده الواقعي لا يزيد على نفس الواقع ، وإنّما ينجّز بوجوده الواصل ، وفي المقام لم يحرز معلومية الواقع وكونه هو المنكشف بالصورة الإجمالية ليتنجّز ، فموجب اكتساب الحكم للتنجّز إنّما هو انكشافه بصورته التفصيلية ، ولذا لو لم يكن الجامع في المقام منكشفاً بالصورة التفصيلية لَما تنجّز شيء من أطراف العلم أصلاً.

والحاصل : أنّه على تقدير تسليم كون العلم الإجمالي صورةً إجماليةً للواقع لا يمكن الالتزام بتنجّز الواقع بها ، وكون منكشفيته بها موجبةً لتنجّزه ، وإن لم يحرز المكلف كونه منكشفاً بها.

فإن قلت : إنّ منكشفية الواقع بالصورة الإجمالية وإن لم تكن واصلةً بالعلم التفصيلي إلّا أنّها واصلة إجمالاً ؛ للعلم بمنكشفية أحد الطرفين بالصورة الإجمالية.

قلت : ننقل الكلام إلى هذا العلم الإجمالي بمنكشفية أحد الطرفين ، فإنّه لا يمكن أن ينجّز الواقع أيضاً ، بل إنّما ينجّز الجامع بين منكشفية هذا الطرف ومنكشفية ذاك الطرف.

والذي يدلّ على أنّ منكشفية الواقع بالصورة العلمية الإجمالية لا تكفي لتنجيزه بوجودها الواقعي : أنّه لو كان وجوب الظهر منكشفاً بالصورة العلمية الإجماليّة بأنّ علم المكلّف إجمالاً بوجوب الظُهر أو الجمعة ، ثمّ جرى الأصل المثبت لوجوب الجمعة فإنّه لا إشكال في عدم تنجيز العلم الإجمالي حينئذٍ لوجوب الظهر ، مع أنّه لو قلنا بأنّ منكشفية تكليفٍ بصورته الإجمالية واقعاً يكفي

٤٣

في تنجيزه لكان وجوب الظهر منجَّزاً ، إذ المفروض أنّه منكشف بالصورة العلمية الإجمالية واقعاً.

وسوف يأتي لهذا الإشكال مزيد توضيحٍ في مبحث الانحلال ، فانتظر.

وإذن فهذا كاشف عن أنّ منكشفية الشيء بوجودها الواقعي لا أثر لها ، وإنّما التنجّز فرع المنكشفية المحرَزة ، فلا يتنجّز الواقع بالصورة العلمية الإجمالية أصلاً.

خامسها : ما أفاده المحقّق الأصفهاني (١) من : أنّ عنوان عدم المبالاة بالتكليف اللزومي وعدم الانبعاث ببعثه في وجدان العقل ظلم على المولى ؛ لخروجه عن زيِّ الرّقّيّة ، ومن المعلوم أنّ المبالاة بالوجوب المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين ليست إلّا بالانبعاث عنه ، والانبعاث عن المعلوم لا عن الواقع لا يكون إلّا بفعلهما معاً ، فإنّ الانبعاث عن المعلوم المحكوم بالحسن عقلاً ليس إلّا بالانبعاث في وجدان العقل ، وفعل أحدهما وإن كان يحتمل أن يكون انبعاثاً لكنّه انبعاث عن الواقع المحتمل ، لا انبعاث عن المعلوم ، فالانبعاث عن البعث المعلوم في وجدان العقل إنّما هو بإتيان كلا الفعلين ، فعدم الجمع بينهما عبارة اخرى عن عدم الانبعاث عن البعث المعلوم ، وهو مصداق لعنوان عدم المبالاة بأمر المولى ؛ الذي هو قبيح بحكم العقل ، فينتج : أنّ ترك المخالفة القطعية مصداق لعنوانٍ قبيحٍ عقلاً.

ويتّضح الجواب عنه بما ذكرناه لدفع التقريب الثالث ، فإنّ المقدار المعلوم من التكليف لا يقتضي عقلاً إلّا الإتيان بأحد الفردين ، إذ المقدار المعلوم هو الإلزام بالجامع ، والخصوصيات لمَّا كانت مشكوكةً فوجودها وعدمها سيّان.

فالإلزام بالجامع المعلوم في المقام لا يزيد على الإلزام بالجامع في موارد

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٩٤

٤٤

التخيير العقلي أو الشرعي ، إلّا بخصوصيات غير واصلة ، فلو كان زائداً عليه في الأثر لكان معنى هذا أنّ تلك الخصوصيّات غير الواصلة مؤثّرة ، وهو محال.

