إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٢

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

ومنهم الفاضل المعاصر عبد العزيز الشناوي في كتابه «سيدات نساء أهل الجنة» (ص ١١٧ ط مكتبة التراث الإسلامي ـ القاهرة)

فذكر مثل ما تقدم عن السيوطي.

مستدرك

صدقات علي عليه‌السلام

قد تقدم نقل ما يدل على ذلك عن أعلام العامة في ج ٨ ص ٥٨٣ و ١٨ ص ١٣٧ ومواضع أخرى من الكتاب المستطاب ، ونستدرك هاهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :

فمنهم العلامتان الشريف عباس أحمد صقر وأحمد عبد الجواد في القسم الثاني من «جامع الأحاديث» (ج ٤ ص ٧٠٥ ط دمشق) قالا :

عن أبي جعفر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في جيش فأدركته القائلة وهو ما يلي الينبع ، فاشتد عليه حر النهار فانتهوا إلى سمرة فعلّقوا أسلحتهم عليها وفتح الله عليهم ، فقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضع السمرة لعلي رضي‌الله‌عنه في نصيبه ، قال : فاشترى إليها بعد ذلك فأمر مملوكيه أن يفجّروا لها عينا ، فخرج لها مثل عين الجزور ، فجاء البشير يسعى إلى علي يخبره بالذي كان ، فجعلها علي صدقة فكتبها : صدقة لله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، ليصرف الله بها وجهي عن النار ، صدقة بتّة بتلة في سبيل الله تعالى ، للقريب والبعيد ، في السلم والحرب واليتامى والمساكين وفي الرقاب.

ومنهم الفاضل المعاصر المحامي الدكتور صبحي محمصاني في «تراث الخلفاء

٣٠١

الراشدين في الفقه والقضاء» (ص ٥١٧ ط دار العلم للملايين) قال :

ومن أوقاف الإمام علي صدقته بأرضه في ينبع. فكتب فيها كتابا ، قال فيه : هذا ما أمر به علي بن أبي طالب ، وقضى في ماله ، إني تصدقت بينبع ووادي القرى الأذينة وراعة ، في سبيل الله وذي الرحم القريب والبعيد ، ولا يوهب ولا يورث ، حيا أنا أو ميتا.

ومنهم عدة من الفضلاء المعاصرين في «فهرس أحاديث وآثار المصنف» للشيخ عبد الرزاق الصنعاني» (ج ١ ص ٢٥١ ط عالم الكتب ـ بيروت) قالوا :

إن عليا تصدق ببعض أرضه عمرو بن دينار

إن عليا تصدق ببعض أرضه عمرو بن دينار المدبّر ١٦٧٨٥ ٩ / ١٦٩

ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه «التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام» (ص ٦٧ ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة ١٤٠٦) قال :

ورد في مسند أحمد بن حنبل أن الإمام عليا قال : رأيتني ، وأنا رابط الحجر على بطني من الجوع وأن صدقتي لتبلغ في اليوم أربعة آلاف دينار ، وفي رواية أربعين ألف دينار ، وهو يعني أراضي أوقفها ، وجعلها صدقة جارية ، وكان الحاصل من غلتها يبلغ هذا القدر.

ومنهم الفاضل المعاصر محمود شلبي في كتابه «حياة الإمام علي عليه‌السلام» (ص ١٢١ ط دار الجيل في بيروت) قال :

عن محمد بن كعب القرظي أن عليا قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع ، وإن صدقتي اليوم لأربعون ألفا.

٣٠٢

ومنهم العلامة أبو الحسن بن محمد الخزرجي المتوفى سنة ٧٨٩ في «تخريج الدلالات السمعية» (ص ٥٧٤) قال :

في «الكامل» للمبرد : قال أبو نيزر : جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال : هل عندك من طعام؟ فقلت : طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين ، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ، فقال : علي به ، فقام إلى الربيع فغسل يده ، ثم أصاب من ذلك شيئا ، ثم رجع إلى الربيع ، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما ، ثم ضم يديه كل واحدة منهما إلى أختها ، وشرب حسا من الربيع ، ثم قال : يا أبا نيزر إن الأكف أنظف الآنية ، ثم مسح كفّيه على بطنه وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله ، ثم أخذ المعول وانحدر في العين ، وجعل يضرب ، وأبطأ عليه الماء ، فخرج وقد تنضّح جبينه عرقا ، فانتكث العرق عن جبينه ، ثم أخذ المعول ، وعاد إلى العين ، فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم ، فانثالت كأنها عنق جزور ، فخرج مسرعا فقال : أشهد الله أنها صدقة ، علي بدواة وصحيفة ، فعجلت بهما إليه فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين ، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر ، والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة ، ولا تباعا ولا تورثا حتى يرثها الله وهو خير الوارثين ، إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين ، فهما طلق لهما ، ليس لأحد غيرهما فركب الحسين دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار ، فأبى أن يبيع ، وقال : إنما تصدق بهما أبي ليقي الله وجهه حر النار (١).

