المعالم الجديدة للأصول

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5860-02-4
الصفحات: ٢٥٦

بحوث علم الاصول

النوع الثاني

العناصر المشتركة

في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي

١ ـ القاعدة العمليّة الأساسيّة.

٢ ـ القاعدة العمليّة الثانويّة.

٣ ـ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

٤ ـ الاستصحاب.

التعارض بين الاصول.

أحكام تعارض النوعين.

٢٢١
٢٢٢

تمهيد :

استعرضنا في النوع الأول العناصر الاصولية المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل ، فدرسنا أقسام الأدلّة وخصائصها ، وميَّزنا بين الحجّة منها وغيرها. ونريد الآن أن ندرس العناصر المشتركة في حالةٍ اخرى من الاستنباط ، وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليلٍ يدلّ على الحكم الشرعي وبقاء الحكم مجهولاً لديه ، فيتّجه البحث في هذه الحالة الى محاولة تحديد الموقف العملي تجاه ذلك الحكم المجهول بدلاً عن اكتشاف نفس الحكم.

ومثال ذلك : حالة الفقيه تجاه التدخين ، فإنّ التدخين نحتمل حرمته شرعاً منذ البدء ، ونتّجه أوّلاً الى محاولة الحصول على دليلٍ يعيّن حكمه الشرعي ، فلا نجد دليلاً من هذا القبيل ، ويبقى حكم التدخين مجهولاً لدينا لا ندري أحرمة هو أم إباحة؟ وحينئذٍ نتساءل : ما هو الموقف العملي الذي يتحتّم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول؟ هل يتحتّم علينا أن نحتاط فنجتنب عن التدخين ؛ لأنّ من المحتمل أن يكون التدخين حراماً ، أوْ لا يجب الاحتياط ، بل نكون في حرّيةٍ وسعةٍ ما دمنا لا نعلم بالحرمة؟

هذا هو السؤال الأساسي الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة ، ويجيب عليه في ضوء الاصول العملية بوصفها عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، وهذه الاصول هي موضع درسنا الآن.

٢٢٣

١ ـ القاعدة العملية الأساسية

ولكي نعرف القاعدة العملية الأساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال : هل يجب الاحتياط تجاه الحكم المجهول؟ لا بدّ لنا أن نرجع الى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ، ونلاحظ أنّ هذا المصدر هل يفرض علينا الاحتياط في حالة الشكّ وعدم وجود دليلٍ على الحرمة ، أو يسمح لنا بترك الاحتياط واستعمال الدخان ـ مثلاً ـ ما دامت حرمته لم تثبت بدليل؟

ولكي نرجع الى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لا بدّ لنا أن نحدّده ، فما هو المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ويجب أن نستفتيه في موقفنا هذا؟

والجواب : أنّ هذا المصدر هو العقل ؛ لأنّ الإنسان يدرك بعقله أنّ لله سبحانه حقّ الطاعة على عبيده ، وعلى أساس حقّ الطاعة هذا يحكم العقل على الإنسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدّي إليه حقّه. فنحن إذن نطيع الله تعالى ونمتثل أحكام الشريعة ؛ لأنّ العقل يفرض علينا ذلك لا لأنّ الشارع أمرنا بإطاعته ، وإلّا لأعدنا السؤال مرّةً اخرى : ولما ذا نمتثل أمر الشارع لنا بإطاعة أوامره؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا امتثاله؟ وهكذا حتى نصل الى حكم العقل بوجوب الإطاعة القائم على أساس ما يدركه من حقّ الطاعة لله سبحانه على الإنسان.

وإذا كان العقل هو الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحقّ الطاعة فيجب الرجوع الى العقل في تحديد الجواب على ذلك السؤال الأساسي : هل يجب علينا الاحتياط تجاه الحكم المجهول ، أوْ لا؟ ويتحتّم علينا عندئذٍ أن

