إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٣

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

كذلك فلم قتلته والله لا نلت مني خيرا أبدا ولألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه وقال بعضهم ان يزيد بن معاوية هو الذي قتل قاتل الحسين. وروى الامام أحمد بن حنبل عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصف النهار أشعث أغبر ومعه قارورة فيها دم يتتبعه من الأرض ويلتقطه فيها فقلت يا رسول الله ما هذا فقال هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه من الأرض منذ اليوم قال عمار بن ياسر فحفظنا ذلك اليوم فوجدنا الحسين قد قتل ذلك اليوم. قال الامام القرطبي وهذا سند صحيح لا مطعن فيه قال ابن عباس وساق القوم حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك اليوم كما تساق الأسارى حتى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس وجعلوا ينظرون إليهم وكان في الأسارى يومئذ علي بن الحسين رضي‌الله‌عنهما وكان شديد المرض قد جمعت يداه إلى عنقه وزينب بنت علي من فاطمة الزهراء وأختها ام كلثوم وفاطمة وسكينة بنتا الحسين وساق الفسقة معهم رءوس القتلى وكان محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه يقول قتل مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنها وكان الحسن البصري رضي‌الله‌عنه يقول قتل مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا من أهل بيته لم يكن على وجه الأرض له شبيه وقال غيره إنه قتل مع الحسين بن علي من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلا وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال أتي برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد فجعل في طشت فجعل ينكت فيه ويقول في حسنه شيء وكان أنس يقول كذب عبيد الله بن زياد كان الحسين أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان مخضوبا بالوسمة قال أهل اللغة ومعنى ينكت أي يضرب الرأس بالقضيب الذي في يده حتى يؤثر فيه قال أصحاب السير ثم أمر عبيد الله بن زياد من فوره بالرأس حتى ينصب في الريح فتحاماه أكثر الناس فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو المشئوم الملعون المذموم فقوره ونصبه بباب ولد عبيد الله بن زياد ونادى في الناس ثم جمعهم في المسجد الجامع وخطب بهم خطبة لا يحل لمسلم

٧٠١

ذكرها ثم دعا بزياد بن حر الجعفي فسلم اليه رأس الحسين ورءوس اخوته وبنيه وأهل بيته وأصحابه ودعا بعلي بن الحسين فحلمه وحمل عماته وأخواته إلى يزيد على بعير وطيء والناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد ومنزل حتى قدموا دمشق فأقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في طشت من ذهب وجعل ينظر اليه ويقول :

صبرنا وكان الصبر منا عزيمة

وأسيافنا يقطعن كفا ومعصما

ففلق هاما من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

ثم تكلم بكلام قبيح وأمر بالرأس أن تصلب بالشام ولما رأى خالد بن عبد الله ذلك قال :

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد

متزملا بدمائه تزميلا

وكأنما بك يا ابن بنت محمد

قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا ولم يترقبوا

في قتلك التنزيل والتأويلا

ويكبرون بأن قتلت وإنما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

وكان خالد هذا من أجل عباد التابعين وقد اختفى شهرا وهم يطلبونه ليقتلوه فلم يظفروا به واختلف الناس في موضع الرأس المكرم وأين حمل من البلاد فروى الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة مع أقوام من موالي بني هاشم وضم إليهم جماعة من موالي أبي سفيان وبعث بنقل الحسين ومن بقي من أهله معهم ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلّا وقد أمر لهم بها وقد كان الذي تلقى رأس الحسين بالمدينة حين قدموا بها عمر بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عامل على المدينة ليزيد فقال عمر وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمر بن سعيد برأس الحسين فكفن ودفن بالبقيع عند قبر امه فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنهما. قال الامام القرطبي وهذا أصح ما قيل فيه وبه قال الزبير بن بكار الذي هو أعلم بالأنساب.

٧٠٢

وقال الامامية ان الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما قال القرطبي رحمه‌الله تعالى وما ذكر من أنه دفن بعسقلان في المشهد المعروف بها أو بالقاهرة فهو شيء باطل لا يصح انتهى. قلت قد ثبت أن طلائع بن رزيك الذي بنى المشهد بالقاهرة نقل الرأس إلى هذا المشهد بعد أن بذل في نقلها نحو أربعين ألف دينار وخرج هو وعسكره فتلقاها من خارج مصر حافيا مكشوف الرأس هو وعسكره. وهي في برنس حرير أخضر في القبر الذي هو في المشهد موضوعة على كرسي من خشب الآبانوس ومفروش هناك نحو نصف اردب من الطيب كما أخبرني بذلك خادم المشهد. ومما وقع لي أنني قلت لسيدي الشيخ شهاب الدين بن الشلبي الحنفي مفتي المسلمين رضي‌الله‌عنه أترى أن تزور معنا رأس الحسين في المشهد بخان الخليلي فقال انه لم يثبت كون الرأس هناك فقلت له نزوره بالنية على تقدير صحة ذلك فقال نعم فلما دخلنا مقصورته بالمشهد قلت للشيخ اجلس مراقبا بقلبك للرأس فجلس متخيلا لها في ذهنه فحصل له ثقل رأس فنام فرأى نقيبا مشدود الوسط قد خرج من القبر فما زال بصره يتبعه حتى دخل مقصورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له يا رسول الله ان الشيخ شهاب الدين بن الشلبي وعبد الوهاب الشعراني يزوران رأس ولدك الحسين فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقبل الله منهما انتهى فاستيقظ الشيخ شهاب الدين وتواجد حتى وقعت عمامته من فوق رأسه وقال آمنت وصدقت بأن الرأس هنا وحكى الواقعة ولم يزل يزوره حتى مات.

