إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٢

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

فيه ركعتين رجاء أن يشهد يوم القيامة.

وأتي بفالوذج فوضع قدامه ، فقال : إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده.

ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة ٧١١ في «مختصر تاريخ دمشق» لابن عساكر (ج ١٨ ص ٥٨ ط دار الفكر) قال :

وعن عنترة قال : دخلت على علي بالخورنق ـ فذكر مثل ما تقدم عن «قمع الحرص» ـ إلى : يعني من المدينة.

ومنهم العلامة الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة ٢٢٤ في «الأموال» (ص ٢٨٤ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) قال :

حدثنا عباد بن العوام ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : دخلت على علي بالخورنق ، وعليه سمل قطيفة ـ فذكر مثل ما تقدم ـ إلى : من المدينة.

ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العكّ المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في «مختصر حياة الصحابة» للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص ٢٥٣ ط دار الإيمان ـ دمشق وبيروت) قال :

وأخرج أبو عبيد ، عن عنترة قال : دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه سمل قطيفة وهو يرعد فيها من البرد ، فقلت : يا أمير المؤمنين ـ فذكر مثل ما تقدم عن «قمع الحرص» باختلاف يسير في اللفظ.

ومنهم العلامة الشيخ أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن علي ابن حمدون في كتابه «التذكرة الحمدونية» (ص ٦٩ ط بيروت) قال :

قال مجاهد : خرج علينا علي عليه‌السلام يوما معتجرا فقال : جعت ـ فذكر مثل ما

٢٤١

تقدم.

وقال أيضا :

ودخل عليه بعض أصحابه بالخورنق وهو يرعد تحت سمل قطيفة ـ فذكر مثل ما تقدم عن «قمع الحرص بالزهد».

وقال أيضا :

وقسم عليه‌السلام ما في بيت المال على سبعة أسباع ، ثم وجد رغيفا فكسره سبع كسر ، ثم دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم.

وقال أيضا في ص ٧٠ :

واشترى علي عليه‌السلام بالكوفة تمرا فحمله في طرف ردائه ، فتبادره الناس وقالوا : يا أمير المؤمنين نحمله عنك ، فقال : رب العيال أحق بحمله.

ومنهم العلامة حميد بن زنجويه المتوفى سنة ٢٥١ في كتابه «الأموال» (ج ٢ ص ٦٠٩ ط مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية) قال :

حدثنا حميد ، قال أبو عبيد : أنا عباد بن العوام ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : دخلت على علي بالخورنق ، وعليه شمل قطيفة ، وهو يرعد فيها. فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيبا ، وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال : إني والله لا أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من بيتي ـ أو قال : من المدينة.

حدثنا حميد ، ثنا أبو نعيم ، ثنا أبو بكر بن عياش ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن موسى بن طريف قال : دخل علي بيت المال فأضرط به ثم قال : لا أمسي حتى أقسمه أو نقسمه. فدعا رجلا من بني سعد بن ثعلبة ، فقسم إلى الليل فقالوا له : لو أعطيته.

٢٤٢

قال : إن شاء أعطيته وهو سحت. قال : لا حاجة لي فيه.

ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة ٧١١ في «مختصر تاريخ دمشق» لابن عساكر (ج ١٨ ص ٥٨ ط دار الفكر) قال :

قال موسى بن طريف : دخل علي عليه‌السلام بيت المال ـ فذكر مثل ما تقدم عن «الأموال» إلّا أنه ليس فيه : قال : لا حاجة لي فيه.

ومنهم الفاضل المعاصر محمد رضا في «الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين» (ص ١٢ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) قال :

عن خالد بن أمية قال : رأيت عليا وقد لحق إزاره بركبتيه.

وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال : رأيت عليا عليه قميص رازيّ ، إذا مدّ كمه بلغ الظفر ، فإذا أرخاه بلغ نصف ساعده.

وعن عطاء أبي محمد قال : رأيت على علي قميصا من هذه الكرابيس غير غسيل. وكان يلبس إزارا مرقوعا ، فقيل له ، فقال : يخشع القلب ويقتدى به المؤمن. ورؤى رضي‌الله‌عنه وهو يخرج من القصر وعليه قطريتان : إزار إلى نصف الساق ، ورداء مشمر قريب منه ، ومعه درة له ، يمشي بها في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول : أوفوا الكيل والميزان ، ويقول : لا تنفخوا اللحم.

وابتاع رضي‌الله‌عنه مرة قميصا سنبلانيا بأربعة دراهم ، فجاء الخياط فمدكم القميص ، فأمره أن يقطعه مما خلف أصابعه.

وعن هرمز قال : رأيت عليا متعصبا بعصابة سوداء ما أدري أي طرفيها أطول ، الذي قدّامه أو الذي خلفه ، يعني عمامة. وعنه قال : رأيت عليا عليه عمامة سوداء قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه.

وعن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا كان إزارك

٢٤٣

واسعا فتوشح به ، وإذا كان ضيقا فأتزر به.

