دروس تمهيدية في القواعد الرجالية

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيدية في القواعد الرجالية

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6642-91-8
الصفحات: ٣٤٧

وحيث ان الصحيح عندنا حسبما تقدم هو حجية خبر الثقة وعدم كفاية الانجبار إذا لم يبلغ إلى المستوى المورث للاطمئنان بالصدق فتكون الحاجة إلى علم الرجال ثابتة وبشكل ماس.

ودعوى : ان ذلك محرم وفيه كشف لعورات المؤمنين.

مدفوعة : بان ذلك ما دام لغرض أهم ـ وهو تشخيص رواية الثقة وتمييزها عن غيرها ـ فهو مما لا محذور فيه ، كما هو الحال في باب القضاء ، فان جرح الشهود وبيان فسقهم أمر جائز بالاتفاق من باب توقف أمر أهم عليه.

عود على بدء

ذكرنا فيما سبق الرواية التي ينقلها صاحب الوسائل بالشكل التالي : أحمد ابن محمد بن خالد البرقي في المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ...».

وإذا أردنا التعرف على ان سند الرواية المذكورة معتبر أو لا فعلينا ملاحظة أمرين : ـ

أ ـ ملاحظة السند بين البرقي والإمام عليه‌السلام ، فإذا ثبت وثاقة جميع أفراد السند فلا مشكلة من هذه الناحية.

أما كيف نثبت وثاقة أفراد السند المذكور؟ يمكن ذلك من خلال تطبيق أحد طرق اثبات الوثاقة التي سنشير إليها بعد قليل.

ب ـ ملاحظة السند بين الحر العاملي والبرقي فانهما ليسا متعاصرين بل

١٠١

يوجد فاصل زمني كبير بينهما ، فإذا ثبتت وثاقة جميع أفراد السند المذكور فلا مشكلة من هذه الناحية أيضا.

اما كيف نعرف سند الحر إلى البرقي أو بتعبير آخر كيف نعرف اسماء الرواة الذين يروي عنهم الحر كتاب البرقي؟

يمكن ذلك بالبيان التالي : ان للشيخ الطوسي طريقا إلى كتاب محاسن البرقي اشار له في كتابه الفهرست في ترجمة أحمد بن محمد بن خالد البرقي. وصاحب الوسائل له طرق إلى جميع الكتب التي رواها الشيخ الطوسي ، وقد سجّل تلك الطرق في آخر الوسائل. فاذا ضممنا هذا إلى ذاك فسوف يثبت لنا طريق للحر إلى البرقي.

١٠٢

تمرينات

س ١ : إذا أراد الفقيه استنباط حكم من رواية احتاج إلى اثبات ثلاثة أمور.

اذكرها مع بيان نكتة الحاجة إلى كل واحد منها.

س ٢ : الخبر اما متواتر أو واحد. ما الفرق بينهما؟ وايهما الذي اتفق على حجيته؟

س ٣ : ما هو رأي السيد المرتضى في باب حجية الخبر؟

س ٤ : اذكر رأي المحقق الحلي في باب حجية الخبر.

س ٥ : اذكر الرأي المنسوب إلى الاخباريين في باب الأخبار.

س ٦ : ما هو رأي صاحب المدارك في باب الاخبار.

س ٧ : ما هو الرأي المعروف بين المتأخرين في باب حجية الخبر؟

س ٨ : ما المقصود بكبرى انجبار ضعف السند بالشهرة؟

س ٩ : ما هو رأي الشيخ النائيني في أحاديث كتاب الكافي؟

س ١٠ : كيف نستدل على رأي المتأخرين في باب حجية الخبر؟

س ١١ : هل هناك حاجة إلى علم الرجال؟

س ١٢ : لماذا حرّم بعض علم الرجال؟ وكيف ندفع ذلك؟

١٠٣

س ١٣ : يمكن ربط الحاجة إلى علم الرجال بالأقوال في مسألة حجية الخبر. أوضح ذلك.

س ١٤ : إذا أردنا التعرف على سند رواية وهل هو صحيح أو لا فما هي الطريقة التي يلزم اتباعها؟

س ١٥ : ذكر صاحب الوسائل في الباب ٣ من أبواب مقدمة العبادات رقم ١ حديثا يرتبط ببيان أهمية العقل ودوره في ثبوت التكليف. هل سند الحديث المذكور صحيح؟ أوضح ذلك.

