إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٢

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

قضيت بسنة وحكمت عدلا

ولم ترث الحكومة من بعيد

وإبراهيم بن هشام خال الخليفة هشام بن عبد الملك.

وسأل هشام جليسه في فاتحة القرن الثاني للهجرة عن فقهاء الأمصار. قال : من فقيه المدينة؟ قال : نافع مولى ابن عمر. قال : فمن فقيه أهل مكة؟ قال : عطاء بن أبي رباح. قال : مولى أم عربي؟ قال : مولى. قال : فمن فقيه اليمن؟ قال : طاوس بن كيسان. قال : مولى أم عربي؟ قال : مولى. قال : فمن فقيه أهل اليمامة؟ قال : يحيى ابن أبي كثير. قال : مولى أم عربي؟ قال : مولى. قال : فمن فقيه أهل الشام؟ قال : مكحول. قال : مولى أم عربي؟ قال : مولى. قال : فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قال : ميمون بن مهران. قال : مولى أم عربي؟ قال : مولى. قال : فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قال : الضحاك بن مزاحم. قال : مولى أم عربي؟ قال : مولى. قال : فمن فقيه أهل البصرة؟ قال : الحسن وابن سيرين. قال : موليان أم عربيان؟ قال : موليان. قال : قال فمن فقيه أهل الكوفة؟ قال : إبراهيم النخعي. قال : مولى أم عربي؟ قال : عربي. قال : كادت نفسي تزهق ولا تقول واحد عربي.

ومن هذا التعصب للعرق وتمييز العرب ثار من عدا العرب في خراسان (ما وراء العراق حتى وسط آسيا) وأجاء أهل خراسان بني العباس إلى الخلافة بشعارين يكمل كل منهما الآخر : إعادة حكم الدين وتولية أهل البيت ، مساواة الموالي والعرب. وانطبعت الدولة العباسية في أغلب أمرها بطابع غير عربي.

يقول الجاحظ عن المائة الأولى من عمرها : دول تهم أعجمية خراسانية ، ودولة بني أمية عربية أعرابية.

وكان مؤسسو الدولة العباسية يشيرون إلى خراسان على أنها باب الدولة.

وفي خواتيم المائة الأولى حاول الرشيد أن يستعيد مقاليد الأمور من الفرس فكانت مصارع البرامكة ، فلم يلبث الفرس إلا سنين حتى قتلت جيوشهم الأمين العرب الأب والأم وجاءوا بالمأمون إلى عرش الخلافة وأمه خراسانية.

٢٠١

وشهدت المائة الثانية من عمر الدولة دولا قادمة من خراسان تستقل بممالكها أو تحكم الدولة العباسية كلها : بني سامان (٢٦١ ـ ٣٨٩) يحكمون في الشرق من خراسان من عهد المستعين (٢٤٨) والدولة الصفارية في عهد المعتز (٢٥٢) ثم بني بويه (٣٢٤ ـ ٤٢٣) يحكمون فارس والري وأصفهان والجبل. ولم تنشأ دولة عربية إلا في الموصل وديار بكر وربيعة وهي دولة بني حمدان (٣١٧ ـ ٣٥٨).

وقال أيضا في ص ٣١٧ :

العدل ونزاهة الحكم :

في حياة علي ومبادئه ، وخطبه وأقضيته ، عن هذين ، ما لا نظير له في أي عصر ، والمقام يضيق عن الاستقصاء. فحسبنا أن نقف قليلا عند فقرات من عهده لمالك بن الحارث (الأشتر النخعي) فهذا عهد مقطوع القرين في شكله وموضوعه ، في التراث العالمي والإسلامي ، وبخاصة في السياسة الإسلامية ، والحكم الصالح ، سواء في صياغته أو محتوياته.

وهذا العهد يضع اسم علي في ذروة المؤسسين للدول واضعي الدساتير حيث يتكلم عما يسمى في الدساتير العصرية بالمقومات الأساسية ، وواجبات الولاة نحو الأمة ، وطريقة قيامهم بحقوق الجماعة ، بالتفصيل اللازم. والتنبيه على ملء الفراغ ، فيما سكت عنه ، بالرجوع إلى أصل الشريعة : القرآن والسنة.

ولقد تتابعت على هذا العهد شروح الأئمة من بعد ، فرأينا لزين العابدين في رسالة الحقوق تفصيلات جديدة يقتضيها الزمان. وشهدنا الإمام جعفر الصادق يضيف التطبيق ، والتفصيل الدقيق ، لما تضمنته رسالة زين العابدين وعهد علي فيجعل من تنفيذهما وشروحه لهما ، عهدا جديدا للمسلمين وللشيعة ، تبلغ به مجتمعاتهم أو دولهم مبالغها كلما التزموها أو قاربوا الالتزام بهما.