وكانت قلنسوته لطيفة ، وتختّم في يساره ، وكان نقش خاتمه في صلح الشام «محمد رسول الله» ونقش على خاتمه أيضا «الله الملك».

ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه «التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام» (ص ١٥٨ ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة ١٤٠٦) قال :

وروى بكر بن عيسى ، قال : كان علي عليه‌السلام يقول : يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان ، فأنا خائن. فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع ، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم ، ويأكل هو الثريد بالزيت.

وروى معاوية بن عمار ، عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، قال : ما اعتلج على علي عليه‌السلام أمران في ذات الله ، إلا أخذ بأشدهما ، ولقد علمتم أنه كان يأكل (يأهل) الكوفة عندكم من ماله بالمدينة ، وإن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب ، ويختم عليه مخافة أن يزاد عليه من غيره ، ومن كان أزهد في الدنيا من علي عليه‌السلام.

وروى النضر بن منصور ، عن عقبة بن علقمة ، قال : دخلت على علي عليه‌السلام ، فإذا بين يديه لبن حامض ، آذتني حموضته ، وكسر يابسة ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي : يا أبا الجنوب ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل أيبس من هذا ، ويلبس أخشن من هذا ـ وأشار إلى ثيابه ـ فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به.

وروى عمر بن مسلمة ، عن سويد بن علقمة ، قال : دخلت على علي عليه‌السلام بالكوفة ، فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته ، وفي يده رغيف ترى

٢٤٤

قشار الشعير على وجهه وهو يكسره ، ويستعين أحيانا بركبته ، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه ، فقلت : يا فضة ، أما تتقون الله في هذا الشيخ ألا نخلتم دقيقه؟ فقالت : إنا نكره أن نؤجر ويأثم ، نحن قد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقا ما صحبناه. قال : وعلي عليه‌السلام لا يسمع ما تقول ، فالتفت إليها فقال : ما تقولين؟ قالت : سله ، فقال لي : ما قلت لها؟ قال : إني قلت لها : لو نخلتم دقيقه ، فبكى ، ثم قال : بأبي وأمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا ، ولم ينخل دقيقه ، قال : يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى يوسف بن يعقوب عن صالح بياع الأكيسة ، أن جدته لقيت عليا عليه‌السلام بالكوفة ، ومعه تمر يحمله ، فسلمت عليه ، وقالت له : أعطني يا أمير المؤمنين هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك ، فقال : أبو العيال أحق بحمله ، قالت : ثم قال لي : ألا تأكلين منه؟ فقلت : لا أريد ، قالت : فانطلق إلى منزله ثم رجع مرتديا بتلك الشملة ، وفيها قشور التمر ، فصلى بالناس فيها الجمعة.

وقال أيضا في ص ١٥٩ :

وروى عنبسة العابد ، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، قال : أعتق علي عليه‌السلام في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف مملوك مما مجلت يداه وعرق جبينه ، ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر ولا ثيابه إلا الكرابيس.

وروى العوام بن حوشب ، عن أبي صادق ، قال : تزوج علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية ، فضربت له في داره حجلة ، فجاء فهتكها ، وقال : حسب أهل علي ما هم فيه.

وروى حاتم بن إسماعيل المدني ، عن جعفر بن محمد عليه‌السلام ، قال : ابتاع علي عليه‌السلام في خلافته قميصا سملا بأربعة دراهم ، ثم دعا الخياط ، فمدكم

٢٤٥

القميص ، وأمره بقطع ما جاوز الأصابع.

ومنهم الدكتور عبد الحليم محمود في «قضية التصوف المنقذ من الضلال» (ص ٧٤ الطبعة الثالثة دار المعارف ـ القاهرة) قال :

وهذا علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في الخلافة قد اشترى إزارا بأربعة دراهم واشترى قميصا بخمسة دراهم ، فكان في كمه طول ، فتقدم إلى خراز أي خياط فأخذ الشفرة فقطع الكم مع أطراف أصابعه ، وهو يفرق الدنيا يمنة ويسرة.

ومنهم الفاضل المعاصر محمد رضا في «الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين» (ص ١٣ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) قال :

عن عمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : إن الله قد زيّنك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها ، هي زينة الأبرار عند الله الزهد في الدنيا ، فجعلك لا ترزأ من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منك شيئا ، ووصب لك المساكين فجعلك ترضى بهم اتباعا ويرضون بك إماما.

وعن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا علي كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة ورغبوا في الدنيا ، وأكلوا التراث أكلا لما وأحبوا المال حبا جما ، واتخذوا دين الله دغلا ومال الله دولا؟ قلت : أتركهم حتى ألحق بك إن شاء الله تعالى. قال : صدقت ، اللهم افعل ذلك به.

وجاءه ابن التياح فقال : يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال :

الله أكبر ، فقام متوكئا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول : يا صفراء يا بيضاء ، غري غيري هاء وهاء ، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم ، ثم أمر بنضحه وصلّى فيه ركعتين.