س ١٦ : هل بالامكان التقليد في المباني الرجالية؟ ولماذا؟

١٠٤

منهجة أبحاثنا

وبعد اتضاح المقدمة السابقة نأخذ بمنهجة المباحث التي سنتعرض لها ضمن فصول أربعة : ـ

* الفصل الأول : البحث عما يرتبط بالتوثيق.

* الفصل الثاني : البحث عن أقسام الحديث.

* الفصل الثالث : نظرات بعض كتب الحديث.

* الفصل الرابع : نظرات في بعض الكتب الرجالية.

١٠٥

[الفصل الاول

البحث عما يرتبط بالتوثيق]

١٠٦

الفصل الأول

وحديثنا عن الفصل الأول يقع ضمن نقاط ثلاث : ـ

* النقطة الأولى : البحث عن طرق اثبات وثاقة الراوي.

* النقطة الثانية : البحث عن التوثيقات العامة.

* النقطة الثالثة : البحث عن مدرك حجية قول الرجالي.

١٠٧

قسم الحديث (١) إلى أربعة أقسام : ـ

١ ـ الصحيح : وهو ما كان جميع رواته عدولا امامية.

٢ ـ الموثق : وهو ما كان رواته كلهم أو بعضهم من غير الإمامية ولكنهم وثقوا.

٣ ـ الحسن : وهو ما كان رواته كلهم أو بعضهم من الإمامية ولكنهم لم يعدلوا بل مدحوا فقط.

٤ ـ الضعيف : وهو ما لم يكن واحدا من الأقسام الثلاثة ، بان كان رواته مجهولين أو قد ضعفوا.

وقد شجب الاخباريون هذا التقسيم الرباعي وانكروا على أول من نسب

__________________

(١) نلفت النظر إلى ان الخبر إذا كان متواترا أو محفوفا بقرائن تورث العلم بحقانيته فلا إشكال في حجيته وقبوله وانما الكلام في غير هذين القسمين. وما سنذكره من تقسيم ناظر إلى غيرهما.

١٠٨

النقطة الأولى

طرق اثبات وثاقة الراوي

وفي مجال بحثنا عن النقطة الأولى نقول : ذكرت عدة طرق لاثبات وثاقة الراوي (١) انهاها الوحيد البهبهاني إلى تسع وثلاثين طريقا ، نتعرض إلى المهم منها وهو : ـ

١ ـ نص احد المعصومين عليهم‌السلام

إذا نص المعصوم عليه‌السلام على وثاقة راو معين فلا اشكال في ثبوت الوثاقة بذلك.

وقد جمع الكشي في كتابه المعروف كثيرا من الروايات الواردة في حق الرواة ، بل ان كتابه المذكور ليس إلّا جمعا لتلك الروايات.

__________________

(١) سيتضح ان بعضها غير تام الطريقية كالثالث والسادس والثامن.

١٠٩

مثال ذلك : ما ذكره ـ الكشي ـ في ترجمة محمد بن سنان تحت رقم ٩٦٥ بسنده المنتهي إلى محمد بن اسماعيل بن بزيع : ان أبا جعفر عليه‌السلام كان يلعن صفوان ابن يحيى ومحمد بن سنان ، فقال انهما خالفا أمري. قال فلما كان من قابل قال أبو جعفر عليه‌السلام لمحمد بن سهل البحراني تولّ صفوان بن يحيى ومحمد بن سنان فقد رضيت عنهما.

ان رضا الإمام عليه‌السلام عن صفوان ومحمد بن سنان قد يفهم منه الفقيه توثيق الشخصين المذكورين كما هو ليس ببعيد.

وينبغي الالتفات إلى ان الرواية التي تدل على توثيق شخص لا بدّ وان لا يكون الراوي لها عن المعصوم عليه‌السلام نفس الشخص الذي يراد اثبات وثاقته وإلا كان ذلك أشبه بالدور.

مثال ذلك : ما ذكره الكشي في كتابه تحت رقم ٧٥٨ في ترجمة علي بن أبي حمزة البطائني ـ الذي وقع الاختلاف الشديد في وثاقته ـ من ان أبا الحسن عليه‌السلام قال له : قد سألت الله ان يغفر لك.