يبدأ عهد علي بتحديد مهمة الوالي حين ولاه مصر ، جباية خراجها وجهاد عدوها

٢٠٢

وإصلاح أهلها وعمارة بلادها ، فهو قد جمع له ولاية الخراج وولاية الحكم ، قال : واعلم أن الرعية طبقات ، لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض : فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الأنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوى الحاجة والمسكنة ، وكلا قد سمى الله سهمه.

فالجنود بإذن الله حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبيل الأمن. وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله تعالى لهم من الخراج ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب. لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمون عليه من خواص الأمور وعوامها.

ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم ، وفي الله لكل سعة ، وعلى الوالي حق بقدر ما يصلحه.

أما ولاية الإدارة عامة ، والعمال والكتاب خاصة. فيقول عنها :

فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ورسوله ولإمامك ، وأطهرهم جيبا وأفضلهم حلما ، ثم الصق بذوي المروءات ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ولا تحقرن لطفا تتعاهدهم به وإن قل وليكن آثر جندك من واساهم في معونته وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد بظهور مودة الرعية.

وأما عن العدالة ، وقوامها القضاء ، فيبدأ المشترع العظيم في التعبير الأوربي الكلام فيها عن القانون الواجب التطبيق فيقول :

واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور ، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فالرد إلى الله

٢٠٣

الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.

ويقرن القانون الإلهي بالقاضي كما يتطلبه الإسلام فيعقب على ما سبق بقوله عن صميم القضاء : ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تحكمه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه : أوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشيف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل.

ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيح علته وتقل حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ولئن كانت رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري قد جمعت جمل الأحكام في كلمات مختصرة ، لا يجد محق عنها معدلا ، إن عهد علي للأشتر كان في زمان مختلف ، فجاء جامعا ، بل مضيفا في الموضوع الذي وردت فيه رسالة عمر أمورا شتى يحتاجها زمان علي وكل زمان بعده.

وورود القانون ، والدعوى ، واختيار القاضي ، وسلوكه ، وطريقة القضاء ، واستقلال القضاء ، في فقرتين بين فقرات ذلك العهد ، مظهر من مظاهر شموله واتساع نطاقه ، وأسباب خلوده.

أما الإدارة العامة عمال الوالي ففيهم يقول أمير المؤمنين : انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا ولا تولهم محاباة وأثرة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام ، فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا ، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك ، ثم تفقد أعمالهم.

٢٠٤

وأما الكتاب ففيهم قوله : ثم انظر في حال كتابك ، فول على أمورك خيرهم أو اخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك وأسرارك ، بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ، ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستقامتك وحسن الظن منك ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم في العامة أثرا.

ثم يقول عن الضعفة : وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه ، واجعل لذوي الحاجات منك مجلسا عاما ، فلا تكونن منفرا ولا مضيعا ، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة ، وقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين وجهني إلى اليمن : كيف أصلي بهم؟ فقال : صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما.

الشورى والعناية بالعامة :

في بداية العهد إلى الأشتر أمران : الأول خاص بالأشتر ، والثاني خاص بالعامة والخاصة.

والأمران عصريان في كل عصر ، ومطلوبان في كل مكان ، ومن كل الحكام : أما الأول : ففيه قوله له إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك. ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجرى بهم على ألسنة عباده ، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك ، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله.

وقوله : وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك .. فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختار. أنصف الله وأنصف الناس من

٢٠٥

نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى ، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم.

ويقول عن الشورى : ولا تدخلن في مشورتك من يعدل بك عن الفضل ويعد الفقر ، ولا جبانا يضعفك عن الأمور ، ولا حريصا يزين لك الشر بالجور ، فإن البخل والجبن غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله ، والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ، ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة.

وأما الثاني ففيه قوله : وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل ، وأجمعها لرضى الرعية. فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء ، وأقل معونة في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقل شكرا عند الإعطاء ، وأبطأ عذرا عند المنع ، وأخف صبرا عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين ، والعدة للأعداء ، العامة من الأمة. فليكن صغوك لهم وميلك معهم.

بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله يقول : اطلعت في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء ، وأنت في طليعة أهل الجنة تحب أكثر أهلها عددا في الحياة الدنيا ، ومن أجل ذلك تكرم العامة ، وهم كثرة الأمة ، وتؤثر منها الفقراء.

ولقد كنت دائما قدوة ، وأردت الخاصة على أن تكون قدوة ، وحذرتها من مطامعها ومزالقها ، ولو حذرت للزمت الجادة ، وصلح أمر هذه الأمة.

