غاية الفكر

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

غاية الفكر

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ١٤٤

وأنّه لا بدّ من العلم بنجاسةٍ فعليةٍ ثابتةٍ في الظرف المتأخّر على كلّ تقدير ، فإنّه على كلّ حالٍ المنجِّز إنّما هو العلم بوجوده البقائي في ذلك الظرف ، إذ لو لا بقاؤه يستحيل مانعيته عن شمول دليل الأصل في ذلك الظرف.

وإنّما أطلنا الكلام في المقام لأنّ التقريب المزبور أمتن التقريبات المذكورة في المقام وأشيعها ، فأردنا توضيح المقام بنحوٍ تتّضح جهات الإشكال فيه اتّضاحاً تامّاً ، فتدبّر واغتنم ، ومنه سبحانه التوفيق إلى فهم كلمات الأكابر.

الوجه الثاني : وهو لا يختصّ بصورة تأخّر العلم بالملاقاة زماناً ، بل يشمل صورة التقارن بين العلمين أيضاً ، وحاصله : أنّ الأصل في الملاقَى ـ بالفتح ـ لمّا كان حاكماً على الأصل في الملاقي فيسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر في الرتبة السابقة ، وحين وصول النوبة الى الأصل في الملاقي لا يكون له معارض في مرتبته فيجري.

وهذا البيان متوقّف :

أولاً : على كون المحذور في جريان الأصل في بعض الأطراف هو المعارضة ، لا علّية العلم الإجمالي ، وإلّا امتنع جريان الأصل في الملاقي وإن لم يكن له معارض.

وثانياً : على إجداء التأخّر الرتبي في عدم وقوع الأصل الطولي طرفاً للمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر.

وثالثاً : على عدم كون الطرف الآخر مجرىً لأصالة الحلّية في نفسه ، بناءً على الشبهة الحيدرية المعروفة التي نقلها المحقّق العراقي قدس‌سره في مجلس بحثه عن سيّدنا الوالد (قدس الله نفسه الزكية) ، وسيأتي توضيحها.

ورابعاً : على تسليم الطولية بين أصل الطهارة في الملاقي وأصالة الطهارة في الملاقَى ، وكون الأول حاكماً على الثاني.

١٢١

أمّا الأولان فقد سبق تحقيقهما بما لا مزيد عليه ، وبيّنّا أنّه لا أساس للقول بالعلّية ، كما بيّنّا أنّ مجرّد طولية أصلٍ ومحكوميته لأصلٍ لا يمنع عن سقوطه بالمعارضة مع معارض الأصل الحاكم عليه.

وأمّا الثالث فملخّص ما ينسب إلى سيّدنا الوالد (١) قدس‌سره في المقام : أنّ أصالة الطهارة في الملاقي كما يكون في طول أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ كذلك يكون هناك أصل آخر في طول أصالة الطهارة في الطرف الآخر ، وهو أصالة الحلّية فيه ، إذ الحلّية فيه من الآثار الشرعية لطهارته ، وهذان الأصلان الطوليان ـ أعني أصالة الحلّية في الطرف الآخر فيما إذا كان قابلاً للحلّية ، وأصالة الطهارة في الملاقى ـ في رتبةٍ واحدةٍ فيتساقطان بالمعارضة.

وهذا البيان قد أورده سيّدنا الوالد على التقريب المزبور لإجراء أصالة الطهارة في الملاقي بعد تسليم مباني التقريب التي أشرنا إلى ابتنائه عليها ، بمعنى أنّها إذا تمّت فيرد على التقريب المزبور ما افيد. وقد اعترف بالبيان المزبور جملة من معاصريه من المحقّقين (٢) ، إلّا أنّه غير واضحٍ في النظر القاصر ، كما سنشير اليه.

وأمّا الرابع فهو من المسلّمات عندهم ، إلّا أنّ لمنعه مجالاً واسعاً ، بمعنى أنّ التحقيق في النظر القاصر : هو عدم حكومة أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ على أصالة الطهارة في الملاقي.

وبيان ذلك : أنّ الحكومة إمّا أن تكون بملاك رفع دليل الحاكم لموضوع دليل المحكوم بالتعبّد ، كما في الأمارة المجعول فيها الطريقية بالإضافة الى الاصول ، ولا يفرق في الرفع المذكور الذي هو ملاك هذه الحكومة بين أن يكون

__________________

(١) نسبه المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٣ : ٣٦٢

(٢) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٣ : ٣٦٣

١٢٢

بين المدلولين طولية ـ كما في استصحاب طهارة الشيء الحاكم على استصحاب طهارة ملاقيه ـ أو أن يكون مدلول الحاكم والمحكوم متّحداً ، كالبيّنة القائمة على طهارة شيءٍ مع استصحاب طهارته ، ولا فرق أيضاً بين كون المحكوم نافياً لِمَا يثبته الحاكم أو موافقاً له.

وإمّا أن تكون الحكومة بملاك النظر ، وتعرّض أحد الدليلين لمفاد الآخر وملاحظته له. والنظر تارةً يستفاد من نفس اللفظ ، واخرى باعتبار أنّه لو لا فرض مفاد الدليل المحكوم في المرتبة السابقة وكونه ملحوظاً في جانب الدليل الحاكم لَكان الحاكم ممّا لا معنى له ، فصوناً له عن ذلك يستكشف نظره إلى المحكوم ، كما في دليل أصالة الطهارة ـ مثلاً ـ بالنسبة إلى أدلّة الآثار الواقعية المترتّبة على الطهارة ، فإنّه لو لا وجود آثارٍ خاصّةٍ للطهارة واقعاً لَكان التعبّد بالطهارة ظاهراً ممّا لا معنى له ، فلا بدّ أن يكون التعبّد المزبور ناظراً إلى تلك الآثار وحاكماً عليها حكومة ظاهرية.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الحكومة المدَّعاة لأصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ إن كانت من القسم الأول ـ أي بملاك كونها مُلغِيةً لموضوع أصالة الطهارة في الملاقي ـ فيندفع : بأنّ موضوع أصل الطهارة في الملاقي هو الشكّ في طهارته الواقعية ، لا الشكّ في طهارته الظاهرية ، وأصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ ليس المجعول فيها هو الطريقية حتى تكون مُلغِيةً للشكّ في طهارة الملاقي ومقتضيةً لإحراز طهارته الواقعية تعبّداً ، بل المجعول فيها صرف الحكم بطهارة الملاقَى ـ بالفتح ـ ظاهراً وترتّب جميع الآثار ظاهراً ، فما هو موضوع أصل الطهارة في الملاقي لم يرتفع.