ان الرواية المذكورة لا يمكن الاستناد إليها في اثبات وثاقة البطائني لأن الراوي لها عن الإمام عليه‌السلام هو نفسه.

ومن الغريب ما ذهب إليه بعض الأعلام من كفاية مثل ذلك في اثبات التوثيق اما بدعوى ان الشيعي لا يكذب على إمامه ولا ينسب له رواية كاذبة أو بدعوى ان مثل الرواية المذكورة تفيد الظن بالوثاقة ، والظن حجة في باب التوثيقات.

١١٠

وممن يظهر منه تبني هذا المسلك المحدث النوري في ترجمة عمران ابن عبد الله القمي ، فانه قال ما لفظه : «روى الكشي خبرين فيهما مدح عظيم لا يضر ضعف سندهما بعد حصول الظن منهما» (١).

ويرد على الدعوى الأولى ان الإمامي غير الملتزم بخط الشريعة لا مانع له من الكذب على إمامه ، واقصى ما يحصل هو الظن بعدم صدور الكذب منه ، ومطلق الظن ليس حجة.

كما ويرد على الدعوى الثانية ان اثبات حجية الظن في باب التوثيقات يحتاج إلى دليل ، وهو مفقود.

٢ ـ نص بعض الرجاليين المتقدمين

الرجالي الذي يقوم بالتوثيق والتضعيف تارة يكون من المتقدمين كالنجاشي والشيخ الطوسي وأخرى يكون من المتأخرين كالعلّامة وابن طاووس.

والذي يراد الإشارة له الآن هو نص بعض الرجاليين المتقدمين على وثاقة شخص ، واما نص بعض المتأخرين فتأتي الإشارة له فيما بعد ان شاء الله تعالى.

والوجه في حجية توثيق المتقدمين ـ على ما قيل ـ هو ان مثل النجاشي ثقة ، وحيث ان خبر الثقة حجة بالسيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع بسبب عدم الردع فتثبت حجية توثيق مثل النجاشي.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١ : ٣٩.

١١١

والإخبار عن الوثاقة وان كان إخبارا عن موضوع من الموضوعات (١) وليس اخبارا عن حكم شرعي إلّا ان دليل حجية خبر الثقة ـ وهو السيرة العقلائية ـ عام للإخبار عن الموضوع أيضا خلافا لبعض حيث اختار اختصاص الحجية بما إذا كان الإخبار عن حكم.

لا يقال : إن خبر الثقة وان كان حجة بالسيرة العقلائية إلّا ان ذلك فيما إذا كان الإخبار اخبارا عن حس دون ما إذا كان عن حدس واجتهاد ، ومن الواضح ان النجاشي حينما يوثّق زرارة مثلا فحيث انه ليس معاصرا له كان اخباره عن وثاقته إخبارا عن حدس لا عن حس.

فانه يقال : إن النجاشي وان لم يكن معاصرا لزرارة إلّا ان إخباره عن وثاقته يحتمل كونه إخبارا عن حس ، ومع احتمال كونه عن حس يلزم البناء على ذلك ـ أي كونه اخبارا عن حس ـ لإصالة الحس العقلائية عند دوران الإخبار بين كونه عن حس أو عن حدس.

اذن لنا دعويان لا بدّ من اثباتهما : ـ

احداهما : ان إخبار النجاشي عن وثاقة زرارة يحتمل كونه عن حس.

ثانيتهما : لا بدّ من البناء على الحس عند الدوران بينه وبين الحدس.

اما بالنسبة إلى الدعوى الأولى فيمكن ان يقال في اثباتها ان مجرد عدم

__________________

(١) فان وثاقة الراوي موضوع للحكم بوجوب تصديقه شرعا ، فالحكم الشرعي هو وجوب التصديق ، والوثاقة موضوع له.