إن من يضع دستورا في العصر الحديث خليق بأن يرتوى من عهدك ، ويروى الأمة من ينابيعك ، في تطبيق الشريعة ، وسيادة القانون ، واستقلال القضاء ، وأمانة الولاة ، ونزاهة الإدارة ، واحترام العامة ، وإلزام الخاصة أن تكون قدوة في الأمة.

يقول ابن المقفع في شأن الخاصة بعد مائة عام ، في كتابه لأبي جعفر : وقد علمنا علما لا يخالطه الشك أن عامة قط لم تصلح من قبل نفسها ، ولم يأتها الصلاح إلا من

٢٠٦

قبل إمامها ، وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك.

ومنهم جماعة من الفضلاء في «علي بن أبي طالب ـ نظرة عصرية جديدة» (ص ٤٦ ط بيروت) قالوا :

يروي التاريخ أنه عقب معرك الجمل (٣٦ ه‍ ـ / ٦٥٦ م) قام أهل نيسابور بزعامة بنت لكسرى ، وأعلنوا العصيان على حكم الإمام ، فزحف إليهم خليد بن كأس عامل الإمام علي خرسانان واستطاع إخماد العصيان وكان من الأسرى هذه الكسروية.

وبعث خليد بها إلى الإمام علي بالكوفة ، وكانت من أجمل نساء قومها ، فرحب بها الإمام وأكرمها ، ثم عرض عليها أن يزوجها لابنه الحسن رضي‌الله‌عنه فلم تقبل وقالت : لا تزوج أحدا على رأسه أحد. ثم عرضت نفسها على الإمام قائلة : فإن أحببت رضيت بك ، فقال لها : إني شيخ وظل يعدد لها ما يتحلى به الحسن من فضائل وحسن الخلق ، ومن كمال الطباع ، ولكنها أصرت على الرفض وقالت : قد أعطيتك الجملة أي أعطيتك ردي النهائي.

وكان حاضر هذا الحوار رجل من قواد الفرس السابقين ، الذين دخلوا في الطاعة يسمى نرمي فقال : يا أمير المؤمنين قد بلغك أني من سنخ المملكة وأنا قرابتها فزوجنيها. فقال الإمام : هي أملك لنفسها ، ثم التفت إلى الأسيرة وقال لها : انطلقي حيث شئت ، وانكحي من أحببت لا بأس عليك.

أرأيت كيف كان رضي‌الله‌عنه ، يحترم ميول المرأة ، ولا يقبل أن تكره على شيء تأباه ، ولا ينظر إليها كما كان ينظر لها قبل الإسلام.

فالمرأة عنده لا يجب أن يستهان بحقها لضعفها ، ولا تغبن لقلة حيلتها ، ولا أن تكره على زواج رجل لا تقبله.

لقد كان في استطاعته وهو أمير المؤمنين ، والقائد المنتصر أن يرغم أسيرته على ما

٢٠٧

أحب وأراد ، أو أن يهبها لأحد من رجاله كما كان يفعل القادة المنتصرون في ذلك الزمان ، ولكن خلقه الكريم أبي عليه ذلك وأنها لصفة فيه نبيلة انفرد بها كما انفرد بمولده وإسلامه اكتسبها من صفات ابن عمه العظيم نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن حكم الإسلام الذي أعطى المراة حقها في الحياة أعطاها.

ومنهم الفاضل المعاصر خالد عبد الرحمن العكّ المدرس في إدارة الإفتاء العام بدمشق في «مختصر حياة الصحابة» للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي (ص ٥٦ ط دار الإيمان ـ دمشق وبيروت) قال :

وأخرج الترمذي والحاكم عن الشعبي قال : خرج علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا ، فعرف علي رضي‌الله‌عنه الدرع ، فقال : هذه درعي ، بيني وبينك قاضي المسلمين ، وكان قاضي المسلمين شريحا ، كان علي استقضاه فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس قضائه وأجلس عليا في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني. فقال علي : أما يا شريح لو كان خصمي مسلما لقعدت معه ، ولكني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لا تصافحوهم ، ولا تبدءوهم بالسلام ، ولا تعودوا مرضاهم ، ولا تصلوا عليهم ، وألجئوهم إلى مضايق الطريق ، وصغروهم كما صغرهم الله ، اقض بيني وبينه يا شريح. فقال شريح : ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال علي : هذه درعي وقعت مني منذ زمان. فقال شريح : ما تقول يا نصراني؟ فقال النصراني : ما أكذب أمير المؤمنين! الدرع درعي. فقال شريح : ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي : صدق شريح. فقال النصراني : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، وأمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه ، هي والله يا أمير المؤمنين درعك ، اتبعتك وقد زالت عن جملك الأورق ، فأخذتها ، فأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال علي : أما إذا أسلمت فهي لك ، وحمله على فرس.

