تراثنا ـ العددان [ 43 و 44 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 43 و 44 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٢

أساس نظام الحكم في الإسلام

بين الواقع والتشريع

رؤية في التراث الفكري

(٢)

صائب عبد الحميد

معالم المسار كما صاغها التشريع

لم يكن الرجوع إلى النص الشرعي في تحديد معالم المسار الإسلامي بعد الرسول من مختصات الشيعة وحدهم ، لقد شركهم فيه غيرهم ..

لقد أحس الكثير من المتكلمين وأصحاب الحديث بالحاجة إلى النص في تعيين أول الخلفاء على الأقل ، لتتخذ الأدوار اللاحقة له شرعيتها من شرعيته.

فجزم ابن حزم بالنص على أبي بكر صراحة ، فتابعه البعض ، فيما اقتنع آخرون بأن في هذه النصوص إشارة كافية على وجوب تقديم أبي بكر ، لكن دون التصريح بذلك ، وربما رأوا في هذا مذهبا وسطا بين الشورى والنص الصريح ، كما رأوا فيه تثبيتا لمبدأ الشورى ، لا نقضا ، حين وفقوا بين نتائج الشورى وبين إشارة النص.

وليس غريبا أن تتعدد أوجه الاستدلال بتعدد المتكلمين وتعدد أساليبهم ، وتعدد النصوص التي يعتمدونها ، وكثيرا ما يتعلق المتكلمون بما يشفع لمذاهبهم وإن كانوا يلمحون فيه علامات الوضع!

٢٠١

لقد عرض المتكلمون في تثبيت خلافة أبي بكر نصوصا من القرآن ونصوصا من السنة ، نستعرض أهمها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السنة لكونها أكثر تصريحا ، ولأن النصوص القرآنية اعتمدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النص عليه.

أولا ـ نصوص من السنة :

النص الأول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه : (مروا أبا بكر فليصل بالناس).

فرأى بعضهم في هذا الحديث نصا صريحا على الخلافة ، لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامة.

واستدلوا لذلك بقول بعض الصحابة لأبي بكر : ارتضاك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا؟! وأهم شئ في هذا القول الأخير أن ينسب إلى علي بن أبي طالب!! (١).

غير أن جملة من الإثارات تحيط بهذا النص وبهذه الواقعة ، قد تبتلع كل ما يبنى عليهما من استنتاجات :

الإثارة الأولى :

إن القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامة قول غريب ، وأغرب منه قول الجرجاني : (لا قائل بالفصل)! (٢).

* فابن حزم يقطع بأن هذا قياسا باطلا ، ويقول : (أما من ادعى أنه إنما

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٥.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٣٦٥.

٢٠٢

قدم قياسا على تقديمه إلى الصلاة ، فباطل بيقين ، لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة ، إذ يستحق الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجميا أو عربيا ، ولا يستحق الخلافة إلا قرشي ، فكيف والقياس كله باطل؟!) (٣).

* والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به ، فيقول : اتخذ بعض الناس من هذا ـ النص ـ إشارة إلى إمامة أبي بكر العامة للمسلمين ، وقال قائلهم : (لقد رضيه (ع) لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا) ولكنه لزوم ما ليس بلازم ، لأن سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الإشارة واضحة .. وفوق ذلك فإنه لم يحدث في اجتماع السقيفة ، الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة ، أن احتج أحد المجتمعين بهذه الحجة ، ويظهر أنهم لم يعقدوا تلازما بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين (٤).

والذي يستشف من كلامه استبعاد صحة نسبة هذا الكلام إلى الإمام علي (ع) ، فهذه النسبة لا تحتمل الصحة ، لما ثبت في الصحاح من أن عليا (ع) لم يبايع إلا بعد ستة أشهر (٥) ، كما أن الصحيح المشهور عن علي (ع) خلاف ذلك ، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأن قريشا هم قوم النبي وأولى الناس به ، قال : (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)! (٦).

__________________

(٣) الفصل ٤ / ١٠٩.

(٤) المذاهب الإسلامية : ٣٧.

(٥) صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر / ح ٣٩٩٨ ، صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسير ٣ / ١٣٨٠ ح ٥٢ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٠٠.

ورواه أصحاب التاريخ أيضا : الطبري ٣ / ٢٠٢ ، ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٢ / ٣٣١ ، ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٦.

(٦) نهج البلاغة : ٩٧ الخطبة ٦٧ ، وانظر : الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ : ١١.

