إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٢

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

١
٢

مستدرك

ترجمة الامام علي عليه‌السلام

قد تقدم في هذا الكتاب الشريف ذكر اسمه الشريف ونسبه المنيف مرارا نقلا عن كتب العامة ونستدرك هاهنا عن الكتب التي لم نرو عنها فيما سبق :

فمنهم العلامة المؤرخ محمد بن مكرم المشتهر بابن منظور المتوفى سنة ٧١١ في «مختصر تاريخ دمشق» لابن عساكر (ج ١٧ ص ٢٩٧ ط دار الفكر) قال :

علي بن أبي طالب عليه‌السلام

واسم أبي طالب عبد مناف ، بن عبد المطلب واسمه شيبة ، بن هاشم واسمه عمرو ، ابن عبد مناف واسمه المغيرة ، بن قصي واسمه زيد ، أبو الحسن الهاشمي ابن عم سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وختنه على ابنته ، وأخوه وأبو سبطيه الحسن والحسين.

من المهاجرين الأولين ، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وبويع بالخلافة بعد قتل عثمان بن عفان يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكانت بيعته في دار عمرو بن محصن الأنصاري ، ثم بويع للعلامة من الغد يوم السبت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣

ومنهم العلامة الحافظ أبو حاتم محمد بن أحمد التميمي البستي المتوفى سنة ٣٥٤ في «السيرة النبوية وأخبار الخلفاء» (ص ٥٢١ ط مؤسسة الكتب الثقافية ودار الفكر في بيروت) قال :

علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه

ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، أبو الحسن الهاشمي ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هشام بن عبد مناف ، وهاشم أخو هشام ، ومن زعم أنه أسد بن هاشم بن عبد مناف فقد وهم.

ومنهم أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج ٥ ص ٦٦ ط دار الكتب العلمية بيروت) قال :

هو علي بن أبي طالب ، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، ويكنى أبا الحسن وأبا تراب. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي ، وعلي عليه‌السلام أول من صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني هاشم ، وشهد المشاهد معه ولم يتخلف عن مشهد ، إلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفه في غزوة تبوك ، فقال : أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.

ولما آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الناس آخى بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه.

ومنهم العلامة محمد بن حسن الآلاني الكردي المتوفى سنة ١١٨٩ في «رفع الخفا شرح ذات الشفا» (ج ٢ ص ٢٥٧ ط عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية) قال :

٤

كان آدم شديد الأدمة عظيم العينين أقرب إلى القصر ، ذا بطن ، كثير الشعر ، عريض اللحية ، أصلع أبيض الرأس ، لم يخضب إلا نادرا ، كذا في صفوة ابن الجوزي. وفي ذخيرة [ذخائر] العقبى للمحب الطبري : كان ربعة معتدلا ، أدعج العينين عظيمهما ، حسن الوجه كأنه قمر ، عظيم البطن إلى السمن ، وفي رواية : أغيد كأن عنقه بريق فضة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه ، وشديد الساعد واليدين إذا مشى إلى الحرب هرول ، ما صارع أحدا إلا صرعه ، خفيف المشي ضحوك السن.

إلى أن قال بعد نقل قول شرح المقاصد عن بعض المتكلمين انعقاد الإجماع على كونه حقيقا بالخلافة : قال إمام الحرمين : ولا عبرة بقول من قال : لا إجماع على إمامة علي إن الخلافة لم تنكر له.

ومنهم العلامة الحافظ زين الدين الشيخ زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنكي الأزهري الشافعي المتوفى سنة ٩٢٥ في «تعليقة فتح الباقي على ألفية العراقي» (ج ١ ص ٢٦ ط دار الكتب العلمية في بيروت) قال :

علي بن أبي طالب : أمير المؤمنين أبو الحسنين علي بن أبي طالب الهاشمي صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي خصه الله تبارك وتعالى بمزايا فجعل السلالة النبوية من صلبه ، فقد أخرج الطبراني في الكبير عن جابر والخطيب عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن الله تبارك وتعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي من فاطمة. وفي حديث : إن الله لم يبعث نبيا قط إلا جعل ذريته من صلب غيري فإن الله جعل ذريتي من صلب علي ه.

واعلم أن الشرف كان يطلق في الصدر الأول على كل من كان من أهل البيت سواء كان حسنيا أم حسينيا أم علويا من ذرية محمد بن الحنفية وغيره من أولاد علي بن أبي طالب أم جعفريا أم عقيليا أم عباسيا ، ولهذا نجد المؤرخين كالحافظ الذهبي وغيره يقول في التراجم : الشريف العباسي الشريف العقيلي الشريف الجعفري ، فلما

٥

ولى الخلافة الفاطميون بمصر قصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين واستمر ذلك بمصر إلى الآن ، قاله السيوطي. فتخصيص الشرف بأولاد السبطين ليس بشرعي وإنما هو عرفي.