ودعوى : أن أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ تحكم بطهارته شرعاً ، ويثبت بذلك عدم نجاسته شرعاً ، إذ لا بأس بإِثبات عدم النجاسة بالتعبّد بالطهارة ،

١٢٣

وحيث ثبت أنّ الملاقَى ـ بالفتح ـ ليس نجساً فيرتفع الشكّ في نجاسة ملاقيه ؛ لأنّ نجاسة الملاقي إنّما تكون بسبب نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، وحيث حكم بعدم نجاسته شرعاً فلا معنى للشكّ في نجاسة ملاقيه مدفوعة : بأنّ الإشكال ليس من ناحية أنّ عدم نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ لا يثبت بالتعبّد بطهارته ، فلا يثبت طهارة الملاقي ؛ لأنّها من آثار عدم نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ ، لا من آثار طهارته حتّى يجاب عن ذلك بأنّ التعبّد بالطهارة يثبت به عدم النجاسة ، أو أنّه بعينه تعبّد بعدم النجاسة ، بل الإشكال من ناحية أنّ هذا التعبّد لا يقتضي إلغاء الشكّ في طهارة الملاقي أصلاً ، بل يقتضي الحكم بطهارة الملاقي ؛ لأنّها من آثار عدم نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ الثابت بجريان أصالة الطهارة فيه ، إلّا أنّ الحكم بطهارة الملاقي أمر وإلغاء الشكّ في طهارته الواقعية الذي هو المحقِّق للحكومة في المقام أمر آخر ، فالتعبّد بأنّ الملاقى ـ بالفتح ـ ليس بنجس تعبّد بأنّ الملاقي ليس بنجس ، لا تعبّد بأنه ليس بمشكوك النجاسة ، ولا ملازمة بين التعبّدين.

وإن كانت الحكومة المدَّعاة بملاك النظر ففيه : أن أصالة الطهارة إنّما توجب ترتيب جميع آثار الطهارة الواقعية في الظاهر ، فهي ناظرة إلى أدلّة الأحكام الواقعية وحاكمة عليها حكومةً ظاهرية ، إذ لا معنى لها لو لا فرض تلك الآثار في المرتبة السابقة ، وليس لها نظر إلى حكمٍ ظاهريٍّ أصلاً ، فأصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ لا يكون ناظراً إلى أصالة الطهارة في الملاقي ، إذ لا موجب لتقدير هذا النظر في الأصل المزبور ، وإنّما هي ناظرة إلى الآثار الواقعية المترتّبة على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ ، وعلى هذا فلا حكومة أصلاً في المقام ، بل في فرض ملاقاة شيءٍ ، لمشكوك الطهارة تكون أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ مقتضية لترتيب جميع آثارها التي منها طهارة الملاقي كما أنّ دليل الأصل يقتضي جريان أصالة الطهارة في نفس الملاقي مستقلّاً ، وليست أصالة الطهارة في

١٢٤

الملاقى ـ بالفتح ـ المقتضية بإطلاقها لطهارة الملاقي حاكمةً على نفس أصالة الطهارة التي يقتضي الدليل بمقتضى إطلاقه جريانها في الملاقي مستقلّاً.

وحينئذٍ فإذا ادُّعي لَغوية الجمع بين الأمرين ـ أي بين اطلاق أصل الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ لسائر الآثار حتى طهارة الملاقي ، وبين إطلاق دليل الأصل المقتضي لجريان أصالة الطهارة في الملاقي مستقلّاً بما أنّه فرد من المشكوك ؛ لأدائه إلى ثبوت تعبّدين بطهارة الملاقي ـ فلا بدّ إمّا من رفع اليد عن إطلاق دليل الأصل بالإضافة الى الملاقي والالتزام بعدم جريان الأصل فيه مستقلّاً ، أو عن إطلاق أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ والالتزام بأنّ المجعول فيها من آثار الطهارة لا يشمل طهارة الملاقي ، ولا مرجِّح لأحد الإطلاقين على الآخر.

نعم ، أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ مقدَّمة على سائر الاصول الثابتة بأدلّةٍ اخرى والجارية في آثار الطهارة إثباتاً أو نفياً ، كأصالة الحلّية ، أو استصحاب الحدث لمن توضّأ بماءٍ مشكوك الطهارة ، ونحو ذلك ، وذلك لا بملاك الحكومة ؛ لعدم وجود شيءٍ من ملاكَيها في المقام ، كما عرفت ، بل بملاك لزوم اللغوية في دليل أصالة الطهارة على فرض تقديم أدلّة تلك الاصول ، وهذا الوجه لا يأتي في المقام ، إذ الأمر دائر في محلّ الكلام بين جريان أصالة الطهارة في الملاقِي ـ بالكسر ـ ابتداءً ، أو إطلاق أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ لطهارة الملاقي التي هي من آثاره ؛ لِلَغوية ثبوتهما معاً بحسب الفرض ، وكلّ منهما صغرى لكبرى أصالة الطهارة المجعولة في قوله : «كلّ شيءٍ طاهر ... إلى آخره» ، فلا يلزم من إسقاط إحدى الصغريَين لَغوية الكبرى.