٢٢٤

ندرس حقّ الطاعة الذي يدركه العقل ويقيم على أساسه حكمه بوجوب إطاعة الشارع ، وندرس حدود هذا الحقّ ، فهل هو حقّ لله سبحانه في نطاق التكاليف المعلومة فقط ـ بمعنى أنّ الله سبحانه ليس له حقّ الطاعة على الإنسان إلّا في التكاليف التي يعلم بها ، وأمّا التكاليف التي يشكّ فيها ولا علم له بها فلا يمتدّ إليها حقّ الطاعة ـ أو أنّ حقّ الطاعة كما يدركه العقل في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضاً في نطاق التكاليف المحتملة ، بمعنى أنّ من حقّ الله على الإنسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة والمحتملة ، فإذا علم بتكليفٍ كان من حقّ الله عليه أن يمتثله ، وإذا احتمل تكليفاً كان من حقّ الله عليه أن يحتاط ، فيترك ما يحتمل حرمته ، أو يفعل ما يحتمل وجوبه؟

وهكذا يتّضح أنّ الموقف العملي في حالة عدم وجدان الدليل يجب أن يحدّد على ضوء ما نعرفه من حقّ الطاعة وحدوده ومدى شموله.

والصحيح في رأينا هو : أنّ الأصل في كلّ تكليفٍ محتملٍ هو الاحتياط ؛ نتيجةً لشمول حقّ الطاعة للتكاليف المحتملة ، فإنّ العقل يدرك أنّ للمولى على الإنسان حقَّ الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب ، بل في التكاليف المحتملة أيضاً ما لم يثبت بدليلٍ أنّ المولى لا يهتمّ بالتكليف المحتمل الى الدرجة التي تدعو الى إلزام المكلّف بالاحتياط.

وهذا يعني أنّ الأصل بصورةٍ مبدئيةٍ كلّما احتملنا حرمةً أو وجوباً هو أن نحتاط ، فنترك ما نحتمل حرمته ، ونفعل ما نحتمل وجوبه نتيجةً لامتداد حقّ الطاعة الى التكاليف المحتملة. ولا نخرج عن هذا الأصل إلّا إذا ثبت بالدليل أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكليف المحتمل الى الدرجة التي تفرض الاحتياط ويرضى بترك الاحتياط ، فإنّ الإنسان يصبح حينئذٍ غير مسئولٍ عن التكليف المحتمل.

فالاحتياط إذن واجب عقلاً في موارد الشكّ ، ويسمّى هذا الوجوب

٢٢٥

«أصالة الاحتياط» أو «أصالة الاشتغال» ، أي اشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف المحتمل ، ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف أنّ الشارع يرضى بترك الاحتياط.

وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.

ويخالف في ذلك كثير من الاصوليّين ؛ إيماناً منهم بأنّ الأصل في المكلّف أن لا يكون مسئولاً عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهمّيتها بدرجةٍ كبيرة ، ويرى هؤلاء الأعلام أنّ العقل هو الذي يحكم بنفي المسئولية ؛ لأنّه يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلّف للتكليف الذي لم يصل إليه ، ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» أو «البراءة العقلية» ، أي أنّ العقل يحكم بأنّ عقاب المولى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح ، وما دام المكلّف مأموناً من العقاب فهو غير مسئولٍ ولا يجب عليه الاحتياط.

ولكن لكي ندرك أنّ العقل هل يحكم بقبح معاقبة المولى تعالى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك ، أوْ لا؟ يجب أن نعرف حدود حقّ الطاعة الثابت للمولى تعالى ، فإذا كان هذا الحقّ يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلّف اهمّيتها بدرجةٍ كبيرة ـ كما عرفنا ـ فلا يكون عقاب المولى للمكلّف إذا خالفها قبيحاً ؛ لأنّه بمخالفتها يفرِّط في حقّ مولاه فيستحقّ العقاب ، فالقاعدة الأولية إذن هي أصالة الاحتياط.

٢٢٦

٢ ـ القاعدة العملية الثانوية

وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية الى قاعدةٍ عمليةٍ ثانوية ، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط. والسبب في هذا الانقلاب : أنّا علمنا عن طريق البيان الشرعي أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكاليف المحتملة الى الدرجة التي تحتِّم الاحتياط على المكلّف ، بل يرضى بترك الاحتياط. والدليل على ذلك نصوص شرعية متعدّدة ، من أهمّها النصّ النبويّ القائل : «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» (١).

وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلاً عن وجوبه ، وأصالة البراءة بدلاً عن أصالة الاشتغال.

وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشكّ في الوجوب وموارد الشكّ في الحرمة على السواء ؛ لأنّ النصّ النبويّ مطلق ، ويسمّى الشكّ في الوجوب ب «الشبهة الوجوبية» ، والشك في الحرمة ب «الشبهة التحريمية». كما تشمل القاعدة أيضاً الشكّ مهما كان سببه ، ولأجل هذا نتمسّك بالبراءة إذا شككنا في التكليف ، سواء نشأ شكّنا في ذلك من عدم وضوح الحكم العام الذي جعله الشارع ، أو من عدم العلم بوجود موضوع الحكم.

ومثال الأول : شكّنا في وجوب صلاة العيد أو في حرمة التدخين ، فإنّ هذا

__________________

(١) الخصال ٢ : ٤١٧ ، باب التسعة. وانظر وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل. ومتن الحديث هو : «رفع عن امّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ...»

٢٢٧

الشكّ ناتج عن عدم العلم بالجعل الشرعي ، ويسمّى ب «الشبهة الحكمية».

ومثال الثاني : شكّنا في وجوب الحجّ لعدم العلم بتوفّر الاستطاعة ، فإنّ هذا الشكّ لم ينشأ من عدم العلم بالجعل الشرعي ؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ الشارع جعل وجوب الحجّ على المستطيع ، وإنّما نشأ من عدم العلم بتحقّق موضوع الحكم ، وتسمّى الشبهة «موضوعية».

٢٢٨

٣ ـ قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي

تمهيد :

قد تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر الى مكّة ، وقد تشكّ في سفره ، لكنّك تعلم على أيِّ حالٍ أنّ أحد أخويك ـ الأكبر أو الأصغر ـ قد سافر فعلاً الى مكّة ، وقد تشكّ في سفرهما معاً ولا تدري هل سافر واحد منهما الى مكّة ، أوْ لا؟

فهذه حالات ثلاث ، ويطلق على الحالة الاولى اسم «العلم التفصيلي» ؛ لأنّك في الحالة الاولى تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر الى مكّة ، وليس لديك في هذه الحقيقة أيّ تردّدٍ أو غموض ، فلهذا كان العلم تفصيلياً.

ويطلق على الحالة الثانية اسم «العلم الإجمالي» ؛ لأنّك في هذه الحالة تجد في نفسك عنصرين مزدوجين : أحدهما عنصر الوضوح ، والآخر عنصر الخفاء ، فعنصر الوضوح يتمثّل في علمك بأنّ أحد أخويك قد سافر فعلاً ، فأنت لا تشكّ في هذه الحقيقة ، وعنصر الخفاء والغموض يتمثّل في شكِّك وتردّدك في تعيين هذا الأخ ؛ لأنّك لا تدري أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر أو الأصغر؟

ولهذا تسمّى هذه الحالة ب «العلم الإجمالي» ، فهي علم لأنّك لا تشكّ في سفر أحد أخويك ، وهي إجمال وشكّ لأنّك لا تدري أيّ أخويك قد سافر. ويسمّى كلّ من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر طرفاً للعلم الإجمالي ؛ لأنّك تعلم أنّ أحدهما لا على سبيل التعيين قد وقع بالفعل.

وأفضل صيغةٍ لغويةٍ تمثّل هيكل العلم الإجمالي ومحتواه النفسي بكلا عنصريه هي : «إمّا ، وإمّا» ، إذ تقول في المثال المتقدّم : «سافر إمّا أخي الأكبر وإمّا أخي الأصغر» فإنّ جانب الإثبات في هذه الصيغة يمثّل عنصر

٢٢٩

الوضوح والعلم ، وجانب التردّد الذي تصوِّره كلمة «إمّا» يمثّل عنصر الخفاء والشكّ ، وكلّما أمكن استخدام صيغةٍ من هذا القبيل دلّ ذلك على وجود علمٍ إجماليٍّ في نفوسنا.

ويطلق على الحالة الثالثة اسم «الشكّ الابتدائي» أو «البدوي» أو «الساذج» ، وهو شكّ محض غير ممتزجٍ بأيِّ لونٍ من العلم ، ويسمّى بالشكّ الابتدائي أو البدوي تمييزاً له عن الشكّ في طرف العلم الإجمالي ؛ لأنّ الشكّ في طرف العلم الإجمالي يوجد نتيجةً للعلم نفسه ، فأنت تشكّ في أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر أو أخوك الأصغر؟ نتيجةً لعلمك بأنّ أحدهما لا على التعيين قد سافر حتماً ، وأمّا الشكّ في الحالة الثالثة فيوجد بصورةٍ ابتدائيةٍ دون علمٍ مسبق.