وإذن فكما أنّ الإلزام بطبيعيّ صلاة الظهر يكون الإتيان بأحد مصاديقها انبعاثاً عنه كذلك الإلزام بالجامع بين الجمعة والظهر ـ الذي هو المقدار المعلوم في المقام ـ يكون الإتيان بالظهر فقط انبعاثاً عنه ، بمعنى أنّه إتيان بما يقتضيه عقلاً. وإذن فالانبعاث بأحد الفعلين انبعاث عن المقدار المعلوم ، وليس الانبعاث عنه بالإتيان بكلا الفعلين. نعم ، الانبعاث عن التكليف الواقعي في وجدان العقل إنّما يكون بإيجاد الفعلين معاً.

والحاصل : أنّ معنى الانبعاث عن تكليفٍ هو الإتيان بما يقتضيه عقلاً ، والإلزام بالجامع المعلوم في المقام إنّما يقتضي عقلاً الإتيان بأحد الفعلين ، لا غير ، فيكون الإتيان بأحدهما انبعاثاً عن المقدار المعلوم وتوفيةً لما هو حقّه عقلاً من الحركة.

سادسها : أنّ تنجّز الجامع يوجب تعارض الاصول في الأطراف وتساقطها ، فتجب الموافقة القطعية.

ولا يخفى أنّ هذا ليس تقريباً لتنجيز العلم الإجمالي للواقع ، بل هو تقريب لتنجّزه بالاحتمال بعد تعارض الاصول ، وهو مبنيّ على تسليم وقوع المعارضة في الأطراف ، وسوف يأتي ما هو الحقّ في ذلك في الناحية الثانية.

هذا كلّه ما وصل إلى ذهني القاصر لإثبات عدم تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي ، ودفع جميع ما افيد من التقريبات ، فافهم واغتنم.

ومما ذكرناه ظهر : أنّه لا يفرّق في ما ادّعيناه من إنكار تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي بين القول بتعلّقه بالجامع أو بالواقع على سبيل الإجمال ؛ لِمَا عرفت من أنّ العلم الإجمالي لو كان عبارةً عن صورةٍ إجماليةٍ للواقع لَما صلح لتنجيزه أيضاً.

٤٥

وكذلك الأمر بناءً على كون المعلوم بالإجمال هو الفرد المردّد ، إذ لا يعقل حينئذٍ سراية التنجّز إلى الواقع بشخصه لمّا لم يكن منكشفاً بعينه ، وتنجّز الفرد المردّد ووجوب الإتيان به عقلاً لا معنى له ؛ لأنّ المردَّد لا يعقل وجوده في الخارج حتّى على هذا المبنى ، إذ المدّعى في هذا المبنى تعقّل التردّد في الصورة العلمية ، لا في الوجود الخارجي ، وإذن فلم يبقَ شيء يعقل تنجّزه إلّا الجامع.

وبما ذكرناه اتّضح أيضاً انهدام القول بعلّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بجميع تقريباتها ؛ لأنّ العلّية مبنية على أمرين :

أحدهما : تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي ، ووقوعه موضوعاً لحكم العقل بسبب ذلك.

وثانيها : أنّ هذا الحكم تنجيزيّ من قبل العقل ، وليس معلَّقاً على عدم ورود الترخيص الشرعي ، وعليه ففي كلّ طرفٍ يحتمل التكليف المنجّز بنحوٍ يأبى عن الترخيص فيه ، ونحن قد هدمنا أساس العلّية بإنكار الأمر الأول ، كما هو واضح.

وأمّا تقريب الكفاية للعلّية وللتلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فهو مبنيّ على مبانيها غير المقبولة عندنا ، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه وفي مبانيه في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع ، فراجع.

والمتحقّق في هذه الناحية : أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية ، ولا اقتضاء بالإضافة إلى وجوب الموافقة القطعية.

٤٦

مباحث الاشتغال

٢

مدى جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي

جريان الاصول النافية في جميع الأطراف.

جريان الاصول النافية في بعض الأطراف.

جريان الاصول المثبتة مع العلم بالترخيص.