والحاصل : أنّ تقديم أدلّة الاصول الاخرى الموافقة والمخالفة على دليل أصالة الطهارة موجب لِلَغويته ، بخلاف تقديم أيٍّ من الجهتين المزبورتين في المقام فإنّه لا يوجب لَغوِية الكبرى ؛ لأنّ تمامية كلٍّ من الجهتين على فرض ثبوتها

١٢٥

إنّما تكون بلحاظ الكبرى ، فلا يكون تقديم إحدى الجهتين موجباً لِلَغويّتها ليتعيّن تقديم الجهة الاخرى.

وعلى هذا فيظهر أنّ التقريب المزبور لجريان أصالة الطهارة في الملاقي لا أساس له ؛ لأنّه فرع كون أصل الطهارة في الملاقي في طول أصل الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ ومحكوماً له ، وقد عرفت بطلان ذلك.

إلّا أنّه قد يقال مع هذا : إنّ التقريب المزبور يتمّ أيضاً ببيان : أنّ أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ وإن لم تكن حاكمةً إلّا أنّ استصحاب الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ حاكم بلا إشكال ؛ لأنّ المجعول فيه هو الطريقية ، فيتعارض مع استصحاب الطهارة في الطرف الآخر أوّلاً ، ثمّ تتعارض أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ وأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، واستصحاب الطهارة في الملاقي ؛ لأنّها كلّها في عرضٍ واحد ، بناءً على إنكار حكومة أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ على الاصول المؤمِّنة في جانب الملاقي ، وبعد تساقطها تصل النوبة الى أصالة الطهارة في الملاقي بلا معارض.

إلّا أنّ حكومة الاستصحاب على الاصول الاخرى قابلة للخدشة أيضاً ، كما سيأتي تحقيقه مفصّلاً في الجزء التاسع من هذا الكتاب ؛ وذلك لأنّ المجعول في باب الاستصحاب ليس هو الطريقية حتى يكون مُلغِياً للشكّ ، بل تحريم النقض العملي لليقين بالشكّ تحريماً طريقياً ، كما سنوضّح مقام ثبوته وإثباته مفصّلاً في محلّه.

على أنّه لو فرض كون المجعول هو الطريقية ، فلنا بيانات لإبطال الحكومة المدَّعاة ، سوف يأتي تحقيقها إثباتاً ونفياً في الجزء التاسع من هذا الكتاب ، فانتظر.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق العراقي (١) قدس‌سره ، وهو مختصّ بصورة نشوء

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٥٧ ـ ٣٦٠

١٢٦

العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف من العلم بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف ومعلوليته له ، فإنّه فصّل في المقام بين ما إذا كان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف معلولاً للعلم الآخر ، أو علّةً له ، أو في عرضه.

ففي الأول لا يكون العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف منجِّزاً لنجاسة الملاقَى ؛ لأنّه معلول للعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف. وفي الثاني ، يكون الأمر بالعكس. وفي الثالث ينجّز كلا العِلمين.

وأفاد في تقريب ذلك : أنّ العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف إذا كان ناشئاً عن العلم بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف فلا أثر له لتنجّز التكليف بالاجتناب عن الطرف في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي السابق رتبةً ، فإنّه يعتبر في منجّزية العلم الإجمالي أن لا يكون مسبوقاً بمنجِّزٍ آخر موجبٍ لتنجّز أحد طرفيه ، وإلّا فيخرج عن صلاحية المنجّزية ، ومعه يرجع الشكّ في نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ووجوب الاجتناب عنه إلى الشكّ البدوي ، فتجري فيه أصالة الطهارة.

ويرد عليه : أنّه على تقدير تسليم المبنى وسقوط العلم الإجمالي عن الأثر بتنجّز أحد طرفيه سابقاً فمناط المحرومية من الأثر أن يكون تنجّز أحد الطرفين سابقاً بحسب الرتبة على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف ، وفي الفرض ليس كذلك ، فإنّه في الفرض المزبور يكون نفس العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف معلولاً للعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، فهو في مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه ، إلّا أنّه ليس متأخّراً مرتبةً عن تنجّز الطرف المعلول للعلم الإجمالي الأول حتّى يمتنع تأثيره في تنجيز معلومه ، بل العلم الإجمالي الأول بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف كما يكون علّةً لتنجيز الطرف كذلك هو علّة للعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف ، فما هو الموجود في المرتبة السابقة على العلم الثاني هو العلم الأول ، لا أثره ، وحينئذٍ فثبوت أثر العلم الأول دون أثر

١٢٧

العلم الثاني بلا مرجِّح.

والحاصل : أنّ المخرج للعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف عن قابلية التنجيز ، إنّما هو تنجّز الطرف وصحة العقاب عليه من غير جهته ، فإنّه حينئذٍ لا يكون منجِّزاً ولا مصحِّحاً للعقاب ، وفي المقام لا وجه للالتزام بثبوت تنجّز العلم الأول دون العلم الثاني حتى يُدّعى سقوط العلم الثاني عن التنجيز ؛ لأنّ التنجّز الأول ليس في مرتبةٍ سابقةٍ على تنجّز الثاني ليقال : إنّه يثبت في المرتبة السابقة ولا يبقى مجالاً لتنجّز العلم الثاني في المرتبة المتأخّرة ، بل هو في عرضه ، فلا موجب للالتزام بثبوت أحد التنجّزين وجعله مانعاً عن التنجّز الآخر.