قال في الدر النفيس عقب نقله ما سلف : وهذا الذي أحدثه الفاطميون بمصر هو قديم عندنا بالمغرب من لدن افتتحه المولى إدريس بن عبد الله ه. ومن مزاياه دخوله في المباهلة والكساء وحمله في أكثر الحروب اللواء وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. وهو في المرتبة الرابعة باعتبار التفضيل على ما عليه الجمهور ، وقد وقع بينه وبين معاوية حرب طاحنة أفضت إلى التحكيم وبسببه نشأت الخوارج لخروجهم عن التحكيم ونشأت إذ ذاك فتن معضلة لا يمكننا الوقوف على حقيقتها كما قال أئمة السلف ، فتلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا. مات شهيدا في ١٧ رمضان سنة ٤٠ هجرية وله ٦٣ سنة ضربه عبد الرحمن بن ملجم الخارجي ، ودفن بالكوفة في قصر الإمارة عند المسجد الجامع (١).

__________________

(١) قال الفاضل المعاصر خالد محمد خالد في كتابه «في رحاب علي عليه‌السلام» ص ٤٥ ط دار المعارف بمصر ودار المعارف بلبنان :

هنا يعيش علي ويحيا. أجل ، هنا مذ كان محمد عليه‌السلام عابدا يبحث عن الحق ، ويتعبد في غار حراء ، ويقلب وجهه في السماء ، وكأنّه على موعد يترقبه ويتعجله. وهو هنا يعيش بعد أن أوحى إلى رسول الله ودعته السماء ليقول كلمتها ، ويبلغ رسالتها.

وعند ما بدأت أيام الرسالة الأولى بل عند ما بدأت أول ساعاتها ولحظاتها ـ كان هناك ثلاثة يلحظون التغير الهائل الذي أخذ يرسم سيماه على حياة الرسول ، هم خديجة زوجته وعلي ابن عمه وزيد خادمه ، ولقد أسلموا بهذا الترتيب أيضا. سأله علي وهو ابن عشر سنين لا غير : ما ذا أراك تصنع؟ وأجابه الرسول : إني أصلي لله رب العالمين. وسأل علي : ومن يكون رب العالمين؟ وعلمه الرسول وهداه :

٦

__________________

إنه إله واحد لا شريك له له الخلق وبيده الأمر يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. ولم يتردد الغلام المبارك ، فأسلم وكان أول المسلمين في حين كانت خديجة رضي‌الله‌عنها أول المسلمات.

ومن ذلك اليوم ، وهو مع النبي لا يفارقه ، يصلي معه ، ويصغى إليه ، ويراه وهو يتهيأ لتلقى الوحي.

وكم من آية وآيات ، كان هو أول من يسمعها وهي لا تزال حديثة العهد بمنزلها وموحيها. وأخذ الذين اصطفتهم السماء لصحبة الرسول يقبلون عليه مؤمنين : أبو بكر الصديق فعثمان والزبير وطلحة وابن عوف وسعد بن أبي وقاص. فأبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وأبناء مظعون وخباب وسعيد بن زيد وعمّار وعمير وابن مسعود الذين كتب لهم حظ السبق إلى الإسلام.

وصارت دار الأرقم على الصفا مكان لقائهم ، يلتقون فيه خفية وسرا ، فيتلو عليهم الرسول ما يتنزل به الوحي على قلبه ويصلي بهم ، ويبارك إيمانهم.

لم يغب علي عن دار الأرقم أبدا ، ولم يفته من مشاهدها الخالدة مشهد واحد وتحت سقفها وكذلك تحت سقف الدار التي يسكنها النبي ، ويقيم علي معه فيها. طالما سمع آيات الله تتلى ، وطالما غمرته أنوار النبوة تغسل حوبه وذنبه.

ما ذا؟! أأقول تغسل حوبه وذنبه؟! ولكن متى كان له حوب أو ذنب متى ، وهو الذي ولد في الإيمان والعبادة والهدى؟ إنه وهو في السادسة من عمره بدأ يعيش مع محمد الصادق الأمين ، يتأدب على يديه ، ويتأثر بطهره ، وعظمة نفسه ، وتقى ضميره وسلوكه وحين بلغ العاشرة ، كان الوحي قد أمر الرسول بالدعوة وكان هو سابق المسلمين. وسارت حياته من ذلك اليوم إلى أن يجيء اليوم الذي سيلقى فيه ربه تطبيقا كاملا وأمينا لنهج الرسول وتعاليم القرآن.

ألا بوركت هذه الحياة ، حياة لم تكن لها قط ، صبوة ولا شهوة ولا هفوة. حياة ولد صاحبها وتبعات الرجال فوق كاهله. حتى لهو الأطفال ، لم يكن لحياة ابن أبي طالب فيه حظ ولا نصيب.

٧

__________________

فلا مزامير البادية ، ولا أغاني السمار شبع منها سمع الطفل ، ووجدان الشاب. لكأن المقادير كانت تدّخر سمعه ووجدانه ، لكلمات أخرى ستغير وجه الأرض ، ووجه الحياة. أجل لقد أدخر سمع الفتى وقلبه ، ليتلقى بهما كما لم يتلق أحد مثله آيات الله العلي الكبير. أرأيتم الآيات التي سمعناها من قبل؟

فلنتصور عليا وهو يسمعها طازجة مشرقة متألقة حديثة العهد بربها ، يرتلها رسول رب العالمين. ولكن لا فلن نستطيع أن نتصور ، أو حتى تخيّل. وحسبنا ونحن نطالع هذه الحياة أن نقدر على متابعة الكلمات التي تروي أنباءها وعجائبها.