١١٢

المعاصرة الزمنية بين زرارة والنجاشي لا يستلزم كون اخباره عن وثاقته إخبارا عن حدس ، فنحن نخبر عن وثاقة الشيخ الطوسي والأنصاري والآخوند الخراساني ونظائرهم من علمائنا المتقدمين ، ولكن هل ان اخبارنا عن ذلك اخبار عن حدس؟ كلا انه اخبار عن حسن ، فان وثاقة امثال هؤلاء الأعلام واضحة في زماننا كوضوح الشمس في رابعة النهار. ونفس الشي يمكن ان نقوله في توثيق النجاشي لزرارة فان الكتب الرجالية المعدّة للتوثيق والتضعيف كانت كثيرة في الفترة التي عاشها النجاشي والشيخ الطوسي وحصل الوضوح نتيجة تلك الكتب.

ولعل أول من تصدّى للتأليف في هذا المجال هو الحسن بن محبوب الراوي الجليل حيث ألّف كتابه المعروف بالمشيخة (١) وتلته كتب أخرى على ذلك المنوال.

وقد تصدى الشيخ أغا بزرك الطهراني قدس‌سره بجمع من الّف في المجال المذكور في كتاب سماه بمصفى المقال ذكر فيه ما يزيد على مائة تأليف.

ومما يؤكد ما نقول تعبير الشيخ الطوسي في عدته حيث قال : «انا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء ... وصنفوا في ذلك الكتب ...».

والنجاشي يعبر احيانا في ترجمة بعض الرواة ويقول : «ذكره اصحاب الرجال».

__________________

(١) على وزن مفعلة. وهو جمع شيخ.

١١٣

واما بالنسبة إلى الدعوى الثانية فيمكن ان نقول في اثباتها ان العقلاء إذا اخبرهم ثقة بخبر فلا يأخذون بالتدقيق معه وان اخبارك عن حس أو عن حدس بل ما دام يحتمل نشوؤه عن حس فهم يبنون عليه.

هكذا قيل في توجيه توثيقات المتقدمين (١).

اشكال وجواب

ومن خلال ما ذكرناه يتضح اندفاع الاشكالين التاليين : ـ

١ ـ ما افاده الشيخ فخر الدين الطريحي في كتابه المعروف بتمييز المشتركات حيث ذكر ان توثيقات المتقدمين بما انها مبنية على الحدس دون الحس فيشكل الاعتماد عليها.

والجواب : ان احتمال نشوئها عن حس موجود للبيان المتقدم ، وبضم اصالة الحس العقلائية يتعين الحكم بكون منشأها الحس.

٢ ـ ما اشير إليه في كثير من الكلمات من ان توثيقات المتقدمين وان سلم نشوئها عن حس ومن باب نقل ثقة عن ثقة وكابر عن كابر إلّا ان النجاشي مثلا حينما يوثق شخصا لا يذكر اسماء سلسلة من يستند إليه في نقل التوثيق ، ومع عدم ذكره لاسمائهم يكون اخباره عن الوثاقة بمثابة الخبر المرسل ، وهو ليس حجة.

__________________

(١) راجع معجم رجال الحديث ١ : ٤١.

١١٤

وان شئت قلت : ان النجاشي نفسه لو كان ينقل حكما شرعيا عن الإمام بواسطة سلسلة من الثقات من دون اشارة لأسمائهم فهل يقبل نقله؟ كلا بل يكون اخباره مرسلا وساقطا عن الحجية لاحتمال ان احد رجال السند له جارح.

فاذا كان اخبار النجاشي لا يقبل في باب الأحكام إذا كان مرسلا ومن دون تصريح باسم السلسلة فيلزم ان لا يقبل إذا نقل الوثاقة بشكل مرسل أيضا لعدم الفرق.

وهذا الاشكال ظريف وقوي حتى قال البعض ان من قدّم لي حلا له قدّمت له جائزة وكنت له شاكرا (١).

والجواب عنه على ضوء ما تقدم : ان وثاقة امثال هؤلاء يمكن ان تكون واضحة كوضوح وثاقة الشيخ الأنصاري والآخوند عندنا ، ومع هذا الوضوح لا تكون شهادة النجاشي بوثاقة زرارة اخبارا عن حدس حتى يرد الاشكال بلزوم رفضها لاستنادها إلى الحدس كما ولا تكون من باب اخبار شخص عن شخص ليكون اخبارا مرسلا بعد جهالة الواسطة بل لشق ثالث غيرهما وهو الوضوح فيندفع الاشكال.