٢٠٣

الإثارة الثانية :

إن إمامة الصلاة وفقا لفقه هذه المدرسة لا يترتب عليها أي فائدة في التفضيل والتقديم ، فالفقه هنا يجيز مطلقا إمامة المفضول على الفاضل ، بل يجيز إمامة الفاسق والجائر لأهل التقوى والصلاح ، وكثيرا ما نرى الاستدلال لذلك بصلاة بعض الصحابة خلف الوليد بن عقبة وهو سكران ، وصلاتهم خلف أمراء بني أمية ممن لم تكن له فضيلة تذكر!

الإثارة الثالثة :

أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي : أن عبد الرحمن ابن عوف قد صلى إماما بالمسلمين وكان فيهم رسول الله (ص) (٧). وهذه الرواية أثبت مما ورد في تقديم أبي بكر ـ كما سيأتي ـ فالحجة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر ، فتقديمه أولى وفقا لذلك القياس (٨).

الإثارة الرابعة :

في صحيح البخاري : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي (ص) في مسجد قباء ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو سلمة ، وعامر بن ربيعة (٩).

__________________

(٧) مسند أحمد ٤ / ٢٤٨ و ٢٥٠ و ٢٥١ ، صحيح مسلم : الطهارة ـ باب المسح على الناصية والعمامة ، سنن أبي داود : المسح على الخفين ح ١٤٩ و ١٥٢ ، سنن ابن ماجة : ح ١٢٣٦ ، سنن النسائي : الطهارة ح ١١٢.

(٨) أنظر : ابن الجوزي / آفة أصحاب الحديث : ٩٩.

(٩) صحيح البخاري : كتاب الأحكام ح ٦٧٥٤.

٢٠٤

وكان عمرو بن العاص أميرا على جيش ذات السلاسل ، وكان يؤمهم في الصلاة حتى صلى بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة (١٠)

فهل يستدل من هذا أن سالما وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، وأولى بالخلافة منهم؟!

الإثارة الخامسة : نتابعها في النقاط التالية :

أ ـ ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامة أنه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة ، خرج النبي (ص) يتهادى بين رجلين ـ علي والفضل ابن العباس ـ فصلى بهم إماما وتأخر أبو بكر عن موضعه مؤتما بالنبي (ص) عن يمينه.

أثبت ذلك تحقيقا أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنفه لهذا الغرض ، فقسمه إلى ثلاثة أبواب : فجعل الباب الأول في إثبات خروج النبي (ص) إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها ، وخصص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء على ذلك ، فذكر منهم : أبا حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأثبت في الباب الثالث وهن الأخبار التي وردت بتقدم أبي بكر في تلك الصلاة ، ووصف القائلين بها بالعناد واتباع الهوى! (١١).

وقال العسقلاني : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أن النبي (ص) كان هو الإمام في تلك الصلاة (١٢).

ومن هنا قال بعضهم : متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب

__________________

(١٠) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٧٢ ، البداية والنهاية ٤ / ٣١٢.

(١١) أبو الفرج ابن الجوزي / آفة أصحاب الحديث ـ الباب الأول ، والثاني ، والثالث.

(١٢) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢ / ١٢٣.

٢٠٥

للحديث مخرجا من النقص والتقصير ، وذلك أن آخره : أن رسول الله (ص) لما وجد إفاقة وأحس بقوة خرج حتى أتى المسجد وتقدم فنحى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره (ص) لتركه على إمامته وصلى خلفه ، كما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف (١٣).

ب ـ مما يعزز القول المتقدم ما ورد عن ابن عباس من أنه قبل أن يؤذن بلال لتلك الصلاة قال النبي (ص) : (ادعوا عليا). فقالت عائشة : لو دعوت أبا بكر! وقالت حفصة : لو دعوت عمر! وقالت أم الفضل : لو دعوت العباس! فلما اجتمعوا رفع رسول الله (ص) رأسه فلم ير عليا!! (١٤).

ج ـ ويشهد لذلك كله ما ثبت عن علي (ع) من أنه كان يقول : إن عائشة هي التي أمرت بلالا أن يأمر أباها ليصل بالناس ، لأن رسول الله (ص) قال : (ليصل بهم أحدهم) ولم يعين!! وكان علي (ع) يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا ، ويقول : إنه (ص) لم يقل : (إنكن لصويحبات يوسف) إلا إنكارا لهذه الحال ، وغضبا منها لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما ، وأنه (ص) استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب (١٥).