٢٠٨

وعند الحاكم عن الشعبي قال : ضاع درع لعلي رضي‌الله‌عنه يوم الجمل ، فأصابها رجل فباعها ، فعرفت عند رجل من اليهود ، فخاصمه إلى شريح ، فشهد لعلي الحسن ومولاه قنبر. فقال شريح : زدني شاهدا مكان الحسن ، فقال : أترد شهادة الحسن؟ قال : لا ، ولكن حفظت عنك أنه لا تجوز شهادة الولد لوالده.

وأخرجه الحاكم في الكنى وأبو نعيم في الحلية (٤ / ١٣٩) من طريق إبراهيم بن يزيد التيمي ، عن أبيه مطولا ، وفي حديثه : فقال شريح : أما شهادة مولاك فقد أجزناها وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها. فقال علي رضي‌الله‌عنه : ثكلتك أمك أما سمعت عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟ ثم قال لليهودي : خذ الدرع. فقال اليهودي : أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي ، صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فوهبها له علي وأجازه بسبع مائة ، ولم يزل معه حتى قتل يوم صفين. كذا في كنز العمال (٤ / ٦).

ونقل إبراهيم محمد الجمل في «مواعظ الصحابة في الدين والحياة» (ص ١٨ ط الدار المصرية اللبنانية) :

مثل ما تقدم عن «مختصر حياة الصحابة» بعينه.

ومنهم الفاضل المعاصر الدكتور الحبيب الجنحاني التونسي في كتابه «التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام» (ص ١٤٨ ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة ١٤٠٦) قال :

إن إيمانه العميق ، وتشبعه بروح التقوى والعدل جعلاه رحمة الله عليه يتجاوز النظرة القبلية الضيقة ومصلحة القبيلة ، ولو كانت هذه القبيلة هي قريش ذاتها ، وهو

٢٠٩

ابنها الأصيل ، بل ابن أعرق بيوتها مجدا وزعامة بين العرب.

إن مفهوم مصلحة الأمة الإسلامية الجديدة قد حل عند التيار الذي يمثله الإمام علي ، وابنه الحسين عليه‌السلام فيما بعد محل مفهوم النعرة القبيلة ، وما يكمن وراءها من حماية للمصالح ، ودفاعا عن الامتيازات ، وهو ما تكشف عنه النصوص بكل وضوح بالنسبة للتيار الآخر الذي تزعمه بنو أمية ، وعلى رأسهم معاوية ، وقد انضم إليهم كل من هددت مصالحه السياسة المالية التي اتبعها الإمام علي كرم الله وجهه ، وبينهم عدد من الهاشميين أنفسهم ، فالصراع إذن ليس بين بني عبد شمس وبني هاشم كما تقدمه النظرة الكلاسيكية لتاريخ مجتمع صدر الإسلام ، بل بين تيار عمل جاهدا لتحويل مؤسسة الخلافة إلى ملك كسروي ، وما يتبع الملك من سياسة اقتصادية ومالية فئوية ، فهو تيار أهل الدنيا واللهو.

وتيار رفع السلاح للمحافظة على أسس المفهوم الجديد في تاريخ النظم السياسية : مفهوم الخلافة الإسلامية وقيمها ، ورؤيتها الاقتصادية بصفة خاصة ، وتمثل السياسة المالية الأسّ المتين لهذه الرؤية.

فلا غرو إذن أن تبغض قريش كلها الإمام علي رضي‌الله‌عنه أشد البغض ، فلما انتشرت أخبار هذه السياسة المالية الجديدة تحرك ذوو المصالح الكبرى من زعماء قريش لمواجهتها ، فكتب عمرو بن العاص من أيلة بأرض الشام ، وقد أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، إلى معاوية قائلا : ما كنت صانعا فاصنع ، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها.

وقد قلقت طائفة من أصحاب علي عليه‌السلام من ظاهرة فرار عدد من زعماء العرب وأشرافهم من صفوفه ، والتحاقهم بمعاوية لما كان يبذله من الأموال لأنصاره فمشوا إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أعط هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره ، وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال ، فقال لهم : أتأمرونني أن أطلب

٢١٠

النصر بالجور! لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ، وما لاح في السماء نجم ، والله لو كان المال لي لواسيت بينهم ، فكيف وإنما هي أموالهم. ثم سكت طويلا واجما ثم قال : الأمر أسرع من ذلك ، قالها ثلاثا.

وقد مال الناس إلى معاوية لأنه كان يبذل كل مطلوب ، ويسمح بكل مأمول ، ويطعم خراج مصر عمرو بن العاص ، ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراح ، وعلي عليه‌السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة ، حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلياء بن الهيثم ، وهو يحمله على مفارقة علي عليه‌السلام ، واللحاق بمعاوية : اتق الله يا علياء في عشيرتك ، وانظر لنفسك ولرحمك ، ما ذا يؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما ، فأبى وغضب فلم يفعل.

