غاية الفكر

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

غاية الفكر

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ١٤٤

لموضوع الاستصحاب المزبور ، وهو الشكّ في الدَّين ، بخلاف المدلول الالتزامي المزبور لاستصحاب عدم الدَّين فإنّه لا يلغي الشكّ في الدَّين حتى يكون في عرض استصحاب بقاء الدَّين ، بل مفاده التعبد بوجوب الحجّ فقط.

وعليه فاستصحاب وجود الدَّين يكون حاكماً على المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَّين ؛ لأجل رفعه لموضوعه وهو الشكّ في الدَّين ، بخلاف العكس ، فلا يثبت المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَّين لأجل المحكومية ، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الأخذ بالمدلول المطابقي لاستصحاب عدم الدَّين ؛ لأنّه موقوف على ثبوت المدلول الالتزامي ، والمفروض محكوميته وعدم ثبوته.

وإن شئت قلت : إنّ ملاك الحكومة ـ وهو دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ـ موجود في المقام ، فإذا أخذنا باستصحاب بقاء الدَّين كان اقتضاء الاستصحاب الآخر لمدلوله الالتزامي محكوماً وخارجاً بالتخصّص ، وكذلك ينهدم اقتضاؤه في المرتبة المتأخّرة لمدلوله المطابقي.

وأمّا إذا أخذنا باستصحاب عدم الدَّين بكلا مدلوليه الالتزامي والمطابقي كان ذلك تخصيصاً بالإضافة الى استصحاب بقاء الدَّين لا تخصّصاً.

فاتّضح أنّه على ما أفاد من الجواب يلزم حكومة استصحاب بقاء الدَّين على استصحاب عدمه في موارد توارد الحالتين ، مع أنّ الأصحاب الذين هو بصدد توجيه كلامهم على مبانيه لا يلتزمون بذلك.

ويرد عليه ثالثاً : أنّنا لا نتعقّل تشكّل علمٍ إجماليٍّ في الصورة الثالثة أصلاً ، أي فيما إذا كان وجوب الحجّ مترتّباً على المعذّرية من ناحية وجوب الوفاء بالدَين ، فما ذكره من أنّ الأمر ينتهي حينئذٍ إلى العلم الإجمالي بوجوب الوفاء بالدَين أو وجوب الحجّ ، إلّا أنّه غير قابلٍ للتنجيز ممنوع ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي متقوّم بطرفين أو أكثر.

١٠١

ففي المقام العلم الإجمالي المُدَّعى أحد طرفيه هو وجوب الحجّ ، ولا بدّ له من طرفٍ آخر ، فإن ادُّعي أنّ الطرف الآخر هو وجوب الوفاء بالدَين ففيه : أنّ المكلّف يحتمل عدم ثبوت التكليفين معاً ، وذلك في فرض عدم ثبوت وجوب الوفاء واقعاً مع تنجّزه ظاهراً ، فإنّه على هذا التقدير لا يكون كلا الحكمين ثابتاً.

أمّا وجوب الوفاء فلأنّه مفروض العدم واقعاً. وأمّا وجوب الحجّ فلعدم تحقّق موضوعه ـ وهو المعذرية ـ من ناحية الدَّين. وإذن فالمكلف يحتمل عدم ثبوت كلا التكليفين على بعض التقادير ، فكيف يدّعى كونه عالماً بأحدهما على كلِّ تقدير؟!

والحاصل : أنّ فرض عدم وجوب الحجّ ليس هو فرض وجوب الوفاء واقعاً البتّة حتى يكون الأمر دائراً بينهما ويكون المكلف عالماً بأحدهما إجمالاً ، بل فرض عدم وجوب الحجّ هو فرض عدم موضوعه ، أي عدم المعذورية من ناحية الدَّين ، وتنجّزه ، وهو أعمّ من كونه ثابتاً في الواقع ، أوْ لا ، فوجوب الوفاء بالدَين بوجوده الواقعي ليس طرفاً للعلم الإجمالي أصلاً ، وإن ادّعي أنّ العلم الإجمالي المدّعى تشكيله في المقام أحد طرفيه وجوب الحجّ ، والآخر هو وجوب الوفاء بالدَين ، ولكن لا بوجوده الواقعي ، بل بوجوده التنجّزي ، بمعنى أنّ المكلف يعلم : إمّا بوجوب الحجّ ، أو بتنجّز وجوب الوفاء بالدَين.

فيدفعه : أنّ التنجّز لا يعقل أن يكون طرفاً للعلم الإجمالي ؛ لأنّ من شئون الطرفية للعلم الإجمالي أن يكون مشكوكاً. ومن الواضح أنّ المنجِّزية لا يتصور فيها الشكّ ؛ لأنّها ليست إلّا عبارةً عن إدراك العقل لإمكان العقاب على تقدير مخالفة التكليف وصحّته ، وهذا ممّا لا يمكن التردّد فيه ، فإنّ الاحتمال أمر وجداني ، فإن احتمل العقل العقاب فالمنجّزية ثابتة جزماً ، وإلّا فلا منجّزية جزماً.

وإذن فطرفيّة المنجّزية للعلم الإجمالي غير معقولة.

١٠٢

على أنّه لو فرض طرفيتها لم تكن حينئذٍ مورداً للأصل المؤمِّن بلا إشكال ؛ لأنّ احتمال المنجّزية مساوق لاحتمال التكليف المنجّز ، ومن المعلوم أنّ احتمال التكليف المنجّز ليس مورداً للأصل المؤمِّن ، بل مورده احتمال التكليف الواقعي.

والحاصل : أنّنا لا نتعقّل حصول علم إجماليٍّ في هذه الصورة أصلاً ، بل لا بدّ من ملاحظة وجوب الوفاء بالدَين المشكوك ، فإن كان هناك من سائر الجهات ما يوجب تنجّزه تنجّز وانعدم وجوب الحجّ جزماً ، وإن لم يكن له منجّز في نفسه جرت عنه البراءة ، وثبت وجوب الحجّ من دون الانتهاء إلى علمٍ إجماليٍّ بوجوب الوفاء أو وجوب الحجّ ليمنع عن قابليته للتنجيز.