وتوهمّ أنّ سبق علّة أحد التنجّزين على علّة الآخر يوجب سبقه على التنجّز الآخر مدفوع : بأنّ كون العلم الإجمالي الأول سابقاً بالعلّية على العلم الإجمالي الثاني لا يوجب أن يكون أثره سابقاً بالرتبة على أثره ، كما هو المحقَّق في محلّه ، فالتنجّزان في عرضٍ واحد ، وليس بينهما سبق رتبي ، فيستحيل مانعية أحدهما عن ثبوت الآخر. وأمّا مجرّد وقوع الطرف طرفاً لعلمٍ إجماليٍّ في المرتبة السابقة على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف فلا يمنع عن تنجيزه ، إذ المانع عن التنجيز إنّما هو تنجّزه السابق الموجب لعدم تحمّله لتنجّزٍ آخر ، كما هو واضح ، لا مجرّد طرفيته لعلمٍ إجماليٍّ في المرتبة السابقة.

الوجه الرابع : وهو شامل لصورة تقارن العلمين ، وصورة تقدم أحدهما على الآخر ، وبيانه كما أفاده المحقّق النائيني قدس‌سره على ما في فوائد المحقّق الكاظمي الخراساني (١) : أنّ العلم الإجمالي بوجوب الاجتناب عن أحد الشيئين إنّما يقتضي الاجتناب عنهما إذا لم يحدث ما يقتضي سبق التكليف بالاجتناب عن أحدهما ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٥

١٢٨

ولو كان ذلك علماً إجمالياً آخر كان المعلوم به سابقاً في الزمان أو في الرتبة على المعلوم بالعلم الإجمالي الأول ، فلو علم بوقوع قطرة من دمٍ في أحد الإناءين ، ثمّ علم بوقوع قطرةٍ اخرى من الدم في أحدهما المعيَّن ، أو في إناء ثالث ، ولكنّ ظرف القطرة المعلومة ثانياً أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أوَّلاً فلا ريب في أنّ العلم الإجمالي الثاني يوجب انحلال الأول ؛ لسبق معلومه عليه.

ومن الواضح أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف دائماً يكون المعلوم به متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، فإنّ رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ ؛ لأنّ التكليف في الملاقي إنّما جاء من قبل التكليف بالملاقَى ، فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخّره بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقاً رتبةً على المعلوم بالآخر ، ففي أيّ زمانٍ يحدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف يسقط العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والطرف عن التأثير ؛ لأنّه يتبيّن سبق التكليف بالاجتناب عن أحد طرفيه ، وهو طرف الملاقَى ـ بالفتح ـ.

ويرد عليه أوَّلاً : أنّ التنجّز يدور مدار العلم ؛ لأنّه من شئونه ، ولا معنى لحصوله في مرتبةٍ أو زمانٍ سابقين على العلم ، إذ يكون من باب حصول المعلول قبل علّته ، كما أفاده المحقّق العراقي في مقالاته (١) ، فالمعلوم إنّما يتنجّز من حين العلم ، وحينئذٍ فمجرّد سبق المعلوم بالعلم الأول لا يوجب كونه منجّزاً في ظرفه ، بل كون المعلوم السابق منجّزاً من حين العلم به ، فلا يعقل مانعية العلم الثاني عن تنجيز العلم الأول ؛ لأنّه سابق بمعلومه على معلوم الأول ، لا أنّه سابق عليه

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٤٩

١٢٩

بتنجّزه ، والموجب للانحلال ، إنما هو السبق بالتنجّز.

وتوهّم أنّ العلم الأول يخرج من حين حدوث العلم الثاني بالمعلوم السابق عن كونه علماً بالنجاسة الحادثة ، والتكليف على كلّ تقدير مدفوع : بأنّه إن اريد أنّه حين العلم الثاني ينكشف أنّ أحد طرفي العلم الأول منجّز سابقاً فيستحيل تنجّزه به فهو بديهي البطلان ؛ لِمَا عرفت من أنّ العلم الثاني لا يكون سبباً في ثبوت تنجّز معلومه السابق من حينه وفي ظرفه ، وإنّما يوجب تنجّز المعلوم السابق من الآن.

وإن اريد أنّه وإن لم يكن أحد طرفي العلم الإجمالي الأول منجّزاً سابقاً إلّا أنّه ينكشف أنّ المعلوم بالعلم الأول ليس نجاسةً حادثةً بحسب الواقع على كلّ تقدير ؛ لاحتمال انطباقه على نفس المعلوم بالعلم الثاني ، فهو أوضح بطلاناً ، إذ خصوصية الحدوث والبقاء لا دخل لها في باب المنجّزية ، ولا يختصّ الحدوث بقابلية التنجّز ، فإذا علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر عند الزوال ، ثمّ علم بنجاسة الأبيض أو الثوب منذ الفجر فالعلم الثاني لا يوجب كون نجاسة الإناء الأبيض منجّزةً في مرحلةٍ سابقةٍ على حدوث العلم الأول ، وغاية ما يوجبه أن لا تكون النجاسة المعلومة بالعلم الأول نجاسةً حادثةً على كلّ تقدير ، إذ على تقدير انطباق كلا المعلومين على الإناء الأبيض لا تكون النجاسة المعلومة بالعلم الأول نجاسةً حادثة ، بل بقاءً للنجاسة الثابتة من حين الفجر ، إلّا أنّه ليس من شرائط تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي أن يكون حادثاً ، وأن لا يكون بقاءً لشيءٍ آخر واقعاً ؛ لوضوح أنّ بقاء النجاسة والتكليف قابل للتنجّز كحدوثهما ، وإنّما شرط تنجّزه بالعلم الإجمالي أن لا يكون منجّزاً سابقاً ، وهذا حاصل في المقام.