في نور هذه الآيات المنزلة ، والتي كان الوحي يجيء بها تباعا ، قضى علي بن أبي طالب بواكير حياته النضرة ، يبهره نورها ويهزه هديرها. يسمع آية الجنّة يتلوها الرسول ، فكأنما الغلام الرشيد يراها رأي العين ، حتى ليكاد يبسط يمينه ليقطف من مباهجها وأعنابها. ويسمع آية النار ، فيرتعد كالعصفور دهمه إعصار ، ولو لا جلال الصلاة وحرمتها لولّى هاربا من لفح النار الذي يكاد يحسّه ويراه.

أما إذا سمع آية تصف الله في عظمته ، وجلاله ، أو آية تعاتب الناس على إشراكهم بالله ما ليس لهم به علم ، وجحودهم فضله ونعمته فعندئذ يتحول الغلام الراشد إلى ذوب تقى وحياء.

لقد أشرب قلبه جمال القرآن وجلاله وأسراره ، هذا الذي كان يشهد نزوله آية آية حتى صار جديرا بأن يقول وهو صادق : سلوني وسلوني وسلوني عن كتاب الله ما شئتم .. فو الله ما من آية من آياته إلا وأنا أعلم أنزلت في ليل أم في نهار. وحتى كان كما وصفه الحسن البصري رضي‌الله‌عنه : أعطي القرآن عزائمه وعلمه وعمله ، فكان منه في رياض مونقة وأعلام بينة. هذا هو علي بن أبي طالب. هذا هو الذي نرجو ألا نكون مغالين إذ وصفناه بأنه : ربيب الوحي. فطوال السنوات الأولى لنزول الوحي ، كان فتانا هناك ، يشهد نزوله ، ويسبق غيره في تلقيه من رسول رب العالمين. ويلقى سمعه ، وقلبه لأسراره وأنواره.

ولطالما شهدته شعاب مكة ، وهو ثاني اثنين الرسول عليه‌السلام ، وعلي كرم الله

٨

__________________

وجهه ، يصليان معا ، بعيدا عن أعين القريشيين وأذاهم.

وهناك في رحاب الصحراء الواسعة ، حيث لا يرتد البصر أمام حدود أو سدود ، وحيث تتنزّل على النفس أسرار الكون العظيم ، عاكسة على الشعور جلاله ومجده ، كان علي يتلقى من فم الرسول كلمات القرآن وآياته نفسه مرفهة ، وعزمه متهلل قلبه جميع ، وروحه حر وشخصيته بكل خصائصها الموروثة والمكتسبة ، تتلقى تأثيرا لا يقاوم وتستسلم في غبطة مطلقة لهذه الآيات التي آمن بها وحيا ودينا. وآمن بقارئها وتاليها نبيا ورسولا.

من أجل هذا ، لا نعجب ، إذ رأينا عليا طوال حياته يعطي القرآن ولاء مطلقا ولا يقبل أدنى ميل عنه ، ولا يغفر أقل تفريط فيه. إنه ربيب الوحي والتلميذ الأول للقرآن وإنه سابق المسلمين ، ألم يسمع القرآن يتساءل في هدير ورهبة : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) بأي حديث.

إن الفتى الأوّاب ليرتجف من هول التساؤل ، وجلال الخطاب ويجيب في صيحة مكظومة : لا بحديث غيرحديثك نؤمن ، يا رب كل شيء. ومن هذه الآية ، ومثلها معها من آيات القرآن العظيم ، أشرب قلب علي ولاء للقرآن ليس له نظير.

ألم يسمع القرآن يحدد للرسول طريقه المستقيم فيقول : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

إنه أيضا من هذه الآية ، ومثلها من آيات القرآن وتعاليم السماء ، ليستمد عزما خارقا على أن يسير فوق صراط الحق بخطي ثابتة راسخة أكيدة ، متخطيا أهواء الذين لا يعلمون في استقامة قديس ، وشموخ مقتدر. لك الله أبا الحسن أكنت تدري ، أي معارك ضارية ستخوضها غدا ضد أهواء الذين لا يعلمون؟

من ولائه الوثيق للقرآن ، وشهوده فجر الوحي وضحاه كان علي ربيب الوحي. ومن ولائه الوثيق للإسلام ، وسبقه إليه قبل غيره من رجال العالمين كان علي سابق المسلمين. وسابق المسلمين لقب لا يستحقه علي لمجرد سبقه إلى الإسلام. فعلي ، هو الذي علم الناس فيما بعد ، أنه : ليس الطريق لمن سبق بل لمن صدق. إنما يستحقه لأنه

٩

__________________

حاز كلتا الحسنيين : السبق والصدق.

وحين نتتبع مظاهر إسلامه نرى عجبا وحين نستقبل شمائل إيمانه ، نستقبل روضات يانعات نتأنق فيهن ، ويثملنا عبيرها ، وطهرها وتقاها.