نعم ، لو فرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على الجامع بين المعذورية عقلاً وبين العدم الواقعي لوجوب الوفاء لحصل العلم الإجمالي بأحد التكليفين ، إلّا أنّه خلاف فرض الصورة الثالثة من كونه ناشئاً من القدرة المسبّبة عن مجرّد معذورية المكلف عقلاً من ناحية الدَّين.

وإن شئت قلت : إنّ المكلف في هذه الصورة على تقدير تنجّز الدَّين عليه بمنجِّزٍ ما يعلم تفصيلاً بعدم وجوب الحجّ ، ويحتمل وجوب الوفاء بالدَين ، وكون المنجِّز للدَين مطابقاً للواقع. وعلى تقدير عدم وجود منجِّزٍ له يعلم تفصيلاً بوجوب الحجّ ، ويشكّ بَدواً في وجوب الوفاء ، ولا ثالث لهذين التقديرين ، إذ لا يتصور الشكّ في وجود منجِّزٍ عقلاً للدَين ، فأين العلم الإجمالي المدّعى؟!

فاتّضح بهذا كلّه : أنّ القول بالعلّية لا يلائم جريان الأصل النافي للتكليف المترتّب عليه في الصورة الاولى ؛ لعدم خلوِّه عن محذور ، وهو حكومة استصحاب الدَّين على استصحاب عدمه في موارد توارد الحالتين. وأمّا في الصورة الثانية فيستحيل تنجيز العلم الإجمالي ، كما عرفت. وأمّا في الصورة الثالثة فلا علمَ إجماليٌّ أصلاً.

١٠٣

تعلّق العلم الإجمالي بجزء الموضوع

التنبيه الثالث : لا إشكال في أنّ التكليف الفعلي الذي يكون موضوعاً لوجوب الامتثال على تقدير وصوله إنّما يكون بتمامية الكبرى والصغرى ، بمعنى وجود الجعل من قِبَل المولى ، وتحقّق تمام الموضوع المأخوذ في مقام الجعل بقيوده وأجزائه ، وعليه فالعلم الإجمالي إنّما ينجّز إذا كان علماً بتمام الموضوع ولو في ظرفٍ متأخّر ؛ لأنّه حينئذٍ يكون علماً بالتكليف الفعلي.

وأمّا العلم بجزء الموضوع إجمالاً فلا أثر له في تنجيز حكم ذلك الموضوع. فإذا علم المكلّف إجمالاً بخمرية أحد المائعين تتنجّز حرمة الشرب المتعلّقة بالخمر ؛ للعلم بتمام موضوعها وهو الخمرية ، ولكن لا يتنجّز وجوب الحدّ ؛ لعدم العلم بتمام موضوعه المركّب من الخمر وشربه ، بل لا يتحقّق بعد شرب أحد المائعين إلّا احتمال تحقّق موضوعه بلا علمٍ إجماليٍّ به ، وتجري حينئذٍ أصالة البراءة عن وجوب الحدِّ بلا معارض ؛ لعدم وقوعه طرفاً لعلمٍ إجماليٍّ أصلاً ، وهذا كبروياً ممّا لا ريب فيه ، وإنّما الكلام في بعض المصاديق المشتبهة التي يشتبه تنجّز تكليفٍ فيها ؛ لاشتباه كون المعلوم الإجمالي تمام موضوعه حتى يتنجّز ، أو جزء موضوعه حتى لا يتنجّز.

والمهمّ منها مسألتان.

حكم النماء عند العلم الإجمالي بالغصبيّة :

المسألة الاولى : ما إذا علم بغصبية إحدى الشجرتين أو الحيوانين ، ثمّ تجدّد لإحداهما ثمرة دون الاخرى فقد يقال بجواز التصرّف في الثمرة تكليفاً ، وعدم ضمانها وضعاً ؛ لعدم العلم بما هو تمام الموضوع للتكليف أو الوضع المتعلّق بالثمرة.

١٠٤

وقد يقال : بتنجّز الحرمة والضمان معاً بالنسبة الى الثمرة ، كما اختاره المحقّق النائيني (١) قدس‌سره بعد فراغ كلا الفريقين عن تنجيز العلم الإجمالي لضمان كلٍّ من الأصلين وحرمة التصرّف فيه.

ووجه القول بتنجّز ضمان الثمرة هو : أنّ وضع اليد على العين المغصوبة موجب لضمانها وضمان منافعها إلى الأبد ، ومن ثَمّ جاز للمالك الرجوع الى الغاصب الأوّل في المنافع المتجدّدة بعد خروج العين عن يده ودخولها تحت الأيدي المتأخّرة ، فالعلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتّب عليه ضمان نفس العين المغصوبة كذلك يترتّب عليه ضمان منافعها المتأخّرة ؛ لأنّ وضع اليد على العين ولو آناً ما تمام الموضوع لذلك.

ووجه عدم تنجّز الضمان : أنّه تارةً يكون ذو الثمرة مجرىً للأصل المثبت لملكية الغير له ؛ فلا إشكال في ضمان الثمرة ، واخرى لا تكون كذلك فلا ضمان ؛ لأنّ ضمان المنفعة موقوف على أن تكون منفعة للعين المغصوبة الداخلة تحت اليد ، فما لم يحرز كونها كذلك لم يحرز كونها مصداقاً لموضوع الضمان ، فبقاء اليد على العين المغصوبة الى حين تجدّد المنفعة ، بحيث تكون المنفعة تحت اليد ، وإن لم يكن شرطاً في ضمان المنافع ؛ لكفاية كون العين تحت اليد آناً ما في ضمان منافعها الحادثة ولو بعد ارتفاع اليد إلّا أنّه لا بدّ في ضمان المنفعة من أن تكون منفعةً لعين مغصوبةٍ واقعةٍ تحت اليد ولو آناً ما ، وفي المقام بمجرّد العلم الإجمالي بغصبية إحدى العينين لا يحرز كون المنفعة منفعةً مضافةً الى المغصوب ولو إجمالاً.