فهذه صور منسجمة ومتماسكة لا تبقي أثرا للاستفادة من هذا النص أو تلك الواقعة ، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أخر ذات قيمة لا يستهان بها :

منها : الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة ، وقد صرح بهذا ابن حجر العسقلاني ، ثم حاول التوفيق بينها بعد جهد (١٦).

__________________

(١٣) ابن الإسكافي / المعيار والموازنة ٤١ ـ ٤٢.

(١٤) مسند أحمد ١ / ٣٥٦ ، وأخرجه الطبري في تاريخه ٣ / ١٩٦ ولم يذكر فيه قول أم الفضل.

(١٥) ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩٧.

(١٦) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠٦

ومنها : ملاحظة بعض نقاد الحديث أن هذا الحديث لم يصح إلا من طريق عائشة ، لذا لم تقم حجته (١٧).

ومنها : أن ابن عباس قد طعن هذا الحديث طعنا عبقريا لم يتنبه له الرواة ، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث : (خرج النبي يتهادى بين رجلين ، أحدهما الفضل بن العباس) ولا تذكر الرجل الآخر ، فلما عرض أحدهم حديثها على عبد الله بن عباس ، قال له ابن عباس : فهل تدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟

قال : لا.

قال ابن عباس : هو علي بن أبي طالب ، ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير! (١٨).

الإثارة السادسة :

أثبت كثير من أصحاب التاريخ والسير أن أبا بكر كان أيام مرض رسول الله (ص) الأخير هذا ، كان مأمورا بالخروج في جيش أسامة ، وكان النبي (ص) يشدد كثيرا بين الآونة والأخرى على التعجيل في إنفاذ هذا الجيش .. فكيف ينسجم هذا مع الأمر بتقديمه في الصلاة؟! ناهيك عن قصد الإشارة إلى استخلافه!

لقد أدرك ابن تيمية ما بين الأمرين من منافاة وتعارض صريحين ، فنفى نفيا قاطعا كون أبي بكر ممن سمي في بعثة أسامة!! (١٩).

__________________

(١٧) المعيار والموازنة : ٤١.

(١٨) عبد الرزاق / المصنف ٥ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٢ / ١٢٣.

(١٩) ابن تيمية / منهاج السنة ٣ / ٢١٣.

٢٠٧

لكن مثل هذا النفي لا ينقذ الموقف ، خصوصا وأن ابن تيمية لم يقدم برهانا ولا شبهة في إثبات دعواه ، فيما جاء ذكر أبي بكر في من سمي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامة ، أصحابها جميعا من القائلين بصحة تقدم أبي بكر! (٢٠).

أما نفي ذلك ، أو تحرج بعض المؤرخين عن ذكره ، فإنما مرجعه إلى الاختيار الشخصي في مساندة المذهب ، لا غير ، حين أدركوا بيقين أن شيئا مما استدلوا به على إمامته سوف لا يتم لو كان أبو بكر في من سمي في جيش أسامة ، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنورة أيام وفاة رسول الله (ص) ، تحت إمرة أسامة بن زيد الشاب ابن الثماني عشرة سنة! (٢١).

نصوص أخر :

لم يقف القائلون بالنص عند النص المتقدم ، بل رجعوا إلى ما رأوا فيه نصا جليا على الخلافة ، لكنها في الحقيقة نصوص تثير على نفسها بنفسها شكوكا كثيرة لا تبقي احتمالا لصحتها ، شكوكا تثيرها الأسانيد والمتون معا .. وأهم هذه النصوص :

١ ـ أن امرأة سألت رسول الله (ص) شيئا ، فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : يا رسول الله ، أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ ـ كأنها تريد الموت ـ

__________________

(٢٠) الطبقات الكبرى ٤ / ٦٦ ، تهذيب تاريخ دمشق ٢ / ٣٩٥ و ٣ / ٢١٨ ، مختصر تاريخ دمشق ٤ / ٢٤٨ رقم ٢٣٧ و ٥ / ١٢٩ رقم ٥٦ ترجمة أسامة بن زيد وأيوب ابن هلال ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٧٧ ، تاريخ الخميس ٢ / ١٧٢ ، شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٩ و ٢٢٠ و ٩ / ١٩٧.

(٢١) الطبقات الكبرى ٤ / ٦٦.

٢٠٨

فقال : (فإن لم تجديني فأتي أبا بكر) (٢٢).