إن شدة الإمام علي رضي‌الله‌عنه في السياسة المالية ، مبتدئا بتطبيقها على نفسه وأهله نابعة مما عرف عنه من زهد في الدنيا حتى قال عنه عمر بن عبد العزيز : أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب ، ومن تمسكه الشديد بسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو من أدرى الناس بأن الرسول عليه‌السلام كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع ، وأنه مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة لم يبت قط في ملكة دينار ، ولا درهم ، وكان يأكل على الأرض ما وجد ، ويخصف نعله بيده ويرقع ثوبه ، وأنه كان يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء.

فمنذ بداية حياته كان فقيرا حتى قال نساء المدينة لفاطمة رضي‌الله‌عنها : زوجك أبوك فقيرا لا مال له ، فقال لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأفضلهم حلما؟ قالت : بلي ، رضيت يا رسول الله ، ولما أصبح يملك بعد الفتوحات مالا بينبع تصدق به ، فقد قال رضي‌الله‌عنه : رأيتني وأنا رابط الحجر على بطني من الجوع ، وأن صدقتي لتبلغ في اليوم أربعة

٢١١

آلاف دينار ، وفي رواية : أربعين ألف دينار.

إن السياسة التي انتهجها علي عليه‌السلام ، مجدّدا بها السنة النبوية التي سار على منوالها كل من أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما لم تعمّر طويلا ، فقد تحولت مؤسسة الخلافة بعد مقتل الإمام علي رحمة الله عليه إلى ملك كسروي في دمشق ، وقد نبّه المسلمين إلى خطر التحول ، ذلك أنه خطب فيهم بالمدينة إثر بيعته قائلا : ألا وأن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه ، والذي بعثه بالحق لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلن غربلة ، ولتساطن سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم ، وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصروا ، وليقصرنّ سباقون كانوا سبقوا.

وبرزت معالم هذا التحول أيام معاوية ، واستفحل الأمر أيام ابنه يزيد حتى قال عبد الله بن الزبير : لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني أمية لشايعتهم ، وانتصرت بهم.

مستدرك

ما ورد في زهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

عليه‌السلام وعدله وسماحته وإنفاقه في سبيل الله تعالى عن

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن نفسه وعن الأئمة من

أولاده عليهم‌السلام والصحابة والتابعين وعلماء العامة

قد تقدم نقل ما يدل عليه عن أعلام العامة في ج ٤ ص ٤٩٠ وج ٨ ص ٢٥٦ وص ٥٧٨ وج ١٥ ص ٧٧ وج ١٧ ص ٨٠ وج ١٨ ص ٢٢ وج ٢١ ص ٥٩٥ ومواضع أخرى من هذا السفر الشريف ، ونستدرك هاهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :

٢١٢

فمنهم العلامة المعاصر الشيخ محمد توفيق بن علي البكري الصديقي المتولد سنة ١٢٨٧ والمتوفى ١٣٥١ في «بيت الصديق» (ص ٢٧٢ ط مصر) قال :

روى عمار بن ياسر قال : سمعت رسول الله (صلعم) يقول لعلي بن أبي طالب : يا علي إن الله عزوجل زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها : الزهد في الدنيا فجعلك لا تنال من الدنيا شيئا ولا تنال الدنيا منك شيئا (١).

__________________

(١) قال الفاضل المعاصر عبد الرحمن الشرقاوي في «علي إمام المتقين» (ج ٢ ص ٢٣ ط مكتبة غريب الفجالة) :

وخلال إقامته في الكوفة منذ رجب سنة ست وثلاثين للهجرة ، حتى تركها زاحفا بجنده إلى الشام ، تعود أن يفقه الناس في الدين ، وأن يجلس إليهم بعد كل صلاة يعلم ويفتي ، ويقول لهم : اسألوني وما قالها أحد غيره.

كما تعود أن يذهب إلى سوق المدينة فيشترى حاجته وحاجة أهل بيته من طعام ونحوه ، فيأمر أهل السوق بتقوى الله ، وصدق الحديث والعدل في الميزان.

اشترى ذات يوم قميصين ، فقال لغلامه : اختر واحدا منهما.

ولقد تحدث إليه بعض الذي لحقوا به من أتقياء أهل الشام وقرائهم عن بذخ معاوية ، وعن إغداقه على من يصطنعهم ، فزعموا أن على مائدة معاوية عشرة أصناف من الحلوى وحدها ، وأنه يرتدى كل يوم حلتين ، وقد اتخذ لسيفه مقبضا من ذهب ، وما هو إلا أحد الولاة ، فما بال أمير المؤمنين لا يملك غير إزار قصير ، من غزل أهل بيته ، لا يغطى إلا نصف ساقه ، وما بال طعامه أخشن طعام ، وما باله بحمل سيفه على حبل من ليف ، وقد اتخذ من حصير المسجد سرير ملكه.