هذا ملخَّص ما افيد في المقام.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٣ ـ ٧٦

١٠٥

والتحقيق في النظر القاصر : أنّ العلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين لا يوجب ضمان إحداهما اذا تلفت ، ولا ينجّز الحكم بتداركها فضلاً عن منافعها المتجدّدة ، بمعنى أنّ ذا الثمرة لا يكون ضمانه منجّزاً بالعلم الإجمالي المزبور ، فكيف بمنافعه؟! ولا يفرق في هذا المدّعى بين سائر المسالك المعروفة في الضمان.

توضيح ذلك : أنّ الضمان تارةً يقال بأنّه عبارة عن اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة على تقدير التلف ، فهو اشتغال مشروط بالتلف ، كما لعلّه المشهور.

واخرى يقال : إنّه عبارة عن دخول الشيء في عهدة الضامن بالمقدار الممكن أداؤه منه ، فما دامت العين قائمةً يكون متعلّق العهدة هو العين بخصوصيّاتها الشخصية ، وإذا تعذّرت سقطت الخصوصيات الشخصية من العهدة ، وبقي متعلّقها مطلقاً من ناحية الخصوصيات الشخصية وإن كان مقيّداً بالخصوصيات النوعية والصنفية ، وهو المعبَّر عنه بضمان المثل ، ومع تعذّر هذه الخصوصيات أيضاً تسقط من العهدة ، وتبقى المالية لا بشرط.

وثالثةً يقال : إنّ الضمان بمعنى كون العين الشخصية بخصوصياتها في العهدة ، من دون أن يسقط شيء منها بتعذّر أوصاف الشخص أو النوع ، وإنّما يختلف أثرها التكليفي ، فإنّ أثرها مع التمكّن من أوصاف الشخص وجوب ردّ نفس العين ، ومع تلفها وجوب ردّ المثل في المثليات ، والقيمي في القيميات.

فعلى الأول يكون موضوع الضمان ـ الذي هو بمعنى اشتغال الذمّة ـ مركّب من وضع اليد على العين المغصوبة وتلفها ، إذ المفروض أنّه عبارة عن الاشتغال المشروط بالتلف ، وهذا الموضوع المركّب غير محرزٍ ولو إجمالاً ، بل العلم الإجمالي تعلّق بجزء الموضوع ، وهو وضع اليد على عينٍ مغصوبة ، وأمّا تلفها فليس محرزاً أصلاً.

١٠٦

والحاصل : عند تلف إحدى العينين لا يكون موضوع الضمان معلوماً ولو بالإجمال ، فأصالة البراءة عن ضمان العين التالفة تجري بلا معارض ، وليس المعلوم الإجمالي ـ وهو غصبية إحدى العينين ـ تمام الموضوع للضمان حتى يتنجّز بالعلم الإجمالي.

وأمّا على المسلك الثاني فالمعلوم الإجمالي ـ وهو وضع اليد على العين المغصوبة المردّدة ـ تمام الموضوع لكون العين بخصوصياتها متعلقةً للعهدة ، إذ لا يتوقّف كون العين في العهدة بخصوصياتها الشخصية إلّا على وضع اليد العادية عليها ، وهذا معلوم في المقام إجمالاً ، إلّا أنّ العهدة المتعلقة بالعين بشخصها لا تقتضي أكثر من ردّ نفس العين دون المثل أو القيمة على تقدير التلف الذي يراد إثبات تنجيزه في المقام ، بل الذي يقتضي دفع المثل هو العهدة المتعلّقة بالشجرة لا بشرطٍ من جهة الخصوصيات الشخصية ، ومن المعلوم أنّ العهدة المتعلّقة بالمال لا بشرط من جهة الخصوصيّات الشخصيّة مشروطة بتعذّر الخصوصيات الشخصية وتلف العين ، إذ ما لم تتلف العين تكون بخصوصياتها في العهدة.

وإذن فوضع اليد المعلوم إجمالاً إنّما يكون تمام الموضوع للعهدة المتعلّقة بشخص العين ، وهذه العهدة ليست هي العهدة الضمانية المقصود إثبات تنجّزها ؛ لأنّها لا تقتضي إلّا رد نفس العين ، والعهدة الضمانية المدّعى تنجّزها بالعلم الإجمالي في المقام هي العهدة المقتضية لدفع المثل أو القيمة ، أي العهدة المتعلّقة بنوع العين ، أو بِصرف ماليتها ، ووضع اليد على العين لا يكون تمام الموضوع لهذه العهدة ؛ لكونها متوقّفةً على أمرٍ آخر وهو تعذّر الخصوصيات الشخصية ، إذ ما لم تتعذّر تكون العهدة متعلقةً بشخص العين لا بنوعها ، وهذا الأمر الأخير الذي هو شرط لتحقق عهدة المثل أو القيمة ليس معلوماً ولو إجمالاً ، فعند تلف إحدى العينين لا يكون هناك إلّا الشكّ البَدوي في تعلّق العهدة بالمثل أو القيمة ، أي نوع

١٠٧

العين أو أصل ماليتها ؛ لأنّ موضوعها ليس محرزاً أصلاً ؛ لاحتمال كون المغصوب غير التالف ، فنسبة العهدة المتعلّقة بالمثل ـ أي بنوع العين المقتضية لدفع المثل ـ إلى وضع اليد المعلوم إجمالاً نسبة الحكم إلى جزء موضوعه ، كوجوب الحدِّ بالنسبة إلى وجود الخمر ؛ لأنّ موضوع العهدة المزبورة مركّب من وضع اليد على العين وتعذّر خصوصياتها ، وهذا الموضوع المركّب غير معلوم أصلاً ؛ لاحتمال أنّ العين المغصوبة ليست هي التالفة المتعذّرة خصوصياتها.

فإن قلت : إنّ المكلف عند تلف إحدى العينين ، يحصل له علم إجمالي بعهدةٍ مردّدةٍ بين العهدة المتعلّقة بنفس العين التي لم تتلف ، ـ المقتضية لِلزوم ردّها بشخصها ـ والعهدة المتعلّقة بنوع العين التي تلفت ، المقتضية لِلزوم دفع المثل ، فإنّه إن كان المغصوب هو التالف ففي عهدته مثل التالف ، وإن كان المغصوب هو العين الاخرى ففي عهدته شخص هذه العين ، ويكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً ، فلا بدّ من ردّ العين التي لم تتلف وإعطاء مثل التالف.