٤٧
٤٨

الناحية الثانية

وهي أنّه بعد أن تحقّق أنّ المقدار المنكشف بالعلم الإجمالي إنّما هو الجامع ، والمقدار المنجّز هو الجامع أيضاً فقط ـ كما بيّناه في الناحية الاولى ـ نريد أن نعرف أنّ هذا المقدار من الوصول والتنجّز هل يمنع عن جريان الاصول النافية في المقام ، أوْ لا؟

وتمام الكلام في جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي يستوفى بالبحث في مقامين :

المقام الأول : في جريان الاصول النافية في جميع الأطراف.

المقام الثاني : في جريانها في بعض الأطراف.

جريان الاصول النافية في جميع الأطراف

أمّا المقام الأول فلم أرَ مَن يستشكل في امتناع جريان الاصول النافية في جميع الأطراف ، بعد البناء على علّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وقبحها ، بدعوى أنّ مقتضى جريانها في جميع الأطراف الترخيص في المعصية القبيحة بحكم العقل ، وهي المخالفة القطعية ، إذ المفروض هو البناء على سببية

٤٩

العلم الإجمالي لقبح المخالفة القطعية ، فبعد البناء على هذا لا مجال لجريان الاصول في تمام الأطراف المؤدّي إلى الإذن فيها.

والتحقيق : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ جريان الاصول المؤمِّنة في تمام الأطراف إذا أدّى إلى الترخيص في المخالفة القطعية يكون ممتنعاً ، بعد ما اتّضح في الناحية الاولى من استقلال العقل بقبح المخالفة القطعية ، وعلِّية العلم الإجمالي لذلك ، فالحريّ بنا أن نبحث عن أنّ جريانها في جميع الأطراف هل يؤدّي إلى ذلك ليكون ممتنعاً ، أوْ لا؟

والإنصاف : أنّ للمنع عن تأديته إلى ذلك مجالاً واسعاً ، فإنّ جريان الاصول في تمام الأطراف لا ينافي حرمة المخالفة القطعية ، وعلِّية العلم الاجمالي لتنجيزها وقبحها أصلاً ، من دون فرقٍ بين الأصل العقلي ـ أي قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ أو الأصل الشرعي النافي ، كالبراءة أو الاستصحاب.

فالكلام إذن يقع : تارةً في جريان البراءة العقلية في تمام الأطراف ، واخرى في جريان البراءة الشرعية كذلك ، وثالثةً في جريان الاستصحاب النافي في الجميع.

البراءة العقليّة في جميع الأطراف :

أمّا الأول ـ أي البراءة العقلية ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ فقد اتّضح في الناحية الاولى أنّ موضوعها في كلٍّ من الطرفين في نفسه محقَّق ، إذ العلم الإجمالي إنّما يكون بياناً للجامع فقط ، كما عرفت ، فكلّ طرفٍ لم يتمَّ البيان عليه ، وإنّما تمّ البيان على الجامع ، إلّا أنّه قد يتوهّم أنّ موضوعها في كلّ طرفٍ وإن كان محقّقاً لعدم تمامية البيان عليه إلّا أنّ إجراء القاعدة في كلٍّ من الطرفين معاً ينافي الحكم باستحقاق العقاب على المخالفة القطعية ، إذ أنّ إجراء البراءة العقلية عن

٥٠

وجوب الظهر ـ بمعنى قبح العقاب على تركها ـ وإجراءَها عن وجوب الجمعة ـ بمعنى قبح العقاب على تركها ـ يؤدّي إلى قبح العقاب على تركهما معاً ، الذي هو معنى المخالفة القطعية ، فلا بدّ من الالتزام بعدم إعمال القاعدة في الطرفين ؛ لمنافاته مع الحكم بصحة العقاب على المخالفة القطعية.

ولكنّه يندفع بوضوح : أنّ قبح العقاب على كلٍّ من ترك الظهر والجمعة لا ينافي صحة العقاب على ترك الجامع بينهما ، بمعنى أنّ الإتيان بالظهر لا مقتضي له ؛ لعدم إحراز وجوبها ، فيقبح العقاب على تركها ؛ لأنّه عقاب بلا بيانٍ وبلا مقتضي كما أنّ الإتيان بالجمعة لا مقتضي له ؛ لعدم وصول وجوبها ، فيقبح العقاب على تركها بنفس المناط المزبور.

