غاية الفكر

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

غاية الفكر

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ١٤٤

المباني المطروحة في حقيقة العلم الإجمالي

وبعد هذا لا بأس بالإشارة إلى المباني التي قيلت في العلم الإجمالي ، وهي ثلاثة :

تعلّق العلم بالفرد الواقعي :

الأول : ما ذهب إليه المحقّق العراقي (١) من مغايرة الصور العلمية الإجمالية مع الصور العلمية التفصيلية سنخاً ، فليس العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه صورة تفصيلية ـ كما يدّعيه من يلتزم بأنّ معلومه هو الجامع ـ بل هو بالإضافة إليه كالمجمل إلى المفصَّل ، بمعنى أنّه عبارة عن صورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع ، على نحوٍ لو كُشِفَ الغطاء لكان المعلوم بالإجمال عين المعلوم بالتفصيل ومنطبقاً عليه بتمامه ، لا بجزءٍ منه ، فالفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في إجمالية الصورة العلمية وتفصيليتها ، لا أنّ العلم الإجمالي صورة تفصيلية للجامع والعلم التفصيلي صورة تفصيلية للفرد ، بل الأول صورة إجمالية للفرد ، والثاني صورة تفصيلية له.

ولا يظهر منه البرهنة على هذا المبنى ؛ وإن أمكن استفادته من بعض كلمات التقريرات ـ نهاية الأفكار (٢) ـ إذ يظهر منها التزامه بأنّ الصورة العلمية الإجمالية منطبقة على الواقع بتمامه ، وهو لا يتمّ إلّا على المبنى المزبور.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٣٠٩

٢١

كما يمكن الاستدلال له أيضاً : بأنّ لدى العالِم علماً بأكثر من الجامع ؛ لأنّ الجامع لا يوجد إلّا متخصِّصاً ، فالانتهاء إلى خصوصيةٍ تكون متعلَّقاً للعلم الإجمالي لا بدّ منه.

وقد عرفت في ما سبق أنّ هذين الوجهين إنّما يبطلان القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع الملغى عنه خصوصيات الأطراف ، والممتنع انطباقه عليها بخصوصياتها ، ولا يعيِّنان كون الصورة العلمية إجماليةً وحاكيةً عن الواقع ؛ لإمكان الالتزام بتفصيلية الصورة ، وكون المعلوم بها هو الجامع ، ولكن بالنحو الذي أوضحناه ، فلا يرد شيء من الإشكالين.

وإذن فلا برهان على ما افيد ، بل البرهان على خلافه.

وتحقيق ذلك : أنّ الوجود الذهني كالوجود الخارجي في أنّه ملازم للتشخّص والتعيّن ، بل عينهما بوجه ، فالتشخّص والتعيّن مساوق لحقيقة الوجود السارية في عالم الذهن والخارج ، فكما يمتنع أن يكون الموجود الخارجي مردّداً أو غير متعيّن الهوية كذلك الوجود الذهني ، والصور الذهنية يستحيل فيها عدم التعيّن من سائر الجهات.

والعلم عبارة عن حضور الشيء لدى النفس ، وقيام الصورة بها على نحوٍ يقترن بالتصديق.

وعلى هذا فالصورة الذهنية القائمة في نفس العالم بالإجمال والتي هي محطّ التصديق باعتبار فنائها في معنونها وجود ذهني ، حاله حال سائر الوجودات في أنّه لا بدّ من كونه وجوداً لأمرٍ متعيَّنٍ بخصوصياته ؛ لاستحالة وجود الأمر المردّد ، وحينئذٍ نقول : إنّها إمّا أن تكون وجوداً لطبيعيّ الوجوب الملغى عنه خصوصيات الأطراف ، وإمّا أن تكون وجوداً للوجوب المتخصّص بخصوصية طرفٍ بعينه ، كخصوصيّة التعلّق بالظهر ، وإمّا أن تكون وجوداً للوجوب

٢٢

المتخصّص بخصوصيّةٍ مردّدة.

ومردّ الأول إلى كون المعلوم هو الطبيعيّ الجامع القائم في النفس بتوسّط الصورة ، فمُعَنوَنُ الصورة هو الجامع بين الوجوبين الخارجيّين ، لا أحدهما المعيّن إذ المعنون مطابق لعنوانه.

فإذا كانت الصورة الحاكية المأخوذة بنحو المرآتية وجوداً للطبيعي خالياً عنه الخصوصيات فلا يعقل أن تحكي إلّا عن وجود الطبيعي في الخارج خالياً عن خصوصيات الأطراف.

ومرجع الثاني إلى العلم التفصيلي بالخصوصية ، إذ فرضه فرض كون خصوصية وجوب الظهر قد اقترن وجودها الذهني بالتصديق من قِبَل النفس بما أنّه آلة للخارج ، ولا نعني بالعلم التفصيلي غير هذا فهو خُلْفُ دعوى إجمال الصورة.

والثالث أمر غير معقول ، إذ كما يمتنع أن يوجد الوجوب في الخارج متخصّصاً بالخصوصية المردّدة بين الظهر والجمعة كذلك يمتنع أن تكون صورته الذهنية وجوداً لِمَا لا تعيّن له.

ودعوى : أنّ كلاًّ من طرفي العلم الإجمالي يُنتزع منه عنوان أحدهما ، فكلّ منهما هو أحد الطرفين ، والمعلوم إحدى الإحْدَيَتَين مدفوعة : بأنّ المعلوم إن كان الأحد المعيَّن من الأحَدَيْن بخصوصيته فالصورة تفصيلية ، وإن كان جامع الأحَدَيْن الملغى عنه خصوصية كلٍّ منهما فالمعلوم الإجمالي هو الجامع ، وإن كان هو الأحد المردّد بحسب الخصوصية فهو ممتنع الوجود ذهناً وخارجاً ، فلا نتعقّل الصورة الإجمالية أصلاً.