وهذا الحديث متحد عند الشيخين في سلسلة واحدة ، وهي : إبراهيم ابن سعد ، عن أبيه ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه جبير بن مطعم : أن امرأة سألت رسول الله (ص) ...

فلم يروه من الصحابة إلا جبير بن مطعم ، ولم يروه عن جبير إلا ولده محمد ، ولم يروه عن محمد غير سعد (وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم! ثم أخذه الرواة عن إبراهيم ابن سعد!

السند : نظرة واحدة في هذا الإسناد ، بعيدا عن التقليد ، تحبط الآمال التي يمكن أن تعقد عليه :

* فجبير بن مطعم : من الطلقاء ، وهو صاحب أبي بكر ، تعلم منه الأنساب وأخبار قريش (٢٣) ، وكانت عائشة تسمى له وتذكر له قبل أن يتزوجها النبي (ص) (٢٤) ، وذكره بعضهم في المؤلفة قلوبهم وفي من حسن إسلامه منهم (٢٥).

وكان شريفا في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أمية في الجاهلية

__________________

(٢٢) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٧ / ١٤ ـ ١٥ ، صحيح مسلم بشرح النووي ٨ / ١٥٤. وانظر : تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة : ٩٠ رقم ٥٦.

(٢٣) ترجمة جبير بن مطعم في : سير أعلام النبلاء ٣ / ٩٥ رقم ١٨ ، الإصابة ١ / ٢٢٦ رقم ١٠٩٢.

(٢٤) ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ١٤ / ٢٢.

(٢٥) الإستيعاب ـ بهامش الإصابة ـ ١ / ٢٣١ ، مختصر تاريخ دمشق ٦ / ٧ ، وهؤلاء الذين حسن إسلامهم معدود فيهم مع جبير : أبو سفيان ومعاوية ، كما في المعارف ـ لابن قتيبة ـ : ٣٤٢.

٢٠٩

والإسلام. وهو أحد الخمسة الذين اقترحهم عمرو بن العاص على أبي موسى الأشعري للمشورة في التحكيم ـ وهم : جبير بن مطعم ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبو الجهم بن حذيفة ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة ـ وكلهم مائل عن علي (ع) ، فابن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجمل الذين قاتلوا عليا في البصرة ، وعبد الله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية ، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أمية! (٢٦).

وجبير بن مطعم هو سيد الغلام الحبشي وحشي ، وهو الذي قال له يوم أحد : إن قتلت محمدا فأنت حر ، وإن قتلت عليا فأنت حر ، وإن قتلت حمزة فأنت حر! (٢٧).

وروي لابن عباس معه حديث هام! كان ابن عباس يحدث عن رسول الله (ص) في المتعة ، فقال جبير بن مطعم : كان عمر ينهى عنها. فقال له ابن عباس : يا عدي نفسه ، من هنا ضللتم! أحدثكم عن رسول الله ، وتحدثني عن عمر!! (٢٨).

* محمد بن جبير بن مطعم : وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله : هل كنا نحن وأنتم ـ يعني أمية ونوفل ـ في حلف الفضول (٢٩)؟ فقال له

__________________

(٢٦) راجع تراجمهم في : الإستيعاب ، وأسد الغابة ، والإصابة ، ومختصر تاريخ دمشق ، وسير أعلام النبلاء.

(٢٧) راجع أخبار غزوة أحد في تاريخ الطبري ، تاريخ اليعقوبي ، الكامل في التاريخ ، البداية والنهاية.

وراجع ترجمة حمزة في الإستيعاب وأسد الغابة والإصابة ، وغيرها.

(٢٨) ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٥. وروى مثله أحمد في عروة بن الزبير بدلا من جبير بن مطعم.

(٢٩) حلف الفضول : حلف جمع بني هاشم وزهرة وتيم ، اجتمعوا عند عبد الرحمن

٢١٠

محمد بن جبير بن مطعم : لا والله يا أمير المؤمنين ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ، ولم تكن يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والإسلام! (٣٠).

وقد اعتزل محمد عليا والحسن (ع) في حربهما مع معاوية ، فلما تم الصلح كان محمد ممثلا في وفد المدينة إلى معاوية للبيعة (٣١).

* وأما سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : فقد كان قاضيا لبعض ملوك بني أمية على المدينة (٣٢) ، وفي دولة بني العباس انتقل إلى بغداد فعمل قاضيا لهارون الرشيد على واسط ، ثم ولي قضاء عسكر المهدي ببغداد (٣٣).