ويرد عليه ثانياً : أنّنا لو سلَّمنا كون سبق أحد المعلومين موجباً لانحلال العلم الإجمالي بالمعلوم المتأخّر وإن كان نفس العلم سابقاً إلّا أنّ المقام ليس

١٣٠

صغرى لذلك ، إذ المراد بسبق أحد التكليفين المعلومين إجمالاً على الآخر هو كونه ثابتاً لنفس موضوع المعلوم الآخر في مرتبةٍ أو زمانٍ سابقين ، وأمّا مجرّد سبقه ولو كان في موضوعٍ آخر فلا يوجب قصور العلم الآخر عن تنجيز معلومه ، إذ لم يتنجّز شيء من أطرافه في المرتبة السابقة على معلومه ، وإنّما تنجّز حكمٍ آخر في موضوعٍ آخر يكون سابقاً على معلومه.

وبالجملة : لو قلنا : إن التنجّز يثبت من حين زمان المعلوم لا من حين زمان العلم فلا يقتضي ذلك في المقام ـ أي فيما إذا فرض تقدم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف على العلم الآخر ـ انحلال العلم الإجمالي الأول بنجاسة الملاقي أو الطرف ، وسقوطه عن التأثير بسبب العلم الإجمالي الثاني بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف ؛ لأنّ المعلومين بكلا العلمين إن كانا منطبقين على نجاسة الطرف فمعلومهما واحد ، ولا وجه حينئذٍ لسبق تنجّز العلم الثاني على تنجّز العلم الأول ليكون مانعاً عن تنجيزه بعد انطباق كلا المعلومين على شيءٍ واحدٍ بعينه.

وإن كان المعلوم السابق منطبقاً على نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ والمعلوم اللاحق منطبقاً على نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ فكلّ من المعلومين نجاسة في موضوعٍ غير الموضوع للنجاسة الاخرى المعلومة بالعلم الآخر ، غاية الأمر أنّ إحدى النجاستين ـ وهي نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ سابقة بالرتبة على النجاسة الاخرى الثابتة للملاقي. ومن الواضح أنّ تنجّز الملاقَى ـ بالفتح ـ في المرتبة السابقة بسبب العلم بها لا يكون مُخرِجاً لنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ عن قابلية التنجّز بالعلم بها في المرتبة المتأخّرة ، إذ أنّ ما يمنع عن تنجّز شيءٍ بمنجِّزٍ إنّما هو تنجّز نفسه بمنجِّزٍ سابق ، لا تنجّز حكمٍ سابقٍ عليه في الرتبة بمنجِّزٍ سابق.

ويرد عليه ثالثاً : أنّ العلم المنجِّز ليس هو العلم بنجاسة أحد الأمرين ، بل العلم بلزوم الاجتناب عن أحدهما تكليفاً ، أو مانعيته وضعاً ونحو ذلك من آثار

١٣١

النجاسة ، ومن المعلوم أنّه لا طولية بين المعلومين حينئذٍ أصلاً ، إذ أنّ الطولية إنّما هي بين نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ ونجاسة الملاقِي لا بين وجوب الاجتناب عن الملاقى ووجوب الاجتناب عن الملاقي.

والمتلخّص من كلّ ما سبق : أنّه إن كان المُدَّعى هو سبق التنجّز على العلم وتبعيته للمعلوم في ظرفه فحيث يكون المعلوم متقدماً يكون تنجّزه متقدماً ، وإن كان نفس العلم به متأخّراً فيرد عليه ما عرفت من الإشكالات.

وإن كان المُدَّعى أنّ التنجّز وإن لم يكن سابقاً على العلم إلّا أنّه مع ذلك يكون العلم الثاني باعتبار سبق معلومه موجباً لانحلال العلم الأول الذي يكون معلومه متأخّراً ومخرجاً له عن كونه علماً بالتكليف الحادث على كل تقدير فيسقط عن التأثير ، وإن لم يكن شيء من أطرافه قد تنجّز في المرتبة السابقة على تنجّزه فهو الذي عرفت أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به أصلاً ، إذ شرط تنجّز المعلوم الإجمالي بعلمه أن لا يكون بعض أطرافه منجّزاً سابقاً ، وهذا الشرط في المقام حاصل بالإضافة إلى العلم الإجمالي الأول ، فيؤثّر لا محالة.

وهناك وجوه اخرى للنظر في ما افيد ، فتدبّر جيّداً.

بقي أمران :

حكم الملاقي في صورتين :

الأول : أنّ المحقّق الخراساني (١) قدس‌سره ذكر صورتين لوجوب الاجتناب عن الملاقي وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقَى ـ بالفتح ـ :

إحداهما فيما لو علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو المائع ، ثمّ علم بملاقاة الثوب لإناءٍ وأنّه لا وجه لنجاسته إلّا ذلك فإنّه يحصل حينئذٍ علم إجمالي آخر

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٢

١٣٢

بنجاسة الإناء أو المائع الذي هو طرف العلم الإجمالي الأول ، ولا تتنجّز نجاسة الإناء الملاقَى ـ بالفتح ـ بالعلم الإجمالي الثاني ؛ لأنّ أحد طرفيه ـ وهو المائع ـ قد تنجّز بمنجِّزٍ سابق ، فتجري أصالة الطهارة في الإناء بلا معارض ، ولا تجري في الثوب ؛ لسقوطه بالمعارضة مع الأصل في المائع بلحاظ العلم الإجمالي الأول.

والتحقيق في النظر القاصر : هو عدم صحة التفكيك المزبور ، فإنّنا إن لم نقل في صورة تأخّر العلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف عن العلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف بانحلال المتأخّر وعدم تنجيزه ـ كما عرفت ـ ففي المقام لا نقول أيضاً بانحلال العلم الإجمالي المتأخّر بنجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، بل تتنجّز به نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ.

وإن قلنا بانحلال العلم الإجمالي المتأخّر فمقتضاه في الصورة المذكورة جريان أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ ، ويترتّب عليها جميع آثارها التي منها طهارة الملاقِي ـ بالكسر ـ ، أي الثوب في المثال ، فلا يجب الاجتناب عن كلٍّ منهما مع قطع النظر عن محذور علّية العلم الإجمالي ، وإلّا فعلى علّية العلم الإجمالي الأول المتعلّق بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف لا مجال لثبوت طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ من ناحية أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ بعد تنجيز العلم الإجمالي الأول بنحو العلِّية وبقائه على شرائط تنجيزه.