فزر يا أخي هذا المشهد بالنية الصالحة إن لم يكن عندك كشف فقول الامام القرطبي رحمه‌الله تعالى ان دفن الرأس في مصر باطل بل صحيح في أيام القرطبي فان الرأس إنما نقلها طلائع بن رزيك بعد موت القرطبي فافهم والله تعالى أعلم.

ومنهم العلامة شمس الدين أبو البركات محمد الباعوني الشافعي في كتاب «جواهر المطالب في مناقب الامام أبي الحسنين علي بن أبي طالب» (ص ١٤٠ والنسخة مصورة من

٧٠٣

المكتبة الرضوية بخراسان) قال :

وأمّا رأسه فالمشهور بين أهل التاريخ والسير انه بعثه زياد بن أبيه الفاسق إلى يزيد بن معاوية وبعث به يزيد إلى عمر بن سعد الأشدق لطيم الشيطان وهو إذ ذاك بالمدينة فنصبه ودفن عند امه بالبقيع.

وذكر ابن أبي الدنيا ان الرأس لم يزل في خزانة يزيد حتى هلك فأخذ ثم غسل وكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق والله أعلم.

وذكر الحافظ ابن عساكر رحمه‌الله ان ابن زياد لما وضع الرأس بين يديه تمثل بقول الشاعر :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع خزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القوم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام ثم وضع بخزانة السلاح حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك فجيء به فقد بقي عظما أبيض فكفنه وطيبه وصلّى عليه ودفنه في مقابر المسلمين.

ومما ينسب إلى يزيد بن معاوية انه أنشد والرأس بين يديه :

نعب الغرب (فقلت) قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

قال بعض أهل التاريخ هذا كفر صريح لا يقوله مقر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنهم العلامة الشريف أحمد بن محمد بن أحمد الحسيني الخوافي [الحافي] الشافعي في «التبر المذاب» (ص ٩٠ المخطوط) قال :

واختلف في الرأس على أقوال أصحّها إنه عاد بعد أربعين يوما إلى جثته الشريفة. روي ذلك عن زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وجابر بن عبد الله وهو أول من زار قبره بعد أربعين يوما. قال ابن الجوزي رضي‌الله‌عنه وفي أي مكان كان رأسه أو جسده فهو ساكن في القلوب والضمائر قاطن في الأسرار والخواطر وقد أنشد

٧٠٤

بعض أشياخنا فيه :

لا تطلبوا المولى الحسين

بأرض شرق أو بغرب

ودعوا الجميع واعرجوا

نحوي فمشهده بقلبي

وقال أيضا في ص ٩١ : قال الزهري لما بلغ الحسن البصري الكوفة قتل الحسين بكى حتى اختلج صدغاه ثم قال وا ذلّ أمة قتل ابن بنت نبيها دعيّها والله ليردّن رأس الحسين إلى جسده ثم لينتقمن له جدّه وأبوه من ابن مرجانة ويزيد.

ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور محمد جميل غازي في «استشهاد الحسين عليه‌السلام» (ص ١١٠) خرجه من كتاب الحافظ ابن كثير (ط مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر) قال :

وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا ، على قولين ، الأظهر منها أنه سيّره إليه ، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة فالله أعلم.

وقال أبو مخنف عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الله اليماني عن القاسم بن بخيت ، قال : لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره ، ثم قال : إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري :

يفلقن هاما من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة الأسلمي : أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذا ، لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرشفه ، ثم قال : ألا إن هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمد ، وتجيء وشفيعك ابن زياد. ثم قام فولى.

وقد رواه ابن أبي الدنيا عن أبي الوليد عن خالد بن يزيد بن أسد عن عمار الدهني عن جعفر ، قال : لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة وجعل ينكت بالقضيب فقال له : ارفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلثمه.

ومنهم العلامة الشيخ عبد الغني بن اسماعيل النابلسي المتوفى سنة ١١٤٣ ه‍ في كتابه «الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز» (ص ٥٣ ط القاهرة) قال :

٧٠٥

وعندنا في دمشق الشام مزار داخل باب الفراديس يقال له مشهد الحسين ويسمى مسجد الرأس وهو معروف الآن وهو مشهد حافل عليه جلالة وهيبة وله وقف على مصالحه وهذا المشهد يقصده الناس للزيارة والدعاء والتبرك والتماس الحوائج وهو في غاية القبول كذا ذكره ابن الحوراني في الزيارات وفي مصر أيضا مشهد يسمى مشهد الحسين عليه‌السلام.

ومنهم الشريف علي فكري الحسيني القاهري في «أحسن القصص» (ج ٤ ص ٢٥٥ ط بيروت) قال :

اختار الله تعالى للإمام الحسين رضي‌الله‌عنه ما عنده ، فقربه إليه ، ونقله من دار المحن إلى دار المنح ، ومن دار الفناء ، إلى دار النعيم السرمدي المقيم ، وذلك يوم عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة.

فسافر عمر بن سعد بالرأس الشريف إلى الكوفة وسلمها إلى ابن زياد (الشهير بابن مرجانة) فطاف بها في الأسواق ، ثم وجهها إلى دمشق ليزيد ، فأمر برفعها بها ثلاثة أيام ، ثم أمر بأن يطاف بها في البلاد (عاملهم الله بما يستحقون) فطيف بها حتى وصلت (عسقلان) وأميرها إذ ذاك من خيرة الناس إيمانا وخوفا من الله ؛ فدفنها في مكان فخيم استمرت به إلى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ، وفي شعبان منها خرج الأفضل ابن أمير الجيوش بعساكر كثيرة الى بيت المقدس (كما نقله المقريزي عن ابن ميسر) وحارب من به وملكه ثم دخل (عسقلان).