* وأما ولده إبراهيم بن سعد : فهو صاحب العود والغناء ، كان يعزف ويغني ، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه ، فوجده يغني ، فتركه وانصرف ، فأقسم إبراهيم ألا يحدث بحديث إلا غنى قبله! وعمل واليا على بيت المال ببغداد لهارون الرشيد (٣٤).

وخطوة أخرى إلى الإمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحا ، حيث ترينا كيف حل هذا الحديث محل الحديث الصحيح الوارد في علي (ع) بعين هذا المتن!

لما حضر رسول الله (ص) قالت صفية أم المؤمنين : يا رسول الله ، لكل امرأة من نسائك أهل تلجأ إليهم ، وإنك أجليت أهلي ، فإن حدث حدث

__________________

ابن جدعان فتحالفوا جميعا على دفع الظلم واسترداد الحق من الظالم وإعادته إلى صاحبه المظلوم.

(٣٠) الأغاني ١٧ / ٢٩٥.

(٣١) أنظر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١٣ / ٩٨.

(٣٢) تاريخ بغداد ٦ / ٨٣ ، الأغاني ١٥ / ٣٢٩.

(٣٣) تاريخ بغداد ٧ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣٤) تاريخ بغداد ٦ / ٨١ ـ ٨٦ ، الأعلام ١ / ٤٠.

٢١١

فإلى من؟

قال : (إلى علي بن أبي طالب). أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (٣٥).

فإذا لم نكن قد نسينا ما قرأناه في (هوية التاريخ) (٣٦) فإن نظرة واحدة في هذه السلسلة الواحدة لهذا الحديث تكشف لنا الكثير عن حقيقته ، وربما مصدره أيضا حين نرى أن رأس هذه السلسلة ـ جبير بن مطعم ـ قد عاش نحو سبع عشرة سنة في خلافة معاوية على أغلب الأقوال ، لم يفرقهما شئ في جاهلية ولا في إسلام ..

والمفترض أن يكون جبير أبعد أفراد هذه السلسلة عن تهمة الوضع في الحديث (٣٧).

__________________

(٣٥) مجمع الزوائد ٩ / ١١٣.

(٣٦) راجع : مقال (هوية التاريخ) المنشور في (تراثنا) العددين ٣٨ ـ ٣٩ ، ص ٤٣ ٤٥.

(٣٧) ثمة رواية تنسب إلى الإمام جعفر الصادق (ص) ، تقول : (ارتد الناس بعد الحسين (ع) إلا ثلاثة : أبو خالد الكابلي ، ويحيى بن أم الطويل ، وجبير بن مطعم ، ثم إن الناس لحقوا وكثروا) غير أن في هذه الرواية أكثر من مشكلة تقف دون اعتمادها :

أ ـ فمن الناحية السندية : وردت في مصدرين ، الأول : رجال الكشي ـ ترجمة يحيى بن أم الطويل ـ وفي إسنادها مجهول ، والثاني : كتاب (الإختصاص) ولا يعرف مؤلفه على وجه التحديد ، ونسبته إلى الشيخ المفيد موضع خلاف.

ب ـ الثابت أن جبير بن مطعم قد توفي قبل استشهاد الحسين (ع) بنحو أربع سنين على الأقل!

وفي بعض طرق هذه الرواية ما يحل الإشكال الثاني ، إذ ورد فيها : (محمد بن جبير) لكن حتى هذا لم يثبت ، إذ كشف المحقق التستري رحمه‌الله ، أن هذا محرف عن حكيم بن جبير بن مطعم! أنظر : قاموس الرجال / ترجمة محمد بن جبير بن مطعم.

٢١٢

كما تجيبنا قراءتنا في (هوية التاريخ) عن أهم ما يعترضنا هنا ، وهو : كيف أصبح هؤلاء جميعا في عداد رجال الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ فيما أقصي آخرون لا يقاس هؤلاء بهم ، كالإمام جعفر الصادق (ع) ، الذي كان ينبغي أن يكون حديثه أكثر اعتمادا ، إذ لا يفصله عن البخاري سوى واسطة أو واسطتين ، توفي الصادق (ع) سنة ١٤٨ ه ، وولد البخاري سنة ١٩٤ ه!

هذا النص ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة ، هو الذي رأى فيه ابن حزم وغيره نصا جليا على خلافة أبي بكر! (٣٨) غير أن الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه ، فيما ذكرا نصوصا كثيرة أضعف منه سندا ، وأقل منه دلالة! (٣٩).