وأمّا الإتيان بالجامع بينهما فله مقتضٍ ، إذ المفروض أنّ المكلف قد أحرز تعلق الإلزام الشرعي بمقدار الجامع بين الفعلين ، فالعقاب على ترك الجامع عقاب مع المقتضي للحركة ، ومع البيان الموصل للتكليف.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ مرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ كما بيّنه المحقّق النائيني (١) في محلّه ، وأوضحناه في الجزء الثالث ـ إلى أنّ حركة المكلف إذا لم يكن لها مقتضٍ يقبح العقاب على تركها ، وأنّ المقتضي للحركة منحصر في التكليف بوجوده الواصل ، وحينئذٍ ففي المقام المقدار الواصل من التكليف ـ وهو الإلزام بالجامع ـ إنّما يقتضي الحركة بمقدار الجامع ، ولا يقتضي الحركة إلى الظهر خاصّة ، ولا إلى الجمعة خاصّة ؛ لما عرفت في الناحية الاولى من عدم سراية التنجّز من الجامع إلى الواقع ، فالحركة إلى الجامع لها مقتضٍ للعقاب فيصحّ العقاب على تركها ، وأمّا الحركة الى الظهر والحركة الى الجمعة فلا مقتضي لهما فيقبح

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨

٥١

العقاب على ترك كلٍّ منهما. والعقاب الذي يحكم به العقل عند ترك المكلف للفعلين معاً ليس على أحد التركين بخصوصه ليكون منافياً لقبح العقاب على كلٍّ منهما بخصوصه ، بل على الجمع بين التركين الذي هو عبارة اخرى عن ترك الجامع.

فاتّضح : أنّه لا مانع من إعمال البراءة العقلية في كلٍّ من الطرفين ، بمعنى الحكم بقبح العقاب من جهة ترك الظهر وقبح العقاب من جهة ترك الجمعة ، ولا ينافي الحكم بصحة العقاب في مورد المخالفة القطعية من جهة ترك الجامع ، إذ أنّ الحركة الى الجامع كان لها منجّز ومقتضي ، فتركها مورد للعقاب ، بخلاف الحركة إلى الجمعة والحركة الى الظهر فإنّه لم يكن هناك منجِّز لأيٍّ منهما.

البراءة الشرعيّة في جميع الأطراف :

وأمّا الثاني ـ أي البراءة الشرعية ـ فهي أيضاً تجري في جميع الأطراف من دون أن تنافي تنجّز الجامع ، سواء ما كان منها بلسان الرفع ـ كرُفِعَ ما لا يعلمون ـ أو بلسان الحلّية ، ككلّ شيءٍ حلال ... الى آخره.

أمّا الرفع فلأنّه بعد معلومية أنّه ليس رفعاً واقعياً ليكون إجراء الرفع في كلٍّ من الطرفين مؤدّياً إلى رفع الجامع واقعاً لا محالة ، بل هو رفع ظاهريّ للتكليف المشكوك بعدم إيجاب الاحتياط من جهته ، ولا أعني بذلك أنّ الرفع منصبّ ابتداءً على وجوب الاحتياط بحيث يكون هو المرفوع ، بل الرفع متعلّق بالواقع ولكن لا في قبال وضعه الواقعي ، بل في قبال وضعه الظاهري بإيجاب الاحتياط ، فإنّ وضع التكليف المشكوك ظاهراً إنّما هو بجعل منجّزٍ له ، كإيجاب الاحتياط ، فرفعه ظاهراً المقابل لذلك الوضع يرجع إلى أنّ التكليف المشكوك لم يوضع في الظاهر

٥٢

بجعل إيجاب الاحتياط ، فمفاد البراءة الشرعية هو نفي الوضع الظاهري للواقع المشكوك.

وعليه ففي المقام مقتضى البراءة الشرعية عن وجوب الظهر هو عدم وضع هذا الوجوب بإيجاب الاحتياط ، ومقتضى البراءة الشرعية عن وجوب الجمعة هو عدم وضع هذا الوجوب بإيجاب الاحتياط. فلو جرت البراءة وثبت الرفع في كلا الطرفين لكان معنى ذلك أنّ كلاًّ من الطرفين لم يوضع في مرتبة الظاهر بإيجاب الاحتياط. ومن المعلوم أن عدم وضع وجوب الجمعة ظاهراً وعدم الإلزام بها ظاهراً بعنوان الاحتياط ، وعدم وضع وجوب الظهر كذلك وعدم الإلزام بها ظاهراً لا ينافيان لزوم الجامع ووجوبه عقلاً.

وبتعبيرٍ أوضح : أنّ مفاد الرفع إن كان يرجع إلى الترخيص الظاهري في الارتكاب فيكون شأنه شأن قوله : «كلّ شيءٍ حلال» وسوف نتكلّم عنه.