فنحن نتكلّم بناءً على أنّ المحذور في جريان الأصل هو المعارضة ، وأنّ كلَّ طرفٍ يتنجّز بالاحتمال بعد سقوط الأصل فيه بالمعارضة ، فإنّه على هذا إنّما كان الملاقي ـ بالكسر ـ منجّزاً بسبب سقوط الأصل المؤمِّن فيه بالمعارضة ، فلو حدث أصل آخر بقاءً يؤمِّن من ناحيته ولا يكون مبتلى بالمعارضة أثَّر أثره قهراً ، وهو أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ في المقام ، فإنّها تؤمِّن من ناحية الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً.

وأمّا دعوى أنّ مقتضى التعبّد بطهارة الملاقَى ـ بالفتح ـ بعد تنجّز التكليف

١٣٣

في الملاقي ـ بالكسر ـ وطرفه ، ليس إلّا ترتيب أثر الطاهر بما هو طاهر على الملاقِي ـ بالكسر ـ ، لا رفع وجوب الاجتناب العقلي التابع للعلم الإجمالي الأول الذي لا مانع عن تأثيره فمدفوعة : بأنّه بعد فرض أنّ تنجّز الملاقي ـ بالكسر ـ ووجوب الاجتناب عنه الناشئ من العلم الإجمالي الأول إنّما هو بملاك سقوط الأصل فيه بالمعارضة ، وعدم وجود مؤمّنٍ فيه ، وحيث فرضنا بقاءً أنّه حصل هناك مؤمِّن فيه ببركة أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ فيرتفع وجوب الاجتناب.

فإن قلت : إنّ الأصل الجاري في طرف الملاقي ـ بالكسر ـ أي المائع في المثال ـ كما يعارض أصالة الطهارة الجارية في نفس الملاقي ـ بالكسر ـ كذلك يعارض أصالة الطهارة في الملاقَى ـ بالفتح ـ الجارية حين حدوث العلم الثاني من حيث إثباتها لطهارة الملاقي ـ بالكسر ـ ، فيسقط إطلاقها المقتضي لطهارة الملاقي ـ بالكسر ـ.

قلت : إنّه حين حدوث العلم الإجمالي الأول بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو المائع لم يكن هناك معارض للأصل في المائع إلّا الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ ، دون الأصل في الملاقَى ـ بالفتح ـ ولو من حيث إطلاقه ، فيسقط بالمعارضة مع الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ خاصة.

وبتعبيرٍ واضح : أنّ المعارضة بين أصلين فرع إحراز تمامية اقتضاء دليل الأصل لكلٍّ منهما ، ولو بأن يكون أحد الاقتضاءين محرزاً لثبوت في زمانٍ متأخّرٍ مع العلم باستحالة فعليتهما معاً ، فالمكلَّف إذا أحرز اقتضاءين لدليل الأصل ولو كانا تدريجيّين ، كما في أطراف العلم الإجمالي التدريجي بوجوب شيءٍ فعلاً ، أو وجوب شيءٍ مشروطاً بالزوال المتحقّق متأخّراً ، فإنّه هنا يعلم بأنّ دليل الأصل له اقتضاء فعلاً لنفي الوجوب الفعلي ، واقتضاء حين الزوال لنفي الوجوب المشروط بالزوال ، مع عدم إمكان فعلية كلا الاقتضاءين لمكان العلم الإجمالي ، فتحصل

١٣٤

المعارضة بين الأصلين.

وهذا بخلافه في المقام ، فإنّه حين حصول العلم الإجمالي الأول بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو المائع لم يكن المكلّف يعلم بأنّه سوف يحصل في ما بعد اقتضاء لدليل الأصل للتأمين من ناحية نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ بسبب أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ حتى يسقط هذا الاقتضاء للتأمين بالمعارضة مع الأصل في الطرف ، بل لم يكن المكلف يعلم إلّا باقتضاءين لدليل الأصل : أحدهما اقتضاؤه لجريان أصالة الطهارة في المائع ، والآخر اقتضاؤه لجريان أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) ، وحيث يعلم بعدم إمكان فعليتهما معاً فيسقطان بالمعارضة ، وأمّا الاقتضاء للتأمين في جانب الملاقي ـ بالكسر ـ من ناحية شمول دليل الأصل للملاقى ـ بالفتح ـ فلم يكن طرفاً للعلم الإجمالي بالسقوط أصلاً ؛ لعدم العلم بتحقّقه أصلاً ، ففي ظرف تمامية الاقتضاء المزبور لا مانع من تأثيره.

الصورة الثانية (١) : ما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الطرف أو الملاقى ـ بالفتح ـ والملاقي ـ بالكسر ـ من جهة ملاقاته ، إلّا أنّ الملاقى ـ بالفتح ـ كان خارجاً عن مورد الابتلاء حين حدوث هذا العلم فلا يكون مجرىً للأصل في نفسه ، بل يتعارض الأصل في الطرف مع الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ ويتنجّز هذان الطرفان ، وبعد ذلك إذا دخل الملاقَى ـ بالفتح ـ في محلّ الابتلاء لا يتنجّز ؛ لأنّ العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر منحلّ بتنجّز طرفه الآخر سابقاً ، بل يجري الأصل في الملاقَى ـ بالفتح ـ بلا معارض.