__________________

(١) قال علامة المسالك والممالك والسير الشيخ شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي المتوفى سنة ٦٢٦ في كتابه «معجم البلدان» (ج ٤ ص ١٧٥) :

عين أبي نيزر كنية رجل يأتي ذكره ـ إلى أن قال :

٣٠٣

__________________

وروى يونس ، عن محمد بن إسحاق بن يسار أنّ أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، كان ابنا للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون لصلبه وأن عليا وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه واعتقه مكافاة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه ، وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي وأنهم أرسلوا وفدا منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملكوه عليهم ويتوجوه ولا يختلفوا عليه ، فأبى وقال : ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله علىّ بالإسلام ، قال : وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجها ، قال : ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربي ، قال المبرّد : رووا أن عليا رضي‌الله‌عنه لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة ، فهذا غلط لأن وقفه هذين الموضعين كان لسنتين من خلافته.

حدثنا أبو محلم محمد بن هشام في إسناده قال : كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم ، قال : وصحّ عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيرا فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معه في بيوته ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار مع فاطمة وولدها رضي‌الله‌عنهم. قال أبو نيزر : جاءني علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وأنا أقوم بالضيعتين عين أبي نيزر والبغبيغة فقال : هل عندك من طعام؟ فقلت : طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين ، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ، فقال : علي به ، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يديه ثم أصاب من ذلك شيئا ثم رجع إلى الربيع فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما ، ثم ضمّ يديه كلّ واحدة منهما إلى أختها وشرب منهما حسي من الربيع ثم قال : يا أبا نيزر إن الأكف أنظف الآنية ، ثم مسح ندي ذلك الماء على بطنه وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله ، ثم أخذ المعول وانحدر فجعل يضرب وابطأ عليه الماء فخرج وقد تنضّح جبينه عرقا فانتكفّ العرق من جبينه ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم فانثالت كأنّها عنق جزور فخرج مسرعا وقال : أشهد الله أنها صدقة ، علي بدواة وصحيفة ، قال : فعجلت بهما إليه فكتب :

٣٠٤

مستدرك

شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام

تقدم نقل ما يدل على شجاعته عليه‌السلام عن أعلام العامة في ج ٤ ص ٢٥٤ و ٢٦٥ و ٤٥٤ وج ٥ ص ٣٦٨ وج ٨ ص ٣١٨ و ٣٤٨ و ٤٧٣ و ٥٢٣ وج ١٨ ص ٢٩ وص ٧١ ومواضع أخرى ، ونستدرك هاهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :

فمنهم العلامة شهاب الدين أحمد الحسيني الشيرازي الشافعي في «توضيح الدلائل» (ص ١٢٦ ـ ١٢٧ مصورة المكتبة الملي بفارس) قال :

ومنها أسد الله ، أورده الإمام الشيخ العالم العارف الملقب لوفور علمه ومعرفته بالغزالي الثاني ، مرشد الخلائق الفقيه إمام الدين محمد المهجوري الإيجي في كتابه «المؤلف في أسماء النبي وخلفائه» قال : كان له جرأة الأسد وشجاعته يقال أسد واستأسد إذا اجترأ ، وشجاعة علي عليه‌السلام وقوته ورجوليته معروفة وقيل : إنه لم ينهزم قط من قرنه وما بارز أحدا إلّا غلبه. وفي وصف ضربته عليه‌السلام : إنه كان إذا اعتلى قدّ ، وإذا اعترض قط ، قدّ أي قطعه طولا وقطّ أي قطعه عرضا.

__________________

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين ، تصدق بالضيعتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي بهما وجهه حرّ النار يوم القيامة لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين إلّا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين فهما طلق لهما وليس لأحد غيرهما.

قال أبو محلم محمد بن هشام : فركب الحسين دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار فأبى أن يبيع وقال : إنّما تصدق بهما أبي ليقي الله وجهه حرّ النار ولست بائعهما بشيء. وقد ذكرت هذه القصّة في البغيبغة وهو كاف ولا يكتب هاهنا.