وإن كان يرجع إلى مجرّد نفي الوضع الظاهري والإلزام الظاهري فمن الواضح أنّ عدم الإلزام الظاهري بالجمعة وعدم الإلزام الظاهري بالظهر لا ينافيان حرمة المخالفة القطعية ، ولا يقتضيان نفي الإلزام بالجامع بين الظهر والجمعة واثبات الترخيص في تركه.

وأمّا ما كان بعنوان الترخيص الظاهري من أدلّة البراءة فيمكن أن يقال : إنّ شموله لكلا الطرفين معناه الترخيص في ترك الظهر والترخيص في ترك الجمعة ، وهذان الترخيصان إنّما يقتضيان المعذورية ، وينفيان العقاب من جهة كلٍّ من التركين ، لا من جهة ترك الجامع المتحقّق بالتركين معاً.

وأكبر شاهدٍ على ذلك أنّه لو فرض أنّ الوجوب الشرعي تعلّق واقعاً بالجامع بين الظهر والجمعة فإنّه حينئذٍ يكون ترك الظهر مرخَّصاً فيه بجميع حصصه ، أي سواء كان منفرداً أو في حال انضمامه إلى ترك الجمعة. كما أنّ ترك

٥٣

الجمعة مرخَّص فيه في حال انفراده وفي حال انضمامه إلى ترك الظهر ، ولا يكون الترخيص في ترك الظهر والترخيص في ترك الجمعة كذلك منافيين للوجوب الشرعي المفروض تعلّقه بالجامع أصلاً ، فكما لا يكون هذان الترخيصان الواقعيان منافيين للوجوب الشرعي المتعلق بالجامع كذلك لا يكون الترخيصان الظاهريان في المقام منافيين للوجوب العقلي المتعلّق بالجامع.

وبتعبيرٍ أوضح : أنّ الوجوب الشرعي لو تعلّق بالجامع بين الظهر والجمعة حقيقةً فليس مرجعه إلى الإلزام بكلٍّ منهما في ظرف ترك الآخر بحيث يكون عبارةً عن إلزامين مشروطين ، بل هو إلزام بالجامع فقط. وأمّا الظهر خاصّةً فليست متعلّقةً للإلزام حتى في ظرف ترك الجمعة ، بل هي مباحة لا إلزام بها حتى في هذا الظرف ، وإنّما الإلزام واقف على الجامع دائماً.

وعليه فالإباحة ثابتة لصلاة الظهر في جميع الأحوال والإلزام غير متعلّقٍ بها أصلاً ، وكذلك صلاة الجمعة فإنّه لا إلزام بها حتى في ظرف ترك الظهر ، وإذن فهي متعلّقة للإباحة في جميع أحوالها أيضاً. وعليه فقد اجتمع وجوب شرعيّ للجامع بين الظهر والجمعة مع الإباحة الواقعية للظهر في جميع أحوالها ، وللجمعة في جميع أحوالها ، ففي المقام أيضاً لا يكون إباحة كلٍّ من الفعلين بالإباحة المطلقة منافياً لوجوب الجامع بينهما وتنجّزه عقلاً.

وتمام المرام بيان أنّ ثبوت الإباحة المطلقة الظاهرية في كلٍّ من الطرفين اللذَين يعلم بوجوب أحدهما ليس معناه إذن الترخيص في ترك الجامع رأساً ، وليس ملازماً لمعذوريته في ترك الجامع حتى ينافي حكم العقل بوجوب الإتيان بالجامع ، وإلّا لو كان ملازماً لذلك ومؤدّياً له لكانت الإباحة الواقعية الثابتة لكلٍّ فرد من أفراد الواجب الشرعي في جميع أحواله مؤدّيةً إلى الإذن في ترك الواجب رأساً.

٥٤

ولا يمكن دعوى أنّه لا تثبت هناك الإباحة الواقعية لكلّ فردٍ في جميع أحواله ، بل في ظرف وجود الفرد الآخر ؛ لوضوح أنّ نتيجة ذلك أنّ كلّ فردٍ في حال عدم وجود الفرد الآخر ليس مباحاً بل واجباً ، وهو يقتضي الالتزام بوجوباتٍ مشروطةٍ بعدد الأفراد ، بمعنى أنّ كلّ فردٍ يكون واجباً في ظرف عدم الآخر ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به بداهةً ، فلا بدّ من الاعتراف بأنّ كلّ فردٍ من أفراد الواجب متعلّق للإباحة المطلقة حتى في ظرف عدم الآخر ، إلّا أنّ هذه الإباحات المطلقة لا تؤدّي إلى الإذن في ترك الواجب رأساً ، فلتكن الإباحات المطلقة الظاهرية في المقام الثابتة للأطراف غير مؤدّيةٍ إلى الإذن في ترك الجامع أيضاً ، وإذا لم تكن مؤدّيةً إلى ذلك فلا مانع من ثبوتها ؛ لعدم منافاتها حينئذٍ لِمَا يقتضيه المقدار المعلوم من الحركة.