وهذه الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي ، فوجوب صلاة الصبح معلوم تفصيلاً ، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك شكّاً ناتجاً عن العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم ، ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائي غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي. وهذه الأمثلة كلّها من الشبهة الحكمية.

وأمّا أمثلة الحالات الثلاث من الشبهة الموضوعية فيمكن توضيحها في «الماء» ، فأنت إذا رأيت قطرةً من دمٍ تقع في كأسٍ من ماءٍ تعلم علماً تفصيلياً بنجاسة ذلك الماء ، وأمّا إذا رأيت القطرة تقع في أحد كأسين ولم تستطع أن تميِّز الكأس الذي وقعت فيه بالضبط فينشأ لديك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين ، ويصبح كلّ واحدٍ منهما طرفاً للعلم الإجمالي ، وقد لا تكون متأكّداً من أنّ هناك قطرة دمٍ لا في هذا الكأس ولا في ذاك ، فيكون الشكّ في النجاسة عندئذٍ شكّاً ابتدائياً ساذجاً.

ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قلّبت القاعدة العملية

٢٣٠

الأساسية كنّا نتحدّث عن الحالة الثالثة ، أي حالة الشكّ الساذج الذي لم يقترن بالعلم الإجمالي. والآن ندرس حالة الشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، أي الشكّ في الحالة الثانية من الحالات الثلاث السابقة ، وهذا يعني أنّنا درسنا الشكّ بصورته الساذجة وندرسه الآن بعد أن نضيف إليه عنصراً جديداً وهو العلم الإجمالي ، فهل تجري فيه القاعدة العملية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشكّ الساذج ، أوْ لا؟

منجّزية العلم الإجمالي :

وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الإجمالي الى علمٍ بأحد الأمرين وشكٍّ في هذا وشكٍّ في ذاك. ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الأمرين «صلاة الظهر أو صلاة الجمعة» ، ونشكّ في وجوب الظهر كما نشكّ في وجوب الجمعة ، والعلم بوجوب أحد الأمرين ـ بوصفه علماً ـ يشمله مبدأ حجّية العلم الذي درسناه في بحثٍ سابق ، فلا يسمح لنا العقل لأجل ذلك بترك الأمرين معاً : الظهر والجمعة ؛ لأنّنا لو تركناهما معاً لخالفنا علمنا بوجوب أحد الأمرين ، والعلم حجّة عقلاً في جميع الأحوال سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً.

ويؤمن الرأي الاصولي السائد في مورد العلم الإجمالي لا بثبوت الحجّية للعلم بأحد الأمرين فحسب ، بل يؤمن أيضاً بعدم إمكان انتزاع هذه الحجّية منه واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الأمرين معاً ، كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجّية من العلم التفصيلي ويرخّص في مخالفته وفقاً للمبدإ الاصولي ـ المتقدّم الذكر في بحث حجّية القطع (١) ـ القائل باستحالة صدور الردع من

__________________

(١) تقدّم تحت عنوان : العنصر المشترك بين النوعين

٢٣١

الشارع عن القطع.

وأمّا كلّ واحدٍ من طرفي العلم الإجمالي ـ أي وجوب الظهر بمفرده ووجوب الجمعة بمفرده ـ فهو تكليف مشكوك وليس معلوماً. وقد يبدو لأول وهلةٍ أنّ بالإمكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية ، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من الطرفين تكليف مشكوك.

ولكنّ الرأي السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم الإجمالي ؛ بدليل أنّ شمولها لكلا الطرفين معاً يؤدّي الى براءة الذمّة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معاً ، وهذا يتعارض مع حجّية العلم بوجوب أحد الأمرين ؛ لأنّ حجية هذا العلم تفرض علينا أن نأتي بأحد الأمرين على أقلّ تقدير. فلو حكم الشارع بالبراءة في كلٍّ من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم ، وقد مرَّ بنا أنّ الرأي الاصولي السائد يؤمن باستحالة ترخيص الشارع في مخالفة العلم ولو كان إجمالياً وعدم إمكان انتزاع الحجّية منه.