إلى أن قال في ص ١٥ :

٢٤٦

ودخل علي مرة بيت المال فرأى فيه شيئا ، فقال : لا أرى هذا هنا وبالناس حاجة إليه. فأمر به فقسم ، وأمر بالبيت فكنس ونضح فصلى فيه أو قال فيه ، يعني نام.

واشترى رضي‌الله‌عنه قميصا بثلاثة دراهم ، وهو خليفة وقطع كمه من موضع الرّسغين ، وقال : الحمد لله الذي هذا من رياشه.

وعن علي بن ربيعة قال : كان لعلي امرأتان فكان إذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم ، وإذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم.

ودخل علي رضي‌الله‌عنه على فاطمة ، والحسن والحسين يبكيان فقال : ما يبكيهما؟ قالت : الجوع ، فخرج علي فوجد دينارا في السوق فجاء إلى فاطمة فأخبرها ، فقالت : اذهب إلى فلان اليهودي فخذلنا به دقيقا ، فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقا ، فقال اليهودي : أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال : نعم. قال : فخذ دينارك ولك الدقيق ، فخرج علي حتى جاء به فاطمة فأخبرها فقالت اذهب إلى فلان الجزار فخذلنا بدرهم لحما. فذهب فرهن الدينار بدرهم على لحم. فجاء به فعجنت ونصبت وخبزت وأرسلت إلى أبيها فجاءهم ، فقالت : يا رسول الله أذكر لك ، فإن رأيته حلالا أكلنا وأكلت ، من شأنه كذا وكذا ، فقال : كلوا بسم الله ، فأكلوا ، فبينما هم مكانهم إذا غلام ، ينشد الله والإسلام الدينار ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعى له ، فسأله فقال : سقط مني في السوق ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا علي اذهب إلى الجزار فقل له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لك أرسل إليّ بالدينار ودرهمك عليّ فأرسل به فدفع إليه.

وصعد رضي‌الله‌عنه المنبر يوما ، وقال : من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته. فقام إليه رجل وقال : أسلفك ثمن إزار؟

ومنهم الفاضل المستشار عبد الحليم الجندي في «الإمام جعفر الصادق» عليه‌السلام (ص ٤٦ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة) قال :

٢٤٧

ولما مات لم يوجد بخزائنه إلا ستمائة درهم استبقاها ليشتري بها خادما. بل وكما لخص حياته سفيان الثوري : ما بنى لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وإن كان ليؤتى بحبوته في جراب. الحبوة الخراج.

وكما يقول محمد بن كعب القرظي : سمعت علي بن أبي طالب يقول : لقد رأيتني وأنا أربط الحجر على بطني من الجوع وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار.

ولما قال معاوية لضرار بن ضمرة : صف لي عليا ، قال فيما قال : كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحدته. وكان الله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا أتيناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا ودنوه منا لا نكلمه هيبة له. لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ، يبكي بكاء الحزين ويقول : يا دنيا إلي تعرضت أم إليّ تشوفت ، فهيهات هيهات! غري غيري.

ومنهم الدكتور السيد الجميلي في «صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار» (ص ٦٢ ط دار الكتاب العربي ـ بيروت) قال :

وعلي بن أبي طالب من خيرة وصفوة السابقين الأولين إلى الإسلام له فضل السبق فضلا عن فضل القربى ، مما جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يختصه برعاية وحدب وحب منقطع النظير. وتزداد كرامة المؤمن عند ربه بازدياد زهده في الدنيا ، وتتفاوت أقدار الهمم المشحوذة في السعي إلى الآخرة بصالحات الأعمال حسب عزوفها عن الدنيا ورغبتها عنها.

وكان في علي رضي‌الله‌عنه أصدق مثال على هذا الزهد في الدنيا والصدوف عنها لأنها في نظره لا قيمة لها رغم أن المفتونين فيها كثير ، ولم يكن زهدا في القول فحسب وإنما قولا وعملا ومنهجا انتهجه وسبيلا سلكه ، وجادة استقام عليها. وكان

٢٤٨

دائما يردد في نفسه ما لم يخفه عن أحبابه : من طلب الجنة سارع إلى الطاعات ، ومن أشفق من النار ، رجع عن المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه مصائبها. وتأبى نفسه الكريمة إلا أن تلتحف بأديم الأرض وتؤثر خبزا غير مأدوم ، متحففة من زاد الدنيا ضاربة بها عرض الحائط لا تلوي على شيء فيها ، متزودة للآخرة متأهبة للرحيل ، منتظرة لقاء الحق أية لحظة ، لأن جوار الكريم ضالة منشودة ، ونهاية محمودة ينشرح لها صدور المؤمنين المتقين. كان أحب الأسماء إليه أبو تراب الذي أسماه إياه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أبى أن ينزل قصر الإمارة بالكوفة وهو أمير ، ثم آثر عليه الأرض الخلاء العراء البراح وقال : قصر الخبال لا أنزله أبدا.