ثمّ إنّه قد اورد على المسلك المزبور وجهان :

الأول : استلزامه لاجتماع اليقين والشكّ ، اذ يكون الواقع منكشفاً بالصورة

٢٣

العلمية بحسب الفرض ، ومشكوكاً بالضرورة.

الثاني : أنّ المعلوم الإجمالي قد لا يكون له واقع أصلاً ، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وكان كلاهما نجساً ، فأيّهما المعلوم مع استواء نسبة العلم إلى كلٍّ منهما؟

ويرد على الاعتراض الأول : أنّ المحال هو تقوّم العلم والشكّ بموضوعٍ واحدٍ وصورةٍ واحدةٍ في افقهما ، فإنّ المتضادَّين يمتنع اجتماعهما على شيءٍ واحدٍ في موطن وجودهما وتضادّهما.

والحاصل : أنّ العلم والشكّ متقوّمان بالصورة ، لا بالواقع ، فالممتنع اجتماعهما على صورةٍ واحدة ، ففي موارد العلم التفصيلي بزيدٍ ـ مثلاً ـ يمتنع الشكّ فيه ؛ لأنّ أيّ صورةٍ تفصيليةٍ لزيدٍ تفرض يقوم الشكّ بها فهي متعلّق للتصديق العلمي من قبل النفس أيضاً ، فيلزم اجتماعهما ، وأمّا في المقام فالشكّ متقوّم بالصورة التفصيلية والعلم بالصورة الإجمالية ، فموضوعهما الحقيقي متعدّد وإن كان المضاف اليه خارجاً متّحداً.

وإن شئت قلت : إنّ الانكشاف لشيءٍ على هذا المبنى عبارة عن حضور صورته الإجمالية أو التفصيلية لدى النفس مقروناً بالتصديق. وفي المقام عند العلم بنجاسة الإناء الأبيض إجمالاً لدينا شيئان : أحدهما نجاسة الإناء الأبيض الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي ، والآخر كونها هي المطابقة للصورة العلمية الإجمالية.

والأول معلوم لحضوره للنفس. والثاني هو المشكوك ، فإنّ المطابقة أمر غير نفس المطابق ، ويمكن انكشاف أحدهما دون الآخر.

وأمّا الاعتراض الثاني فهو وإن كان لا يرد عليه النقض بدعوى وروده على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع أيضاً ، إذ المراد بذلك تعلّقه بالوجود الواقعي

٢٤

بما أنّه مضاف إلى الجامع لا إلى الفرد ، فيُسأل حينئذٍ في الفرض المزبور أنّه متعلّق بأيٍّ من الوجودَين بما أنّه مضاف إلى الجامع؟ ووجه عدم الورود : أنّ المعلوم الإجمالي عند القائل بالتعلّق بالجامع هو الجامع بين الوجود الخارجي وغيره ، لا الوجود الخارجي ولو مضافاً إلى الطبيعي ؛ الذي هو عبارة اخرى عن الحصّة من الطبيعيّ الموجودة في ضمنه ، إذ الصورة العلمية قد الغي عنها جميع خصوصيات الأطراف ، فلا يمكن الالتزام بأن المعلوم بها هو وجود أحد الطرفين المعيّن بما أنّه وجود للطبيعي ، إذ بعد تجريد الصورة لا وَجْه لتعيّن واحدٍ معيّنٍ من الطرفين لأن يكون وجوده هو المنكشف ولو بما أنّه وجود للطبيعي.

ولكن يرد على الاعتراض المزبور : أنّه لا يكون إشكالاً على المبنى المزبور ، ولا على ما فرَّعه عليه صاحبه من القول بالعلّية ، على ما سيأتي بيانه.

وذلك لأنّ المهمّ في هذا المسلك إثبات كون الصورة العلمية الإجمالية مباينةً سنخاً للصورة العلمية التفصيلية ، وأنّ نسبتها إلى معلومها ليس كنسبة تلك إلى معلومها ، فالصورة القائمة في موارد العلم الإجمالي صورةٍ إجمالية لوجوبٍ شخصي ، لا صورةً تفصيليةً للجامع بين وجوبين.

وما افيد من الإشكال لا يكون هادماً لدعوى إجمالية الصورة العلمية في المقام ، ولا مثبتاً لرجوعها إلى الصورة العلمية التفصيلية ، بل يثبت أنّ هذه الصورة الإجمالية قد لا يكون لها مطابق في الخارج لاستواء نسبة الطرفين اليها. وهذا لا يضرّ بالمسلك المزبور أصلاً ، إذ المدّعى فيه ليس هو وجود المعلوم بالعرض للعلم الإجمالي دائماً ، كيف وقد يكون جهلاً مركّباً؟ بل المدّعى فيه إجمالية الصورة وحكائيّتها عن شيءٍ جزئي ، لا عن الجامع ، وهذا المحكيّ عنه قد لا يكون أصلاً لكون العلم جهلاً مركّباً ، وقد لا يتعيّن أحد الطرفين لكونه محكيّاً عنه ؛ لاستواء نسبتهما.