٣٠٥

وفي بعض التفاسير وجدت أنه رضي الله تعالى عنه قتل مائة ألف كافر.

وما أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الراية إلا فتح الله تعالى على يديه.

وكان إذا قاتل يقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره.

ومنهم الملك المجاهد علي بن داود بن يوسف الرسولي الغساني في «الأقوال الكافية والفصول الشافية ـ في الخليل» (ص ١٩٧ ط دار الغرب الإسلامي ـ بيروت) قال :

وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يقاتل فارسا وراجلا ، وحكي عن بعضهم قال : قلت لأمير المؤمنين : من أشجع الناس؟ قال : ابن صفية ، يعني الزبير ، قال : فأتيت الزبير فقلت له : من أشجع الناس؟ قال : الطهر ابن فاطمة ، يعني عليا ، إلا أنه لا يقاتل إلا راجلا ، فأتيت عليا فقلت له بما قال الزبير ، فقال :

لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا

وأخو الحرب من أطاق النزولا

قال : فرجعت إلى الزبير فأعلمته بما قال أمير المؤمنين ، فقال : صدق هو والله أشجع مني فارسا وراجلا (١).

__________________

(١) وقال العلامة المعاصر الشيخ محمد العربي التباني الجزائري المكي في «تحذير العبقري من محاضرات الخضري» (ج ٢ ص ١٠١ ط بيروت سنة ١٤٠٤) قال :

وشجاعة علي متواترة تواترا معنويا ، قال أسيد بن أبي أياس الكناني رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم بعد بدر الكبرى يعير قريشا بما فعل علي فيهم :

في كل مجمع غاية أخزاكم

صدع يفوق على المذاكي القرح

لله دركم ألما تذكروا

قد يذكر الحر الكريم ويستحى

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم

ذبحا وقتلا بعضه لم يرتح

أين الكهول وأين كل دعامة

في المعضلات وأين زين الأبطح

وكانت درعه رضي الله تعالى عنه صدرا لا ظهر لها ، فقيل له : يا أبا الحسن لم لا تجعل لها ظهرا؟ فقال : إذا مكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله علي.

٣٠٦

__________________

١ ـ بياته في مكان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم ليلة هجرته لما اتفقت قريش على قتله وهو يعلم ما يريدون.

٢ ـ كانت قتلى قريش ببدر سبعين رجلا فكان لعلي وعمه حمزة ثلثها.

٣ ـ خرج أبو سعد بن أبي طلحة العبدري يوم أحد وبيده لواء المشركين مبارزا وقال : أنا قاصم أي داهية ، فخرج إليه علي وهو يقول : أنا أبو القصم فقتله. قال ابن هشام : نادى مناد يوم أحد لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، وذو الفقار سيف النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم ناوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها لما رجعوا من أحد وقال اغسلي عنه الدم يا بنية فو الله لقد صدقني اليوم ، فناولها علي سيفه أيضا وقال اغسلي عنه دمه فو الله لقد صدقني اليوم ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة وقال حين غسلت فاطمة سيفه من الدم :

أفاطم هاءى السيف غير ذميم

فلست برعديد ولا بلئيم

٤ ـ قتله في غزوة الخندق فارس قريش عمرو بن عبد ود العامري مبارزة مشهور ، وقد طمسه المحاضر وتلون وتخبط في التعبير عنه وقد تقدم تقويمه وشرحه فيها.

٥ ـ قتله فارس خيبر مرحبا اليهودي مبارزة وقتل الزبير رضي الله تعالى عنه أخاه ياسرا مبارزة أيضا.

٦ ـ فتحه حصنها وتترسه بباب من أبوابه لم يستطع ثمانية من الصحابة قلبه مشهور. قال سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه : بعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق برايته إلى بعض حصون خيبر فقاتل فرجع ولم يك فتح وقد جهد ، ثم بعث الغد عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يك فتح وقد جهد ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار. قال : فدعا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم عليا وهو أرمد فتفل في عينه ثم قال : خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك. قال سلمة : فخرج والله بها يهرول هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركزها في رضم من حجارة تحت الحصن ،

٣٠٧

__________________

فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ، قال : فقال اليهودي : علوتم وما أنزل على موسى ، فما رجع حتى فتح الله على يديه. قال أبو رافع مولى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم : خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم برايته فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أناثا منهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه اه ـ.