ولما علم بالرأس الشريف عمل مشهدا جليلا بالمدينة المذكورة إذ رأى المكان الأول صار لا يليق بجلالها ، ولما تكامل أخرجها فعطرها وحملها على صدره وسعى بها ماشيا إلى أن أحلها في المشهد المذكور فاستمرت به إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من الهجرة ، وحواليها قضى الله على عسقلان أن تمتد إليها أيدي الطمع من الافرنج وكان بها أمير يقال له (عياش) فأرسل إلى الخليفة (الفائز بأمر الله) بمصر يقول له : أما بعد فإن الفرنج قد أشرفوا على أخذ عسقلان وإن بها رأس الامام الحسين

٧٠٦

ابن علي فأرسلوا من تختارونه وإلّا أخذوها ، وكان الخليفة (الفائز) أحد الخلفاء الفاطميين إذ ذاك طفلا صغيرا لم يبلغ الحادية عشرة من عمره ، ولذلك كان الحل والعقد والأمر والنهي لأكبر وزرائه (طلائع بن رزيك) فأرسل فرقة من الجيش تحت أمر (مكنون) الخادم ، وزوده بثلاثين ألف دينار ، فأتوا بها ووصلوا إلى (قطية) فخرج الوزير إلى لقائها من عدة مراحل ومعه جيوش كثيرة وكلهم حفاة خاشعون فحملها الوزير على صدره حتى دخلوا مصر وبنى (طلائع) مسجدا لها خارج باب زويلة من جهة الدرب الأحمر ، وهو المعروف (بجامع الصالح) الآن ، فكشف الحجب عن تلك الذخيرة النبوية فوجد دمها لم يجف ، ووجد لها رائحة أطيب من المسك (كما قال المقريزي) فغسلها في المسجد المذكور على ألواح من الخشب (بأعلى الحائط ألواح الآن يقال إنها هي التي كان عليها الغسل) ثم أراد أن يشرف ذلك المسجد بدفنها فيه فأبى أهل القصر وهم معية الملك الفائز وقالوا : إن أثرا نبويا جليلا كهذا لا يليق أن يكون مستقره خارج حدود القاهرة بل لا بد من دفنه في قصر الملك.

وكانت بوابة الباب الأخضر الموجودة الآن تحت المنارة الصغرى للمسجد الحسيني بابا من أبواب القصر المنتهى إلى الجمالية واسمه (باب الديلم) ودهليز الخدمة فعمدوا إلى الجهة المذكورة وبنوا بها بناء فخما حلوه بأنواع الزخارف الجميلة وكسوا جدرانه بالرخام الملون في البقعة المباركة الحالية (عن كتاب التاريخ الحسيني للمرحوم السيد محمود البيلاوي). قد حصل تضارب في الأقوال ، واختلاف كثير في وجود رأس الحسين رضي‌الله‌عنه. فبعضهم يقول : إنه دفن بدمشق ونقل إلى عسقلان ومنها إلى القاهرة. وبعضهم يقول : إنه مدفون بالمدينة عند قبر امه فاطمة رضي‌الله‌عنها وقيل بمسجد الرقة على الفرات ، وبعضهم ينكر أن ابن زياد أرسله إلى يزيد ، وبعض أهل السنة اتفقوا على أنه مدفون مع الجسد بكربلاء.

ولقد حقق المرحوم علي بك جلال الحسيني في كتابه (تاريخ الحسين) من

٧٠٧

الشواهد ما يثبت وجود الرأس بالقاهرة ، كما أن الأستاذ حسن أفندي قاسم الكاتب التاريخي لمجلة الإسلام الغراء ، أثبت في كتابه (مصرع الحسين) الذي ظهر حديثا ، بالأدلة التاريخية ، والشواهد الدينية المنقولة عن كبار العلماء ، أن الرأس الشريف مدفون بالقاهرة بالمشهد الحسيني بلا خلاف ، وقد أورد كثيرا من التحقيقات المؤيدة لذلك بأدلة ثابتة ، والله تعالى أعلم.

زيارة المسجد الحسيني.

لقد أشرقت الديار المصرية ببزوغ الشمس المنيرة بأنوار النبوة رأس الامام الحسين رضي‌الله‌عنه وحلولها بالقبة الشريفة بالقاهرة سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة بعد الهجرة بالمسجد الحسيني وصار من دفنها إلى الآن مطمح أنظار العباد من المسلمين في أقطار القطر المصري ويزار في معظم الأوقات خصوصا في المولد الحسيني المشهور.

المواسم السنية بالمسجد الحسيني

ويحتفل بالمسجد الحسيني في كل عام بعشرة مواسم جليلة هي أعياد للامة المصرية الإسلامية ، ومطالع للأنوار السنية الحسينية ، بها تستمد البركات ، وتعم النفحات ، كيف لا وهي مشارق الأنوار ، ومعاهد الأسرار ، في مشهد سبط النبي المختار؟ والمواسم المذكورة هي : ١ ـ ليلة عاشوراء ويومها ٢ ـ المولد النبوي الشريف المولد الحسيني ٤ ـ حفلة الغسلة ٥ ـ ليلة المعراج ويومها ٦ ـ ليلة الخامس من شهر شعبان تذكارا لليلة التي ولد فيها الامام الحسين رضي‌الله‌عنه ٧ ـ ليلة النصف من شعبان ويومها ٨ ـ ليلة القدر ٩ ـ شهر رمضان ١٠ ـ الاحتفال بنقل الكسوة الشريفة النبوية إلى المسجد الحسيني في شوال من كل سنة (والآن في ذى القعدة).

ومنهم الفاضل المعاصر الأستاذ أحمد أبو كف في كتاب «آل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مصر» (ص ٣٤ ط دار المعارف القاهرة) قال :

٧٠٨

حي الحسين في القاهرة القديمة ، اتصل بهذا الحادث الجليل في كربلاء. وكان هذا الاتصال عن طريق تسلسل تاريخي ، تحتويه عشرات من كتب المؤرخين ، وتشير إليه الوقائع والأحداث.