قلت : إنّ هذا العلم الإجمالي بالعهدة المردّدة لا يكون منجِّزاً ؛ لأنّ أحد طرفيه ـ وهو عهدة العين التي لم تتلف ـ قد تنجّزت بعلمٍ إجماليٍّ سابق ، فلا ينجّز بالنسبة إلى الطرف الآخر ، كما سيأتي دعوى ذلك منهم ، فإنّ المكلف حين وضعه اليد على العين المغصوبة المردّدة بين عينين يعلم إمّا بدخول هذه العين بشخصها في عهدته ، أو تلك كذلك ، فبعد تلف إحداهما وإن تشكّل علم إجمالي بدخول غير التالف بشخصه في عهدته ، أو دخول نوع التالف في عهدته إلّا أنّ الطرف الاول ، لمَّا كان منجّزاً بالعلم الأول فلا بدّ من انحلال العلم الإجمالي الثاني.

فإن قلت : إنّ العلم الإجمالي الثاني وإن كان منحلًّا وغير منجّز ؛ لأنّ العهدة الشخصية لغير التالف منجَّزة سابقاً إلّا أنّه بعد دفع العين التي لم تتلف يشكّ في بقاء تلك العهدة المردّدة المعلومة بالإجمال ؛ لأنّه إن كان المغصوب هو العين التالفة

١٠٨

فعهدته قد تعلّقت بنوع التالف ، وهذه العهدة باقية حتى بعد دفع العين التي لم تتلف. وإن كان المغصوب هو العين التي لم تتلف فعهدته قد تعلّقت بشخص العين غير التالفة ، وتكون عهدته حينئذٍ ساقطة بدفعها. وإذن بعد أداء العين التي لم تتلف يشكّ في بقاء العهدة المعلومة بالإجمال.

قلت : إن اريد استصحاب العهدة المعلومة قبل تلف كلٍّ من العينين ففيه : أنّ تلك العهدة الثابتة حال وضع اليد هي عهدة متعلّقة بشخص المغصوب ، وهي معلومة الارتفاع تفصيلاً بعد تلف إحدى العينين وأداء الاخرى ، إذ أنّ المغصوب : إن كان هو التالف فالعهدة المتعلّقة به قد ارتفعت وتبدّلت إلى عهدةٍ مباينةٍ لها وهي عهدة المثل ، وإن كان هو غير التالف فالعهدة المتعلّقة به قد ارتفعت بأدائه.

وإن اريد استصحاب العهدة المعلومة بالإجمال حال تلف إحدى العينين المردّدة بين عهدة نوع التالف ومثله ، أو عهدة شخص العين الاخرى فهي وإن كانت على التقدير الأوّل تكون باقيةً وعلى التقدير الثاني تكون مرتفعةً فيستصحب الجامع بين العهدة المرتفعة على تقدير ثبوتها والعهدة الباقية على تقدير ثبوتها على نحو استصحاب الكلّي في القسم الثاني إلّا أنّ هذا الاستصحاب لا يجري.

أمّا أوّلاً فلأنّه معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل ، أي عدم تعلّق عهدةٍ له بنوع التالف ، بناءً على أنّ استصحاب عدم الفرد الطويل إذا لم يسقط بالمعارضة باستصحاب عدم الفرد القصير يعارض به استصحاب الكلّي ، فإنّ المقام من هذا القبيل ، إذ أنّ استصحاب عدم الفرد القصير من العهدة ـ أي عهدة شخص العين غير التالفة ـ قد سقط بالمعارضة مع استصحاب عدم عهدة شخص العين الاخرى بمجرّد وضع اليد على العينين ، فحين تلف إحداهما وتشكّل علمٍ إجمالي إمّا بعهدة نوع التالف أو عهدة شخص ما لم يتلف لا يكون لاستصحاب عدم حدوث عهدة

١٠٩

نوع التالف معارض في نفسه ، فيعارض استصحاب كلّيّ العهدة الذي يُدَّعى جريانه بعد أداء العين الباقية ، وإن كان المبنى غير منقّح.

وأمّا ثانياً فلأنّ الجامع بين عهدة شخص غير التالف وعهدة نوع التالف لا أثر له فعلاً ليمكن إثباته بالاستصحاب ، إذ أنّه جامع بين عهدة شخص غير التالف التي لا أثر لها فعلاً لأنّ المفروض أنّه قد أدّاها للمالك ، وبين عهدة نوع التالف التي لها أثر ، فإن اريد باستصحاب الجامع بين العهدتين إثبات مجرّد الجامع ، فيدفعه : أنّ الجامع بين عهدة لها أثر وعهدة ليس لها أثر لا أثر له ليثبت بالتعبّد الاستصحابي ، وإن اريد إثبات عهدة المثل باستصحاب الجامع فهو مثبت.

وأمّا على المسلك الثالث في باب الضمان فعهدة الشخص وإن كان قد علم بما هو تمام الموضوع لها إجمالاً ـ وهو وضع اليد ـ إلّا أنّ الحكم التكليفي بوجوب دفع البدل لا يكفي فيه مجرّد كون العين في العهدة ، فإنّ كون العين في العهدة على هذا المسلك ملائم مع وجوب ردّ نفس العين ومع وجوب دفع مثلها. وإذن فوجوب دفع المثل مشروط بتلف العين ، بمعنى أنّ عهدة الشخص إنّما تقتضي وجوب المثل وتكون موضوعاً له بشرط تلفها ، وإلّا فلا تكون موضوعاً إلّا لوجوب ردّ نفس العين ، فموضوع وجوب المثل مركّب من وضع اليد المحقّق لعهدة العين المغصوبة ، ومن تلفها المحقّق لاقتضاء العهدة لوجوب المثل ، وحيث إنّ الجزء الثاني غير محرزٍ ولو بالإجمال ، فتجري عند تلف إحدى الشجرتين البراءة عن وجوب البدل.

حكم الملاقي لبعض الأطراف :

المسألة الثانية : ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد المائعين ثمّ لاقى شيء ثالث أحدهما ، فإنّه يتكلّم في أنّ نجاسة الملاقي هل تتنجّز بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين أوْ لا؟

١١٠

وقد بنيت المسألة على القول بالسراية بمعنى التوسّع والانبساط ، وعدمه. فعلى الأول نجاسة الملاقي هي بنفسها نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ التي تنجّزت بالعلم الإجمالي ، فلا تكون مجرىً للأصل المؤمِّن ، بخلافه على الثاني.