وإذا قيل بان الوضوح لا يمكن ان يكون هو المنشأ للإخبار وإلّا فكيف نفسر الاختلاف الحاصل بين الشيخ والنجاشي في بعض الحالات فالشيخ قد

__________________

(١) راجع كتاب بحوث في علم الرجال للمحسني : ص ٤٥.

١١٥

يوثّق شخصا والنجاشي يضعفه أو بالعكس.

كان الجواب : ان هذا الاختلاف لا يدل على عدم الوضوح ، ففي زماننا هذا قد أختلف انا وأنت في شخص معين معاصر لنا فأحدنا يوثقه والآخر يفسقه وكل منا يرى وضوح ما يدعيه.

هذا ما قيل في دفع الاشكال المذكور ونعود ان شاء الله تعالى له ثانية عند التحدث عن النقطة الثالثة المتكفلة للبحث عن الوجه في حجية قول الرجالي.

٣ ـ نص أحد الأعلام المتأخرين

وقع الاختلاف بين الأعلام في ان توثيقات المتأخرين ـ كالعلّامة وابن طاووس وابن داود والشهيد الثاني ـ هل هي مقبولة أو لا؟ المعروف قبولها إلّا ان البعض كالسيد الخوئي وآخرين اختاروا العدم. ولكل من الرأيين توجيهه الخاص.

توجيه عدم حجية توثيقات المتأخرين

اما من رفض قبول توثيقات المتأخرين فاستدل على ذلك بان توثيقات مثل العلّامة لا تخلو من احد أمرين فاما هي مستندة إلى توثيقات المتقدمين لو كان لهم توثيق أو هي مستندة إلى الحدس والاجتهاد لو لم يكن للمتقدمين توثيق ، وليست هي ناشئة من الحس والعثور على بعض الكتب الرجالية التي لم يعثر عليها المتقدمون.

١١٦

والوجه في عدم نشوؤه عن حس : ان السلسلة قد انقطعت بعد الشيخ الطوسي ، واصبح كل من ينقل من بعد زمان الشيخ الطوسي شيئا من التوثيق أو التضعيف معتمدا على الشيخ نفسه.

ومما يؤكد ما نقول ان المتأخرين لو كان لهم طريق وسلسلة لا تمرّ بالشيخ الطوسي لذكروا ذلك الطريق والحال انا نجد ان كل ما لديهم من طرق تمرّ بالشيخ الطوسي ، فالعلّامة الحلي في اجازته الكبيرة لبني زهرة (١) يذكر طرقه إلى جميع الكتب التي ينقل عنها وجميعها ينتهي إلى الشيخ الطوسي قدس‌سره.

وهذا مما يدلل على عدم وجود طريق مستقل للعلّامة يغاير طريق الشيخ الطوسي.

هذا مضافا إلى استبعاد وجود طريق مستقل للمتأخرين لا يمر بالشيخ الطوسي فانه لو كان لا طلع عليه الشيخ نفسه.

توجيه قبول توثيقات المتأخرين

وفي مقابل ما تقدم استدل اصحاب الرأي الآخر بان من المحتمل قويا عثور مثل العلّامة على بعض الكتب التي يذكر فيها توثيق بعض الرواة لم تصل بيد الشيخ والنجاشي ، فكم عثر المتأخرون على ما لم يعثر عليه المتقدمون.

فهذا ابن ادريس قد عثر على بعض الاصول الاربعمائة واستخرج منها

__________________

(١) والتي ينقلها المجلسي في بحاره في مجلد الاجازات.

١١٧

بعض الأحاديث والفّ منها القسم الأخير من كتابه المسمى بمستطرفات السرائر.

والسيد رضي الدين ابن طاووس عثر على قسم آخر منها وسجل بعض ذلك في كتابه المسمى بكشف المحجة.

وفي عصرنا الأخير عثر السيد محمد الحجة المعروف بالسيد الكوهكمري على ستة عشر اصلا قام بطبعها تحت عنوان الاصول الستة عشر.

وينقل الشيخ النائيني في اجود التقريرات ج ٢ ص ٩٣ انه كان عند المحدث الشيخ ميرزا حسين النوري ما يقرب من خمسين اصلا.

وإذا كان هذا ثابتا في الاصول الأربعمائة فمن الممكن حصول مثله في الكتب الرجالية أيضا فيعثر على بعضها المتأخرون دون المتقدمين.