يا له من إمام للمتقين وإمام للمساكين! وضحك الإمام وقال لهم : أما والله ما أحب الفقر ، ولو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته ، ولكني والله لا أرزأ من أموالكم شيئا.

ولاحظ أحد الحاضرين أن أمير المؤمنين يرتعد من البرد ، وليس عليه ما يكفى من الثياب فسأله : يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيبا ، فلم تفعل بنفسك هذا. فتبسم قائلا : إن مس الحصير كان يوجع جنب رسول الله صلى

٢١٣

__________________

الله عليه وسلم ، وما شبع هو وأهله من طعام قط وقد حيزت له الدنيا وما فيها ، وأنا على سنته ، ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لا يحل للخليفة من بعدي من مال الله إلا قصعة يأكلها هو وأهله وقصعة يتصدق بها وحلة للصيف وحلة للشتاء ، على أنى أعيش على ما يأتيني من ينبع ، وأستغنى به عن بيت المال.

وسكت قليلا ثم تنهد وقال : كم من جامع ما سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه ، أصاب به حراما ، واحتمل به آثاما ، فناء بوزره وقدم على ربه آسفا لاهثا خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين صدق الله العظيم. ألا إنه لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا عز أعز من التقوى ، ولا معقل أحسن من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا كنز أغنى من القناعة ، ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت ، والرغبة مفتاح النصب ، ومطية التعب ، والحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحم في الذنوب ، ألا فاعلموا أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بماء متع به غني ، والله تعالى سائلهم عن ذلك.

ولكم عجب الذين سمعوه وسمعوا معاوية : إن معاوية يقرب الناس إليه بما يغدق من منصب أو مال ، وبما يبذل من وعود ، أما علي فيصارح الناس بمنهجه ولا يطمعهم في عطاء لا يستحقونه ، أو في منصب لا يستأهلونه ، فالمال مال الله وهو أمين عليه ، فهو يستنفر في الرجل تقاه ، ويزهده في دنياه ، ليستغنى عن الناس بالله.

إنه ليتصدق بكل ماله الخاص ، ولا يبقى لنفسه أو لأهله إلا ما يكفيهم لما هو ضروري لاستمرار الحياة من الطعام والكساء ، وحين خوطب في هذا قال كرم الله وجهه ورضي‌الله‌عنه : الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك ، فلا تحمل همّ سنتك على همّ يومك! فإن تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم فإن الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك ، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك ، لن يسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، لن يبطئ عنك ما قدر لك. ألا وإن من البلاء الفاقة ، وأشد من الفاقة مرض البدن ، وأشد من مرض البدن مرض القلب ، ألا وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة

٢١٤

__________________

البدن ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب. ومن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه منها ، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفى رزقه منها.

وألح عليه بعض أصحابه أن يأكل ما طاب ليقوى على القتال فهو لا يأكل إلا رغيفين من خبز الشعير كل يوم ، وأن يكون أحسن الناس مظهرا فهو أمير المؤمنين وإمامهم. فقال : إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتى آمنة يوم الخوف الأكبر ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواى ، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا يجد القرص (الرغيف) ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا (ممتلئ البطن) وحولي بطون غرثى (خالية) وأكباد حرى ، أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها وما خلقت لأترك سدى ، أو أجر حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة ، وكأنى بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازله الشجعان ، ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا ، والروائع الخضرة أرقّ جلودا ، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأقل خمودا. وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو ، والذراع من العضد ، وقد كان رسول الله يأكل أخشن مما آكل ويلبس أخشن مما ألبس ، وأنا على سنته حتى ألحق به.

ألا وإن لكل إمام مأموما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (إزار ورداء) ، ومن طعامه بقرصيه (رغيفيه). ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولا أطالبكم به ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفة وسداد ، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا حزت من أرضها شبرا. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك. إليك عنى يا دنيا فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلت من حبائلك أغربي عني ، فو الله

٢١٥

__________________

لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيم الله لأروضن نفسي رياضة تهش معا إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ـ أي تفرح بالرغيف من شدة الحرمان وتقنع بالملح مأدوما ، أيأكل على من زاده فيهج فلا قرت إذن عينه ، إذن أصبح بعد السنين المتطاولة كالبهيمة والسائمة طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها وهجرت في الليل غمضها ، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها ، وتوسدت كفها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم ، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ثم مضى يعظهم : فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم ، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم وتزودوا من الدنيا في الدنيا ما تحفظون به أنفسكم غدا ، فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة وأن تؤديه أيامه إلى شقوة ، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة ، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية.