في مكان المشهد الحسيني ، بدأت القاهرة القديمة من ألف عام أو يزيد ، على يد الفاطميين ، نسبة إلى فاطمة الزهراء ، ام الحسين ، وابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزوجة علي بن أبي طالب. وقد روي عن الامام علي بن موسى الرضا أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله فطم ابنتي فاطمة وولديها ومن أحبهم ، من النار.

منطقة المشهد الحسيني كانت مقر حكم الفاطميين في القاهرة. وفي مكان المشهد الحسيني الحالي وحوله كان قصر الزمرد ، أهم قصور دولة الفاطميين. وهذا القصر كان يشمل منطقة خان الخليلي ، ويمتد ربما إلى حافة شارع بور سعيد الآن. وفي مكان قصر الزمرد ـ وكان أشرف مكان بالقصر تقام به الصلاة ـ جيء بالرأس الشريف ليدفن هناك. ولأن الزمرد لونه أخضر ، فقد سميت المنطقة بالباب الأخضر. ومنطقة الباب الأخضر ، هي التي تضم مقام الامام الحسين رضي‌الله‌عنه. وهذا المقام يضم الرأس الشريف ، وعليه الآن مقصورة من الفضة ، تحوي فصوصا خمسا من الماس هدية من طائفة البهرة. وكانت المقصورة قبلها من خشب الساج الهندي ، المحفور والمعشق .. نقلت إلى متحف الفن الإسلامي. وقبل مقصورة الفضة كانت هناك مقصورة من النحاس نقلت إلى مشهد آخر.

وقد تردد الآراء حول رأس الامام الحسين. رواية تقول : إن الرأس أرسل إلى عمر ابن سعيد بن العاص ، والي يزيد على المدينة المنورة ، حيث قام الوالي بدفنها في البقيع عند قبر السيدة فاطمة. ورواية أخرى تقول : إن الرأس وجد بخزانة يزيد بن معاوية بعد موته ، فأخذ ، ودفن بدمشق عند باب الفراديس. ويقول ابن كثير : وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين ، الذين ملكوا الديار المصرية أنهم دفنوه بها وبنوا عليه

٧٠٩

المشهد المشهور بمصر. ويحصي العقاد عدة أماكن ذكرت بأن رأس الامام الحسين دفن فيها ، وهي المدينة المنورة كربلاء ، الرقة ، دمشق ، عسقلان ، القاهرة ، مرو.

وأقرب رواية للتاريخ أنه بعد استشهاد الامام الحسين على أرض كربلاء جرى التمثيل بالجثة. فقدم الجسد الطاهر خولي بن يزيد الأصبحي ، ليجز الرأس ، لكنه لم يستطع ، وارتعد جسده فتقدم شمر بن ذي الجوشن بنفسه وجز الرأس ، ثم أرسله إلى يزيد بن معاوية ليتلقى المكافأة ، وهي توليته على إحدى الأمارات الإسلامية.

وترى د. سعاد ماهر .. أن أقوى الآراء هو الذي يقول إن الرأس طيف به في الأمصار الإسلامية حتى وصل إلى عسقلان حيث دفن هناك. وحينما استولى الفرنجة على عسقلان ، تقدم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر ، فدفع ٣٠ ألف درهم ، واسترد الرأس الشريف ونقله إلى القاهرة.

ويؤيد هذا الرأي ابن خلكان الذي يذكر في تاريخه : إن رأس الحسين بن فاطمة كان مدفونا بعسقلان قبل نقله إلى مصر ، وأن الأفضل شاهنشاه ، بنى مشهد الرأس في عسقلان.

وابن بطوطة ، يؤيد الرواية ويقول بعد زيارته لعسقلان : ثم سافرت من القدس الشريف إلى ثغر عسقلان ، وهو خراب ، قد عاد رسوما طامسة وأطلالا دراسة. وبها المشهد الشهير ، حيث كان رأس الحسين بن علي قبل أن ينقل إلى القاهرة ، وهو مسجد عظيم سامي العلو.

ثم يقول ابن بطوطة عند زيارته للقاهرة : ومن المزارات الشريفة ، المشهد المقدس العظيم الشأن ، حيث رأس الحسين بن علي ، وعليه رباط ضخم عجيب البناء ، على أبوابه حلق فضة وصحائفها ، وهو موفى الحق من الإجلال والإعظام.

ويقول المؤرخ الهروي في كتابه الإشارات إلى أماكن الزيارات. وفيها ـ أي عسقلان ـ مشهد الحسين .. فلما أخذتها الفرنج ، نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسعة وأربعين وخمسمائة.

٧١٠

وتفند الدكتورة سعاد ماهر الآراء التي قيلت ، من الناحية الأثرية ، من خلال كتابيها مخلفات الرسول في المشهد الحسيني ومساجد مصر : فعن القول بوجود الرأس في المدينة المنورة ، هناك ما ينقضه الدليل المادي الذي ذكره المسعودي ، وهو أنه كان يوجد حتى القرن الرابع الهجري شاهد مكتوب عليه العبارة الآتية : الحمد لله مميت الأمم ومحيي الأمم هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سيدة نساء العالمين ، والحسن بن علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، رضوان الله عليهم أجمعين.

فلو أن الرأس كان مدفونا في البقيع ، لما أغفل ذكر اسم سيد الشهداء. وهذا النص منقول من كتاب الاشراف والتنبيه للمسعودي عن ابن كثير في البداية والنهاية.