ليس هذا فحسب إنما يلتذ من خشن الملبس ، قائلا في نفسه : إن الزهد يصرف عنه ، ويساعده على الخشوع في الصلاة. إن الذي يركن إلى الدنيا مثله كمثل من يركن إلى جدار متصدع منهار ، قال تعالى في كتابه الكريم : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

والترف واللهو مطمع النفوس الدنيئة التي ترغب العاجلة ، ولا تلقي بالا للآجلة ، هذا هو عين الضيق الفكري والعقلي معا.

وقال الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني المصري في «المدخل إلى التصوف» (ص ٥٣ ط دار الثقافة بالقاهرة) :

وكان علي مثلا بارزا في الزهد والتقشف والدعوة إليهما ، فقال لعمر بن الخطاب : إذا أردت أن تلقى صاحبك ، فارقع قميصك ، واخصف نعلك ، وقصر أملك ، وكل دون الشبع.

وقد قال عنه ابن عيينة : إنه كان أزهد الصحابة ، وشهد له الإمام الشافعي بأنه كان عظيما في الزهد.

٢٤٩

مستدرك

من عدله عليه‌السلام كان يأمر ببيت المال فيكنس

ثم ينضح ثم يصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة

أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين

قد مر نقل ما يدل عليه عن أعلام العامة في ج ٨ ص ٢٥٦ و ٢٥٧ وص ٥٧٨ وج ١٧ ص ٦٠٤ وص ٦٠٩ وج ١٨ ص ٢٠ ومواضع أخرى من هذا الكتاب المستطاب ، ونستدرك هاهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :

فمنهم قائد الحنابلة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المتولد سنة ١٦٤ والمتوفى ٢٤١ في «الزهد» (ص ١٦٢ ط دار الكتب العلمية في بيروت سنة ١٤٠٣) قال :

حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا يحيي بن سعيد ، عن أبي حيان ، حدثني مجمع: أن عليا رضي‌الله‌عنه كان يأمر ببيت المال فيكنس ثم ينضح ثم يصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.

ومنهم علامة التاريخ صارم الدين إبراهيم بن محمد بن! يدمر بن دقماق القاهري المتولد سنة ٧٥٠ والمتوفى ٨٠٩ في «الجوهر الثمين في سيرة الخلفاء والسلاطين» (ج ١ ص ٦٥ ط عالم الكتب في بيروت سنة ١٤٠٥) قال :

وروي أن عليا قسم ما في بيت المال بين المسلمين ، ثم أمر به فكنس ، ثم صلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة.

ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العكّ المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في «مختصر حياة الصحابة» للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص ٢٤٦ ط

٢٥٠

دار الإيمان ـ دمشق وبيروت) قال :

وعن مجمع التيمي قال : كان علي رضي‌الله‌عنه يكنس بيت المال ويصلي فيه يتخذه مسجدا رجاء أن يشهد له يوم القيامة. وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (٣ / ٤٩) عن مجمع التيمي نحوه.

ومنهم العلامة القزويني في «مختصر شعب الإيمان» للبيهقي (ص ٦٢ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) قال :

وعن علي رضي‌الله‌عنه في طيب مطعمه أنه كان يجاء بخبزه في جراب من المدينة.

ومنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة ٧١١ في «مختصر تاريخ دمشق» لابن عساكر (ج ١٨ ص ٥٧ ط دار الفكر) قال :

قال أبو صالح السمان : رأيت عليا دخل بيت المال ، فرأى فيه شيئا فقال : ألا أرى هذا هاهنا وبالناس إليه حاجة؟ فأمر به فقسم وأمر بالبيت فكنس ونضح فصلى فيه أو قال فيه ، يعني نام.

وعن عبد الرحمن بن أبي بكره قال : لم يرزأ علي بن أبي طالب من بيت مالنا ، يعني بالبصرة ، حتى فارقنا عن جبة محشوة وخميصة درابجردية.

وقال أيضا في ص ٥٨ :

وحدث أبو حكيم صاحب الحناء عن أبيه : أن عليا عليه‌السلام أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات ، ثم أتاه مال من أصبهان فقال : أغدوا إلى العطاء الرابع إني لست لكم بخازن. وقال : قسم الحبال ، فأخذها قوم وردها قوم.

وقال أيضا في ص ٥٩ :

٢٥١

وعن مجمع : أن عليا كان يكنس بيت المال ، ثم يصلي فيه ، رجاء أن يشهد له أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.

وقال أيضا في ص ٦٠ :

وعن سفيان قال : ما بنى علي آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ، وإن كان ليؤتى بحبوته من المدينة في جراب.

وعن مجمع التيمي قال : خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق ، فقال : من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارا ما بعته.

وقال في ص ٦١ :

وعن سعيد الرجاني قال : اشترى علي قميصين سنبلانيين أنبجانيين بسبعة دراهم ، فكسا قنبرا أحدهما ، فلما أراد أن يلبس قميصه فإذا إزاره مرقوع برقعة من الكم.