والتحقيق : أنّ السراية بمعنى انبساط النجاسة وتوسّعها أمر مستحيل ، بناءً على الصحيح من أنّ النجاسة حكم شرعيّ واعتبار مولوي فإنّ الاعتبار يتشخّص بمتعلّقه ، ولا يعقل توسّع متعلّقه ولا تضيّقه ، إذ هو خلاف تشخّصه في افق الاعتبار بأطرافه ومشخّصاته.

فما ذكره المحقّق العراقي (١) قدس‌سره وغيره (٢) من : أنّ نجاسة الملاقي يمكن أن تكون لمحض التعبّد الشرعي ، ويمكن أن تكون من جهة السراية بمعنى الاكتساب ، بأن تكون نجاسة الملاقي ناشئةً عن نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ومسبّبةً عنها نشوء حركة المفتاح من حركة اليد ، ويمكن أن تكون نجاسته من السراية بمعنى الانبساط ، بأن تكون الملاقاة منشأً لاتّساع دائرة نجاسة الملاقى وانبساطها الى الملاقي ، بحيث تكون نجاسته عين نجاسته ، ممنوع ؛ لأنّ نفس النجاسة لا يتصور فيها السريان والاتّساع ؛ لكونها اعتبارية.

ومنه يظهر الإشكال في السراية بمعنى إيجاب الملاقاة لعلّية نجاسةٍ لنجاسة ، كما اختاره ، فإنّ العلّية والاكتساب لا يتصور في الامور الاعتبارية القائمة كلّها بالمعتبر قيام الفعل بفاعله ، أو المعلول بعلّته. نعم ، كون نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ معدّةً لصدور اعتبارٍ آخر من المعتبر بنحوٍ من معاني الإعداد أمر معقول. وبعد عدم معقولية السراية بكلا معنييها لا حاجة إلى التكلّم في مقام الإثبات.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤

(٢) كالمحقّق النائيني في أجود التقريرات ٢ : ٢٥٧ ، وفوائد الاصول ٤ : ٤١ ـ ٤٢

١١١

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنّه لو تمّ مبنى السراية بمعنى الانبساط ثبوتاً وإثباتاً لَما اقتضى تنجّز نجاسة الملاقي بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ انبساط النجاسة على الملاقي من الملاقى وسعة دائرتها واختلاف حدّها لو تعقّلناه فلا يمكن تنجّزه بالعلم الإجمالي ؛ لأنّه فرع ملاقاة الملاقي للشيء النجس ، فالمعلوم الإجمالي ليس تمام الموضوع للسراية وسعة دائرة النجاسة ، بل هو مع فرض ملاقاة الملاقي له ، ومن المعلوم أنّ ملاقاة النجس المعلوم بالإجمال ليست معلومةً ولو إجمالاً.

فظهر بذلك النظر في ما أفاده المحقّق النائيني (١) ، من : أنّ التنجيس لو كان من جهة السراية لَوجب الاجتناب عن ملاقي طرف الشبهة ؛ لأنّ العلم الإجمالي يوجب تنجّز معلومه بتمام مَا لَه من الأثر ، فكلّ ما يترتّب عليه من أثرٍ على فرض وجوده في أيِّ طرفٍ من الأطراف يتنجّز بالعلم الإجمالي ، وحيث إنّ المفروض كون وجوب الاجتناب عن الملاقي من آثار نفس المعلوم بالإجمال على تقدير وجوده في ما لاقاه فمقتضى العلم الإجمالي هو ترتيب ما للنجاسة من الأثر ، فيجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً.

ووجه النظر : أنّ العلم الإجمالي ـ كما افيد ـ إنّما ينجّز الآثار التي يكون المعلوم الإجمالي تمام الموضوع لها ، بمعنى أنّه إذا علم بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر ـ مثلاً ـ فأيّ أثرٍ يكفي في وجوده مجرّد تحقّق النجاسة المعلومة بالإجمال في الأبيض يتنجّز ، وأمّا إذا كان مجرّد وجودها في الأبيض ، لا يكفي ، بل يحتاج إلى تحقّق أمرٍ آخر ليتحقّق الأثر فلا يتنجّز الأثر أصلاً ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّه لو فرض ملاقاة الثوب للإناء الأبيض لا يكون مجرّد انطباق النجاسة المعلومة بالإجمال على الأبيض كافياً في وجوب الاجتناب عن الثوب ، بل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩ ، وفوائد الاصول ٤ : ٤٢

١١٢

وجوب الاجتناب عن الثوب فرع انبساط النجاسة من الإناء الأبيض عليه واتّساع حدودها. والانبساط المزبور من الإناء على الثوب أيضاً لا يكفي فيه مجرّد نجاسة الإناء ، بل يتوقّف ـ مضافاً إلى ذلك ـ على ملاقاته له.

وإذن فالمعلوم الإجمالي ـ وهو نجاسة أحد الإناءين ـ على فرض انطباقه على الإناء الأبيض لا يكون تمام الموضوع لسريان النجاسة وسعة دائرتها ؛ لتوقّف السعة المزبورة على وقوع ملاقاة شيءٍ له في الخارج. ولا تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي ؛ لتوقّفه على انبساط النجاسة عليه ، فالنجاسة بمرتبتها الوسيعة ودائرتها المنبسطة لا يعقل أن تتنجّز بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد إناءين ؛ لأنّ سعتها متوقّفة على وجود نجسٍ وملاقاة شيءٍ له ، ووجود النجس وإن كان معلوماً إجمالاً إلّا أنّ ملاقاة شيءٍ له غير معلومة ؛ لاحتمال أنّ الثوب قد لاقى غير النجس المعلوم إجمالاً ، فما هو تمام الموضوع وتمام العلّة لانبساط النجاسة ليس معلوماً ولو إجمالاً ، وإنّما المعلوم إجمالاً جزؤه ، فلا يتنجّز الانبساط ولا ما ينشأ عنه من الأحكام التكليفية وانبساطها بالعلم الإجمالي المزبور.