والآن ، ما بالكم برجل اختاره الرسول من بين أصحابه جميعا : ليكون في يوم المؤاخاة أخاه؟ وكيف كانت أبعاد إيمانه وأعماقه ، حتى آثره الرسول بهذه المكرمة والمزية؟

عند ما تمت هجرة النبي والمسلمين إلى المدينة ، آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار وجعل لكل أنصاري أخا من المهاجرين حتى إذا فرغ عليه‌السلام من دمجهم في هذا الإخاء العظيم رنا بصره تلقاء شاب عالى الجبهة ، ريان النفس ، مشرق الضمير وأشار الرسول إليه ، فأقبل عليه. وبين الأبصار المشدودة إلى هذا المشهد الجليل ،

أجلس النبي عليا إلى جواره ، وربت على كتفه ، وضمّه إليه وهو يقول : وهذا أخي. لقد كان الصديق أبو بكر ، وكان الفاروق عمر آنئذ هناك ، فهل من حقنا أن نتساءل : لما ذا لم يختص الرسول أحدهما بهذا الذي اختص به عليا؟ إن تساؤلا كهذا يفسد جلال المشهد ويفوّت علينا رواءه. والمسلم الذي ينشد الأدب مع رسول الله وأصحابه يحني هامته إجلالا لهذا الرعيل الأول والأسبق من أصحابه على حد سواء.

اختار الرسول إذن عليا ليكون في هذه المؤاخاة أخاه ، وكل شرف كان الإسلام يضفيه على ابن أبي طالب كان يزيد إحساسه بمسئولياته الدينية شحذا ، وقوة. ولم يكن في طول الدنيا وعرضها ما يراه ابن أبي طالب كفوا لأن يكون مثوبة على إسلامه وأجرا.

إن الإمام كرم الله وجهه كان يعرف تماما قيمة الذي هداه ربه إليه ، وكان من الذين يؤمنون بأن الخير مثوبة نفسه. فالذي يوفق للخير ولحق يكون جاهلا بقيمة الحق والخير ، إذا هو طلب من الدنيا مثوبة وأجرا نظير فعله الخير وحمله راية الحق.

وهكذا حمل علي إسلامه بين جنبيه ، وتحت ضلوعه ، وفي أعماق روحه ، ومضى يستصغر شأن الدنيا بكل فنونها وزينتها.

١٠

__________________

وكلما تراءت له مباهجها سدها بعبارته المأثورة : يا دنيا ، إليك عني .. يا دنيا ، غري غيري. وعلي في إسلامه ، نموذج عظيم مكتمل الشكل والجوهر. فإذا كان الإسلام عبادة ، ونسكا جهادا ، وبذلا ترفعا وزهدا فطنة وورعا سيادة وتواضعا قوة ورحمة عدالة وفضلا استقامة وعلما بساطة وتمكنا ولاء وفهما.

إذا كان الإسلام ذلك كله ، فإن سابق المسلمين عليا كرم الله وجهه كان أحد النماذج الباهرة والنادرة لهذا الإسلام. ومن شاء أن يتعرف إلى حياة الإمام وسلوكه ، فليقرأ كلماته ذلك أنه لم يكن بين مقاله وفعاله ، تفاوت أو تناقض.

أجل لم يكن بين ما يقول ، وما يفعل. بعد ولا مسافة ، ولا فراغ.

فإذا حث الناس على الزهد ، فلأنّه أسبقهم إليه ، وإذا حثهم على البذل ، فلأنه أقدرهم عليه ، وإذا حثهم على طاعة أية طاعة فلأنه يمارسها في أعلى مستوياتها. صلى الفجر يوما بأصحابه في الكوفة ، وهو أمير المؤمنين ، فلما فرغ من صلاته جلس سائما حزينا ولبث في مكانه ومجلسه ، والناس من حوله يحترمون صمته فلا يتحركون حتى طلعت الشمس ، واستقر شعاعها العريض على حائط المسجد من داخل. فنهض الإمام علي وصلى ركعتين ثم هز رأسه في أمى ، وقلب يده وقال : والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما أرى اليوم شيئا يشبههم .. لقد كانوا يصبحون وبين أعينهم آثار ليل باتوا فيه سجّدا لله ، يتلون كتابه ويتراوحون بين جباههم وأقدامهم ... وإذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح ... وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم.

هذه صورة الماضي العظيم. صورة الأيام الجليلة الرائعة أيام الوحي والرسالة يعيش فيها علي العابد دوما وأبدا ولا يستطيع الزمن مهما توغل في البعد أيامه وأعوامه أن ينتزع الإمام العابد منها ، فهي منسكه ومحرابه.

وإنه ليحدث المسلمين عن الإسلام الذي آمن به ، وجعله كتاب حياته ، فيقول : تعلموا العلم ، تعرفوا به ، واعملوا ، تكونوا من أهله .. ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أتت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا

١١

__________________

من أبناء الدنيا. ألا وإن الزاهدين في الدنيا قد اتخذوا الأرض بساطا ، والتراب فراشا ، والماء طيبا. ألا وإن من اشتاق إلى الآخرة ، سلا عن الشهوات .. ومن أشفق من النار ، رجع عن المحرمات .. ومن طلب الجنة ، سارع إلى الطاعات .. ومن زهد في الدنيا ، هانت عليه مصائبها .. ألا ، وإن لله عبادا شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة ، أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة ، صبروا أياما قليلا لعقبى راحة طويلة إذا رأيتهم في الليل ، رأيتهم صافين أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم .. وأما نهارهم فظماء حلماء بررة أتقياء كأنهم القداح .. ينظر إليهم الناظر فيقول : مرضى وما بهم من مرض ، ولكنه الأمر العظيم.