٢ ـ قالت عائشة : قال لي رسول الله (ص) في مرضه : (ادعي لي أبا بكر أباك ، حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) (٤٠).

أسند مسلم هذا الحديث كما يلي : عبيد الله بن سعيد ، عن يزيد بن هارون ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة.

__________________

والحق أن هذه الرواية فيها أكثر مما تقدم ، فهي تذكر بعد هؤلاء جماعة ، منهم : سعيد بن المسيب ، وتقول إنه نجا من الأمويين لأنه كان آخر أصحاب رسول الله! وهذا لا يصح ، لأن سعيد بن المسيب تابعي وليس صحابي! وهذا أيضا وقف عليه المحقق التستري في ترجمة سعيد بن المسيب من (قاموس الرجال).

(٣٨) الفصل ٤ / ١٠٨. وانظر أيضا : تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة : ٩٠ ـ ٩١ رقم ٥٦ ، نظام الخلافة بين أهل السنة والشيعة : ٣٩.

(٣٩) أنظر : الجرجاني / شرح المواقف ٨ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، التفتازاني / شرح المقاصد ٥ / ٢٦٣ ـ ٣٦٧.

(٤٠) صحيح البخاري ـ كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف ج ٦ ح ٦٧٩١ ، صحيح مسلم ـ باب فضائل أبي بكر ج ٥ ح ٢٣٨٧ والنص منه.

٢١٣

فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضا ، وهو صاحب الحديث المتقدم ، صاحب العود والغناء ، صاحب هارون الرشيد.

أما الزهري وعروة وعائشة فقد عرفنا بدقة موقفهم من الخلافة ومن علي (ع) خاصة وبني هاشم عامة.

وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضا إلى عائشة ، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه!

ولعل أقوى ما يثار هنا : أن هذه الأحاديث قد رواها الشيخان ، فكيف يمكن الشك فيها والطعن عليها؟!

وما أيسر الجواب لمن تجرد للحقيقة دون سواها ، فقبل قليل فقط قرأنا تفسير ذلك على ألسنة الكبار ممن حقق في طبيعة هذا الأمر وتطوره :

* قرأنا عن نفطويه : أن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختلقت في أيام بني أمية تقربا إليهم في ما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم!

* وقرأنا عن المدائني قوله : فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ، لا حقيقة لها ... حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة ما رووها ولا تدينوا بها!

* وقرأنا عن الإمام الباقر (ع) قوله : حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ، ولعله يكون ورعا صدوقا ، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئا منها ، ولا كانت وقعت ، وهو يحسب أنها حق لكثرة من رواها ممن لم يعرف بالكذب ولا بقلة ورع!

فليس بمستنكر إذن أن تنفذ هذه الأخبار إلى الصحيحين وغيرهما ...

٢١٤

فمن أين يأتي الاستنكار وهم ما رووها إلا وهم يعتقدون صحتها؟!

وهذا الحديث بالذات مما شهد المعتزلة بأن البكرية وضعته في مقابل الحديث المروي عنه (ص) في مرضه : (ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا) فاختلفوا عنده ، وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله! (٤١).

ومما يشهد لهذا القول ، بل يجعله يقينا لا شك فيه ، ما ثبت عن ابن عباس في وصف اختلافهم عند النبي الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب ، فقد كان ابن عباس يصف هذا الحدث بأنه (الرزية ، كل الرزية) ويذكره فيقول : (يوم الخميس ، وما يوم الخميس!) ويبكي حتى يبل دمعه الحصى (٤٢) فلو كان الأمر كما وصفه الحديث المنسوب إلى عائشة (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) لم تكن ثمة رزية يبكي لها ابن عباس كل هذا البكاء ويتوجع كل هذا التوجع.

إن بكاء ابن عباس وتوجعه الشديد لهذا الحديث لهو دليل لا شئ أوضح منه على أن الذي أراده النبي (ص) من ذلك الكتاب لم يتحقق ، بل تحقق شئ آخر غيره لم يكن النبي (ص) أراده ولا أشار إليه أدنى إشارة.

وتزداد هذه الحقيقة رسوخا حين ندرك أن ابن عباس هو واحد من سادة بني هاشم الذين لم يبايعوا لأبي بكر إلا بعد ستة أشهر! (٤٣).