وقد حذف المحاضر غزوة خيبر برمتها من محاضراته لأجله وتقدم التنبيه على ذلك في محله.

٧ ـ ثباته يوم حنين مع من ثبت معه صلّى الله تعالى عليه وسلّم مقاتلا بين يديه.

٨ ـ قال ابن كثير في بدايته : قد ذكر علماء التاريخ وغيرهم أن عليا رضي الله تعالى عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة ، فمن ذلك أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق مبارزة ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى : هل من مبارز ، فبرز إليه علي فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ، ثم قال : هل من مبارز فبرز إليه الحارث ابن وداعة الحميري فقتله ثم برز إليه رواد بن الحارث الكلاعي فقتله ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله ، ثم تلا قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).

٩ ـ لما انهزمت ميمنته رضي الله تعالى عنه بصفين قال زيد بن وهب الجهني : مر علي معه بنوه نحو الميسرة وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه فيتقدم فيحول بين أهل الشام وبينه ، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه ، فبصر به أحمر مولى بني أمية فقال : ورب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني ، فأقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى علي فاختلفا ضربتين فقتله أحمر ، فأخذ علي بجيب درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ثم دنا منه أهل الشام فما زاده قربهم منه سرعة ، فقال له ابنه

٣٠٨

__________________

الحسن : ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء القوم الذين صبروا من أصحابك ، فقال : يا بني إن لأبيك يوما لا يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي ، إن أباك والله لا يبالى أوقع على الموت أم وقع الموت عليه.

وقال الفاضل المعاصر طه عبد الله العفيفي في «من وصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (ص ٤٢٦ ط دار التراث العربي بالقاهرة):

ومن شجاعته ما حدث وهو في العاشرة من عمره حين أحاط المشركون بالنبي قبل انتشار الدعوة الإسلامية وهم ينذرون النبي ويتوعدونه ، ويقولون له : إنك وحيد ليس لك فينا نصير.

وعند ما سمع ذلك علي ، صاح قائلا وهو ينظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا نصيرك ، فضحك القوم من هذا الصبي الصغير ولكنه شد قبضته كأنه فارس مغوار ، وهو يهم بالهجوم على القوم دفاعا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي ليلة الهجرة افتدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه عند ما أمره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلتحف ببرده الأخضر وينام في فراشه فقبل ذلك وهو يعلم أن قريشا تأتمر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتله.

وقد حدث فعلا بعد أن خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من داره في الطريق إلى دار أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه الذي صاحبه بعد ذلك إلى الغار أن هاجمه القوم في أول الصباح ، ولما لم يجدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدار وأن عليا هو الذي كان ينام مكانه ، أوسعوه ضربا وحبسوه في المسجد وأقاموا عليه الحراس والأرصاد.

وقد عبر شاعر مصري عن هذا بقوله :

ولن ينسى النبي له صنيعا

عشية ودع البيت الحراما

عشية سامه في الله نفسا

لغير الله تكبر أن تساما

فأرخصها فدى لأخيه لما

تسجى في حظيرته وناما

وأقبلت الصوارم والمنايا

لحرب الله تنتحم انتحاما

فلم يأبه لها أنفا علي

ولم تقلق بجفنيه مناما

٣٠٩

__________________

وأغشى الله أعينهم فراحت

ولم تر ذلك البدر التماما

وقد عرف عنه رضي‌الله‌عنه أنه ما صارع أحدا إلا صرعه ، وأنه كان جريئا على الموت. فقد ورد أنه بارز عمرو بن عبد ود ـ فارس الجزيرة العربية ـ وهو لا زال حدثا في سنه ، وكان هذا أيام وقعة الخندق عند ما برز ابن ود مزهوا بقوته ينادي في المسلمين : من يبارز؟ فهتف علي : أنا له يا رسول الله ، فيتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يقول له : اجلس إنه عمرو ، ولكن الرجل المزهو عاد يصيح : من يبارز؟ وراح يهزأ بالمسلمين قائلا : أين جنتكم التي زعمتم أنكم داخلوها ، أجبنتم أفلا يبرز لي منكم رجل؟! فكان علي ينهض المرة بعد الأخرى وهو يكرر في حماس : أنا له يا رسول الله ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفق عليه ويقول له : اجلس إنه عمرو ، ولكنه ظل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أذن له ، فلما تقدم نحو عمرو سخر منه وهو يكتسحه بنظرات الاستصغار قائلا له : من أنت؟ فيجيبه بعزة ورجولة : أنا علي. فيقول له عمرو : أنت ابن عبد مناف؟ فيقول علي بن أبي طالب ، فأقبل عمرو عليه مشفقا وقائلا : يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك وإني أكره أن أهريق دمك.