نعم ، لو اريد بالسراية ما اصطلح عليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بكون الملاقى ـ بالفتح ـ واسطةً في العروض بالإضافة الى ملاقيه ، بمعنى كون وجوب الاجتناب عن الملاقَى ـ بالفتح ـ المترتّب على نجاسته بنفسه يقتضي الاجتناب عن ملاقيه ؛ لعدم حصول الاجتناب عن شيءٍ إلّا بالاجتناب عن ملاقيه ، لكان ما ذكر متّجهاً ، إذ يكون الاجتناب عن الملاقي حينئذٍ من شئون امتثال الأمر بالاجتناب عن الملاقَى (بالفتح) ، فبدونه يشكّ في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم إجمالاً ، فلا بدّ من الاحتياط ، لا أنّ دائرة التكليف ودائرة النجاسة كلتاهما تتّسعان بسبب الملاقاة حتى يقال : إنّ النجاسة والتكليف بوجودهما السعي غير واصلين فلا يتنجّزان ، كما عرفت ، بل نفس وجوب الاجتناب عن الملاقَى ـ بالفتح ـ من

١١٣

دون أن تختلف حدوده ودائرته بالملاقاة يكون امتثاله موقوفاً على اجتناب الملاقي ، وهذا المعنى يكون معقولاً ثبوتاً ، ولا يرد عليه ما أوردناه على السراية.

إلّا أنّ هذا ليس من السراية بشيء ، وليس من باب اتّساع النجاسة ، ولا يصحّ التنظير له بما ذكره قدس‌سره من امتزاج المائع المتنجّس بغيره ، إذ أفاد أنّ امتزاج المائع المتنجّس بغيره كما يوجب اتّساع النجاسة وانبساطها على الأجزاء كذلك الملاقاة توجب الانبساط واتّساع النجاسة ، فلا يكون الملاقي فرداً آخر من النجس في قبال ما لاقاه ، بل نجاسته بعينها هي نجاسته. فإنّ هذا صريح في أنّه إنّما يتكلّم في المقام على السراية بمعناها الحقيقي ، لا على دعوى كون الاجتناب عن الملاقي من مقتضيات الاجتناب عمّا لاقاه.

وقد عرفت أنّه على المبنى المزبور للسراية وإن كانت نجاسة الملاقي بعينها نجاسة الملاقَى ـ بالفتح ـ إلّا أنّه لا يعقل أن تنجّز النجاسة أو آثارها بوجودها السعي وبدائرتها المنبسطة بالعلم الإجمالي ؛ لأن المعلوم أصل النجاسة ، لا جهة سعتها وشمولها لشيءٍ آخر ، ولا مانع من التفكيك بين الجهتين في مقام التنجّز.

واتّضح بما سبق أنّ مجرّد العلم الإجمالي بنجاسة أحد إناءين لا ينجّز نجاسة ملاقيه ، فإن كان هناك وجه لتنجّز النجاسة في الملاقي فهو وقوعه بنفسه طرفاً لعلمٍ إجماليٍ آخر ، إذ كما يعلم بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر كذلك يعلم بنجاسة الثوب الملاقي للإناء الأبيض أو الإناء الأصفر ، ولا إشكال في وجود هذا العلم الإجمالي.

والتحقيق : منجّزيته في سائر الموارد ، المنتج لوجوب الاجتناب عن الملاقي عقلاً ، إلّا أن المعروف بين الأساطين خلاف ذلك.

وقد ذكر لعدم تنجيز هذا العلم الإجمالي وجوه ، بعضها يقتضي عدم تنجّز الملاقي مطلقاً ، وبعضها يقتضي عدم تنجّزه في بعض الموارد ، كما سنشير إليه :

١١٤

الوجه الأول : وهو مختصّ بصورة تأخّر العلم بالملاقاة عن العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف زماناً ، وملخّصه : أنّ العلم الإجمالي الأول المتعلّق بنجاسة أحد إناءين حين حدوثه أوجب بقانون تنجيز العلم الإجمالي تعارض الاصول في الأطراف وتساقطها ، وحين حصول العلم الإجمالي الثاني بنجاسة الثوب الملاقي للإناء الأبيض أو الإناء الأصفر يكون الأصل المؤمِّن في ناحية الإناء الأصفر قد سقط في زمانٍ سابقٍ بالمعارضة بملاحظة العلم الإجمالي الأول ، فلا يكون هناك معارض لجريان أصالة الطهارة في الثوب الملاقي ، والأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي اذا لم يكن له معارض ، جرى بلا محذور.

وإن شئت قلت : إنّ المقام من صغرويات العلم الإجمالي الذي يكون أحد طرفيه منجَّزاً بمنجِّزٍ سابق ، والمنقّح في محله انحلال مثل هذا العلم الإجمالي وعدم صلاحيته للتنجيز : إمّا ببيان جريان الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، وإمّا ببيان أنّه يمتنع أن يكون منجِّزاً لمعلومه على كلّ تقدير ، إذ المنجِّز لا يتنجّز ، فيسقط عن التأثير.

وهذا التقريب على القول بالعليّة لا مجال له أصلاً ؛ لِمَا ستعرف في تنبيه الانحلال ، وأشرنا إليه سابقاً من أنّه على هذا المبنى لا وجه لانحلال العلم الإجمالي بتنجّز أحد طرفيه بمنجِّزٍ سابق ؛ لأنّ العلم الإجمالي عند صاحب هذا المبنى لا يكون تنجيزه مقصوراً على الجامع بين الطرفين حتّى يقال : إنّ الجامع بين المنجِّز وغير المنجِّز لا يقبل التنجيز ، فما هو المعلوم بالعلم الإجمالي ـ وهو الجامع ـ لا يصلح للتنجيز ، وما يصلح للتنجيز وهو خصوص الطرف غير المنجّز ليس بمعلوم ، بل الصورة العلمية الإجمالية حاكية عنده عن الواقع ومنجّزة له ، فلا بدّ من صلاحية الواقع للتنجيز ، لا الجامع.