وبكى وبكى معه بعض أصحابه مما يسمعون ، فنظر إليهم الإمام ، وما زالت في عينيه الدموع ، فرأى من خلال الدمع صاحبا له قد بنى دارا كبيرة فقال له : لقد اتخذت دارا واسعة ، فما تصنع بهذه الدار في الدنيا أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج. فأجابه صاحبه في حياء وندم : بلى يا أمير المؤمنين. قال الإمام : إن شئت بلغت بها الآخرة : تقرى بها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها.

وقد حسب بعض المستمعين أنه كرم الله وجهه ، يدعوهم إلى الخروج عما أحل الله من متاع الدنيا ، فترك أحدهم أهله وبنيه ، ولبس مرقعة واعتكف للعبادة ، فدعاه الإمام وقال له : أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى أن الله أحل الطيبات وهو يكره أخذك منها ، لقد علمتكم أن للمؤمن ثلاث ساعات : ساعة يناجى فيها ربه ، وساعة يرمّ معاشه ، وساعة يخلى بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل.

فدع التواضع في الثياب تخوفا

فالله يعلم ما تجن وتكتم

فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة

عند الإله وأنت عبد مجرم

٢١٦

__________________

وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن

تخشى الإله وتتقي ما يحرم

فاعلم رحمك الله أنه لا بأس بالغنى لمن اتقى ، واعلم أن الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وألا يكون في حديثك فضل زيادة على عملك ، وأن تتقى الله في حديث غيرك فلا تعتزل الناس ، فلا رهبانية في الإسلام وتدبر قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رهبانية أمتي الجهاد. وتعلم وعلّم غيرك ، فما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. وكفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه لغيرك ، فخذ من الدنيا ما أتاك ، وتول عما تولى عنك ، أو ليس الله تعالى يقول : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ* فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ)؟ أو ليس الله يقول : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) إلى قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)؟ وقد قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). فظل الرجل صامتا لا يرد على الإمام. فقال : تكلم يا رجل ليعرف الناس من أنت ، فإن المرء مخبوء تحت لسانه. فقال الرجل : يا أمير المؤمنين تنهاني عن العزوف عن زينة الحياة التي أحل الله لعباده والطيبات من الرزق ، فعلام اقتصرت في مطعمك على الطعام الغليظ وفي ملبسك على الخشونة؟ وتركت قصر الإمارة ونزلت منزل أفقر أهل الكوفة؟

فضحك الإمام كرم الله وجهه ، وقال : إن الله الذي جعلني إماما لخلقه فرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي ومسكني كضعفاء الناس ، لأن الله أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني ، ولا يزرى بالفقير فقره. فو الله ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر ، ولو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته ، فالفقر هو الموت الأكبر ، وإني لأعرف أن الفقر غربة في الوطن ، والغنى وطن في الغربة ، ولكني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ، ولقد قال لي قائل : ألا تنبذها عنك؟ فقلت له : اغرب عني. فعند الصباح يحمد القوم السرى. والله لأن أبيت على حسك السعدان (الشوك الحاد)

٢١٧

__________________

مسهدا ، أو أجرّ في الأغلال مصفدا ، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد أو غاصبا لشيء من الحطام. وإن لي في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسوة ، إذ قبضت عنه أطراف الدنيا ، وفطم عن رضاعها ، وزوى عن زخارفها ، وكان يلبس ويطعم أخشن مما ألبس وأطعم. وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الطعام الغليظ ، وكان سراجه بالليل القمر ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه.

وجاءه بعض الموالي من أهل الكوفة يشكون الولاة وأعوانهم ، فقال لهم : وأين علماؤكم؟ لقد أخذ الله على العلماء ألا يقروا ظالما ولا يسكتوا عن مظلوم.

ثم سألهم عن أعوان الولاة ، فعلم أن الولاة لا يحاسبونهم فقال : يجب على الوالي أن يتعهد أموره ، ويتفقد أعوانه ، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء ، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء ، فإنه إذا ترك أعوانه تهاون المحسن واجترأ المسيء ، وفسد الأمر.

فقال أحد الموالي : سأل الإسكندر حكماء بابل أيها أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل؟ فقالوا : إذا استعملنا العدل لم نحتج للشجاعة.

فقال الإمام : يجب على السلطان أن يلزم العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه ، وفي باطن ضميره لإقامة أمر دينه ، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ، ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف ، فلا يقوم سلطان لأهل الإيمان والكفر إلا بهما. والإمام العادل كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه ، وتفسد بفساده.