وقال في ص ٦٤ :

حدث رجل من ثقيف أن عليا استعمله على عكبرا ، قال : ولم يكن السواد يسكنه المصلون ، فقال لي بين أيديهم : لتستوف خراجهم ، ولا يجدون فيك رخصة ، ولا يجدون فيك ضعفا ، ثم قال لي : إذا كان عند الظهر فرح إلي ، فرحت إليه ، فلم أجد عليه حاجبا يحجبني دونه ، وجدته جالسا وعنده قدح وكوز فيه ماء ، فدعا بطينة ، فقلت في نفسي : لقد أمنني حتى يخرج إلى جوهرا ، ولا أدري ما فيها ، فإذا عليها خاتم ، فكسر الخاتم ، فإذا فيها سويق ، فأخرج منه وصبّ في القدح ، فصبّ عليه ماء فشرب وسقاني ، فلم أصبر أن قلت له : يا أمير المؤمنين ، أتصنع هذا بالعراق؟ طعام العراق أكثر من ذلك ، قال : أما والله ما أختم عليه بخلا عليه ، ولكني أبتاع قدر ما يكفيني ، فأخاف أن يفنى ، فيصنع فيه من غيره ، فإنما حفظي لذلك ، وأكره أن أدخل

٢٥٢

بطني إلا طيبا ، وإني لم أستطع أن أقول لك إلا الذي قلت لك بين أيديهم ، إنهم قوم خدع ، ولكني آمرك الآن بما تأخذهم به ، فإن أنت فعلت وإلا أخذك الله به دوني ، فإن يبلغني عنك خلاف ما أمرتك عزلتك ، فلا تبيعنّ لهم رزقا يأكلونه ، ولا كسوة شتاء ولا صيف ، ولا تضربن رجلا منهم سوطا في طلب درهم ، ولا تقبحه في طلب درهم ، فإنا لم نؤمر بذلك ، ولا تبتغ لهم دابة يعملون عليها ، إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو ، قال : قلت : إذا أجيئك كما ذهبت ، قال : وإن فعلت ، قال : فذهبت ، فتتبعت ما أمرني به ، فرجعت والله ما بقي علي درهم واحد إلا وفيته.

ومنهم الحافظ أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان الجشمي السجستاني في «المعمرون والوصايا» (ص ١٥٤ ط دار إحياء الكتب العربية بمصر) قال :

وحدثونا عن أبي نعيم ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر قال : سمعت عبد الملك بن عمير قال : حدثني رجل من ثقيف قال : استعملني علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه على عكبرا ـ فذكر مثل ما تقدم عن ابن منظور باختلاف يسير في اللفظ.

ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العكّ المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في «مختصر حياة الصحابة» للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص ٢٦٩ ط دار الإيمان ـ دمشق وبيروت) قال :

أخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ٨٢) عن رجل من ثقيف أن عليا رضي‌الله‌عنه استعمله على عكبرا ، قال : ولم يكن السواد يسكنه المصلون ـ فذكر مثل ما تقدم عن ابن منظور إلى : إلا طيبا ، ثم قال : وعن الأعمش قال : كان علي رضي‌الله‌عنه يغدى ويعشى ، ويأكل هو من شيء يجيئه من المدينة.

ومنهم العلامة الشيخ محمد بن داود بن محمد البازلي الكردي الحموي الشافعي في كتابه «غاية المرام» (ق ٧٧ نسخة مكتبة جستربيتي بإيرلندة) قال :

٢٥٣

قال رجل من ثقيف : كان علي يجعل طعامه في جراب ـ فذكر مثل ما تقدم عن ابن منظور بتفاوت في اللفظ ، ثم قال : قال الغزالي في إحيائه : تولى علي العراق وكان مأكوله من جراب كان يحمل إليه كل سنة من الحجاز من ملكه وكان يختم على الجراب فقيل له ، فقال: علمت من أين أدخلت بجراب وما أريد آكل ما لم أعلم. فرضي‌الله‌عنه ما أزهده في الدنيا مع أنها أتته.

ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العكّ المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في «مختصر حياة الصحابة» للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص ٣٤٥ ط دار الإيمان ـ دمشق وبيروت) قال :

وأخرج البخاري في الأدب (ص ٨١) عن صالح بياع الأكسية عن جدته قالت : رأيت عليا رضي‌الله‌عنه اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته ، فقلت له أو قال له رجل : أحمل عنك يا أمير المؤمنين ، قال : لا ، أبو العيال أحق أن يحمل. وأخرجه ابن عساكر كما في المنتخب (٦٥ / ٥٦) ، وأبو القاسم البغوي ، كما في البداية (٨ / ٥) عن صالح بنحوه.

وأخرج ابن عساكر عن زاذان عن علي رضي‌الله‌عنه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال ، يرشد الضال ، وينشد الضال ، ويعين الضعيف ، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) ويقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة على سائر الناس. كذا في المنتخب (٥٦ / ٥٦) وأخرجه أبو القاسم البغوي نحوه كما في البداية (٨ / ٥).