فقال له علي : ولكني والله لا أكره أن أهريق دمك ، ولكني أذكرك يا عمرو بما ينفعك ويعصم دمك ، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه أحسنهما. قال عمرو : أجل.

فقال علي : فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال.

فقال عمرو مستصغرا لشأن علي : ولم يا اين أخي فو الله ما أحب أن أقتلك. ثم غضب وأهوى بسيفه عليه يريد أن يذهب به بضربة واحدة.

ولكن عليا راوغه وما زال به حتى خر الرجل صريعا تحت قدميه ، فكبر المسلمون تكبيرة تفيض بنشوة النصر ، ثم استقبلوا عليا مهللين مكبرين.

وعند ما علمت ابنة عمرو بقتله سألت عن قاتله ، فلما علمت أنه علي وجدت عزاءها في أن الذي قتله فتى لا يشق لشجاعته غبار.

وذهبت ترثيه شعرا فتقول :

٣١٠

__________________

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

بكيته أبدا ما دمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له

وكان يدعى أبوه بيضة البلد

وقد خاض علي المعارك كلها إلى جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان على شجاعته لا يبدأ أحدا بقتال ، وكان يأمر جنده أن لا يجهزوا على جريح ولا يقتلوا رجلا استسلم أو هرب موليا ، وفي وقعة الجمل كان يصلي على الموتى من أعدائه.

وقال الفاضل المعاصر الأستاذ عباس محمود العقاد في «المجموعة الكاملة ـ العبقريات الإسلامية» (ج ٢ ص ١٨ ط دار الكتاب اللبناني ـ بيروت) :

فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب ، ويزيدها تشريفا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي وهي التورع عن البغي ، والمروءة مع الخصم قويا أو ضعيفا على السواء ، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال.

فمن تورعه عن البغي ، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة ، إنه لم يبدأ أحدا قط بقتال وله مندوحة عنه ، وكان يقول لابنه الحسن : لا تدعون إلى مبارزة ، فإن دعيت إليها فأجب ، فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع.

وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه ، وقيل له : إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك ، فقال : لا أقاتلهم حتى يقاتلوني ، وسيفعلون.

وكذلك فعل قبل وقعة الجمل ، وقبل وقعة صفين ، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض : يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر ، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.

كان يعظ قوما فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه ، فصاح معجبا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه : قاتله الله كافرا ما أفقهه ، فوثب أتباعه ليقتلوه فنهاهم عنه ، وهو يقول : إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب.

وقد رأينا أنه كان يقول لعمرو بن عبد ود : إني لا أكره أن أهريق دمك ، ولكنه على

٣١١

__________________

هذا لم يرغب في إهراق دمه إلا بعد يأس من إسلامه ومن تركه حرب المسلمين ، فعرض عليه أن يكف عن القتال فأنف ، وقال : إذن تتحدث العرب بفراري ، وناشده : يا عمرو ، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال : أجل. قال : فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال. قال : ولم يا ابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتلك ، فلم يكن له بدّ بعد ذلك من إحدى اثنتين : أن يقتله أو يقتل على يديه.

وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة : فاتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري فصاح بين الصفين : من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله ووقف عليه ونادى : من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول ، ثم نادى : من يبارز؟ فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبه ، ثم نادى رابعة : من يبارز؟ فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول إلى الصف الذي يليه ، وخاف علي أن يشيع الرعب بين صفوفه فخرج إلى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه ثم نادى نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه ، ثم قال مسمعا الصفوف : يا أيها الناس! إن الله عزوجل يقول : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ، ولو لم تبدءونا ما بدأناكم ، ثم رجع إلى مكانه.

وقد كان مدار هذا الخلق في ابن أبي طالب على ثقة أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج ، وقبل أن يبلغ مبلغ الرجال. فما منعته الطفولة الباكرة يوما أن يعلم إنه شيء في هذه الدنيا وإنه قوة لها جوار يركن إليه المستجير. ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبي عليه‌السلام ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في وجوههم ويسأل عن النصير ولا نصير ، لو كان بعلي أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة ورفعتهم آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع.

٣١٢

__________________

ولكنه كان عليا في تلك السن الباكرة كما كان عليا وهو في الخمسين أو الستين ، فما تردد وهم صامتون مستهزئون أن يصيح صيحة الواثق المغضوب : أنا نصيرك ، فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار ، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم.