٢٥

والحاصل : المقصود إثبات أنّ القائم بالنفس المقرون للتصديق فرد مجمل من الإنسان ـ مثلاً ـ نسبته إلى كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي نسبة المجمل إلى المفصَّل ، لا الكلّي إلى فرده ، لا أنّ للعلم الإجمالي ولهذا الفرد المجمل مطابقاً في الخارج دائماً ، أو أنّ العلم الإجمالي متقوّم بالواقع الخارجي ليُشكَل بأنّه في هذا الفرض متقوّم بأيٍّ من الطرفين الخارجيَّين.

وأمّا تفريع العلّية على هذا المسلك فلا يضرّ به الإشكال المزبور أيضاً ، وإن كان قد يُقرَّب إضراره ببيان : أنّ دعوى العلّية مبتنية على أن يكون هناك واقع معيّن منكشف بالعلم الإجمالي ، ويكون العلم الإجمالي علّةً تامةً لتنجيزه حتى يكون احتمال التكليف في كلّ طرفٍ احتمالاً للتكليف المُنجَّز بالحكم التنجيزي من العقل. وأمّا إذا فرض أنّه ليس هناك طرف معيّن لأن يكون هو المنكشف لأجل نجاسة كِلا الإناءين ـ مثلاً ـ واستواء نسبتهما إلى العلم ـ كما هو مقتضى النقض المزبور ـ فلا يتنجّز شيء من الطرفين بخصوصه ؛ لأنه بلا مرجّح. ولا يتنجّز كلاهما بنفس العلم ابتداءً ، إذ ليس هو علماً بهما معاً ، فلا محالة إنّما يتنجّز الجامع فقط وينهدم أساس العلّية ؛ لأنّه كان مبنياً على التنجّز الواقع بنفس العلم ابتداءً.

ولكن يندفع هذا التقريب : بأنّ مَن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين ويحتمل نجاسة الآخر وإن كان يحتمل أن لا يكون هناك طرف منهما متعيّن للمنكشفية بعلمه ؛ لاحتماله نجاستهما معاً ، واستواء نسبتهما إلى علمه الموجب لعدم تعيّن أحد الطرفين للمعلومية ، ولأن يتلقّى التنجيز من العلم الاجمالي ابتداءً إلّا أنّه مع ذلك يحتمل وجود مطابقٍ معيّنٍ لعلمه ، إذ يحتمل وحدة النجس في البين المساوقة لوجود معلومٍ إجماليٍّ معيّنٍ له في الخارج يكون متنجّزاً بالعلم ، وإذن فهو يحتمل التكليف المعلوم الخارج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ في

٢٦

كلّ طرف ؛ لأنّه يحتمل أن يكون لعلمه معلوم معيّن في الخارج منجّز به.

والحاصل : أنّ العالم بالإجمال يقول : إنّه على فرض نجاسة الواحد منهما فقط يكون لي معلوم إجمالي معيّن في الخارج ، أحتَمِل انطباقه على كلّ طرف ، وهذا كافٍ للتنجيز.

لا يقال : إنّه على هذا يحتمل وجود معلومٍ إجماليٍّ معيّنٍ له في الخارج ، كما يحتمل أن لا يكون له معلوم كذلك ، وأن يكون الطرفان متساويَي النسبة إلى علمه ، ومن المعلوم أنّ مجرّد احتمال المعلومية لا ينجّز ، بل المنجّز العلم بتمامية البيان والوصول.

لأنّه يقال : إنّ هذا الإشكال يهدم القول بالعلّية ـ كما سنوضّحه ـ ولا ربط له بالنقض المزبور الذي افيدَ في مقام الاعتراض على هذا المسلك ، إذ في غير مورد النقض لا تكون معلومية النجس الواقعي محرزة. وانتظر لذلك مزيد إيضاح.

فتحقّق أنّ الاعتراض بالنقض المزبور لا يضرّ بما أفاده المحقّق العراقي ، لا مبنىً ولا بناءً.

كما اتّضح أنّ توجيه هذا المسلك غير تام ، لا بتقريب أنّ المعلوم الإجمالي ينطبق على الواقع بتمامه بشهادة الوجدان ، وهو يتوقّف على أن يكون العلم الإجمالي صورةً إجماليةً حاكيةً عن الواقع ، كما قد يظهر من النهاية (١). ولا بتقريب أنّ الجامع لا يوجد بلا خصوصية ، فلنا علم بأكثر من الجامع ؛ لأنّ الجامع الذي حقّقنا كونه هو المعلوم الإجمالي سنخ جامعٍ ينطبق على الواقع بتمامه ، ولا يحتاج في تشخّصه إلى أكثر ممّا ينطبق عليه ، فإنّ مفهوم الإنسان الجزئي المتخصّص الذي هو المعلوم عند العلم الإجمالي بوجود أحد إنسانين

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩

٢٧

لا يتخصّص في وجوده بخصوصيةٍ زائدةٍ ليدّعى العلم بتلك الخصوصية ، كما تحصَّل أنّ الإجمال في الصورة العلمية غير معقول.

تعلّق العلم بالجامع :

الثاني من المسالك في العلم الإجمالي : أنّه متعلّق بالجامع ، كما ذهب اليه المحقق النائيني (١) والمحقق الأصفهاني (٢) ٠.

وملخّص برهانه على ما أفاده الأخير : أنّ العلم الإجمالي : إمّا أن لا يكون له طرف ، أو يكون متعلّقه الفرد المردّد ، أو الواقع ، أو الجامع.

والأول باطل ؛ لأنّ العلم من الامور ذات الإضافة.

وكذا الثاني ؛ لأنّ الفرد المردّد لا ثبوت له.

وكذا الثالث ؛ لأنّ مقتضاه كون ذاك الواقع معلوماً ، وهو خلف.