وأخرج ابن سعد (٣ / ١٨) عن جرموز قال : رأيت عليا رضي‌الله‌عنه وهو يخرج من القصر وعليه قطريتان : إزار إلى نصف الساق ، ورداء مشمر قريب منه ، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق ، ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ، ويقول : أوفوا الكيل والميزان ، ويقول : لا تنفخوا اللحم. وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (٣ / ٤٨).

٢٥٤

وأخرج ابن راهويه وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو يعلى والبيهقي وابن عساكر ـ وضعّف ـ عن أبي مطر قال : خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي خلفي : ارفع إزارك فإنه أتقى لربك ، وأنقى لثوبك ، وخذ من رأسك إن كنت مسلما ، فإذا هو علي ومعه الدرة ، فانتهى إلى سوق الإبل فقال : بيعوا ولا تحلفوا ، فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة. ثم أتى صاحب التمر فإذا خادم تبكي فقال : ما شأنك؟ قالت : باعني هذا تمرا بدرهم فأبى مولاي أن يقبله ، فقال : خذه وأعطها درهما فإنه ليس لها أمر ، فكأنه أبى ، فقلت : ألا تدري من هذا؟ قال : لا ، قلت : علي أمير المؤمنين ، فصبّ تمره وأعطاها درهما وقال : أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين ، قال : ما أرضاني عنك إذا وفيتهم. ثم مر مجتازا بأصحاب التمر فقال : أطعموا المسكين يربو كسبكم. ثم مر مجتازا حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال : لا يباع في سوقنا طاف. ثم أتى دار بزّاز وهي سوق الكرابيس ، فقال : يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم ، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، ثم أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم لبسه ما بين الرسغين إلى الكعب ، فجاء صاحب الثوب فقيل : إن ابنك باع من أمير المؤمنين قميصا بثلاثة دراهم ، قال : فهلا أخذت منه درهمين؟ فأخذ الدرهم ثم جاء به إلى علي فقال : أمسك هذا الدرهم. قال : ما شأنه؟ قال : كان قميصا ثمنه درهمان باعك ابني بثلاثة دراهم. قال : باعني رضاي وأخذت رضاه. كذا في المنتخب (٥ / ٥٧).

مستدرك

زهد علي عليه‌السلام وعدله

تقدم نقل ما يدل عليه عن أعلام العامة في ج ٤ ص ٣٣١ وص ٣٩٨ وص ٤٠٥ وج ٥ ص ٤ وج ٨ ص ٢٤٥ وص ٥٣٢ وج ١٥ ص ٦١٣ وج ١٧ ص ٥٧٤ وج ٢١ ص ٣٦٤ ومواضع أخرى ، ونستدرك هاهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :

٢٥٥

فمنهم الفاضل المعاصر آدم عبد الله الألوري في «تاريخ الدعوة الإسلامية في الأمس إلى اليوم» (ص ٧٧ ط دار مكتبة الحياة ـ بيروت) قال :

وسار على هذه السيرة سيدنا علي الذي تولى الخلافة وقال : أيتها الدنيا غري بغيري فقد طلقتك ثلاثا. فتأثر بهذه النزعة إبراهيم بن أدهم الذي حوى الملك والجاه والمال والشرف ثم نفض يديه منها وخرج هائما على وجهه يتزهد فيها طالبا عيشة الفقراء والمساكين (١).

__________________

(١) قال الفاضل المعاصر خالد محمد خالد في كتابه «في رحاب علي عليه‌السلام» (ص ١٨٨ ط دار المعارف بمصر ولبنان) :

وإذا كان الولاء للحق يتمثل أول ما يتمثل في قهر الدنيا والتفوق على إغرائها وفتونها ، فإن ابن عم رسول الله وتلميذه العظيم ، قد بلغ في ذلك المدى وجاوز المستطاع.

ها هو ذا ، يخرج إلى سوق الكوفة ، وهو خليفة المسلمين وأمير المؤمنين ، حاملا أحد أسيافه الأثيرة لديه ، الحبيبة إليه عارضا إياه للبيع وقائلا : من يشتري سيفي هذا؟ فو الله لو كان معي ثمن إزار ما بعته؟ لما ذا هذه الفاقة ، وبيت المال يستقبل كل يوم من أقطار الإسلام مالا غدقا ومن حقه كأمير المؤمنين أن يأخذ منه كفايته؟

لما ذا يصر على أن يطحن بنفسه دقيقه؟ ويرقع مدرعته حتى لا يبقى فيها مكان لرقاع جديدة؟

لما ذا لا يأكل الخبز إلا قديدا مخلوطا بنخالته؟ ويهرب من قصر الإمارة بالكوفة إلى كوخ من طين.

نقول لما ذا؟ لأن الولاء للحق ، والزهو بالدنيا لا يجتمعان. ولقد تعلم ذلك من قدوة سلفت ، طالما كان يلهج بها ذاكرا ، ومذكرا.