فلو فرض أنّ الواقع المنكشف إجمالاً في المقام هو الطرف الغير المنجِّز

١١٥

كان صالحاً للتنجيز بالعلم الإجمالي ، ومجرّد كونه مشكوكاً لا يمنع عن التنجيز على هذا المسلك ، إذ الواقع الموجود في البين مشكوك في سائر موارد العلم الإجمالي ، ومع ذلك يلتزم بكونه منجِّزاً بالصورة العلمية الإجمالية ، فليكن في المقام كذلك. وسوف نتعرّض لهذا تفصيلاً في مبحث الانحلال ، فانتظر.

وأمّا على مباني الاقتضاء فلانحلال العلم الإجمالي في المقام بتنجّز أحد طرفيه بالعلم السابق وجه ، إذ لا يبقى حينئذٍ مانع عن جريان الأصل النافي في الطرف الآخر.

إلّا أنّ التحقيق في النظر القاصر عدم تمامية التقريب المزبور في المقام ؛ حتّى على مباني الاقتضاء ، بمعنى أنّ نجاسة الملاقِي ـ بالكسر ـ في المقام طرف لعلمٍ إجماليٍّ لم يتنجّز شيء من طرفيه بمنجِّزٍ سابقٍ أصلاً حتّى يكون الأصل في الملاقي جارياً بلا معارض.

وبيان ذلك : أنّه لا إشكال عند حصول الملاقاة بين الثوب والإناء الأبيض في حصول علمٍ إجماليٍّ بنجاسة الثوب أو الإناء الأصفر الذي هو طرف الإناء الأبيض ، وليس العلم الأول بنجاسة الأبيض أو الأصفر موجباً لانحلال هذا العلم انحلالاً حقيقياً ، وإن كانت بعض الكلمات موهمة لذلك ؛ وذلك لوضوح أنّ العِلمين الإجماليّين لا يوجب أحدهما انحلال الآخر بمجرّد وجود طرفٍ مشتركٍ بينهما ، فالكلام إذن يتمحّض في الانحلال الحكمي ، وذلك بدعوى جريان الأصل في الملاقي بلا معارض باعتبار تنجّز الطرف الآخر وهو نجاسة الأصفر ، وسقوط الأصل فيه سابقاً.

وعليه فنقول : إنّه إذا علم إجمالاً عند الزوال بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر فهذا العلم الإجمالي يكون علماً فعلياً بالنجاسة الثابتة في هذا الزمان بالفعل لأحد الإناءين ، ويكون علماً تدريجياً بنجاسة كلٍّ من الإناءين في هذا

١١٦

الزمان ، أو نجاسة الإناء الآخر في سائر قطعات الزمان إلى آخر أزمنة الشكّ والإجمال ، ومن المعلوم أنّ الأصل الجاري بالفعل ـ أي عند الزوال ـ في كلٍّ من الطرفين يكون ساقطاً بالمعارضة ؛ لأجل العلم الإجمالي الفعلي بنجاسة أحدهما في هذا الزمان ، وأمّا الأصل في القطعات الزمانية المتأخّرة بالإضافة إلى الإناء الأصفر ـ أي أصالة الطهارة في الإناء الأصفر في الساعة الثانية ـ فسقوطه ليس موقوفاً على أن يكون في الساعة الثانية بعد الزوال علم إجماليّ فعليّ بنجاسة الأصفر أو الأبيض ، بحيث تكون نجاسة الأصفر في ذلك الزمان طرفاً لعلمٍ فعليٍّ في ذلك الزمان ، بل قد لا يكون في الساعة الثانية علم إجمالي فعلي بنجاسة أحد الإناءين ؛ لخروج الأبيض في ذلك الزمان عن الطرفية الفعلية ؛ للعلم بطهارته في ذلك الزمان ولو بسبب التطهير ، بل يكفي في تنجيز الإناء الأصفر في القطعات المتأخّرة من الزمان ، أي في الساعة الثانية. وسقوط أصالة الطهارة في ذلك الظرف كون القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر ، أي نجاسته في الساعة الثانية طرفاً للعلم الإجمالي التدريجي بتلك القطعات المتأخّرة ، أو بنجاسة الأبيض فعلاً حين الزوال.

وبتعبير واضح : أنّ نجاسة كلٍّ من الإناء الأبيض والأصفر ، تتحصّص من حيث الزمان الى حصص ، فالحصة الاولى من نجاسة الأصفر تتنجّز بالعلم الإجمالي الفعلي بنجاسة أحد الإناءين وأمّا الحصص المتأخّرة من الإناء الأصفر فتتنجّز بالعلم الإجمالي التدريجي بنجاسة الأبيض حين الزوال ، أو بتلك الحصص المتأخّرة لنجاسة الأصفر ، وبمثل هذا العلم الإجمالي التدريجي دفعوا شبهة عدم وجوب الاجتناب عن طرفٍ إذا خرج الطرف الآخر عن الطرفية في الأثناء ، إلّا أنّ هذا العلم الإجمالي التدريجي إنّما يوجب سقوط الأصل بالإضافة إلى الإناء الأصفر في القطعات المتأخّرة ، وعدم شمول الدليل لتلك القطعات المتأخّرة

١١٧

فيما إذا بقي إلى الزمان المتأخّر ، وإلّا فلو انحلّ هذا العلم الإجمالي التدريجي بعد ساعةٍ من حدوثه فلا مانع من نفي دليل الأصل حينئذٍ للقطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر ، فما هو المنجِّز لهذه القطعات والموجب لعدم نفيها في ظرفها بدليل الأصل ، هو العلم الإجمالي التدريجي بوجوده البقائي ، ولا يكفي حدوثه في انقطاع الأصل في ظرف القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر ، وعلى هذا فالقطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر إنّما تتنجّز ببقاء ذلك العلم التدريجي ، لا بحدوثه ، فلو وقعت في ظرفها طرفاً لعلمٍ إجماليٍّ آخر فلا مانع من تنجيزه.

ولا يقال : إنّ هذه القطعات المتاخّرة قد تنجّزت بمنجّزٍ سابقٍ ، وهو العلم الإجمالي التدريجي الحاصل من حين الزوال.