فيتعيّن الرابع.

والتحقيق هو هذا أيضاً ، ولكن لا بمعنى كون المعلوم الإجمالي هو الجامع الملغى عنه التعيّنات والتخصيصات بكلا الحملين ، بل المعلوم سنخ جامعٍ يكون متخصّصاً بالحمل الأولي ، بمعنى أنّ المعلوم وجود نجسٍ متخصّص في البين ، لا جامع النجس بلا خصوصية ، ولا واقع المتخصّص.

والذي أوجب عدول المحقّق العراقي قدس‌سره عن الالتزام بتفصيلية الصورة العلمية الإجمالية ، وكون المعلوم بها هو الجامع إلى إجماليّتها وكون المعلوم بها الواقع ، وضوح بطلان كون المعلوم هو الجامع الملغى عنه الخصوصيات بكلّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٩

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧

٢٨

وجهٍ ، على حدِّ ما يؤخذ متعلَّقاً للتكليف ، فالتزم لأجل ذلك بالمغايرة السنخية بين الصورة العلمية الإجمالية ، والصورة العلمية التفصيلية ، وصرّح في المقالات (١) : بأنّ العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه ليس علماً تفصيلياً.

إلّا أنّك عرفت مرجعيته إلى العلم التفصيلي بالجامع ، ولكن الجامع الذي يكون معلوم الوجوب في مورد العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ليس على حدّ الجامع الذي يكون متعلَّقاً للتكليف عند من يرى أنّ الوجوب الشرعي تعلّق بالجامع بين الظهر والجمعة على نحو التخيير ، فإنّ هذا الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف ليس متخصّصاً أصلاً ، وليس متعيّناً بالحمل الأولي ، بخلاف الجامع المدّعى في المقام فإنّ العالم بالإجمال يعلم بتخصصه ، وإن كان واقع خصوصيته غير منكشفٍ لديه فمعلومه هو الإلزام بالجامع المتخصّص ، إلّا أنّ هذا لا يخرجه عن كونه جامعاً.

فحينئذٍ : إن اريد بالعدول عن مبنى تعلّق العلم الإجمالي بالجامع أنّه ليس متعلّقاً بما هو من سنخ الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف فيرد عليه : أنّه وإن كان صحيحاً إلّا أنّه ليس معنى ذلك إنكار كون العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه علماً تفصيلياً ، كما صرّح به في المقالات ، ولا كون الصورة العلمية بالإضافة إلى الواقع كالمجمل إلى المفصَّل ، لا الكلّي إلى الفرد ، كما صرّح به بعض الأجلّة من مقرِّري بحثه (٢) ، بل الصورة العلمية صورة تفصيلية لجامعٍ وهو مفهوم الإنسان المتخصّص مثلاً ، ويكون الواقع فرداً لهذا الجامع.

وإن اريد بالعدول المزبور أنّ العلم الإجمالي ليس علماً تفصيلياً بالجامع

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٠

(٢) هو الشيخ البروجردي في نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩

٢٩

حتّى الجامع الذي ذكرناه فهو الذي عرفت أنّه بلا دليل ، بل البرهان على خلافه ؛ لاستحالة الإجمال في الصورة العلمية.

ملاحظات على مبنى الجامع :

وما اورد أو يمكن أن يورد على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع وجوه :

الأول من تلك الوجوه : أنّ البرهان القائم على مساوقة التشخّص والتخصّص للوجود ، يوجب القطع بأنّه قد وجدت في الخارج خصوصية مشخِّصة لهذا الجامع.

وهذه الخصوصية إن كانت كليةً أيضاً فهي أيضاً يُعلم بوجود مخصِّصٍ لها ، فننقل الكلام إلى هذه الخصوصية الثانية ، وهكذا حتى يلتزم بتعلّق العلم بخصوصيةٍ شخصيةٍ مجملةٍ لا تكون كليّة ، فثبت أنّ المعلوم يزيد على الجامع.

الثاني : ما اورد من أنّه في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع ، أي الإلزام بالجامع بين الفعل والترك ؛ لأنّ الإلزام بالجامع بين النقيضين غير معقول فكيف يكون معلوماً؟ فلا بدّ من الالتزام بمعلومية شيءٍ أزيد من الجامع.

الثالث : أنّه في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين أو طهارته ، أو حجّية إحدى الأمارتين لا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم هو نجاسة الجامع ، أو طهارته ، أو حجِّيته ؛ لأنّ الأحكام المزبورة يستحيل تعلّقها بالجامع المأخوذ بنحو صرف الوجود ، إذ يستحيل حينئذٍ سريانها من الجامع إلى طرفٍ معيَّنٍ بالخصوص ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجِّح بعد استواء نسبة الفردين إلى الجامع ، ولا إلى الفردين معاً ؛ لأنّ الجامع مأخوذ بنحو صرف الوجود ، لا مطلق الوجود حتّى

٣٠

يسري إلى كلا فردَيه. وإذن فحجّية الجامع بين الخبرَين غير معقولةٍ فكيف تكون هي المعلوم الإجمالي؟

وهذه الإشكالات إنّما ترد إذا كان الجامع في المقام على حدّ الجامع الذي يتعلّق به التكليف ، وإلّا على ما بيّناه من أنّه سنخ جامعٍ متخصّصٍ مفهوماً وعنواناً فلا ترد.

أمّا الأوّل فلوضوح أنّ الجامع المعلوم هو نحو جامعٍ لا يحتاج إلى أكثر ممّا ينطبق عليه حتّى يُدّعى العلم بالزائد ، كما فصّلناه سابقاً فراجع.