أما قول غالبية الشيعة الامامية (الاثنا عشرية) ، بأن الرأس مدفون مع الجسد في كربلاء فهو لا تؤيده مراجعة الحوادث. فمن المستبعد عقلا ، أن يعيد يزيد بن معاوية الرأس إلى كربلاء ، حتى لا يزيد النار اشتعالا ، وهو يعلم بأنها مركز الشيعة والمتشيعين للإمام الحسين ، والمؤيدين لمذهبه. هذا بالاضافة إلى ما جاء في أحداث سنة ٢٣٦ ه‍ من أن الخليفة المتوكل أمر (النويريج) بالمسير إلى قبر الحسين وهدمه. فتناول النويريج مسماة وهدم أعلى قبر الحسين وانتهى هو ومن معه إلى الحفر أو موضع اللحد ، فلم يروا أثرا للرأس. ولا يمكن أن يتصور أحد أن الرأس قد بلى في ذلك الوقت المبكر ، إذا عرف أن أرض كربلاء رملية تحتفظ بالعظام مئات السنين.

أما الرأي الذي يقول إن الرأس موجود في رباط مرو بخراسان. فهو منقوض من أساسه ، لأن أبا مسلم الخراساني ، الذي قيل إنه نقل الرأس من دمشق ، لما استولى عليها ، وبنى عليها الرباط بمرو ، لم يكن أبو مسلم موجودا بالشام وقت فتحها أيام العباسيين ، ثم إن العباسيين لو ظفروا بالرأس لأظهروه للناس.

وأقرب الآراء ، أن الرأس وضع أول الأمر في خزائن السلام بدمشق ، ثم دفن في عسقلان على البحر ، وحين استولى الفرنجة على عسقلان تقدم الصالح طلائع ابن

٧١١

رزيك ، وزير الفاطميين بمصر ، فدفع ٣٠ ألف درهم ، واسترد الرأس الشريف ، ونقله إلى مصر ، حيث جاء الرأس في حراسة ثلة من الجند ، واستقبله الخليفة الفاطمي كما يقول الامام الشعراني في طبقات الأولياء : هو وعسكره حفاة عند الصالحية وقد وضع الرأس الشريف في كيس أخضر من الحرير ، على كرسي آبنوس ، وفرش تحته المسك والطيب ، وبنى عليه القبة المعروفة.

والدليل على وجود الرأس الشريف ، ما ذكره عثمان مدوخ في كتابه (العدل الشاهد في التحقيق المشاهد). وقد ألفه في القرن التاسع عشر. وقال فيه : إن المرحوم عباس كتخدا الفزدوغلى لما أراد توسيع المسجد المجاور للمشهد الحسيني ، قيل إن هذا المشهد لم يثبت فيه دفن. فأراد تحقيق ذلك ، فكشف المشهد الشريف بمحضر من الناس ونزل فيه الأستاذ الجوهري الشافعي والأستاذ الشيخ الملوي المالكي .. وكانا من كبار العلماء العاملين ، وشاهدا مما بداخل البرزخ ، ثم ظهرا وأخبرا بما شهداه. وهو كرسي من خشب الساج عليه طست من ذهب ، فوقه ستار من الحرير الأخضر ، تحتها كيس من الحرير الأخضر الرقيق ، داخله الرأس الشريف.

والذي نريد أن نقوله هنا .. إننا لا نرجح وجود الرأس الشريف فقط ؛ بل إننا نؤكد ذلك ، ليس مما أوردناه من الأدلة .. وإنما أيضا من خلال الاهتمام بالمشهد الحسيني قرنا وراء قرن. ذكرنا بعضا منه وأغفلنا الكثير من الاهتمامات المتنوعة.

ودليل آخر محسوس ملموس ، هو كثرة الاخوة الايرانيين ، الذين جاءوا إلى مصر عبر العصور ، واختاروا مقامهم وسكناهم ، بل مقار أعمالهم ، بجوار الرأس الشريف. حتى أن الكثير من الأسماء الايرانية كانت إلى فترة قصيرة ـ وما تزال ـ تنتشر فوق الدكاكين والوكالات وغيرها ، وانتشر حول المشهد بالذات بيع السجاد الشيرازي والتبريزي. ويضاف إلى ذلك تلك المقصورة التي أهدتها جماعة البهرة للمشهد الحسيني. وهذه الجماعة فيها الكثير من العلماء والباحثين الذين درسوا وتأكدوا من وجود الرأس الشريف. وهو السبب في إهدائهم المقصورة عام ١٩٦٥ والتي تكلفت

٧١٢

٣٠٠ ألف جنيه جمعت من جماعة البهرة أنفسهم. بالاضافة إلى تلك المقصورة التي أهديت إلى مشهد السيدة زينب رضي‌الله‌عنها.

والواقع أن لجلال المشهد وبركته ، فإن الدولة في مصر المؤمنة ، قد جعلت من المشهد الحسيني المسجد الرئيسي الذي يختص بصلاة العيدين فيه .. كما تقام فيه أيضا الاحتفالات بالمناسبات الدينية الهامة.

هكذا يثبت وجود الرأس في مصر.

وعلى أية حال ، ففي أي مكان رأس الحسين أو جسده ـ كما يقول سبط الجوزي ـ فهو ساكن في القلوب والضمائر ، قاطن في الأسرار والخواطر.

والمهم كما يرى العقاد : أيّا كان ذلك الموضع الذي دفن فيه الرأس الشريف ، فهو في كل موضع أهل للتعظيم والتشريف. وإنما أصبح الحسين بكرامة الشهادة ، وكرامة البطولة ، وكرامة الاسرة النبوية .. معنى يحضره المسلم في صدره ، وهو قريب أو بعيد من قبره. لكن ما ذا بقي من القديم الآن ، وقد ثبت أن الرأس الشريف موجود في مشهد الامام الحسين بمصر؟!

يقول المقريزي : نقل رأس الحسين من عسقلان إلى القاهرة يوم الأحد ٨ من جمادى الآخرة سنة ٥٤٨ ه‍ (٣١ أغسطس ١١٥٣ م) وصل الرأس إلى القاهرة يوم الثلاثاء العاشر من نفس الشهر. ثم أنزل بالرأس إلى الكافوري ـ حديقة القصر الفاطمي ـ ثم حمل في سرداب إلى قصر الزمرد ودفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة.