فمع هذه الثوابت لا يبقى احتمال لصحة الحديث المنسوب إلى عائشة!

__________________

(٤١) ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٩.

(٤٢) صحيح البخاري ـ كتاب المرضى ـ باب ١٧ ح ٥٣٤٥ ، صحيح مسلم ـ كتاب الوصية ح ١٥ و ٢١ و ٢٢ ، مسند أحمد ١ / ٣٢٤ ، السيرة النبوية ـ للذهبي ـ : ٣٨٤ ، البداية والنهاية ٥ / ٢٤٨.

(٤٣) السنن الكبرى ٦ / ٣٠٠ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٨ ، مروج الذهب ٢ / ٣١٦ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٣٣١ ، جامع الأصول ٤ / ٤٨٢.

٢١٥

٣ ـ حديث : (اقتدوا باللذين من بعدي ، أبي بكر وعمر).

أخرجه الترمذي وابن ماجة (٤٤) ، واعتمده كثيرون في إثبات النص على أبي بكر وعمر ، أو في إثبات صحة خلافتهما (٤٥).

لكن ابن حزم استهجن كثيرا الاستدلال بهذه الرواية ، وعده عيبا يترصد أمثاله الخصوم ، فقال ما نصه : (ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحا ، أو أبلسوا أسفا ، لاحتججنا بما روي (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ولكنه لا يصح ، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح (٤٦).

٤ ـ نصوص أخر نسبت إلى علي (ع) ، إمعانا في سد الثغرات ، وقطع الطريق على الخصم ، استبعد المحب الطبري صحة شئ منها لتخلف علي عن بيعة أبي بكر ستة أشهر ، ونسبته إلى نسيان الحديث في مثل هذه المدة بعيد (٤٧).

وهذا حق يؤيده ما اشتهر عن علي (ع) من ذكر حقه في الخلافة (٤٨).

هذه جملة ما اعتمدوه من النصوص الحديثية في النص على أبي بكر وتقديمه.

ثانيا ـ نصوص من القرآن الكريم :

١ ـ قوله تعالى : (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات

__________________

(٤٤) سنن الترمذي ـ مناقب أبي بكر ج ٥ ح ٣٦٦٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٩٧.

(٤٥) شرح المواقف ٨ / ٣٦٤ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٦٦ ، تثبيت الإمامة : ٩٢ رقم ٥٩.

(٤٦) الفصل ٤ / ١٠٨.

(٤٧) الرياض النضرة ٤٨ ـ ٤٩.

(٤٨) سيأتي في هذا البحث.

٢١٦

ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) (٤٩).

قالوا : الخطاب هنا للصحابة ، فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكن بها الدين ، ولم يوجد على هذه الصفة إلا خلافة الخلفاء الأربعة ، فهي التي وعد الله بها (٥٠). حتى صرح بعضهم بأن الآية نازلة فيهم ، أو في أبي بكر وعمر خاصة! (٥١).

وهذا الاستدلال ضعفه المفسرون بأمرين :

الأول : ما ذهبوا إليه من أن المراد في هذه الآية هو (الوعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام ، كما قال عليه الصلاة والسلام : (زويت لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)). وأن (الصحيح في هذه الآية أنها في استخلاف الجمهور ، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها.

وأن هذه الحال ـ التي تصفها الآية ـ لم تختص بالخلفاء حتى يخصوا بها من عموم الآية ، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين ، بل وغيرهم.

ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها ، وخاصة الخندق ، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال : (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) (٥٢).

ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيرا ، وأمن المؤمنين وأورثهم أرضهم

__________________

(٤٩) سورة النور ٢٤ : ٥٥.

(٥٠) شرح المواقف ٨ / ٣٦٤ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٦٥.

(٥١) تفسير القرطبي ١٢ / ١٩٥.

(٥٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٠ و ١١.

٢١٧

وديارهم وأموالهم ، وهو المراد بقوله : (ليستخلفنهم في الأرض). وقوله : (كما استخلف الذين من قبلهم) يعني بني إسرائيل ، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، فقال : (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) (٥٣). وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين ، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم ، فصح أن الآية عامة لأمة محمد (ص) غير مخصوصة ، إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم ، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم) (٥٤).

وهذا يعني بوضوح أن الخطاب غير محصور بالصحابة رضي‌الله‌عنهم ، بل هو عام لكل أمة محمد في كل زمان (٥٥).