وأمّا الثالث فسوف نبيّن في مبحث التعادل إمكان جعل الحجّية للجامع ، إلّا أنّنا نقول الآن ـ مع غض النظر عن ذلك ـ إنّ هذا الإشكال والإشكال الثاني واضحَا الاندفاع ؛ وذلك لأنّ المعلوم وجوبه إجمالاً في موارد دوران الأمر بين المحذورين ـ مثلاً ـ ليس هو الجامع بين النقيضين على جامعيته ، بل الجامع المتخصّص وإن كان واقع تخصّصه مجهولاً.

فإن قلت : إنّ الجامع المتخصّص لا يخرج عن كونه جامعاً بين النقيضين ، فإذا كان المعلوم هو الالزام بالجامع المتخصّص لا بواقع المتخصص لزم المحذور من تعلّق الإلزام بالجامع بين النقيضين ؛ لأنّ عنوان الجامع المتخصّص جامع بين الفعل والترك.

قلت : إنّ الجامع المتخصّص وإن كان كلّياً بحسب الحقيقة ـ ولذا نقول بكون المعلوم الإجمالي هو الجامع ـ إلّا أنّه إنّما يكون محطّاً للتصديق العلمي بالوجوب والإلزام بما أنّه فانٍ في أحد أفراده ومرآة لبعض مصاديقه ، لا بما هو حتى يلزم تعلّق التصديق العلمي بأمرٍ محال ، وهو الإلزام بالجامع بين النقيضين ، بل التصديق العلمي بالوجوب ينصبّ على الجامع ، وهو عنوان المتخصّص بما أنّه فانٍ في غير نفسه ، فلا يعقل أن يكون الإلزام المصدّق به هو الإلزام بنفس هذا العنوان الكلّي ،

٣١

فهو نظير حكمنا على النسبة بأنّها معنىً حرفي ، وعلى المعدوم المطلق بأنّه لا يُخبَر عنه ، فإنّ النسبة ليست نسبةً ولا معنىً حرفياً ، بل هي معنىً اسميّ وُضِعَت له لفظة «النسبة» ، فعند حكمنا عليه بالحرفية لا يكون هذا الحكم كاذباً ، بتوهّم أنّه مسلّط على مفهوم النسبة لا على واقعها ؛ لأنّ الحاضر في الذهن مفهومها ، وهو ليس حرفياً ، بل هو حكم صادق ؛ لأنّه مسلّط على هذا المفهوم باعتبار فنائه في واقعه وأفراده ، فكما أنّ التصديق بحرفيّة مفهوم النسبة الفاني لا يقتضي التصديق بحرفيّة نفس هذا المفهوم كذلك التصديق بالإلزام لا يكون تعلّقه بعنوان المتخصّص الملحوظ فانياً في صرف وجوده ؛ موجباً للتصديق بكون الإلزام ثابتاً لنفس عنوان المتخصّص الجامع بين النقيضين.

فاتّضح بما ذكرناه أنّ الصورة العلمية الإجمالية صورة تفصيلية للجامع ، ونسبتها إلى الواقع نسبة الكلّي إلى الجزئي ، وأنّها محطّ للتصديق العلمي باعتبار فنائها في أحد أفرادها. فالمقدار المعلوم من متعلّق الإلزام في موارد العلم الإجمالي هو الجامع بين الطرفين ، أي عنوان الفعل المتخصّص بما أنّه فانٍ وحاكٍ عن صرف وجوده ، أي بما أنّه متخصّص ، لا بما أنّه كلّي.

تعلّق العلم بالفرد المردّد :

الثالث من المباني : تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ، لا بمعنى أنّ الثابت واقعاً فرد مردّد حتى يقال : إنّه لا مَاهيّة له ولا هوية ، بل بمعنى أنّ المقدار المنكشف هو هذا ، فإنّ الانكشاف لم يتعلّق بأكثر من خصوصيةٍ مردّدةٍ يمكن أن نعبِّر عنها بأنّها إمّا هذا وإمّا ذاك ، فمفاد قولنا : «إمّا هذا وإمّا ذاك» هو المعلوم الإجمالي.

ويرد عليه : أنّ المحذور في دعوى انكشاف الفرد المردّد ليس هو أنّ

٣٢

المردّد لا وجود له خارجاً ، فكيف يكون معلوماً ، حتى يقال : إنّ المردّد وإن لم يكن له وجود خارجاً إلّا أنّ المقدار المنكشف من الوجود الخارجي مردّد ، وهو لا يقتضي كون المردّد موجوداً في الخارج بما أنّه مردّد ، وإنّما هو لأجل أنّ ما في الخارج لم ينكشف بتمامه ، بل بمقدارٍ مردّدٍ منه ، بل المحذور في انكشاف المردّد هو استحالة التردّد في نفس الصورة العلمية ؛ لأنّها وجود ذهني.

وحينئذٍ نقول : إنّ ما به يكون الواقع جزئياً ومتخصّصاً ـ وهو خصوصيته المفردة له ـ إن كان موجوداً في ضمن الصورة فمعناه انكشاف الواقع المعيّن بتمامه ، وإن لم يكن موجوداً ومنكشفاً فمعناه كون المنكشف أمراً كلّياً قابلاً للصدق على كلّ طرف ، إذ لم تنكشف الخصوصية التي يكون بها جزئياً ، ولا شقّ ثالث ، إذ انكشاف خصوصيةٍ مردّدةٍ بين خصوصية هذا الطرف وذاك عبارة اخرى عن كون الصورة العلمية وجوداً للخصوصية المردّدة ، وهو محال.