ذلك هو شغله الشاغل ينام على هديره ويصحو على زئيره. دين الله الذي حمل أمانته ، وقرأ كتابه ويوم الله ، الذي سيقف فيه بين يديه غدا ، لينظر جزاءه وحسابه.

أو من أجل هذا ، لا ينام علي ولا يستريح؟ أجل ، من أجل هذا ، يقضي ليله ونهاره في عبادة تضنى جسمه الأيد الوثيق. ومن أجل هذا ، يدع الدنيا وراءه ظهريا ، فيأبى وهو خليفة للمسلمين ، أن ينزل قصر الإمارة بالكوفة. ويؤثر عليه الأرض الخلاء. والدار المهجور. ويلحون عليه كي ينزل قصر الإمارة هذا. فيجيبهم ، لا قصر الخبال لا أنزله أبدا. ومن أجل هذا ، يلبس الثوب الخشن ، فيسأله أصحابه أن يعطى نفسه ومنصبه بعض حقهما فيقول : هذا الثوب ، يصرف عني الزهو ويساعدني على الخشوع في صلاتي. وهو قدوة صالحة للناس ، كي لا يسرفوا ويتبذخوا.

ثم يتلو آية القرآن العظيم : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). إنه لا يركن إلى الدنيا لحظة من نهار. إنها بالنسبة له ، قد أدبرت وآذنت بوداع فلما ذا إذن يعطيها ولاءه وبلاءه؟ إن الآخرة عند الإمام هي الدار هي الأبد وما أهل الدنيا في شتى العصور والدهور إلا سائرون فوق جسر كلما انتهى من عبوره قوم وجدوا أنفسهم أمام الأبدية حيث الجنة ، أو النار. ألا فلنصغ لحديثه : إن المضمار اليوم ، وغدا السباق ... ألا وإنكم في أيام أمل ، من ورائه أجل .. فمن قصّر في أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله .. ألا فاعملوا لله في

١٢

__________________

الرغبة ، كما تعملون له في الرهبة .. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ولم أر كالنار نام هاربها. ألا وإن من لم ينفعه الحق ، ضره الباطل ... ومن لم يستقم به الهدى ، حاد به الضلال. ألا وإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر .. وإن الآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قادر .. وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل .. فإن اتباع الهوى ، يصد عن الحق .. وإن طول الأمل ، ينسي الآخرة.

فلتأت الأحداث والأهوال عاصفة ، تقتلع الجبال من حول الإمام ، فإنه لن يتبع الهوى أبدا. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق. ولتبذل الدنيا له كل نفسها وزينتها ، وبهجتها ، وإغرائها ، فإنه لن يربطها به أمل ولا رجاء. فإن طول الأمل ، ينسى الآخرة.

وهو رضي‌الله‌عنه لا يريد أن يتوه عن الحق ، ولا يريد أن ينسى الآخرة. فالحق حياته والآخرة داره.

على أن زهد ابن أبي طالب في الدنيا ، وعزوفه عنها ليس زهد الهاربين من تبعات الوجود ومسئوليات الحياة. إنما هو زهد يشكله إسلامه ، الذي يجعل المسئولية العادلة دينا ، ويجعل العمل الصالح الدائب عبادة وقربى. وهنا نلتقي ب علي يصحح المعايير والموازين ، إذ لا يكاد يسمع رجلا يذم الدنيا مذمة العاجز المتواكل حتى يقول : الدنيا دار صدق ، لمن صدقها ودار نجاة ، لمن فهم عنها ، ودار غنى وزاد لمن تزود منها. مهبط وحي الله ... ومسجد أنبيائه .. ومتجر أوليائه .. ربحوا فيها الرحمة ، واكتسبوا فيها الجنة. أجل هذه هي دنيا المسلم ، كما يفهمها ربيب الوحي ، وسابق المسلمين .. دار عمل لا لهو يكدح فيها الإنسان لينشئ لنفسه مصيرا سعيدا يوم يقوم الناس لرب العالمين. وهي دار صدق ، لمن عاش فيها صادقا مع مسئولياته وتبعاته ودار نجاة ، لمن سار فيها على درب النجاة.

وبهذا الفهم السديد للدنيا ، ربحها علي وربح بها مصيره وأخراه. فهي بالنسبة له ، لم تكن دار لعب ولهو أبدا. منذ طفولته الباكرة ، حمل الإسلام في قلبه. وحمل معه كل أعباء الرجال. ولقد قطع حياته وقضى أيامه على الأرض في كفاح موصول ، ونضال لم يعرف الراحة يوما. وعاش كما وصفه الرسول عليه‌السلام : مخشوشن في سبيل الله.