تلك القدوة التي لم تغب عن خاطره لحظة من نهار والتي عبر عنها فقال : في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قبضت عنه أطرافها ، ووطئت لغيره أكنافها .. وفي موسى كليم الله ، إذ يقول : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، وو الله ما سأله إلا خبزا

٢٥٦

__________________

يأكله. وفي المسيح عيسى بن مريم الذي كان يلبس الخشن ويأكل الجشب دابته رجلاه ، وخادمه يداه.

تلك هي المنازل العلى التي يحلق عندها البطل الزاهد الأواب وهو لهذا لا يعدل شيئا بجشب الطعام وخشن الثياب.

لقد كانت هوايته الكبرى ، إهانة الدنيا ، وإذلال مغرياتها الهائلة بأن يرفع في وجهها يدا لا تهتز ولا تختلج ، تقول لتلك المغريات : لا. فلما ولى أمر المسلمين ، وصار لهم خليفة وأميرا ، تحولت الهواية إلى واجب.

أجل آنئذ لم يعد نبذ الدنيا وإذلال سلطانها وإغرائها مجرد هواية لبطولته ، أو رياضة لروحه. بل صارت واجبا تفرضه مسئوليات الحكم ، وتبعات القدوة ، وآنئذ سمعناه يقول : أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ، ثم لا أشارك المؤمنين في مكاره الزمان .. والله لو شئت لكان لي من صفو هذا العسل ، ولباب هذا البر ، ومناعم هذه الثياب ولكن ، هيهات أن يغلبني الهوى ، فأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى.

هو إذن مقيم لم يرحل يعلم الناس في كل جيل وعصر ، أن الولاء للحق أثمن تكاليف الإنسان .. ويعلم الحكام في كل جيل وعصر ، أن الولاء للحق يعني رفض إغراء الدنيا ، ورفض غرور السلطان.

وهو مقيم لم يرحل .. يجد عصرنا هذا في نهجه وحكمه أستاذا ومعلما وهاديا.

فاليوم ، حيث تعبي الحضارة كل قواها لمحاربة الفقر ، وإرباء الكفاية ، وتوزيع العدل ، نجد أمير المؤمنين عليا يدرك من قرابة ألف وأربعمائة عام بؤس الفقر ووظيفة المال إدراك الحاكم المسئول ، لا إدراك الواعظ المتمنى.

انظروا ها هوا ذا ناسك لم يمنعه نسكه ، وزهده عن أن يعرف ضراوة الفقر وبؤسه وعداءه لتقدم الروح والضمير فيقول قولته الباهرة : لو كان الفقر رجلا لقتلته.

وها هو ذا يبدأ الساعات الأولى من حكمه وخلافته بوقف تضخم الثروات التي سببها التمييز في الأنصبة والعطاء بين الذين أسلموا قبل الفتح ، والذين أسلموا بعده

٢٥٧

__________________

فيلتزم منهج التسوية في العطاء.

وفي حدود قدرة بيت المال يأخذ كل حاجته ولا يزيد ، وإنه ليفحم المعارضين لمنهجه بكلمات قصار لكنها كبار ، إذ يقول : لو كان المال مالي لسويت بينهم ، فكيف والمال مال الله ، وهؤلاء ، عباده. إن وظيفة المال عنده ، تتمثل في سد حاجات الشعب فردا فردا ، وهو أي المال ليس مثوبة على دين ، ولا تكريما لمركز ، بل ولا ثمنا لجهد.

إنه قيام بضرورات العيش ، وسد لحاجات الناس ، لا أكثر من هذا ، ولا أقل. وهو بهذه المثابة ، لا يصلح قط أن يكون حكرا ولا أن يكون دولة بين أيدي قلة مثرية.

إن تحديد إقامة المال في بضع أيد ، أو بضع بيوت ، هدر لوظيفته وإلغاء لدوره الصحيح في فقه الإمام ، الذي هو فقه الإسلام. من أجل هذا قال كلمات راشدة صاغ بها مبدأ من أعظم مبادئ حكمه وحكومته.

إن الله فرض من أموال الأغنياء أقوات الفقراء .. فما جاع فقير ، إلا بتخمة غنى.

من العسير أن نجد عبارة تحدثنا عن وظيفة المال ويجتمع فيها المنطق العلمي ، والألق الإنساني ، على هذا النسق الفريد والرشيد.

إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بتخمة غني.

ألا وإن الإمام بهذا المبدأ ، لا ينفى عن المال نزوة الاحتكار فحسب. بل ينفى عنه كذلك نزوة السرف في إنفاقه والجموح في طلب المناعم به.

فجوع الفقير ناشئ عن تخمة الغنى ، والجوع والتخمة كلاهما مظهر لخلل في وظيفة المال وعدالة التوزيع.