وتجد هذا المعنى في حاشية المحقّق الأصفهاني (١) بعباراتٍ مختلفةٍ في مقام إقامة البرهان على استحالة التردّد في المعلوم ، فراجع.

وأمّا أنّ مفاد قولنا : «إمّا هذا وإمّا ذاك» هو المعلوم الإجمالي ففيه : أنّه إن اريد بتعلّقه بهذا أو ذاك أنّه متعلّق بهذا فقط أو بذاك فقط رجع إلى كون العلم الإجمالي متعلّقاً بالواقع. وإن اريد أنّ متعلّقه دائماً لا يختلف ، وهو عبارة عن ـ إمّا هذا ، وإمّا ذاك ـ رجع إلى أنّ الصورة العلمية هي إمّا هذا ، وإمّا ذاك ، وهو محال ؛ لأنّ المردّد لا يوجد في الموطنين.

هذا تمام ما وسعني تحقيقه بحسب الفكر القاصر في مقام تصوير العلم الإجمالي وتحقيق المسالك فيه.

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٨٩ ـ ٩٠

٣٣

منجّزية العلم الإجمالي وما يتنجّز به

وحيث اتّضحت المباني في حقيقة العلم الإجمالي ومقدار تعلّقه ومتعلّقه يقع الكلام في مقدار تنجيزه وما يتنجّز به ، وذلك في مرحلتين :

الاولى : في حرمة المخالفة القطعية.

والثانية : في وجوب الموافقة القطعية.

١ ـ حرمة المخالفة القطعيّة :

أمّا المرحلة الاولى فالحقّ فيها علّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، بمعنى أنّه يصحِّح العقاب على ارتكاب كلا الطرفين المعلوم حرمة أحدهما ، وليست مصحّحيّته للعقاب المزبور وقبح المخالفة القطعية مشروطين بشرطٍ أصلاً ؛ لأنّ الجامع ما بين الطرفين معلوم على جميع تلك المباني المزبورة ، وإنّما يمتاز بعضها بدعوى معلومية شيءٍ آخر مضافاً إلى الجامع ، ومن المعلوم أنّ ضمّ معلومٍ آخر إلى العلم التفصيلي بالجامع لا يوجب خروج هذا العلم عن المنجّزية بنحو العلّية ، كما هو الحال في سائر موارد العلم التفصيلي ، فلو فُرِض أنّ المعلوم الآخر الذي يُدَّعى معلوميته على بعض تلك المباني كَلا معلومٍ لكان العلم التفصيلي بوجوب الجامع بين الظهر والجمعة في المقام نظير العلم التفصيلي بوجوب الجامع في موارد التخيير العقلي أو الشرعي ، فكما يكون هذا منجّزاً بنحو العلّية فكذلك ذاك.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ ما يزيد على الجامع ممّا يكون معلوماً على بعض تلك المباني لا يتنجّز بانكشافه ؛ لِمَا سنحققه في المرحلة الثانية من أنّه لا يتنجّز بالعلم

٣٤

الإجمالي شيء غير الجامع على جميع المسالك ، وحينئذٍ فما يكون منجّزاً بالوصول هو الجامع فقط ، ووجود شيءٍ آخر واصلٍ بوصولٍ منجّزٍ أو غير منجّزٍ لا يؤثّر في عدم تنجّز الجامع بالعلم الوجداني المتعلّق به على نحوٍ تنجّز كلّ معلومٍ بعلمه التفصيلي. فالتكليف الواقعي بمقدار كونه تكليفاً بالجامع يتنجّز.

ومن الواضح أنّ هذا المقدار المتنجّز إنّما يقتضي الحركة إلى الجامع ، لا أزيد منه ، فيستحقّ العقاب حينئذٍ على ترك الجامع بكلا فرديه ، ويكون قبيحاً بنحو العلّية.

ومما ذكرناه ظهر استحالة الترخيص في المخالفة القطعية للجامع المعلوم في المقام ، كما يستحيل الترخيص في مخالفة التكليف في سائر موارد العلم التفصيلي ، إذ بعد البناء على تنجيزية حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة الجامع وقبحها لا محالة يكون الترخيص المفروض ترخيصاً في ما هو قبيح بحكم العقل ، ومورد العقاب ، وهو معنى الترخيص في المعصية ، وليس حكم العقل معلّقاً على عدمه حتى يكون الترخيص رافعاً لموضوعه.

فإن قلت : امتناع الترخيص في المخالفة القطعية ليس لأنّه ترخيص في المعصية حتّى يتوقّف على دعوى تنجيزية حكم العقل ، بل بملاك التضادّ بينه وبين الإلزام الواقعيّ المعلوم بالإجمال ، فإنّهما متضادّان في مقام التأثير والعمل ، فإنّ الإلزام بشيءٍ مع الترخيص فيه لا يجتمعان في مقام الوصول ؛ لتضادهما ، مع قطع النظر عن محذور تنجيزية حكم العقل ، ولذا لو فرضنا صدور الإلزام ممّن لا يجب امتثاله عقلاً ووصوله من السافل إلى العالي بعنوان الالتماس لَما صحّ للسافل أن يرخِّص في ما الزم به ، مع أنّه ليس فيه ترخيص في المعصية.

قلت : إنّ الإلزام الواصل له اقتضاءان :

أحدهما : اقتضاء تشريعي باعتبار حكم العقل بلزوم امتثاله.