١٣

__________________

مقت الترف من كل نفسه ، ونأى عنه بكل قوته وعزمه. ذلك أنه فهم الإسلام وعاشه ، وتعلم منه أن الترف مشغلة الفارغين العاطلين. والإنسان الذي يعيش مع مسئوليات كبار كتلك التي يفرضها الإسلام الحق على أبنائه الحقيقيين وأهله إنما يكون حظه من الصدق والتوفيق مضاهيا حظه من البساطة والتخشن. وهكذا كان الإمام ، وهكذا أراد للناس أن يكونوا.

عند ما قدم مكة من اليمن ورسول الله يومئذ يحج بها حجة الوداع ، تعجل هو إلى لقاء النبي تاركا جنوده الذين عادوا معه على مشارف مكة بعد أن أمّر عليهم أحدهم.

وبدا لهذا الأمير المستخلف أن يلبس الجند حللا زاهية من تلك التي عادوا بها من اليمن ، حتى يدخلوا مكة وهم في زينتهم يسر منظرهم الأعين. وأمرهم ، فأخرجوا من أوعيتهم حللا جديدة ارتدوها ، واستأنفوا سيرهم إلى مكة. وعاد علي بعد لقاء الرسول ، ليصحب جنده القادمين وعلى أبواب مكة رآهم مقبلين في حللهم الزاهية. وأسرع نحوهم ، وسأل أميرهم : ويلك ما هذا؟ قال : لقد كسوت الجند ليتجملوا إذا قدموا على إخوانهم في مكة. وصاح به علي : ويلك انزع قبل أن تنتهي بهم إلى رسول الله. فخلعوا حللهم جميعا ، وكظموا في أنفسهم مرارة بما صنع بهم علي الورع ، الزاهد ، الأواب .. ولما دخلوا مكة ، ولقوا الرسول ، شكا إليهم بعضهم عليا ، وقصوا عليه نبأه معهم. فاستقبل الرسول القوم وقال : أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله ، إنّه لأخشن في سبيل الله من أن يشكى.

وهو بإسلامه وفي إسلامه لا يتغير طفلا وشابا وشيخا جنديا وقائدا وخليفة للمسلمين .. إن تقوى الله تأخذ عليه لبة وهو لا يعامل الناس بذكائه ، ولا بحسبه ونسبه. بل بإخلاصه وتقواه .. ثم هو لا يريد منهم ، بل ولا يقبل منهم أن يعاملوه بغير الصدق والتقوى. من أجل هذا سنراه حين يقع الصدام بينه وبين معاوية يؤثر الهزيمة مع الإخلاص والتقوى ، على انتصار يتحقق بالمكر والمراوغة. ويقول له ابن عمه عبد الله بن عباس وهو الصالح الورع : خادعهم ، فإن الحرب خدعة ، فيجيبه الإمام الطاهر : لا والله لا أبيع ديني بدنياهم أبدا. مسلم عظيم يفجر الدنيا من حواليه ذمة ، واستقامة ،

١٤

__________________

وطهرا.

وكذلك نراه وهو يخطب أصحابه في أول جمعة ، بالكوفة ، وهو أمير المؤمنين ، لا يخطب خطبة خليفة ولا أمير ولا حاكم .. لا يصدر قرارات ، ولا يرسم سياسة على كثرة ما كانت الظروف تتطلب من قرارات ، وسياسة بل لا يجعل خطابه الأول هذا استجابة لحماس أصحابه وشد زناد الحمية في أنفسهم استعدادا للمعركة التي سيخوضونها مع جيش الشام المقاتل ، المدرّب ، الصعب المراس. لا شيء من ذلك كله يضمنه الخليفة والإمام خطابه. إنما هي الدعوة الخالصة لتقوى الله وحسن عبادته وطاعته اسمعوا : أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباده ، وأقرب الأعمال لرضوانه ، وأفضلها في عواقب الأمور عنده. وبتقوى الله أمرتم ، وللإحسان خلقتم ... فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه ، فإنه حذر بأسا شديدا. واخشوا الله خشية ليست بتعذير واعملوا من غير رياء ولا سمعة ، فإن من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ومن عمل مخلصا له تولاه الله وأعطاه فضل نيته ، وأشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا ولم يترك شيئا من أمركم سدى قد سمى آثاركم ، وعلم أسراركم وأحصى أعمالكم ، وكتب آجالكم فلا تغرنكم الدنيا ، فإنها غرارة لأهلها ، والمغرور من اغتر بها وإن الآخرة لهي دار القرار.

أهذا خطاب رئيس دولة؟ كلا إنما هو خطاب ناسك. خطاب مسلم ومؤمن وجّه وجهه وقلبه وحياته للذي فطر السموات والأرض ، لا يعنيه إلا أن يحيا في مرضاته تقيا ، وأن يحيا الذين من حوله أتقياء ، أنقياء.

كذلك نراه ونرى إسلامه الوثيق حين لم يعد ، بدّ من لقاء معاوية في معركة صفين يستقبل جيشه ليلة المعركة خطيبا ، فلا يعدهم ولا يمنيهم. ولا يرفع أمامهم مباهج الدنيا ونعيمها ، ثمنا للنصر إذا هم ظفروا به .. إنما يحدثهم حديثا آخر يختلف عن كل الأحاديث التي تتطلبها أمثال هذه المناسبة. أنظروا .. ألا إنكم ملاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة قيامكم وصلاتكم وأكثروا تلاوة القرآن ، وسلوا الله الصبر والعفو والعافية.