فإن قلت : على هذا يثبت أنّ الترخيص الظاهري في ترك الجمعة والترخيص الظاهري في ترك الظهر إنّما يؤمِّنان من ناحية ذاتَي التركين ، لا من ناحية الجمع بين تركيهما الذي هو معنى ترك الجامع بينهما ، وعليه فلو كانت عندنا شبهتان وجوبيّتان بدويّتان وثبت في كلٍّ منهما الإباحة المطلقة لم يكن ذلك كافياً لجواز ترك الجامع بين الفعلين رأساً.

قلت : نعم ، لا يكفي الأصلان الجاريان في الشبهتين لذلك ، بل لا بدّ من إعمال الأصل لنفي وجوب نفس الجامع وإثبات حلّية تركه إن كان محتمل الوجوب.

وبما ذكرناه ظهر أنّه لو بني على كون العلم الإجمالي مستتبعاً لوجوب الموافقة القطعية عقلاً ولكن بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّية ـ بمعنى مشروطية حكم العقل بذلك بعدم الترخيص الشرعي ـ لم يكن ذلك مجدياً أيضاً في إلزام المكلّف بالموافقة القطعية ؛ لِمَا عرفت من جريان الاصول الشرعية المؤمّنة في الأطراف

٥٥

الرافعة لموضوع حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.

والمتحصّل : أنّ الوجوب الواقعي الموجود في البين لا يوجب إلّا الإتيان بأحد الطرفين ، ولا يصحِّح العقاب إلّا على ترك الجامع رأساً باعتبار وصوله وصولاً إجمالياً. وأمّا الإباحة الظاهرية في كلٍّ من الطرفين بالخصوص ـ اللذَين أحدهما هو الواجب الواقعي ـ فهي لا تقتضي إلّا عدم العقاب على ترك كلٍّ من الفعلين بالخصوص ، ولا توجب المعذورية في ترك الجامع رأساً ، فهي لا تزيد في أثرها على البراءة العقلية.

جريان الاستصحاب في جميع الأطراف :

وأمّا الثالث ـ وهو الاستصحاب ـ فقد ظهر الكلام فيه ممّا مضى ، فإنّ العلم الإجمالي ، بالإلزام بعد أن كان لا يوجب إلّا لزوم الإتيان بأحد الفعلين عقلاً واستحقاق العقاب على ترك الجامع بينهما رأساً فلا يكون منافياً لجريان استصحاب عدم الوجوب في كلٍّ من الطرفين ؛ لأنّ التعبّد الاستصحابي بعدم الوجوب في كلٍّ منهما إنّما يقتضي جواز تركه ، لا جواز ترك الجامع رأساً ، وجواز الجمع في الترك ، وإلّا لكانت الإباحات الواقعية المطلقة المتعلقة بأفراد الواجب الشرعي مقتضيةً للترخيص في ترك الواجب ، كما عرفت مفصّلاً.

وبالجملة : الثابت بالعلم الإجمالي أنّ ترك الجامع بين الفعلين سبب وعلّة لاستحقاق العقاب عقلاً ، والمؤمِّن الشرعي في جانب صلاة الجمعة ـ مثلاً ، سواء كان براءةً أو استصحاباً ـ إنّما يوجب التأمين بمعنى عدم كون ترك صلاة الجمعة موجباً لاستحقاق العقاب : إمّا لحلّيتها كما هو مقتضى أصالة البراءة ، أو للتعبّد بإحراز عدم وجوبها كما هو مقتضى الاستصحاب ، فالذي يثبت بالمؤمِّن

٥٦

بأيِّ لسانٍ كان إنّما هو عدم سببية ترك الجمعة لاستحقاق العقاب مطلقاً ، حتى فيما لو وقع ترك الجمعة في ظرف ترك الظهر ، فإنّ ترك الجمعة الواقع في هذا الظرف ليس منشأً للعقاب أيضاً ببركة الحكم بإباحتها ، أو التعبّد الاستصحابي بعدم وجوبها ، كما أنّ الحال في الظُهر ذلك أيضاً ، بمعنى أنّ تركها ولو في ظرف ترك الجمعة لا يكون منشأً للعقاب ببركة الحكم بإباحتها أو التعبّد الاستصحابي بعدم وجوبها.