ويضيف ابن عبد الظاهر أن طلائع بن رزيك بنى الجامع خارج باب زويلة ليدفن الرأس به ويفوز بهذا الفخار ، فغلبه أهل القصر الفاطمي ، وعمدوا إلى هذا المكان الموجود به الآن ، وهو قصر الخلافة الفاطميّة في ذلك الوقت ، وبنوه له. وكان ذلك في خلافة الفائز الفاطمي سنة ٥٤٩ ه‍ (١١٥٤ م). وحمل الرأس الشريف في سرداب طويل حفر تحت الأرض من باب زويلة القبة الشريفة.

ويقول ابن جبير الذي زار مصر في عصر الأيوبيين وبعد الحريق الذي شب في

٧١٣

المشهد عام ٦٤٠ ه‍ في عده الصالح نجم الدين أيوب ، أنه انشئت منارة على باب المشهد عام ٦٣٤ ه‍ (١٢٣٧ م). أنشأها أبو القاسم بن يحيى السكري ، ولم يتمها فأتمها ابنه وهي مليئة بالزخارف الجصية والنقوش ، تعلو الباب الأخضر ، وقد قام بترميمها وتوسيعها بعد ذلك القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. ثم في عصر الناصر محمد بن قلاوون أمر بتوسيع المسجد عام ٦٨٤ ه‍ وفي العصر العثماني أمر السلطان سليم بتوسيع المسجد لما رآه من الإقبال العظيم من الزائر والمصلين. ثم بعد ذلك أحضرت للمسجد عمد الرخام من القسطنطينية ، وبنيت ثلاثة أبواب من الرخام جهة خان الخليلي ومثلها الباب الأخضر الذي بجوار القبة بالجهة الشرقية.

ولما قدم مصر السلطان عبد العزيز العثماني عام ١٢٧٩ ه‍ وزار المقام الحسيني ، أمر الخديو إسماعيل بعمارته وتشييده على أتم شكل وأحسن نظام ، واستغرقت العلمية التي أشرف عليها علي باشا مبارك ووصفها في خططه ، عشر سنوات.

هذه ملامح مما حدث لسبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحضور رأسه الشريف إلى مصر ، وتشريف مصر به. مما يجعل المشهد الحسيني قبلة لمحبي آل البيت ، والمؤمنين الصابرين المجاهدين.

أقيم المشهد الحسيني ، لكن الدولة الفاطمية تلاشت.

ومما يثبت وجود الرأس الشريف ، أن الأيوبيين الذين أنهوا الحكم الفاطمي الشيعي بمصر ، اهتموا بالمشهد. فصلاح الدين جعل به حلقة تدريس وفقهاء ، وفوض ذلك للفقيه البهاء الدمشقي السني المذهب. وكان يجلس عند المحراب الذي يقع الضريح خلفه. وفي مكان هذه المدرسة بنى المسجد الحسيني. وزيادة في الاهتمام ـ كما يقول الأثري حسن عبد الوهاب ـ فإن صلاح الدين الأيوبي أهدى للمشهد مقصورة ، تشبه المقصورة التي أهداها للإمام الشافعي عام ٥٧٤ ه‍ وقبل صلاح الدين كان الملك الصالح نجم الدين أيوب ، الذي بنى إيوانا للتدريس ، وبيوتا خاصة للفقهاء. وقد وصفها ابن جبير في رحلته. وهذا الرحالة زار مصر عام ٥٧٨

٧١٤

هجرية. وفي عصر الكامل الأيوبي بنيت المنارة على باب المشهد عام ٦٣٤ ، تعلو الباب الأخضر تهدم معظمها ولم يبق منها حتى الآن إلّا القاعدة المربعة وعليها لوحتان تثبتان ذلك. وفي عصر الصالح نجم الدين أيوب (٦٣٧ ـ ٦٤٧ هجرية) ، احترق بناء المشهد في عام ٦٤٠ هجرية. وقد رممه الصالح ووسعه ، وألحق به ساقية وميضأة ، ووقف عليه أراضي ؛ وظلت العناية بالمشهد الحسيني أيام المماليك. فالظاهر بيبرس حين بيعت قطعة أرض بجانب المشهد من حقوق القصر الفاطمي ، رد ثمنها وهو ٦ آلاف درهم وو قها على الجامع. ثم إن الناصر محمد بن قلاوون وسع المسجد عام ٦٨٤ هجرية. وفي العصر العثماني ، تم توسيع المسجد نظرا للإقبال الشديد عليه من جماهير مصر الممنة ، وضعت له مقصورة من آبنوس مطعم بالصدف عليه ستر من الحرير المزركش ، ونقلت إلى المشهد الحسين في احتفال كبير وصفه الجبرتي بأنها حملت وأمامها طائفة الرفاعية والصوفية بطبولهم وأعلامهم ، وبأيديهم المباخر الفضية وبخور العود والعنبر ، وبأيديهم قماقم ماء الورد يرشونه على الناس. أما عبد الرحمن كتخدا ، فقد أعاد بناء المسجد عام ١١٧٥ هجرية وعمل له صهريجا وحنفية ، وخصص رواتب لخدمه وسدنته ، ثم إنه في عهد الخديو إسماعيل كما يقول علي باشا مبارك ـ أعاد عمارته وتشييده واستغرق ذلك عشر سنوات وفرش بالفرش النفيسة ، ونوّر بالشموع والزيوت الطيبة والأنفاس الغازية في قناديل البلور ورتبوا له فوق الكفاية من الأئمة والمؤذنين والمبلغين والبوابين والفراشين والكناسين والوقادين والسقايين ونحو ذلك ، وأوقفوا عليه أوقافا جمة بلغ إيرادها نحو ألف جنيه في السنة.