١٥

__________________

في أوقات السلم ، وفي أوقات الحرب .. فوق ثبج النصر ، وتحت وقع الهزيمة في سرائه ، وفي ضرائه لا يستولي على تفكيره ، وعلى ضميره ، وعلى شعوره سوى تقوى الله سبحانه. وحتى وهو يكتب إلى عمرو بن العاص الذي انحاز إلى صف معاوية ، وبات يشكل خطرا حقيقيا على جبهة الإمام ، لا نلتقي بالإمام يمني عمرا بدنيا ، ولا يستميله إلى هوى نفس السلاح الذي كان معاوية يكسب به الأنصار بل نبصره يصدع عمرا بالحق في غير مساومة ، ولا مجامل. إنه يناشده تقوى الله لا غير ، هذه التقوى التي تجري من ابن أبي طالب مجرى الدم ، فيقول له في كتابه إليه : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص .. أما بعد ، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها وصاحبها مقبور فيها ومهموم عليها لم يصب منها شيئا قط ، إلا فتحت له حرصا ، وإلا أدخلت عليه مئونة تزيده رغبة فيها ولن يستغني صاحبها بما ناله عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله ، فإن معاوية غمط الناس ، وسفه الحق.

إنه يرفض أن تحدد علاقات الناس به ، أو علاقاته بهم منفعة أو غرض.

حتى في أحرج ساعات حياته ، يمعن في الرفض وفي الاستغناء. إنه يؤمن بأن الحق مقدس وأنه أجل من كل ثمن. ولا شيء على وجه الأرض يمثل الحق في يقينه مثلما يمثله الإسلام. من أجل ذلك نذر حياته لقضية الإسلام منذ عمره الباكر. وعاش عمره المسلم يتنفس النقاء ، والصدق ، والاستقامة.

ليس في حياته كلها وقفة واحدة مع المساومة ، أو المداجاة ، أو الالتواء .. ولعله لو شاء لكان داهية لا يشق له غبار فحدة ذكائه ، واتقاد بصيرته يعطيانه من الدهاء ما يريد. لكنه تخلى عن كل مواهب الرجل الداهية وأحل مكانها كل مواهب الرجل الورع.

إن فهمه لحقيقة الإسلام. وإن ولاءه الوثيق له قد حملا حياته من الأعباء فوق ما تطيق. ولقد كان بعض جهاده وبلائه كفيلا بأن يبوءه مكانه العالي بين الأخيار الصادقين. ولكن الرجل الذي وصفه الرسول بأنّه مخشوشن في سبيل الله قد أخذ نفسه بعزائم الأمور ، وناط قدرته وطاقته بالمستحيل ، ونذر للإسلام حياة استقلها ، فراح

١٦

ومنهم العلامة الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي في «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» (ج ٢٠ ص ٤٧٣ ط مؤسسة الرسالة ، بيروت)

فذكر ترجمته عليه‌السلام وسرد اسمه ونسبه الشريف.

ومنهم الشريف علي فكري الحسيني القاهري في «أحسن القصص» (ج ٣ ص ١٧٨ ط بيروت) قال :

نسبه : هو أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ، بن هاشم ، ابن عبد مناف ، بن قصي ، فهو ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمه فاطمة بنت أسد ، بن هاشم ، بن عبد مناف ، وكان علي أصغر بنيها ، وهي أول هاشمية ولدت هاشميا ، فهو أول خليفة أبواه هاشميان.

إلى أن قال :

ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان علي أول صبي أسلم وسنه ثمان سنين. وقال المرحوم الشيخ محمد عبد المطلب في قصيدته المشهورة بالعلوية التي ألقاها في الجامعة المصرية سنة ١٩١٩ [١٣٣٨ ه‍] ما يأتي :

__________________

يحملها أعباء مائة حياة.

ومع أيامه المجيدة التي عاشها في دنيا الناس هذه ، حقق الإسلام فيه معجزة الصياغة تلك المعجزة المتمثلة في قدرة هذا الدين على صياغة العظمة الإنسانية في أحسن تقويم.

إن ابن أبي طالب في كل مجالات حياته ، لواحد من أولئك الذين تجلى فيهم إعجاز الإسلام ، فلنواصل سيرنا معه ، لنرى كيف تكون العظمة الإنسانية وكيف يكون العظماء.