علي هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة ، وقد علم ما تأتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش.

وعلي هذا هو الذي تصدى لعمرو بن ود مرة بعد مرة والنبي يجلسه ـ إلخ.

وقال الفاضل المعاصر محمد رضا في «الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين» (ص ٢٢ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) :

شهد علي رضي‌الله‌عنه الغزوات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان له فيها شأن عظيم ، وأظهر شجاعة عجيبة ، وأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللواء في مواطن كثيرة. فلما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرز بن جابر الفهري ـ غزوة بدر الأولى ـ أعطاه لواءه الأبيض.

وسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة العشيرة بأبي تراب. عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعلي رفيقين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة العشيرة ، فنزلنا منزلا فرأينا رجالا من بني مدلج يعملون في نخل ، فقلت : لو انطلقنا فنظرنا إليهم كيف يعملون؟ فانطلقنا ، فنظرنا إليهم ساعة ، ثم غشينا النعاس فعمدنا إلى صور من النخل فنمنا تحته في دقعاء من التراب ، فما أيقظنا إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتانا وقد تترّبنا في ذلك التراب ، فحرّك عليا برجله ، فقال : قم يا أبا تراب ، ألا أخبرك بأشقى الناس! أحمر ثمود عاقر الناقة ، والذي يضربك على هذا ، يعني قرنه فيخضب هذه منها وأخذ بلحيته.

وفي غزوة بدر الكبرى كان أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رايتان سوداوان ، إحداهما مع علي يقال لها العقاب والأخرى مع بعض الأنصار. وأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبارز في هذه الغزوة الوليد بن عتبة ، فبارزه وقتله وكان من أشد

٣١٣

__________________

أعداء رسول الله.

وقال علي رضي‌الله‌عنه يذكر شجاعة رسول الله : لما أن كان يوم بدر وحضر الناس التقينا برسول الله ، فكان من أشد الناس بأسا ، وما كان منا أحد أقرب إلى العدو منه.

وفي غزوة أحد قام طلحة بن عثمان فقال : يا معشر أصحاب محمد! إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفه إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار ، فقام إليه علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقال : والذي نفسي بيده ، لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار ، أو تعجلني بسيفك إلى الجنة ، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته. فقال : أنشدك الله والرحم يا ابن عم ، فتركه فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لعلي أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه. وقتل علي ثلاثة من أصحاب الألوية في هذه الغزوة ، وأبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : أحمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جمعهم ، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي ، ثم أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي فقال جبريل : يا رسول الله إن هذه للمواساة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه مني وأنا منه. فقال جبريل : وأنا منكما. فسمعوا صوتا :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي

ولما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهله بعد غزوة أحد ناول سيفه ابنته فاطمة فقال : اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، وناولها علي رضي‌الله‌عنه سيفه وقال : وهذا فاغسلي عنه ، فو الله لقد صدقني اليوم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة.

قال الطبري : وزعموا أن علي بن أبي طالب حين أعطى فاطمة عليهما‌السلام سيفه قال :

٣١٤

__________________

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد قاتلت في حب أحمد

وطاعة رب بالعباد رحيم

وسيفي بكفي كالشهاب أهزّه

أجذ به من عاتق وصميم

فما زلت حتى فضّ ربي جموعهم

وحتى شفينا نفس كل حليم

من هذا يتضح أن عليا قد دافع هو وزملاؤه دفاعا شديدا في هذه الغزوة وقتل رؤساء كبيرة عرفت بعدائها للإسلام ، وقد كان وقتئذ في عنفوان شبابه ممتلئا قوة ونشاطا وإيمانا.

وفي غزوة الخندق لما تهيأ فرسان قريش للقتال وخرجوا على خيلهم وأقبلوا نحو الخندق ورأوا ما لم يكونوا قد رأوه من قبل ، قالوا : إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.

عند ذلك خرج علي رضي‌الله‌عنه في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.

وقد كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا. فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه ، وكان من شجعان العرب المشهورين ، وكان وقتئذ كبير السن. فلما وقف هو وخيله ، قال له علي : يا عمرو! إنك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خلّتين إلا أخذت منه إحداهما. قال : أجل. قال له علي ابن أبي طالب : فإني أدعوك إلى الله عزوجل وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لي بذلك. قال : فإني أدعوك إلى النزال. قال : ولم يا ابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتلك. قال علي : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فقره أو ضرب وجهه.

ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا ، فقتله علي رضي‌الله‌عنه وخرجت خيله منهزمة ، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.

وفي غزوة بني المصطلق قتل علي منهم رجلين : مالكا ، وابنه. وكان رضي‌الله‌عنه

٣١٥

__________________

هو الذي دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهد إليه كتابة صلح الحديبية وأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر.

وفي غزوة خيبر أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللواء عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجبنه أصحابه ويجبنهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأعطين اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فلما كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر فدعا عليا ، وهو أرمد فتقل في عينيه وأعطاه اللواء ونهض معه من الناس من نهض ، فلقى أهل خيبر ، فإذا مرحب يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

أطعن أحيانا وحينا أضرب

إذا الليوث أقبلت تلهّب

فاختلف هو وعلي ضربتين فضربه علي على هامته ، حتى عض السيف منها بأضراسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته ، فما تتام آخر الناس مع علي رضي‌الله‌عنه حتى فتح الله له ولهم.

وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي رضي‌الله‌عنه بابا كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ. فلقد رأيتني في نفر ، سبعة أناثا منهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا والزبير بن العوام في أثر المرأة التي أعطاها حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش ، وذلك لما أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسير إلى مكة ، فخرجا وأدركاها بالحليفة فاستنزلاها فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا ، فقال لها علي بن أبي طالب : إني أحلف ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن إلي هذا الكتاب أو لنكشف ، فلما رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض عني ،

٣١٦

__________________

فأعرض عنها. فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه ، فدفعته إليه فجاء به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعلي رضي‌الله‌عنه هو الذي قتل الحويرث بن نقيد الذي أهدر دمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه كان ينشد الهجاء فيه ويكثر أذاه وهو بمكة ، وكان قد شارك هبار بن الأسود في نخس جمل زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجرت من مكة.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل مكة نهى عن سفك الدماء وكان قد بعث خالد بن الوليد وأمره بأن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا فوطئ بني جذيمة فأصاب منهم ، وقيل : إنهم لما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتّفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إني أبرأ بك مما صنع خالد بن الوليد.

نذكر هذه الحادثة لأن عليا رضي‌الله‌عنه كان له شأن فيها ، فقد دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى أنه ليدي ميلغة الكلب أي أنه دفع تعويضا عن كل ما أصابهم حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي رضي‌الله‌عنه حين فرغ منهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم؟ قالوا : لا ، قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون ، ففعل ، ثم رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر فقال : أصبت وأحسنت.

وكان علي رضي‌الله‌عنه ممن ثبت مع رسول الله في غزوة حنين حين انهزم المسلمون كما ثبت في غزوة أحد ، و

في غزوة تبوك خلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم. فأرجف المنافقون بعلي وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه. فلما قال ذلك المنافقون أخذ علي سلاحه

٣١٧

__________________

ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالجرف موضع على ثلاثة أميال من المدينة فقال : يا نبي الله زعم المنافقون أنك لما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني. فقال : كذبوا ولكني إنما خلقتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي. فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سفره.

وفي السنة التاسعة من الهجرة في شهر ربيع الآخر وجه رسول الله عليا رضي‌الله‌عنه في سرية إلى الفلس صنم طيء ليهدمه في مائة وخمسين رجلا من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا ، ومعه راية سوداء ولواء أبيض فشنّوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر فهدموا الفلس وخربوه وملئوا أيديهم من السّبي والنّعم والشاء والفضة.

وفي السنة التاسعة من الهجرة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر رضي‌الله‌عنه أن يحج بالناس ، فخرج من المدينة في ثلاثمائة وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثره عليا فأدركه بالعرج (عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج) وأذن علي رضي‌الله‌عنه ببراءة وقال : لا يقربّن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فله عهده إلى مدته ، وأن هذه أيام أكل وشرب ، وأن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما.

وفي سنة عشر الموافق ٦٣١ ـ ٦٣٢ م وجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب سرية إلى اليمن في رمضان.