٣٥

وثانيهما : اقتضاء تكويني لمن يتعلّق له غرض شخصي في امتثال التكليف. فإنّ هذا إذا علم بتكليفٍ جرى على طبق علمه قهراً تحصيلاً لمرامه ، كمن يريد الماء فإنّه عند إحرازه لوجوده يجري على طبقه ، ولا نتصور له اقتضاءً آخر ، وحينئذٍ فإن اريد أنّ الترخيص في المخالفة القطعية ينافي الإلزام الواصل من حيث اقتضائه الأول فهو معنى لزوم الترخيص في المعصية. وإن اريد أنّه ينافيه من حيث الاقتضاء الثاني ففيه : أنّ غاية ما يلزم من الترخيص حينئذٍ ـ إذا قطعنا النظر عن الاقتضاء الأوّل ـ هو الترخيص في فعلٍ يكون موافقاً لغرض المكلّف ، ولا محذور فيه أصلاً.

وأمّا التضادّ بين الترخيص والإلزام الواصل بحسب وجوديهما الواقعيّين ، أو باعتبار ملاكاتهما فكلّ ذلك ممّا فرغ عن إبطاله في جواب شبهة ابن قبّة.

وإذن فتمام المحذور في الترخيص المزبور هو منافاته لحكم العقل بقبح المخالفة القطعية ، ولزوم كونه ترخيصاً في المعصية.

ومما ذكرناه ظهر الحال في ترخيص غير المولى لما ألزم به.

٢ ـ وجوب الموافقة القطعية :

وأمّا المرحلة الثانية ـ أعني وجوب الموافقة القطعية ـ فالتحقيق فيه عدم اقتضاء العلم الإجمالي لهذه المرتبة من التنجيز ـ فضلاً عن العلّية ـ على جميع المسالك المزبورة في تصوير العلم الإجمالي.

وذلك لأنّ وجوب الموافقة القطعية فرع سريان التنجّز إلى الواقع الموجود في البين ، بحيث يصير العلم الإجمالي سبباً لحكم العقل بوجوب امتثال ذلك الواقع وصحّة العقاب على مخالفته ، ولمّا كان كلّ طرفٍ يحتمل أن يكون هو ذلك الواقع فيكون احتمال التكليف في كلّ طرفٍ احتمالاً للتكليف المنجّز ، فتجب

٣٦

الموافقة القطعية.

وأمّا إذا لم يوجب العلم الإجمالي تنجّز الواقع بخصوصه ، بل اقتصر على تنجّز الجامع ولم يسرِ هذا التنجّز من الجامع إلى الواقع فلا موجب للموافقة القطعية أصلاً ، إذ المقدار المنجّز من الإلزام هو الإلزام بالجامع ، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار إنّما يقتضي الإتيان بالجامع في ضمن أحد أفراده ، لا الإتيان بجميع الأطراف ، وإذن فوجوب الموافقة القطعية مبنيّ على تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي ، وعدم اختصاص التنجّز بالجامع ، وهذا ممنوع أشدّ المنع.

أمّا بناءً على تعلّق العلم الإجمالي بالجامع بالنحو الذي حقّقناه ، أو بالجامع بمعنى الملغي عنه الخصوصيات بكلّ وجهٍ فواضح ، إذ بعد عدم سراية الانكشاف من الجامع إلى الواقع يستحيل سراية التنجّز ، فإنّ كلّ وصولٍ إنّما ينجّز الواصل به لا غيره ، فالمقدار المعلوم هو المنجّز ، والمقدار المعلوم هو وجوب الجامع فيختصّ التنجّز به ، وما يقتضيه هذا الوجوب المنجّز ليس أزيد ممّا يقتضيه الوجوب التخييري المتعلّق بالجامع ، فكما أنّه لا يقتضي إلّا الإتيان بصرف الجامع في ضمن أحد أفراده كذلك المقدار المنجّز من الوجوب في المقام.

وحاصل المرام أمران :

أحدهما : أنّ التنجّز لا يسري من الجامع إلى الفرد ؛ لعدم سراية العلم ، فالمقدار المنجّز هو الجامع.

ثانيهما : أنّ الإلزام بالجامع الذي هو المنجّز لا يقتضي إلّا الإتيان بأحد الفعلين ، فالإتيان بأحدهما موافقة قطعية للمقدار الواصل المنجّز ، بمعنى أنّه لا يبقى له اقتضاء للحركة بعد ذلك.

ومن هنا يظهر ما في كلام المحقّق الأصفهاني (١) ، في مقام تقريب عدم

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٩٣ ، ضمن تعليقة ٤١

٣٧

وجوب الموافقة القطعية ، من : أنّ عدم الإتيان بأحد الطرفين مخالفة احتمالية للتكليف الواصل ، والمخالفة الاحتمالية للتكليف الواصل ليست قبيحةً عقلاً ، بل القبيح هو المخالفة القطعية للتكليف الواصل التي لا تحصل إلّا بترك الطرفين معاً.

ووجه الإشكال : أنّ ترك أحد الطرفين ليس مخالفةً احتماليةً للمقدار الواصل من الإلزام أصلاً ؛ لأنّ المقدار الواصل هو الجامع الذي لا يقتضي أكثر من الجامع بين الفعلين ، فالإتيان بأحدهما موافقة قطعية للمقدار المنجّز وإن كان موافقةً احتماليةً للواقع.

والحاصل : أنّنا لا نقول كما افيد من أنّ المخالفة الاحتمالية للتكليف الواصل ليست قبيحة ، وإلّا لَلَزم في موارد العلم التفصيلي بوجوب فعلٍ أنّه إذا شكّ في الإتيان به لا يلزم الاحتياط ، إذ تركه حينئذٍ ليس إلّا مخالفة احتمالية للتكليف المعلوم بالتفصيل ، مع أنّه لا إشكال في اقتضاء العلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعية له.