واما دعوى انه لو كان هناك طريق للمتأخرين إلى تلك التوثيقات لا يمرّ بالشيخ الطوسي لكان نفس الشيخ الطوسي مطلعا عليه فهي مدفوعة بان لازم ما ذكر الاشكال في توثيقات الشيخ نفسه لبعض الرواة إذا وثّقهم هو فقط دون النجاشي أو بالعكس ، فانه لو كان هناك طريق قد عثر عليه أحدهما فمن اللازم اطلاع الثاني عليه.

الصحيح من الرأيين

والصحيح في نظرنا هو الرأي المنكر لحجية توثيقات المتأخرين.

ونركز حديثنا حول توثيقات العلّامة الحلي الذي هو أهم المتأخرين في

١١٨

هذا المجال ، ومن خلال ذلك يتضح الحال في توثيقات غيره من المتأخرين.

وفي البداية نلفت النظر إلى ان الموارد التي اختص فيها العلّامة بالتوثيق من دون مشاركة الشيخ الطوسي أو النجاشي اياه نادرة جدا.

وعليه فثمرة هذا البحث تختص بهذه الموارد النادرة ، إذ في موارد الاشتراك يحكم بالتوثيق من جهة شهادة الشيخ أو النجاشي بلا حاجة إلى التشبث بتوثيق العلّامة.

والوجه في عدم حجية توثيقات العلّامة : ان الاعتماد على شهادته اما من جهة جريان اصالة الحس في حقه بعد احتمال استناده إلى الحس أو من جهة كونه من أهل الخبرة. وكلاهما قابل للتأمل.

اما الأول : فلعدم الجزم بانعقاد سيرة العقلاء على الاعتماد على اصالة الحس في حق مثل العلّامة الذي تلّوح كثير من كلماته اعتماده على الحدس في التوثيق.

وعلى سبيل المثال نراه في ترجمة إبراهيم بن هاشم يقول : «لم اقف لأحد من أصحابنا على قول في القدح فيه ولا على تعديله بالتنصيص. والروايات عنه كثيرة. والارجح قبول قوله».

ان التعبير بجملة «والأرجح قبول قوله» بعد اعترافه بخلو الكتب الرجالية من التوثيق يدل على اعمال الحدس والاجتهاد.

ويقول في ترجمة إبراهيم بن سليمان بن عبد الله «ضعّفه ابن الغضائري ...

١١٩

والنجاشي وثّقه كالشيخ فحينئذ يقوى عندي العمل بما يرويه».

ان تعبيره ب «يقوى ...» بعد اعترافه بتعارض الجرح والتعديل يدل على اعماله الاجتهاد والحدس.

ويقول في ترجمة اسماعيل بن مهران : «والأقوى عندي قبول روايته لشهادة الشيخ ابي جعفر الطوسي والنجاشي له بالثقة».

وفي ترجمة ادريس بن زياد يقول : «الأقرب عندي قبول روايته لتعديل النجاشي له. وقول ابن الغضائري لا يعارضه لأنه لم يجرحه في نفسه ولا طعن في عدالته».

وفي ترجمة أحمد بن اسماعيل بن سمكة يقول : «لم ينص علماؤنا عليه بتعديل ولم يرد فيه جرح ، فالأقوى قبول روايته مع سلامتها عن المعارض».

إلى غير ذلك من الموارد التي هي ظاهرة في اعماله الاجتهاد والنظر كما نعمل نحن ذلك في توثيق بعض الرواة.

واما الثاني : وهو الاعتماد عليه من باب كونه من أهل الخبرة ـ فلانا لا نسلم بزيادة خبروية العلّامة علينا بدرجة تصحح صدق عنوان أهل الخبرة عليه ، فان العنوان المذكور انما يصدق على الشخص فما لو غاص في الكتب والمكتبات وتوصل إلى ما لم نتوصل إليه ، اما إذا نظر إلى مقدار محدود من الكتب لا يزيد على ما وصل الينا ـ غايته اعمل رأيه كما نعمل نحن رأينا احيانا ـ فلا يصدق عليه ذلك ، فهل من الحق ان نحكم بخبروية العلّامة حينما اعتمد على

١٢٠