لأنّه يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي إنّما ينجّز القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر بوجوده البقائي ، إذ لو انحل قبل أن يأتي ظرف تلك القطعات المتأخرة ، لَمَا نجّزها ، ووجوده البقائي ليس سابقاً في الزمان على العلم الاجمالي الآخر المفروض ، فينجّز العلمان في الظرف المتأخّر معاً ، ويستحيل تنجيز أحدهما دون الآخر ، بل يستند سقوط الأصل في القطعات المتأخرة في ذلك الظرف إليهما معاً.

إذا اتّضح هذا يتّضح أنّه إذا علم بنجاسة الأصفر أو الأبيض عند الزوال ، ثمّ حصلت ملاقاة الثوب للإناء الأبيض مغرباً فالقطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر تكون طرفاً للعلم الإجمالي بها أو بنجاسة الملاقي ، وتلك القطعات المتأخّرة وإن كانت طرفاً لعلمٍ إجماليٍّ تدريجيٍّ حاصلٍ من حين الزوال إلّا أنّه لا ينجّز تلك القطعات في ظرفها إلّا بوجوده البقائي المعاصر زماناً للعلم الإجمالي الجديد ، فيؤثّر كلا العلمين في التنجيز معاً.

والحاصل : أنّ معنى تنجّز القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر في ظرفها إنّما هو سقوط الأصل المؤمِّن النافي لها في ذلك الظرف ، ومن المعلوم أنّ سقوط

١١٨

أصالة طهارة الإناء الأصفر في الظرف المتأخّر ـ ولنفرضه الساعة الثانية ـ لا يكفي فيه حدوث العلم الإجمالي التدريجي في الساعة الاولى ؛ لأنّ العلم في زمانٍ لا يوجب سقوط الأصل في زمانٍ آخر بالضرورة ، وإذن فأصالة الطهارة في الساعة الثانية النافية لنجاسة الأصفر في ذلك الزمان ليست ساقطةً بمنجّزٍ سابق على العلم الإجمالي الجديد بحسب الزمان ، بل بمنجِّز في عَرْضه ، وهو بقاء العلم الإجمالي الأول ، ولا مرجِّح لاستناد التنجيز إلى هذا البقاء دون العلم الإجمالي الحادث.

وبهذا البيان يندفع ما يمكن أن يقال من أنّ العلم الإجمالي بحدوثه عند الزوال ينجّز القطعات المتأخّرة ، ولكن مشروطاً بشرطٍ متأخّر ، وهو بقاؤه إلى ذلك الزمان ، ومعنى تنجيزه بحدوثه منعه عن جريان الأصل النافي للقطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر في ظرف حدوثه ، فإنّ القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر مشمولة للأصل النافي في نفسها من حين الزوال ، ولا يشترط في جريان الأصل النافي لها أن يأتي زمانها المتأخّر ، بل مقتضى دليل الأصل حين الزوال ـ أي حين حدوث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ـ جريان الأصل النافي لنجاسة الأصفر في جميع الأزمنة ، وبسائر حصصها المتأخرة ، والعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يكون مانعاً عن ذلك.

فقد ثبت بذلك : أنّ العلم الإجمالي الحاصل حين الزوال بنفسه وبحدوثه يكون مانعاً عن جريان الأصل النافي لسائر قطعات نجاسة الأصفر ، لا أنّه ببقائه يكون كذلك ، إذ أنّ اقتضاء الدليل للأصل النافي لسائر القطعات المتأخّرة حاصل من حين الزوال ، فيكون العلم الإجمالي الأول هو المانع عن فعليته وثبوت مدلوله ، وبعد ذلك لا يبقى معارض للأصل في الملاقي حين حدوث الملاقاة.

ووجه اندفاع هذا الإشكال : أنّ كلّ علمٍ في أيّ زمانٍ إنّما يمنع عن جريان

١١٩

الأصل النافي لمعلومه أو لأحد أطرافه في ذلك الزمان ، كما هو واضح ، فلو سُلِّم أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين بوجوده حين الزوال يمنع عن أن يجري في ظرفه ـ أي حال الزوال ـ الأصل النافي لنجاسة الإناء الأصفر ولو بقطعاتها المتأخّرة إلّا أنّه لا يعقل مانعيته عن نفي القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر بأصلٍ يجري في الزمان المتأخّر ، فإنّ هذا الأصل إنّما يمنع عنه العلم في ذلك الزمان المتأخّر.

والحاصل : أنّ المراد في المقام إثبات أنّ نفي القطعات المتأخّرة من نجاسة الأصفر بأصلٍ يجري في ظرفها المتأخّر ـ الذي هو ظرف ملاقاة الثوب للإناء الأبيض ـ لا يعقل أن يكون ممتنعاً بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين بحدوثه حين الزوال ؛ لأنّ حدوث العلم الإجمالي حين الزوال إنّما يمنع عن جريان الأصل النافي حينه ، وأمّا جريانه في زمانٍ آخر من أزمنة الشكّ فالمانع عنه إنّما هو بقاء ذلك العلم الإجمالي إلى ذلك الزمان ، فدليل أصالة الطهارة يقتضي الشمول للإناء الأصفر فى كلّ زمان ، وشموله له في كلّ زمانٍ إنّما يمنع عنه العلم الإجمالي في ذلك الزمان ، لا العلم الإجمالي في زمانٍ سابق.

وعليه فشمول دليل الأصل للإناء الأصفر في ظرف ملاقاة الثوب للإناء الأبيض ليس ساقطاً بسببٍ سابق ، بل بالعلم الإجمالي التدريجي أو الفعلي بنجاسة أحد الإناءين الموجود في ذلك الظرف.

وحينئذٍ فلا يكون هناك مانع عن تنجيز العلم الإجمالي الآخر بنجاسة الملاقي ، أو الأصفر فعلاً ، ويكون الأصل في الملاقي معارضاً للأصل في الطرف الآخر ، ولا يفرق في ما ذكرناه بين أن يقال : بأنّ نجاسة الأصفر في الزمان المتأخّر منجَّزة بالعلم الإجمالي التدريجي بها ، أو بنجاسة الأبيض في الزمان الأول ، أو أنّ هذا لا يكفي بناءً على عدم تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ،

١٢٠