عن البراء بن عازب قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فكنت فيمن سار معه ، فأقام عليه ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالد ومن معه فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه تركه. قال البراء : فكنت فيمن عقب معه ، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر فصلّى بنا علي الفجر فلما فرغ صفّنا صفّا واحدا ، ثم تقدم بين أيدينا : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلمت همدان كلها في يوم واحد. وكتب

٣١٨

__________________

بذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما قرأ كتابه خرّ ساجدا ، ثم جلس فقال : السّلام على همدان ، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام ، ثم أقبل علي ليلقى رسول الله بمكة واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا رجالا من القوم حللا من البز الذي كان مع علي بن أبي طالب. فلما دنا جيشه خرج علي ليلقاهم فإذا هم عليهم الحلل ، فقال : ويحك ما هذا؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، فقال : ويلك! انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول الله ، فانتزع الحلل من الناس وردها في البز ، وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم ، فقام رسول الله خطيبا فيهم فقال : يا أيها الناس لا تشكوا عليا ، فو الله إنه لأخشى في ذات الله أو في سبيل الله.

يعلم مما تقدم أن عليا رضي الله تعالى عنه ربى في بيت النبوة وكان أسبق الناس إلى الإسلام ونشأ وقد أشربت روحه بتعاليمه ، وشب على الصلاح ورأى الوحي ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان من كتابه لكن لم يبلغنا متى وكيف وممن تعلم القراءة والكتابة؟ وهو الذي كتب بخطه ما أملاه عليه رسول الله من صلح الحديبية ، وقد خالط الرسول وعاشره وحفظ القرآن وسمع الحديث ورواه وتفقّه في الدين.

وقد كان رضي‌الله‌عنه شجاعا بطبعه ، فهو من سلالة أبطال شجعان.

وقضى زهرة شبابه في الدفاع عن رسول الله ونشر لواء الإسلام ، وتثبيت دعائمه غير هيّاب ولا وجل. وكلما راجعنا غزوات رسول الله وجدنا اسم علي مقرونا بها ، فتارة نجد يحمل اللواء ، وتارة يفرّق جموع الأعداء ويلم شمل المجاهدين ، ويبارز أبطال القريش ، أعداء الإسلام فيصرعهم ويفتح الحصون المستعصية ، ويهدم الأصنام ، وهو صاحب الفضل في دخول همدان في الإسلام ، وهي قبيلة كبيرة في اليمن ، حتى خرج رسول الله ساجدا شكرا لله على إسلامها. وإصابته رضي‌الله‌عنه يوم أحد ست عشرة ضربة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبه فزوجه ابنته فاطمة بنت السيدة خديجة رضي‌الله‌عنها ، وكان يشفق عليه إذا مرض ، وقد تقدمت الإشارة إلى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفاه مما ألم بقدميه من الوجع والجروح بسبب

٣١٩

__________________

كثرة المشي عليهما وشفاه من الرمد.

وقال الفاضل المعاصر خالد محمد خالد في كتابه «في رحاب علي عليه‌السلام» (ص ٧١ ط دار المعارف بمصر ودار المعارف بلبنان) :

ذات يوم ، والرسول بالمدينة ، نزل عليه الوحي بآية جديدة من القرآن ، وراح الرسول يتلوها على أصحابه وهم منصتون : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً ، وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، وأحدثت الآية في أفئدة الصحابة رد فعل قويا ، وظن بعضهم أنها تنعى إليهم نبيهم عليه الصلاة والسّلام.

وصاح علي بن أبي طالب : ولله لا ننقلب على أعقابنا بعد أن هدانا الله ، ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت.

وطوال عمر علي في حياة الرسول وبعد وفاته ، وهذه الآية لا تبارح ذاكرته وإنها لتلح على وجدانه إلحاحا دائبا وعجيبا.

فهو دائما يذكرها فيتلوها ، ويتبع تلاوته لها بكلماته التي سمعناها الآن : والله ، لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، ولئن مات أو قتل ، لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت.

ولكن لما ذا اختار القتال سبيلا للتعبير عن ولائه للدين ، وإصراره على متابعة طريق الرسول؟ لما ذا لم يقل : ولئن مات أو قتل لأواصلن السير على نهجه ، والاهتداء بسنته وهديه؟

إن طبيعة المقاتل تحتل كل ذرة في كيانه ، فإذا أعطى العهد على مواصلة السير تحت الراية التي يرفعها الرسول بيمينه ، فإنه يصوغ عهده من الكلمات التي تتسق مع طبيعته وتعبر عنها في أمانة وصدق. وأي كلمة تعبر عن طبيعة المقاتل سوى كلمة سأقاتل؟

صحيح أن الآية نزلت في معركة دائرة ، وقتال مشبوب في غزوة أحد أو بعدها ، والمشركون يومئذ يرجفون بأن الرسول قتل فنزلت الآية تسفه أحلامهم ، وتشد عزم

٣٢٠