فحين تأخذ وظيفة المال دورها الصحيح في تغطية المعايش وسد الحاجات بغير سرف أو ترف فآنئذ لا توجد التخمة التي تخلق الجوع ، ولا يوجد الجوع الذي يحقد على التخمة. وعبارته الرشيدة هذه : إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء. تعطينا دلالتها الرائعة حكما فقهيا باهرا ، هو أن أموال الأغنياء ليست حقا خالصا لهم ما دام في مجتمعهم فقراء بل هي حق لهم وللفقراء معا ، هي حق للفقراء الذين خلت منه

٢٥٨

__________________

أيديهم ، بقدر ما هي حق للأغنياء الذين تمتلئ به أيديهم.

ولقد كان الإمام رضي‌الله‌عنه يضع مبدأه هذا كما يضع كل مبادئه موضع التنفيذ السديد ، لا يصرفه عن ذلك تلك الفتن المجنونة حوله ، ولا الحرب المتسعرة ضده.

ترى هل كان لسياسته هذه دور في تألّب الأحقاد عليه وانفضاض الذين كانوا أنصاره بالأمس من حوله. هل لعبت مخاوف المسلمين الذين أثروا ثراء كبيرا ، والذين كانوا في طريقهم إلى الثراء دورا غير منظور في محاربة الخليفة الذي رفع هذا الشعار ، وهذا المبدأ : إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء.

على أي حال ، فقد رحل عن الدنيا الشكل الخارجي للبطل : أما موضوعه الحي ومضمونه النقي ، فقد بقيا غذاء للحقيقة وريا.

وسيظل الإمام حيا في جميع القيم وفي كل الحقائق التي عاش يناضل دونها ، ومات حاملا رأيتها ، سيظل حيا وماثلا في فضائله وعظائمه التي صاغ منها حياة امتدت إلى الثالثة والستين ، والتي أجاد وصفها ضرار بن ضمرة الكناني ، فقال واصفا الإمام : كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطلق الحكمة من لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس بالليل ووحشته. كان غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفيه ويخاطب نفسه. يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه. وكنا والله مع قربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته ، ولا نبتدئه لعظمته. وكان إذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يعظم أهل الدين ، ويقرب المساكين ، لا يطمع القوى في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه وقد مثل في محرابه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ، فكأنى أسمعه وهو يقول : يا دنيا ، يا دنيا ، إلي تعرضت ، أم إليّ تشوقت؟ هيهات هيهات ، غري غيري ، قد أبنتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

لقد كان حظ الإمام مع الناس عاثرا. ولكن حظوظه مع نفسه في طهرها وتقاها ،

٢٥٩

__________________

كانت رابية ووافية فبغير عون من تأييد يبذله مؤيدون وأصدقاء.

وبغير جزع أمام المؤامرات الضارية ، يثيرها في وجهه أعداء ، تلو أعداء وقف الإمام علي يبنى وحده بإيمانه الفرد ، وبساعده الأشد ، حياة سامقة تبقى على مر الزمان منارا لذوي الرشد والنهى.

ولئن كان لم ينصفه الذين غلوا في حربه ولم ينصفه الذين غلوا في حبه.

فقد أنصفته عظمته الفريدة ، إذ فرضت على الأعداء جلالها وعلى الأصدقاء استغناءها ، وسارت على وجه الزمان طاهرة ، ناضرة ، ظافرة وتلكم هي العظمة حقا.

وقال الأستاذ أحمد عبد الهادي طلخان في «مالية الدولة الإسلامية المعاصرة» (ص ٢٢٦ ط مكتبة وهبة بالقاهرة):

حدثنا سعيد بن محمد ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : أتيت عليا بالرحبة يوم فيروز أو مهرجان وعنده دهاقين وهدايا ، قال : فجاء قنبر فأخذ بيده فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت رجل لا تقبل شيئا وإن لأهل بيتك في هذا المال نصيبا وقد خبأت لك خبيئة. قال : وما هي؟ قال : فانطلق وانظر ما هي. قال : فأدخله بيتا فيه غرارة مملوءة ذهبا وفضة مموهة بالذهب ، فلما رآها علي قال : ثكلتك أمك ، فقد أردت أن تدخل في بيتي تارا عظيمة ، ثم جعل يزنها ويعطى كل عريف حصته ، وكان علي شديدا في محاسبة رجاله حرصا على العدل والحق.

وقال العلامة حميد بن زنجويه المتوفى سنة ٢٥١ في كتابه «الأموال» (ج ٢ ص ٦١٠ ط مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية):

أنا حميد ، أنا ابن أبي أويس ، حدثني سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كان يقسم المال حتى تبعر الغنم في بيوت المال فأتى مرة بمال فما وجد له موضعا حتى أمر ببيوت المال فقمّت.

وقال العلامة أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الاصفهاني المتوفى سنة ٥٧٦ في «المشيخة البغدادية» (نسخة مكتبة جستربيتي):

حدثنا أحمد بن جعفر ، عن بشر بن موسى الأسدي ، حدثنا أبو زكريا يحيى بن

٢٦٠