وإذن فلو اجتمع التركان فلا يكون ترك الجمعة مصحِّحاً للعقاب ؛ لأنّه ترك لفعلٍ مباحٍ ظاهراً ، أو متعبّد بعدم وجوبه استصحاباً. كما أنّ ترك الظهر لا يكون مصحِّحاً للعقاب لعين الوجه ، إلّا أنّ ذلك لا ينافي أن يكون ترك الجامع بين الفعلين المتحقّق بالتركين معاً منشأ للعقاب ومصحِّحاً له بحكم العقل.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ المجعول في باب الاستصحاب إمّا أن يكون هو الحكم المماثل للمؤدّى ، أو الطريقية والكاشفية.

فعلى الأول يكون استصحاب عدم وجوب الظهر ، متكفّلاً للحكم بعدم الإلزام به المساوق للترخيص والإباحة ، كما أنّ مرجع استصحاب عدم وجوب الجمعة إلى الترخيص والإباحة أيضاً ، فتكون الجمعة مباحةً ظاهراً بقولٍ مطلقٍ إباحةً استصحابيةً ظاهرية ، وكذلك الظهر ، وقد عرفت سابقاً أنّ ثبوت الإباحة المطلقة لكلٍّ من الفردين لا ينافي لزوم الجامع ، ولا يؤدّي إلى الإذن في تركه رأساً.

وأمّا على الثاني ـ أي لو كان المجعول هو الطريقية ـ فالأمر أوضح.

بيان ذلك : أنّ الطريقية الاعتبارية الشرعية عند من يلتزم بمجعوليتها يترتّب عليها ما يترتّب على الطريقية التكوينية من التنجيز والتعذير ، فالانكشاف التعبّدي للإلزام يوجب خروجه عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وصحة

٥٧

العقاب ؛ لأنّه عقاب مع وجود البيان على التكليف. كما أنّ الانكشاف التعبّدي لعدم الإلزام يوجب قبح العقاب بملاك قبح العقاب على مخالفة تكليفٍ مع قيام البيان على عدمه.

إذا اتّضح هذا نقول : إنّ معنى إجراء الاستصحابين في كلا الطرفين معاً هو انكشاف عدم وجوب الظهر تعبّداً ، وانكشاف عدم وجوب الجمعة تعبّداً أيضاً ، ومن الواضح أنّ هذين الانكشافين لا يسريان من موضوعيهما التفصيليّين إلى الجامع ، بمعنى أنّ المنكشف عدمه بهما هو هذا الطرف بعينه ، وذاك الطرف [كذلك] ، لا الجامع المنكشف بالصورة العلمية الإجمالية ، وإذن فلا يسري العلم الإجمالي إلى الواقع ، ولا الإحراز التعبّدي الاستصحابي في كلٍّ من الطرفين يسري إلى المقدار المنكشف بالصورة الإجمالية.

وحينئذٍ فإذا جرى الاستصحاب في كلّ من الطرفين وأحرزنا تعبّداً ببركة الاستصحاب عدم وجوب الجمعة كما أحرزنا عدم وجوب الظهر فالمقدار المنكشف بالاستصحابين تعبّداً هو عدم وجود هذا الوجوب ، وعدم وجود ذاك الوجوب ، لا عدم الجامع ، فلنا أمران قد انكشف عدمهما تعبّداً ، وهما : وجوب الظهر ، ووجوب الجمعة ، وأمر قد انكشف وجوده بالصورة العلمية الإجمالية وجداناً وهو أصل الإلزام ، وهذا المقدار المنكشف وجداناً من الإلزام إنّما يوجب تنجّز الجامع بين الفعلين ووجوب الإتيان به عقلاً ، بمعنى إدراك العقل واستقلاله بأنّ ترك الجامع مصحِّح للعقاب وسبب له ، فلا بدّ حينئذٍ أن نرى أنّ ذينك الانكشافين الاستصحابيّين التعبّديّين لعدم وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة هل ينافيان هذا المقدار من التنجّز حتى يمتنع جريانهما ، أوْ لا؟

ومن الواضح ممّا بيّناه هو عدم المنافاة ؛ وذلك لأنّ الانكشاف التعبّدي

٥٨

الاستصحابي لعدم وجوب الجمعة يؤثّر عقلاً في جعل العقاب على ترك الجمعة قبيحاً ؛ لأنّه عقاب على ترك أمرٍ مع قيام البيان على عدم التكليف به ، فما يوجبه هو أنّ ترك الجمعة ليس سبباً للعقاب أصلاً.