وكما يقول علي المبارك أيضا : إنه فتح بجوار الجامع عام ١٢٩٥ ه‍ (١٨٧٨ م) شارع السكة الجديدة. وعلي مبارك نفسه كمهندس قام بتصميم البناء الحالي. وقد صرف على هذه العمارة ٧٩ ألف جنيه من ميزانية الأوقاف ، هذا عدا ما تبرع به الأمراء وعلية القوم.

٧١٥

ويذكر أنه أحضرت للمسجد الأعمدة الرخامية من القسطنطينية. وقد احتوى صحن الجامع على ٤٤ عمودا. كما بني له المئذنة الكبيرة الحالية على الطراز العثماني ، وهي تشبه القلم الرصاص. وعلى هذه المئذنة لوحتان بخط السلطان عبد المجيد خان. على أننا لا يمكن أن نتحدث عن المشهد الحسيني ، دون أن نتحدث عن غرفة تجاور الرأس الشريف. وهذه الغرفة أنشأها عباس حلمي الثاني لمجموعة من الآثار النبوية الشريفة ، كانت قد نقلت إلى المشهد الحسيني عام ١٣٠٥ هجرية وحفظت في دولاب في الجدار الجنوبي الغربي للمزار الشريف.

وهذه الغرفة الآن مفروشة بالسجاد الثمين ، وفيها مصابيح وثريات بلورية نادرة ، وجدرانها مكسوة بالرخام المجزع ، وبها محراب صغير ، كما أنها تحتوي على دولاب عبارة عن دولاب حائط ، وهو فجوة في الجدار قوي ظهرها بقضبان من حديد ، وكسيت بالجوخ الأخضر. ولهذه الفجوة باب من خشب الجوز المطعم بالعاج والصدف والأبنوس ، وكتب بأعلى الباب بأحرف من عاج (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

هذه الغرفة لها بابان ، أحدهما يفتح على المسجد ، والآخر يفتح على مشهد الامام الحسين. وفي داخل الدولاب الآثار النبوية الشريفة ، وتشمل قطعة من قميص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكحلة ومرودا ، وقطعة من قضيب ، وشعرات من شعره الشريف ، ثم مصحفين كريمين بالخط الكوفي على رق غزال ، أحدهما منسوب لسيدنا عثمان ، والثاني لسيدنا علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهما. وهذه الآثار النبوية الشريفة ـ كما تقول المصادر ـ تداولها آل البيت وتسارع عليها الخلفاء والأمراء.

وقد ذكرت المصادر أيضا ، أن ما تركه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته : ثوبا حبرة ، وإزار عثماني ، وثوبان صحاريان ، وقميص صحاري ، وقميص سحولي ، وسراويل ، وجبة يمانية وخميصة أو كساء أبيض ، وقلانس .. ومجموعات من شعره

٧١٦

الشريف.

أما هذه الآثار الموجودة بالمشهد الحسيني فهي بعض ما خلفه الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد قامت د. سعاد ماهر بدراسة هذه الآثار ويقال إن هذه الآثار في مصر كانت عند بني إبراهيم في مدينة ينبع بالحجاز ، وهؤلاء توارثوها وفي القرن السابع الهجري (١٣ ميلادي) في عصر الظاهر بيبرس ، اشترى هذه الآثار الشريفة من بني إبراهيم الوزير المصري الصاحب تاج الدين. لكن اختلف على المبلغ الذي دفع ، فمصادر تقول إنه دفع فيها ٦٠ ألف درهم فضة ، وقيل مبلغ ٢٥٠ ألف درهم ، وقيل كذلك مائة ألف درهم. وهذه الآثار نقلت إلى مصر وحفظت بمكان على النيل سمى رباط الآثار أو الرباط الصاحبي التاجي. وعرف مؤخرا باسم أثر النبي في حي مصر القديمة. وهذا الرباط لأهميته ، كان له شيخ يشغل وظيفة شيخ الآثار النبوية. وكان هذا الشيخ من القضاة الموثوق بهم. ومنهم من ذكره ابن إياس في حوادث عام ٨٨٩ هجرية وهو الشيخ ولي الدين أحمد. وفي الضوء اللامح للسخاوي ذكر في عام ٨٧٠ هجرية كان شيخ رباط الآثار هو ولي الدين أبو زرعة أحمد بن محمد ، الذي نقل قاضيا لدمياط.

والواقع أنه كما اختلف المؤرخون ـ على عادتهم ـ على ثمن شراء هذه المخلفات النبوية من بني إبراهيم ، فقد اختلفوا أيضا في نوعها وعددها. ولكنهم يذكرون الكثير عن رباط الآثار ، وكيف بني ومن بناه ، ومهاجمة مياه الفيضان له .. واهتمام الخلفاء والسلاطين به ، ومنهم الأشراف شعبان في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري ، ومنهم أيضا السلطان برقوق عام ٧٨٤ هجرية.

والمهم أن هذه المخلفات النبوية الشريفة ظلت في رباط الآثار إلى أن نقلت منه إلى قبة السلطان الغوري عام ٩٢٦ هجرية أو قبل هذا التاريخ ، خشية السرقة بعد أن تصدع مبنى رباط الآثار.

ولقد بقيت هذه الآثار بقية الغوري حوالي ثلاثة قرون ، إلى أن نقلت في عام

٧١٧

١٢٧٥ هجرية إلى المشهد الزينبي ، ثم نقلت منه إلى خزانة القلعة ، واستمرت بها حتى عام ١٣٠٤ هجرية ، وبعدها نقلت إلى ديوان عموم الأوقاف ، ثم في عام ١٣٠٥ هجرية نقلت إلى سراي عابدين ، ومن سراي عابدين إلى المشهد الحسيني في دولاب خاص إلى أن انشئت لها الغرفة الحالية عام ١٣١١ هجرية.