وقد أورد المحقّق العراقي (٢) قدس‌سره على ما ذكر من وجوب الاجتناب عن

__________________

(١) ممّا ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره في الكفاية : ٤١١ ـ ٤١٢

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٣٦٣

١٣٥

الملاقي ـ بالكسر ـ في هذه الصورة بأنّه غير مناسبٍ للقول بالاقتضاء ، ببيان : أنّ الملاقى ـ بالفتح ـ وإن لم يكن داخلاً في محلّ الابتلاء حال حصول العلم الإجمالي إلّا أنّ هذا لا يوجب عدم جريان الأصل فيه إذا كان مورداً لسنخٍ من الأصل بحيث يترتّب عليه طهارة ملاقيه ، فإنّه يكون لجريان الأصل فيه حينئذٍ أثر باعتبار ترتّب طهارة ملاقيه عليه الذي هو داخل في محلّ الابتلاء ، فيتعارض الأصل فيه مع الأصل في الطرف الآخر ، وتنتهي النوبة إلى الأصل في جانب الملاقي ـ بالكسر ـ بلا معارض.

وهذا الكلام متين ، ولا يتوهّم أنّ مقتضاه حينئذٍ هو وجوب الاجتناب عن الملاقَى ـ بالفتح ـ بعد دخوله في محلّ الابتلاء ، باعتبار سقوط الأصل فيه بالمعارضة ؛ وذلك لأنّ أصالة الطهارة إنّما تسقط بالمعارضة بلحاظ آثارها التكليفية ، فالمحذور أوّلاً إنّما يقتضي عدم ثبوت تلك الآثار ، وسقوط أصالة الطهارة بعد ذلك بملاك اللغوية حيث لا يبقى لها أثر ، وحينئذٍ فإذا كان لها أثر تكليفي وسقطت بلحاظه المعارضة ، ثمّ حدث بعد ذلك لها أثر تكليفي آخر لا مانع من جريانها ؛ لأنّ سقوطها في نفسها لم يكن لأجل المعارضة حتى يقال : إنّ الساقط بالمعارضة لا يعود ، بل لِلَغوية المرتفعة بتجدّد أثرٍ لها بقاءً ، كما نبّه على ذلك بعض مشايخنا المحقّقين (١).

حكم الملاقي عند الشكّ في الطوليّة :

الأمر الثاني : ذكر المحقّق العراقي (٢) قدس‌سره : أنّه إذا كان العلم الإجمالي علماً إجمالياً بنجاسة طرفين أو طرف إلّا أنّه شكّ في طولية ذينك الطرفين ، بأن احتمل

__________________

(١) لم نعثر عليه

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٣٦٥

١٣٦

كون نجاسة أحدهما المعيَّن في طول نجاسة الآخر ، واحتمل كونها في عرضها ، كما إذا احتمل كون نجاسة ذلك المعيَّن بسبب الملاقاة للآخر ، أو علم أنّها بهذا السبب ، إلّا أنّه شكّ في أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ هل هي في طول نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو في عرضها بنحو السراية؟ فلا بدّ من الاحتياط على القول بالاقتضاء والعلّية معاً.

أمّا على الأول فلأنّ جريان الأصل النافي في بعض الأطراف على هذا المسلك إنّما هو بمناط السببية والمسبّبية الموجبة لحكومة أحد الأصلين على الآخر ، ومن الواضح أنّ ذلك إنّما يكون في فرض إحراز وجود الحاكم بعينه المتوقّف على العلم بالطولية بين الأثرين ، وإلّا فلا يكفي مجرّد احتمال وجود الحاكم واقعاً في رفع اليد عن أصل المحكوم.

وأمّا على مسلك العلّية فواضح.

والتحقيق : أنّ الحكومة المحتمل ثبوتها لأحد الأصلين على الآخر : إمّا أن تكون حكومةً بملاك رفع الحاكم لموضوع المحكوم ، كما فيما إذا علم بنجاسة الإناء الأصفر أو الأبيض والأسود ، واحتمل كون نجاسة الأسود وطهارته من الآثار المترتّبة شرعاً على نجاسة الأبيض وطهارته فقهراً يحتمل كون استصحاب الطهارة في الأبيض حاكماً على الأصل في جانب الأسود ، بمعنى كونه رافعاً لموضوعه ؛ لاقتضائه التعبّد بإحراز سائر آثار طهارة الأبيض التي يحتمل كون طهارة الأسود منها.

وإمّا أن تكون الحكومة المحتملة لا بهذا المعنى الراجع إلى تصرّف الحاكم في موضوع المحكوم ثبوتاً وواقعاً ، بل بمعنى يرجع واقعه إلى التخصيص ، بمعنى أنّه لا يكون متكفّلاً لرفع موضوع المحكوم في عالم الاعتبار حقيقةً ، بل يكون لسانه لسان رفع الموضوع ، وواقعه هو التخصيص ، إلّا أنّه يقدَّم على المحكوم ،

١٣٧

ولا تلحظ النسبة بينهما ؛ لأنّه بحسب لسانه ومقام إثباته رافع للموضوع وإن لم يكن الموضوع مرتفعاً أصلاً ، لا خارجاً ولا اعتباراً.

فإن كانت الحكومة المحتملة للأصل في الأبيض على الأصل في الأسود في المثال من القسم الأول فلا محالة إنّما يحرز اقتضاء الدليل لجريان الأصل في الأسود بعد سقوط جريان الأصل في الأبيض ، حيث إنّ اقتضاءه لذلك فرع تحقّق موضوعه المحتمل توقّفه على عدم إجراء الأصل في الأبيض ، وحينئذٍ فلا يحرز موضوع الأصل الجاري في الأسود المحقّق لشمول الدليل له إلّا بعد سقوط الأصل في الأبيض بالمعارضة.

فإذا قلنا بجريان الأصل الطولي في أمثال المقام فيكفي احتمال الطولية في المقام للجريان ، وعدم وقوع الأصل المحتمل الطولية طرفاً للمعارضة ابتداءً ، إذ طرفية أصل للمعارضة متوقّفة على إحراز اقتضائه ووجود موضوعه ، وإلّا فمع الشكّ في موضوع الأصل لا يكون معارضاً ، وإنّما يحرز موضوعه في المقام بعد سقوط الأصل في الإناء الأبيض بالمعارضة ، وفي هذه المرتبة لا معارض له.