كما أنّ الانكشاف الاستصحابي لعدم وجوب الظهر يؤثّر عقلاً في جعل العقاب على ترك الظهر قبيحاً بعين الوجه ، فما يوجبه هو أنّ ترك الظهر ليس سبباً للمؤاخذة.

وإذن فنتيجة الاستصحابين عقلاً هي : أنّ ترك الجمعة ليس سبباً للعقاب ، وأنّ ترك الظهر ليس سبباً له ، ومن المعلوم أنّ هذه النتيجة لا تنافي ما يستوجبه العلم الإجمالي من تنجّز الجامع وكون تركه سبباً للعقاب ، فإنّ عدم سببية كلٍّ من التركين لا يقتضي نفي كون ترك الجامع سبباً.

وإذن فعندنا تروك ثلاثة :

أحدها : ترك الجامع ، وهو يصحّ العقاب عليه ؛ لأنّه عقاب على ترك شيءٍ كان هناك مقتضٍ للحركة على طبقه ، إذ المفروض أنّ المقدار الواصل من الإلزام إجمالاً يقتضي الإتيان بالجامع ، فتركه ترك لِمَا لَه مقتضٍ فيصير سبباً للعقاب.

وثانيها : ترك الظهر ، وهو ليس سبباً للعقاب ، ولا يصحّ العقاب عليه ؛ لأنّه ترك لفعلٍ لم يكن له مقتضٍ ، بل قد قام البيان على عدم وجوبه ، كما أنّ ترك الجمعة يكون تركاً لفعلٍ قد قام البيان الاستصحابي على عدم وجوبه.

وعليه فترك الجامع يندرج في قاعدة صحّة العقاب مع البيان وتمامية المقتضي ، وترك الظهر وترك الجمعة يندرجان في قاعدة قبح العقاب مع بيان العدم ولو بياناً تعبّدياً.

فاتّضح : أنّ توهّم المعارضة بين الاستصحابين مبنيّ إمّا على تخيّل أنّ

٥٩

مرجع الانكشافين التعبّديّين الى الانكشاف التعبّدي لعدم أصل الإلزام رأساً الموجب لعدم لزوم الإتيان بالجامع أصلاً ، وهو غير معقول ؛ لاستقلال العقل بلزوم الإتيان به. أو تخيّل أنّ الانكشافين المزبورين وإن لم يكن مرجعهما الى انكشاف عدم جامع الإلزام إلّا أنّهما يقتضيان عدم صحة العقاب [لا] على ترك الظهر ولو في ظرف اجتماعه مع ترك الجمعة ، ولا على ترك الجمعة ولو في ظرف اجتماعه مع ترك الظهر ، وهذا يؤدّي إلى عدم صحة العقاب في مورد اجتماع التركين معاً.

وكلا التخيّلين مدفوع ـ كما عرفت ـ بما لا مزيد عليه.

أمّا الأول فلأنّ الانكشافين التعبّديّين لا يسريان إلى المقدار المنكشف بالصورة العلمية الإجمالية ، نعم ، لو كان انكشافين حقيقيّين لكانا ملازمين للعلم بعدم أصل الإلزام.

والحاصل : أنّ المعلوم الوجداني هو الجامع بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة ، بمعنى أنّ طبيعيّ الوجوب الجامع بين الوجوبين هو المعلوم ، والانكشاف التعبّدي لعدم هذا الوجوب بخصوصه والانكشاف التعبّدي لعدم ذاك الوجوب بخصوصه ليسا انكشافاً لعدم الجامع بين الوجوبين ، وإلّا لكان استصحاب عدم الفرد الطويل حاكماً على استصحاب الكلّي في القسم الثاني ، مع أنّهم لا يقولون بالحكومة ، وليس ذلك إلّا لأنّ استصحاب عدم الفرد الطويل لا يثبت به عدم الكلّي حتى يكون مُلغياً للشكّ في الكلّي وحاكماً على استصحابه ، فإنّه لو كان يثبت عدم الكلّي باستصحاب عدم الفرد الطويل لتمّت الحكومة ، وكان استصحاب عدم الفرد رافعاً لموضوع استصحاب الكلّي ومقتضياً لإحراز عدمه وارتفاع الشكّ في بقائه.

فاتّضح بهذا : أنّ محطّ الانشكاف التعبّدي الثابت بدليله إذا كان هو عدم

٦٠