١٧

علي في صباه وإسلامه :

تبصر هل ترى إلا عليا

إذا ذكر الهدى ذاك الغلاما

غلام يبتغي الإسلام دينا

ولما يعد أن بلغ الفطاما

إذ الروح الأمين بقم فأنذر

أتى طه لينذرهم فقاما

وأمّتهم إلى الإسلام أمّ

غدت بالسبق أوفرهم سهاما

وصلى حيدر فشأى قريشا

إلى الحسنى فسموه الإماما

وما اعتنق الحنيق بغير رأى

ولم يسلك محجته اقتحاما

ولكن النبوة أمهلته

ليجمع رأيه يوما تماما

فأقبل والحجا يرخى عليه

جلالا يصغر الشيخ الهماما

يمد إلى النبي يد ابن عم

بحبل الله يعتصم اعتصاما

صغير السن يخطر في إباء

فلا ضيما يخاف ولا ملاما

وما زالت به الأيام ترقى

على درج النهى عاما فعاما

وقد جمع الحجا والدين فيه

خلائق تجمع الخير اقتثاما

فما أوفى على العشرين حتى

شهدنا من عظائمه عظاما

* * *

ولما بلغ مرتبة الرجل ، كان بحرا لا يدرك غوره في الحلم والحكمة ، راسخ الإيمان ، سخيا جوادا ، يتصدق على الفقراء مع ضيق حاله ، أبي النفس ، شديدا على الكفار ، رحيما على المؤمنين.

زواجه : تزوج بالسيدة فاطمة بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة الثانية من الهجرة ، وسنها خمس عشرة سنة ، ورزق منها بالحسن والحسين وزينب رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، وكان خطيبا مفوها ، يستولى بفصاحته على النفوس ، وكان ممن يكتبون الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما آخى بين المهاجرين والأنصار : أنت أخي في الدنيا والآخرة.

١٨

شجاعته وإخلاصه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في الليلة التي اعتزم فيها الكفار قتل النبي عليه الصلاة والسّلام أمره الرسول أن يبيت في مكانه ، إيهاما للكفار ، وخرج هو مع أبي بكر مهاجرين إلى مدينة ، فامتثل علي أمره ، وفداه بنفسه ، ونام في فراشه غير هياب ولا وجل ، فلما دخلوا عرفوه ، وأدركوا أن النبي قد فاتهم ، وأخفقت مكيدتهم ومؤامرتهم.

وقال الشاعر في استخلافه ليلة الهجرة :

فلم ينس النبي له صنيعا

عشية ودع البيت الحراما

عشية سامه في الله نفسا

لغير الله تكبر أن تساما

فأرخصها فدى لأخيه لمّا

تسجى في حظيرته وناما

وأقبلت الصوارم والمنايا

لحرب الله تنتحم انتحاما

فلم يأبه لها أنفا علي

ولم تقلق بجفنيه مناما

وأغشى الله أعينهم فراحت

ولم تر ذلك البدر التماما

عمو عن أحمد ومضى نجيا

مع الصديق يدرع الظلاما

وغادرت البطاح به ركاب

إلى الزوراء تعتزم اعتزاما

وفي أم القرى خلى أخاه

على وجد به يشكو الأواما

أقام بها ليقضيها حقوقا

على طه بها كانت لزاما

وقال في ص ١٩٣ :

ما ذا يقول القائل ، في صف هذا الإمام العادل؟ وكل وصاف منسوب إلى العجز لتقصيره عن الغاية مهما انتهى به القول ، وكفى بشهادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه باب مدينة العلم دليلا على مكنون السر الذي فيه.

فهو أول في العلوم ، أول في الشجاعة ، أول في السخاء ، أول في الحلم والصفح ، أول في الفصاحة ، أول في الزهد ، أول في العبادة ، أول في التدبير

١٩

والسياسة ، أسد الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، لو لا تقاه لكان أدهى العرب ، كأنما أفرغ في كل قلب ، فهو محبوب إلى كل نفس ، ظهر من حجاب العظمة بمعاليه ، فاستولى الاضطراب على الأذهان والمدارك ، وذهب الناس فيه مذاهب خرجت بهم عن حدود العقل والشريعة ، أهل الذمة تحبه ، والفلاسفة تعظمه ، وملوك الروم تصوره في بيوتها وبيعها ، ورؤساء الجيوش تكتب اسمه على سيوفها كأنما هو قال الخير ، وآية النصر والظفر.

هذا ما قاله المرحوم الشيخ محمد عبده في وصفه.

وقال في ص ١٩٥ :

صفاته الخلقية : كان علي كرم الله وجهه ، شديد الأدمة ، ثقيل العينين عظيمهما ، أقرب إلى القصر من الطول ، ذا بطن كثير الشعر ، عريض اللحية أصلع ، أبيض الرأس واللحية.

صفاته الخلقية : شجاعته : علاوة على ما سبق ذكره من شجاعته ، وإخلاصه للنبي عليه الصلاة والسّلام نقول : كان لعلي كرم الله وجهه في الحرب مواقف مشهودة يضرب بها الأمثال ، فهو الشجاع الذي ما فرط قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله. وقد شهد الغزوات كلها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا غزوة تبوك ، فقد خلفه على أهله حين خرج لقتال الروم في جيش جرار ، وأبلى علي في نصرة رسول الله ما لم يبله أحد.

وكان رضي‌الله‌عنه قويا جدا ، فهو الذي قلع باب خيبر واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقدروا. قال جابر بن عبد الله : حمل علي الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها ، وأنهم جرّوه بعد ذلك فلم يحمله إلا أربعون رجلا. أخرجه ابن عساكر.

وهو الذي اقتلع هبل (صنم كبير كانت قريش تعبده) من أعلى الكعبة ، وكان

٢٠