فإن قلت : إنّ لازم ذلك عدم الأخذ بكلّ محكومٍ عند الشكّ في الحاكم ، فمثلاً لا يتمسّك بالاستصحاب بعد الفحص لاحتمال وجود خبرٍ واقعاً يكون حاكماً ورافعاً لموضوعه ، ولا يمكن الالتزام بذلك ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ الحاكم إنّما يكون حاكماً بوجوده المحرز ، لا بوجوده الواقعي.

قلت : بل الحاكم بالحكومة المتكلّم عنها في المقام ـ أي الرافع للموضوع ـ يكون حاكماً بوجوده الواقعي ، فالخبر بوجوده الواقعي حاكم على الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب اخذ في موضوعه عدم وجود العلم بالانتقاض واقعاً ، لا عدم إحراز العلم بالانتقاض ، وحيث يشكّ في وجود الخبر فيشكّ في أنّه هل اعتبر المكلف عالماً بالانتقاض؟ وهل هو داخل في موضوع الاستصحاب ، أوْ لَا؟

١٣٨

انّه في سائر موارد احتمال الحاكم ، نتمسّك باستصحاب عدم الحاكم ، وعدم التعبّد بالإحراز ، ونحو ذلك ممّا يثبت به موضوع الأصل المحكوم.

فإن قلت : فليتمسّك في المقام أيضاً باستصحاب عدم وجود حاكمٍ على الأصل في الإناء الأسود ، فيثبت موضوعه ، ويكون معارضاً حينئذٍ للأصل في الإناء الأصفر في عرض الأصل الجاري في الإناء الأبيض في المثال المزبور.

قلت : إذا كان هناك حكم واقعي أو ظاهري مترتّب على موضوع وجرى استصحاب ذلك الموضوع فذاك الحكم الواقعي أو الظاهري إنّما يثبت بنفس دليل الاستصحاب ، لا بدليله المثبت له ، وهذا من خواصّ كون حكومة الاستصحاب على الأدلة حكومةً ظاهريةً لا واقعية.

فمثلاً : إذا استصحبنا اجتهاد زيدٍ فجواز تقليده يثبت بنفس الاستصحاب ، لا بدليل جواز تقليد المجتهد ، كما هو واضح.

وعليه فنقول في المقام : إنّ الأصل المؤمِّن في الإناء الأسود إذا أثبتنا موضوعه ـ وهو عدم وجود الحاكم بالاستصحاب ـ لم يكن مقتضى ذلك ثبوت الأصل المزبور في الإناء الأسود بدليله ، بل إنّما يثبت بنفس دليل الاستصحاب تعبّداً ، كما هو الحال في جواز التقليد عند استصحاب الاجتهاد ، وحينئذٍ فلا يكون استصحاب عدم الحاكم محقّقاً لاقتضاء الأصل في الإناء الأسود وموضوعه حقيقةً حتى تقع المعارضة بينه وبين الأصل في الإناء الأصفر في عرض الأصل في الإناء الأبيض ، بل الاستصحاب المذكور بنفسه يكون متكفِّلاً للتعبّد بجريان الأصل في الإناء الأسود ، فيقع بنفسه طرفاً للمعارضة مع الأصل في الإناء الأصفر.

وأمّا دليل الأصل الجاري في الإناء الأسود فوقوعه طرفاً للمعارضة فرع اقتضائه ، واقتضاؤه إنّما يثبت جزماً بعد سقوط الأصل في الأبيض بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ، وفي هذه المرتبة لا معارض لاقتضائه ، فيجري ، فتدبّره فإنّه دقيق.

١٣٩

وأمّا إذا كانت الحكومة المحتملة في المقام للأصل في الأبيض على الأصل في الأسود من السنخ الثاني فيكون حال المحاكم بحسب الحقيقة حال الدليل المخصِّص ، بمعنى أنّه في المورد الذي يرجع فيه إلى العامّ عند الشكّ في التخصيص يرجع هنا إلى المحكوم عند الشكّ في الحاكم ، وفي المورد الذي لا يجوز التمسّك فيه بالعامّ من موارد الشكّ لا يجوز فيه التمسّك بالدليل المحكوم في المقام أيضاً.

والحاصل : أنّه يفصّل بين الشبهات الحكمية للحاكم والشبهات المصداقية له. ففي الأول يرجع إلى الدليل المحكوم دونه في الثاني ، على تفصيلٍ محقّقٍ في مباحث العموم والخصوص.

وحينئذٍ : فإن كان الشكّ في المقام في حكومة الأصل في الإناء الأبيض ناشئاً عن الشكّ في مقدار المجعول فيه بنحو الشبهة الحكمية ، كما إذا شكّ كلّيّةً في أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ هل هي من الآثار الشرعية لنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو لَا؟ فيرجع إلى الدليل المحكوم ، ويكون اقتضاء الأصل في الإناء الأسود تامّاً ، فيسقط بالمعارضة مع الأصل في الإناء الأصفر في عرض سقوط الأصل في الإناء الأبيض.

وإن كان الشكّ في حكومة الحاكم ناشئاً عن الشبهة الموضوعية ، بمعنى أنّه يعلم بأنّ المجعول فيه هو طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ وخروج ملاقيه عن مقتضى الدليل المحكوم ، إلّا أنّه يشكّ في أنّ الإناء الأسود هل هو ملاقٍ للإناء الأبيض ، أوْ لَا؟ فلا مجال للتمسّك حينئذٍ بدليل المحكوم إلّا بعد سقوط الحاكم ، فتأمّل جيّداً.

والحمد لله أوّلاً وآخراً

١٤٠