وشمول القاعدة لأحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤدِّ الى الترخيص في ترك الأمرين معاً لكنّه غير ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : أيّ الطرفين نفترض شمول القاعدة له ونرجِّحه على الآخر؟ وسوف نجد أنّا لا نملك مبرِّراً لترجيح أيٍّ من الطرفين على الآخر ؛ لأنّ صلة القاعدة بهما واحدة.

وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة» لأيّ واحدٍ من الطرفين ، ويعني هذا أنّ كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي يظلّ مندرجاً ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزةً عن شموله.

وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشكّ الابتدائي والشكّ الناتج عن

٢٣٢

العلم الإجمالي ، فالأول يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة ، والثاني يدخل في نطاق القاعدة الأولية وهي أصالة الاحتياط.

وفي ضوء ذلك نعرف أنّ الواجب علينا عقلاً في موارد العلم الإجمالي هو الإتيان بكلا الطرفين ، أي الظهر والجمعة في المثال السابق ؛ لأنّ كلّاً منهما داخل في نطاق أصالة الاحتياط. ويطلق في علم الاصول على الإتيان بالطرفين معاً اسم «الموافقة القطعية» ؛ لأنّ المكلّف عند إتيانه بهما معاً يقطع بأنّه وافق تكليف المولى ، كما يطلق على ترك الطرفين معاً اسم «المخالفة القطعية» ، وأمّا الإتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم «الموافقة الاحتمالية» و «المخالفة الاحتمالية» ؛ لأنّ المكلّف في هذه الحالة يحتمل أنّه وافق تكليف المولى ، ويحتمل أنّه خالفه.

انحلال العلم الإجمالي :

إذا وجدتَ كأسين من ماءٍ قد يكون كلاهما نجساً وقد يكون أحدهما نجساً فقط ، ولكنّك تعلم ـ على أيِّ حالٍ ـ بأنّهما ليسا طاهرين معاً ، فينشأ في نفسك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين. فإذا اتّفق لك بعد ذلك أن اكتشفت نجاسةً في أحد الكأسين وعلمت أنّ هذا الكأس المعيَّن نجس فسوف يزول في رأي كثيرٍ من الاصوليين علمك الإجمالي بسبب هذا العلم التفصيلي ؛ لأنّك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس المعيَّن لا تعلم إجمالاً بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين ، بل تعلم بنجاسة ذلك الكأس المعيَّن علماً تفصيلياً وتشكّ في نجاسة الآخر. ولأجل هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبّر عن العلم الإجمالي «إمّا ، وإمّا» ، فلا يمكنك أن تقول : «إمّا هذا نجس أو ذاك» ، بل هذا نجس جزماً ، وذاك لا تدري بنجاسته.

٢٣٣

ويعبّر عن ذلك في العرف الاصولي ب «انحلال العلم الإجمالي الى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشكّ البدوي في الآخر» ؛ لأنّ نجاسة ذلك الكأس المعيَّن أصبحت معلومةً بالتفصيل ، ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكةً شكّاً ابتدائياً بعد أن زال العلم الإجمالي ، فيأخذ العلم التفصيلي مفعوله من الحجّية وتجري بالنسبة الى الشكّ الابتدائي أصالة البراءة ، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد الشكّ الابتدائي.

موارد التردّد :

عرفنا أنّ الشكّ إذا كان ابتدائياً حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة بأصالة البراءة ، وإذا كان مقترناً بالعلم الإجمالي حكمت فيه القاعدة العملية الأولية.