وعملية النقل من قصر عابدين إلى المشهد الحسيني جرت في احتفال كبير ، تقدمه رجال الطرق الصوفية .. وتقدمه الشيوخ المهدي والبكري والسادات ، وقناصل الدول وغيرهم ، وسار الموكب الكبير من قصر عابدين ، بشارع عبد العزيز ، فالعتبة الخضراء ، إلى شارع محمد علي ، فميدان باب الخلق ، فطريق تحت الربع ، فالسكرية ، فالعقادين بالغورية ، فالسكة الجديدة إلى أن وصلت إلى المشهد الحسيني.

ولكن يأتي سؤال هنا : هل هذه المخلفات النبوية الشريفة الموجودة بالمشهد الحسيني ، هي المخلفات الموجودة فقط والتي تم توارثها منذ عصر النبوة؟

إن في المشهد الحسيني ـ كما أحصت د. سعاد ماهر ـ ثلاث قطع من النسيج ، وقطعة من القضيب ـ أي العصا ـ والمكحلة ، والمسبل ، أو المرود ـ وبعض شعر اللحية والرأس الشريف. وبالطبع فهناك الكثير في عالم الإسلام في اسطنبول ، وباكستان ، وتونس ، بل هناك في المسجد الأحمدي في طنطا غرفة خاصة وخزانة خاصة بها شعرات من شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الواقع أنه منذ أن مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل وقبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت مثل هذه المخلفات الشريفة ـ مطلبا للمسلمين ، يحفظونها بين أحداق العيون. بمعنى أنه لم يكن بنو إبراهيم في ينبع وحدهم الذين توارثوا مخلفات الرسول ، فالكثير كان لديهم الكثير من المخلفات الشريفة ، بل إنه في مصر أيضا كانت هناك كثير من المخلفات الشريفة ـ خاصة الشعرات ـ في الخانقاوات والمساجد. والمقتنيات الخاصة.

٧١٨

وهذا يعني أن في المشهد الحسيني قليلا من كثير من الآثار النبوية الشريفة ، بل إنه ـ وهذا ما يثبت وجهة نظري ـ في المشهد الحسيني ، كما أحصيت ١٥ شعرة من شعرات الرسول الشريفة ، فبعضها اشترى من بني إبراهيم ، وبعضها اهدي للمشهد الحسيني. وهذا يؤكد ما قيل من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهدي شعره بين الناس. أما بالنسبة للمصحف المنسوب لعثمان بن عفان ، والمصحف الآخر المنسوب لعلي بن أبي طالب فإنهما كما تؤكد د. سعاد ماهر ـ ليسا هما المصحفين الأصليين ، وأنهما منسوخان في عصر بعد عصر الخليفتين الراشدين رضي‌الله‌عنهما وأرضاهما.

ومنهم الفاضل المعاصر الأستاذ عباس محمود العقاد في «المجموعة الكاملة ـ العبقريات الإسلامية» (ج ٢ ص ٢٦٠ ط دار الكتاب اللبناني بيروت) قال :

اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحسين عليه‌السلام ، وتعددت أيما تعدد في موطن الرأس الشريف .. فمنها أن الرأس قد أعيد بعد فترة إلى كربلاء فدفن مع الجسد فيها .. ومنها أنه أرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص والى يزيد على المدينة ، فدفنه بالبقيع عند قبر امه فاطمة الزهراء .. ومنها إنه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته ، فدفن بدمشق عند باب الفراديس ..

ومنها انه كان قد طيف به في البلاد حتى وصل إلى عسقلان ، فدفنه أميرها هناك وبقي بها حتى استولى عليها الافرنج في الحروب الصليبية .. فبذل لهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر ثلاثين ألف درهم على أن ينقله إلى القاهرة حيث دفن بمشهده المشهور. قال الشعراني في طبقات الأولياء : ان الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية ، فتلقى الرأس الشريف ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب ، ودفن في المشهد الحسيني قريبا من خان الخليلي في القبر المعروف.

وقال السائح الهروي في الإشارات إلى أماكن الزيارات : وبها ـ أي عسقلان ـ مشهد

٧١٩

الحسين رضي‌الله‌عنه : كان رأسه بها ، فلما أخذتها الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمائة وفي رحلة ابن بطوطة إنه سافر إلى عسقلان وبه المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليه‌السلام ، قبل أن ينقل إلى القاهرة.

وذكر سبط ابن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة أن الرأس بمسجد الرقة على الفرات ، وإنه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال : لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرقة ، فدفنوه في بعض دورهم ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع وهو إلى جانب سوره هناك.

فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستة في ست مدن هي : المدينة ، وكربلاء ، والرقة ، ودمشق ، وعسقلان ، والقاهرة ، وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشام وبيت المقدس والديار المصرية. وتكاد تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كله من وراء تلك الأقطار ، فان لم تكن هي الأماكن التي دفن فيها رأس الحسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء ..

وللتاريخ اختلافات كثيرة ، نسميها بالاختلافات اللفظية أو العرضية ، لأن نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال ، ومنها الاختلاف على مدفن رأس الحسين عليه‌السلام. فأيا كان الموضع الذي دفن به ذلك الرأس الشريف ، فهو في كل موضع أهل للتعظيم والتشريف. وإنما أصبح الحسين ـ بكرامة الشهادة وكرامة البطولة وكرامة الاسرة النبوية ـ معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره. وإن هذا المعنى لفي القاهرة ، وفي عسقلان ، وفي دمشق ، وفي الرقة ، وفي كربلاء ، وفي المدينة ، وفي غير تلك الأماكن سواء.

وقاحة ابن زياد

ويقل الاختلاف أو يسهل التجاوز عنه كذلك فيما حدث بين فاجعة كربلاء ولقاء يزيد .. فالمتواتر لسير الأمور أنهم حملوا الرءوس والنساء إلى الكوفة ، فأمر ابن زياد

٧٢٠