وإنّما نقول : إنّ ترك أحد الطرفين في المقام ليس مخالفةً احتماليةً للمقدار الواصل من التكليف أصلاً ، فافهم واغتنم.

تقريبات وجوب الموافقة القطعيّة :

ولا بأس بذكر الكلمات والتقريبات التي قُرِّب بها وجوب الموافقة القطعية : إمّا بدعوى سراية التنجّز من الجامع إلى الواقع ، أو بدعوى كفاية تنجّز الجامع في إيجاب الموافقة القطعية ، وهي متعدّدة :

أحدها : ما في موضعٍ من مقالات المحقّق العراقي (١) من : أنّ العلم بالجامع

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٣٣

٣٨

وإن لم يسرِ إلى الأفراد ولكنّ التنجّز الذي هو نتيجته قائم بالجامع وتابع له في قابلية السراية إلى ما انطبق عليه الجامع ، ولا يقف على نفس الجامع ، غاية الأمر القطع به سبب قيام التنجّز على موضوعه ، ومجرّد عدم قابلية السبب للسراية لا يوجب عدم سراية مسبّبه تبعاً لموضوعه ، انتهى.

وحاصله : أنّ التنجز الذي هو حكم عقلي يتبع موضوعه في السراية ، لا سببه.

ولكنّ التحقيق : عدم سراية كلٍّ من السبب والموضوع ، فلا موجب لسراية التنجّز أصلاً ؛ وذلك لأنّ معنى تنجّز الجامع المسبّب عن العلم بالجامع هو استحقاق العقاب على مخالفته ، فالاستحقاق والتنجّز مترتّب على مخالفة الجامع ، فما هو الموضوع للتنجّز والاستحقاق عقلاً هو مخالفة الجامع ، بمعنى مخالفة ما يقتضيه جامع الالزام من الحركة في مقام العمل ، وما يقتضيه الجامع هو الإتيان بالجامع بين الفعلين ، فمخالفته عبارة عن ترك الجامع رأساً.

ومن المعلوم أنّ مخالفة الجامع التي تكون بترك كلا الفعلين ، والتي هي موضوع استحقاق العقاب بسبب العلم الإجمالي ليست منطبقةً على مخالفة التكليف الواقعيّ الموجود في البين ، فإنّ مخالفة التكليف الواقعي إنّما تحصل بترك متعلّقه ، وترك الجامع ليس نسبته إلى ترك ذاك المتعلّق نسبة الكلّي إلى فرده حتّى يكون منطبقاً عليه ليسري الاستحقاق إلى مخالفة الواقع أيضاً.

والحاصل : أنّ استحقاق العقاب على مخالفة الجامع ـ الذي هو معنى تنجّز الجامع ـ ليس سببه سارياً إلى الواقع ، ولا موضوعه.

أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ موضوع الاستحقاق هو مخالفة الجامع ، وهي لا تنطبق على مخالفة التكليف الواقعي ؛ لأنّ مخالفة الواقع ليست مخالفةً للجامع حتى يترتّب استحقاق العقاب عليها ويسري التنجّز إليها.

٣٩

ثانيها : ما في موضعٍ من نهاية الأفكار (١) من : أنّ الجامع المعلوم بالإجمال في المقام ليس هو الجامع بحيال ذاته ، أو بما أنّه حاكٍ عن مقدار منشئه ، بل بما أنّه مرآة إجمالية للخصوصية الواقعية المردّدة في نظره بنحوٍ تكون نسبته إليها نسبة الاجمال والتفصيل ، ومن البديهي أنّ مثل هذا الجامع يسري التنجّز منه إلى الخصوصية الواقعية.

ويرد عليه : أنّه إن اريد بهذا أنّ الصورة العلمية في المقام صورة شخصية إجمالية لا كلّية ، وأنّه لا فرق في تنجّز التكليف بانكشافه بصورته الشخصية بين أن تكون صورته المنكشفة إجماليةً أو تفصيليةً فمرجعه إلى الوجه الرابع الذي سنذكره ، ولا معنى حينئذٍ لتسليم كون المعلوم هو الجامع.

وإن اريد أنّ المعلوم الإجمالي وإن كان هو الجامع إلّا أنّه هو الجامع المتخصّص ، بمعنى أنّه يعلم بتخصّصه وتعينه ، وليس كالجامع الذي يتعلق به التكليف فيسري التنجّز إلى خصوصيته. ففيه : أنّ ما يفترق به الجامع في المقام عن الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف ليس إلّا العلم بمفهوم الخصوصية والتعيّن ، لا بواقع الخصوصية ، بمعنى أنّ المعلوم أصل تخصّص الجامع ، لا حقيقة تخصّصه بالحمل الشائع ، حتّى تتنجّز الخصوصية الواقعية.

والحاصل : أنّ المنكشف هو خصوصية الجامع بالحمل الأولي ، وهي لا أثر لها ، وليست قابلةً للتنجّز ، وما هو قابل للتنجّز ـ أي ما هو خصوصية الجامع بالحمل الشائع ـ ليست منكشفةً أصلاً.

وإذن فما هو المنكشف من الخصوصية ـ وهو مفهومها ـ لا أثر له ، ولذا لو فرضنا ـ ولو محالاً ـ أنّ الالزام تعلّق بجامعٍ اخذ فيه مفهوم الخصوصية ، ولم تؤخذ

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧

٤٠