وقد يخفى أحياناً نوع الشكّ فلا يعلم أهو من الشكّ الابتدائي أو من الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، أو الناتج عنه بتعبيرٍ آخر؟ ومن هذا القبيل مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر كما يسمّيها الاصوليون ، وهي : أن يتعلّق وجوب شرعي بعمليةٍ مركّبةٍ من أجزاءٍ كالصلاة ، ونعلم باشتمال العملية على تسعة أجزاءٍ معيّنةٍ ونشكّ في اشتمالها على جزءٍ عاشرٍ ولا يوجد دليل يثبت أو ينفي ، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدِّد الموقف العملي فيتساءل : هل يجب الاحتياط على المكلّف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب لكي يكون مؤدّياً للواجب على كلّ تقدير ، أو يكفيه الإتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول وجوبه؟

وللُاصوليّين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثِّل كلّ منهما اتّجاهاً في تفسير الموقف : فأحد الاتّجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقاً للقاعدة العملية

٢٣٤

الأولية ؛ لأنّ الشكّ في العاشر مقترن بالعلم الإجمالي ، وهذا العلم الإجمالي هو علم المكلّف بأنّ الشارع أوجب مركّباً ما ، ولا يدري أهو المركّب من تسعةٍ أو المركّب من عشرة ، أي من تلك التسعة بإضافة واحد؟

والاتّجاه الآخر يطبّق على الشكّ في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية بوصفه شكّاً ابتدائياً غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ ذلك العلم الإجمالي الذي يزعمه أصحاب الاتّجاه الأول منحلّ بعلمٍ تفصيلي ، وهو علم المكلّف بوجوب التسعة على أيِّ حال ؛ لأنّها واجبة سواء كان معها جزء عاشر أوْ لا ، فهذا العلم التفصيلي يؤدّي الى انحلال ذلك العلم الإجمالي ، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبِّر عن العلم الإجمالي ، فلا يمكن القول بأنّا نعلم إمّا بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة ، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أيِّ حالٍ ونشكّ في وجوب العاشر. وهكذا يصبح الشكّ في وجوب العاشر شكّاً ابتدائياً بعد انحلال العلم الإجمالي ، فتجري البراءة.

والصحيح هو القول بالبراءة عن غير الأجزاء المعلومة من الأشياء التي يشكّ في دخولها ضمن نطاق الواجب تبعاً لتفصيلاتٍ لا مجال للتوسّع فيها.

٢٣٥

٤ ـ الاستصحاب

على ضوء ما سبق نعرف أنّ أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة ، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم «الاستصحاب».

ومعنى الاستصحاب : حكم الشارع على المكلّف بالالتزام عملياً بكلِّ شيءٍ كان على يقينٍ منه ثمّ شكّ في بقائه. ومثاله : أنّا على يقينٍ من أنّ الماء بطبيعته طاهر ، فإذا أصابه شيء متنجِّس نشكّ في بقاء طهارته ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الماء هل تنجّس بإصابة المتنجِّس له ، أوْ لا؟

وكذلك نحن على يقينٍ ـ مثلاً ـ بالطهارة بعد الوضوء ونشكّ في بقاء هذه الطهارة إذا حصل الإغماء ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الإغماء هل ينقض الطهارة ، أوْ لا؟

والاستصحاب يحكم على المكلّف بالالتزام عملياً بنفس الحالة السابقة التي كان على يقينٍ بها ، وهي

طهارة الماء في المثال الأول ، والطهارة من الحدث في المثال الثاني.

ومعنى الالتزام عملياً بالحالة السابقة : ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية ، فإذا كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرّف فعلاً كما إذا كانت الطهارة باقية ، وإذا كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرّف فعلاً كما إذا كان الوجوب باقياً.

والدليل على الاستصحاب : هو قول الإمام الصادق عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين

٢٣٦

أبداً بالشك» (١).

ونستخلص من ذلك : أنّ كلّ حالةٍ من الشكّ البدوي يتوفّر فيها القطع بشيءٍ أوّلاً والشكّ في بقائه ثانياً يجري فيها الاستصحاب.

الحالة السابقة المتيقَّنة :

عرفنا أنّ وجود حالةٍ سابقةٍ متيقَّنةٍ شرط أساسي لجريان الاستصحاب ، والحالة السابقة قد تكون حكماً عاماً نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم التشريعي ، ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ومدى امتداده في عالمه التشريعي ، فتكون الشبهة حكمية ، ويجري الاستصحاب في نفس الحكم.

ومثاله : حكم الشارع بطهارة الماء ، فنحن نعلم بهذا الحكم العام في الشريعة ونشكّ في حدوده ، ولا ندري هل يمتدّ الحكم بالطهارة بعد إصابة المتنجّس للماء أيضاً ، أوْ لا؟ فنستصحب طهارة الماء.