والثاني : ما ذكروه في سبب نزول الآية ، فإنه منطبق تماما على ما ذكر آنفا ، لا يساعد على تخصيصها في الخلفاء الراشدين أو بعضهم ، وإن كان فيه ما يفيد تخصيصها بالنبي (ص) وأصحابه (٥٦).

ففي رواية البراء ، قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد.

وفي رواية أبي العالية ، يصف حال أصحاب الرسول وهم خائفون ، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ، فشكوا ذلك إلى النبي (ص) فأنزل الله الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح.

__________________

(٥٣) سورة الأعراف ٧ : ١٣٧.

(٥٤) تفسير القرطبي ١٢ / ١٩٦ ـ ١٩٧. وانظر أيضا : الميزان في تفسير القرآن ١٥ / ١٦٧ ، الإفصاح في الإمامة ـ للشيخ المفيد ـ : ٩١ ـ ١٠٠ ، فتح القدير (تفسير الشوكاني) ٤ / ٤٧.

(٥٥) فتح القدير ٤ / ٤٧.

(٥٦) كما تقدم في آخر الكلام المنقول عن القرطبي ، وهو ما ذهب إليه محمد جواد مغنية في تفسيره الكاشف ٥ / ٤٣٦.

٢١٨

ومثلها رواية أبي بن كعب ، وقوله في رواية ثانية عنه : لما نزلت على النبي (ص) (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الآية ، بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب (٥٧).

أما رواية عبد بن حميد عن عطية ففيها تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الراشدين ، إذ قال عطية : هم أهل بيت هاهنا! وأشار بيده إلى القبلة (٥٨).

وفي هذا عطف على ما ذهب إليه بعض مفسري الشيعة من أن الآية في المهدي الموعود (ع) الذي تواترت الأخبار على أنه سيظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، وأن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا : النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) (٥٩).

هذه هي الآية الأولى ، ومع ظهور ما تقدم من إفادتها العموم ، لا يبقى وجه للتمسك بها هنا ، وهي أيضا عند المتمسكين بها دليل على صحة الخلافة ، وليست نصا في الاستخلاف ، وكذا مع الآية الثانية.

٢ ـ قوله تعالى : (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا) (٦٠).

فقد جعل الداعي مفترض الطاعة ، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان ، فوجبت طاعتهم بنص القرآن ، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضا فقد صحت

__________________

(٥٧) الدر المنثور ٦ / ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٥٨) الدر المنثور ٦ / ٢١٦.

(٥٩) مجمع البيان ٤ / ١٥٢ ، الميزان ١٥ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ، الإفصاح في الإمامة : ١٠٢.

(٦٠) سورة الفتح ٤٨ : ١٦.

٢١٩

إمامتهم وخلافتهم (٦١).

والصحيح الذي يوافق تاريخ نزول الآية الكريمة ، ويوافق الوقائع ، هو ما ذكره الرازي من أن الداعي هو النبي (ص) (٦٢) ، إذ كانت الآية المذكورة نازلة في الحديبية بلا خلاف ، وهي في سنة ست للهجرة ، وبعدها غزا النبي هوازن وثقيف وهم أولو بأس شديد ، في وقعة حنين الشهيرة وذلك بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، وفتح مكة هو الآخر دعوة إلى قتال قوم أولي بأس شديد قاتلوا الإسلام وأهله حتى أظهره الله عليهم في الفتح ، ثم كانت غزوة مؤتة الشديدة ، ثم غزوة تبوك وهي المعروفة بجيش العسرة ، التي استهدفت محاربة الروم على مشارف الشام ، ثم دعاهم مرة أخرى لقتال الروم في جيش أسامة الذي جهزه وأمر بإنفاذه وشدد على ذلك في مرضه الذي توفي فيه.

فكيف يقال إن النبي (ص) لم يدعهم إلى قتال بعد نزول الآية؟!

ولأجل الفرار من هذا المأزق ذهبوا إلى آية سورة التوبة النازلة في المخلفين : (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) (٦٣).

قال ابن حزم بعد أن ذكر هذه الآية ما نصه : وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ، ولم يغز (ع) بعد غزوة تبوك إلى أن مات (ص). وقال تعالى أيضا : (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم

__________________

(٦١) الفصل ٤ / ١٠٩ ـ ١١٠ ، شرح المواقف ٨ / ٣٦٤ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٦٦.

(٦٢) تفسير الرازي ٢٨ / ٩٢ ـ ٩٣.

(٦٣) سورة التوبة ٩ : ٨٣.

٢٢٠