فقال رجل آخر من الموالي : قال سقراط : ينبوع فرح العالم الملك العادل ، وينبوع حزنهم الملك الجائر. فقال الإمام ضاحكا : حسبكم دلالة على فضيلة العدل أن الجور الذي هو ضده لا يقوم إلا به ، وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم ، احتاجوا إلى استعمال العدل في اقتسامهم ، وإلا أضر ذلك بهم.

فقال رجل ثالث من الموالي : جاء في كتب الهند : رأس الحزم للملك معرفته

٢١٨

__________________

بأصحابه ، وإنزالهم منازلهم ، واتهام بعضهم على بعض.

وقال رجل رابع من الموالي : قال أحد حكمائنا ينصح كسرى أنو شروان : كلمة منك تسفك دما ، وأخرى تحقن دما ، وسيفك مسلول على من سخطت عليه ، ورضاك بركة مستفادة على من رضيت. وما نقول لك إلا هذا يا أمير المؤمنين ، فاختر لولايتك أحد رجلين إما أن يكون وضيعا فرفعته ، أو صاحب شرف مهمل فاصطنعته.

وعجب بعض العرب من أصحاب الإمام فصاح : ويلكم! أتعلّمون أمير المؤمنين وهو باب مدينة العلم.

فنصح الإمام أصحابه بالحلم ، وطلب منهم أن يجعلوا الحكمة ضالتهم ، فقد علمهم الرسول أن الحكمة ضالة المؤمن وأن عليه أن ينشدها ، وقال لمن أنكر على الموالي أن يشيروا على أمير المؤمنين : لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك ، فتنقطع بذلك عن المشورة ، فإنك لا تريد الفخر ، ولكن الانتفاع. ثم التفت الإمام إلى أصحابه قائلا : ما هلك امرؤ عن مشورة ، ونعم المؤازرة المشاورة ، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواضع الخطأ ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ندم من استشار. فاعلموا أن الخطأ مع الاستشارة خير من الصواب مع الاستبداد ، فتعوذوا من سكرات الاستبداد بصحوات الاستشارة ، واعلموا أن الرأي يسد ثلم السيف ، والسيف لا يسد ثلم الرأي. فلا يرفع أحدكم صوته بغير حجة على أحد من الموالي ، واعلموا أن الظفر لمن احتج ، لا لمن لج.

ثم التفت إلى أحد الذين صاحوا في وجه الموالي الأربعة وقال : العقل حسام قاطع ، والحلم غطاء ساتر ، فقابل هواك بعقلك ، واستر خلل خلقك بحلمك ، ولا يتعصب أحدكم لقبيلته أو لقومه من العرب ، فقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجة من عقول السفهاء.

وشرع الإمام يكتب إلى عماله الذين اشتكاهم الموالي ، فكتب لأحدهم : اتق الله ، ولا تبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمة ، فإن الله لا يحب المتكبرين ، واعلم أن من آذى إنجيليا فقد آذاني.

٢١٩

__________________

وكتب لوال آخر : أما بعد ، فإن دهاقين بلدك شكوا منك غلظة وقسوة ، واحتقارا وجفوة ، ولهم في ذمتنا عهد ، فامزج لهم بين التقريب والإدناء ، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله.

وكتب لثالث : بلغني أنك تعمر دنياك بآخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك ، لئن كان الذي بلغني عنك حقا ، لجمل أهلك وشعث نعلك خير منك ، ومن كان بصفاتك فليس بأهل أن يسد به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على جباية ، فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله.

وكتب لرابع : بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك ، وأغضبت إمامك ، أنك تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم ، وأريقت عليه دماؤهم ، فيمن اعتامك (اختارك) من أعراب قومك ، لئن كان ذلك حقا لتجدن بك علىّ هوانا ، ولتخفن عندي ميزانا. فلا تستهن بحق ربك ، ولا تصلح دنياك بمحق آخرتك ، فتكون من الأخسرين أعمالا.

وكتب لعامل غيره : بلغني أنك جردت الأرض ، فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إلي حسابك.

وكتب لجميع عماله على أهل البلاد المفتوحة (أهل البلاد المفتوحة هم الموالي) : انظروا في حال تشتتهم وتفرقهم ، ليالي كانت الملوك والأكاسرة والأباطرة أربابا لهم فتركوهم عالة مساكين.

وكتب إلى أحد عماله : أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت من المتكبرين؟ أتطمع وأنت متمرغ في النعيم ، تستأثر فيه على الجار المسكين والضعيف الفقير والأرملة واليتيم ، أن يجب لك أجر الصالحين المتصدقين؟ فما ذا لو أكلت طعامك مرة وأطعمت الفقير الجائع مرة؟ إنما المرء يجزى بما أسلف ، والسّلام.

وكتب لآخر : انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله ، فاصرفه إلى من قبلك (عندك) من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات (الحاجات) وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا.

٢٢٠