وقد تكون الحالة السابقة شيئاً من أشياء العالم التكويني نعلم بوجوده سابقاً ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي ، فتكون الشبهة موضوعيةً ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم.

ومثاله : أن نكون على يقينٍ بأنّ عامراً عادل وبالتالي يجوز الائتمام به ، ثمّ نشكّ في بقاء عدالته ، فنستصحب العدالة فيه بوصفها موضوعاً لجواز الائتمام.

ومثال آخر : أن يكون المكلّف على يقينٍ بأنّ الثوب نجس ولم يغسل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل

٢٣٧

بالماء ولا ندري هل غسل بالماء بعد ذلك وزالت نجاسته ، أوْ لا؟ فنستصحب عدم غسله بالماء ، وبالتالي نثبت بقاء النجاسة.

وهكذا نعرف أنّ الحالة السابقة التي نستصحبها قد تنتسب الى العالم التشريعي ، وذلك إذا كنّا على يقينٍ بحكمٍ عامٍّ ونشكّ في حدوده المفروضة له في جعله الشرعي ، وتعتبر الشبهة شبهةً حكمية ، ويسمّى الاستصحاب ب «الاستصحاب الحكمي».

وقد تنتسب الحالة السابقة التي نستصحبها الى العالم التكويني ، وذلك إذا كنّا على يقينٍ بوجود موضوع الحكم الشرعي ونشكّ في بقائه ، وتعتبر الشبهة شبهةً موضوعية ، ويسمّى الاستصحاب ب «الاستصحاب الموضوعي».

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، ويخصّه بالشبهة الموضوعية (١).

الشكّ في البقاء :

والشكّ في البقاء هو الشرط الأساسي الآخر لجريان الاستصحاب.

ويقسِّم الاصوليون الشكّ في البقاء الى قسمين تبعاً لطبيعة الحالة السابقة التي نشك في بقائها ؛ لأنّ الحالة السابقة قد تكون قابلةً بطبيعتها للامتداد زمانياً ، وإنّما نشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال وجود عاملٍ خارجيٍّ أدّى الى ارتفاعها.

ومثال ذلك : طهارة الماء ، فإنّ طهارة الماء تستمرّ بطبيعتها وتمتدّ إذا لم يتدخّل عامل خارجي ، وإنّما نشكّ في بقائها لدخول عاملٍ خارجيٍّ في الموقف ،

__________________

(١) ذهب إليه السيّد الخوئي ، راجع مصباح الاصول ٣ : ٤٠

٢٣٨

وهو إصابة المتنجِّس للماء.

وكذلك نجاسة الثوب ، فإنّ الثوب إذا تنجّس تبقى نجاسته وتمتدّ ما لم يوجد عامل خارجي وهو الغسل ، ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في الرافع».

وقد تكون الحالة السابقة غير قادرةٍ على الامتداد زمانياً ، بل تنتهي بطبيعتها في وقتٍ معيَّنٍ ونشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل عاملٍ خارجيٍّ في الموقف.

ومثاله : نهار شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم إذا شكّ الصائم في بقاء النهار ، فإنّ النهار ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتدّ زمانياً ، فالشكّ في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عاملٍ خارجي ، وإنّما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في المقتضي» ؛ لأنّ الشكّ في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة من نوع الشكّ في المقتضي ويخصّه بحالات الشكّ في الرافع (١).

وحدة الموضوع في الاستصحاب :

ويتّفق الاصوليون على أنّ من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع ،

__________________

(١) ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري وجعله تاسع الأقوال ، راجع فرائد الاصول ٣ : ٥٠ ـ ٥١ ، وراجع بحوث في علم الاصول ٦ : ١٥٤ ، أيضاً

٢٣٩

ويَعنُون بذلك أن يكون الشكّ منصبّاً على نفس الحالة التي كنّا على يقينٍ بها ، فلا يجري الاستصحاب. ـ مثلاً ـ إذا كنّا على يقينٍ بنجاسة الماء ثمّ صار بخاراً وشككنا في نجاسة هذا البخار ؛ لأنّ ما كنّا على يقينٍ بنجاسته هو الماء وما نشكّ فعلاً في نجاسته هو البخار ، والبخار غير الماء ، فلم يكن مصبّ اليقين والشكّ واحداً.

٢٤٠