المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

أن قوله : (فَيَكُونُ) كلاما مستقلا لا مترتبا على الأمر. ومن هنا نرى سيبويه يذكر فى الآية قراءة الجمهور بالرفع ، ولا يعرض لقراءة ابن عامر (١). ومن ذلك أن نراه لا يعرض لقراءة حمزة : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بخفض الأرحام وعطفها على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض مع أنه يقرر أنه لا يصح أن يقال : مررت بك وزيد ، بل لا بد من أن يقال : مررت بك وبزيد أى أنه لا بد فى العطف على الضمير المجرور من إعادة حرف الجر(٢).

ويتردد فى الكتاب سماعه عن علماء اللغة الموثّقين فى موطنه وفى مقدمتهم أستاذه الخليل ، وله فى الكتاب القدح المعلّى ، ويليه يونس بن حبيب ، وقد نقل عنه أكثر من مائتى مرة (٣) ، ثم الأخفش الكبير ومجموع نقوله عنه سبعة وأربعون نقلا ، ثم أبو عمرو بن العلاء ، وقد روى عنه أربعا وأربعين رواية ، ثم عيسى بن عمر ، ومجموع نقوله عنه اثنتان وعشرون مرة ، ثم ابن أبى إسحق وقد نقل عنه أربع مرات. وهو لا ينقل عنه ولا عن أبى عمرو بن العلاء مباشرة. ويروى السيرافى عن أبى زيد أنه كان يقول : كلما قال سيبويه : «وأخبرنى الثقة فأنا أخبرته» وتكررت الرواية فى الكتاب عن هذا الثقة تسع مرات. ونقل أيضا عن الكوفيين بعض وجوه من القراءات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

وذكرنا آنفا أنه دخل بوادى نجد والحجاز وأنه قيّد كثيرا عن العرب ، ويطفح الكتاب بما قيده عنهم شعرا ونثرا. وكان موقفه من العرب دائما أن يسجل الصورة الشائعة على ألسنتهم فى التعبير معتمدا عليها فى تقرير قواعده ، ولم يكن يسجلها وحدها ، بل كان يسجل دائما ما جاء شذوذا على ألسنتهم ، وهو ينعته تارة بالضعف وتارة بالشذوذ أو القبح أو الغلط ، يقصد بذلك إلى أنه يخالف القياس الذى ينبغى اتباعه ، من ذلك قوله : «واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان» (٤) وهو بذلك يقرر أن توكيد اسم إن والمعطوف عليه ينبغى أن يكونا جميعا منصوبين لأنهما يتبعان منصوبا ،

__________________

(١) الكتاب ١ / ٤٢٣.

(٢) الكتاب ١ / ٣٩١ وانظر ١ / ٣٩٧ وكذلك ٢ / ١٧٠ فى تحقيق همزة نبى مقارنا بكتاب النشر ١ / ٢١٠ ، ٤٠٦ ورد فى ٢ / ٤١٢ إدغام الراء فى اللام فى مثل قوله تعالى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مقارنا بكتاب النشر ٢ / ٢٣٧.

(٣) انظر فى عد هذا النقل عن يونس وغيره من التالين كتاب سيبويه لعلى النجدى ناصف ص ٨٩ وما بعدها.

(٤) الكتاب ١ / ٢٩٠

٨١

ومعروف أن الفاء لا ينصب المضارع بعدها إلا إذا كانت ـ كما قرر هو نفسه ـ جوابا لأمر أو نهى أوتمنّ أو استفهام أو نفى أو عرض أو تحضيض أو دعاء ، فإن نصب معها فى كلام ولم يكن جوابا لأحد هذه الثمانية كان ذلك شذوذا وضعفا إن جاء عن العرب فى بعض أشعارهم ، يقول : «وقد يجوز النصب فى الواجب فى اضطرار الشعر .. فمما نصب فى الشعر اضطرارا قول الشاعر :

سأترك منزلى لبنى تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

وقال الأعشى وأنشدناه يونس :

ثمّت لا تجزوننى عند ذاكم

ولكن سيجزينى الإله فيعقبا

وهو ضعيف فى الكلام» (١). ويقول فى باب التصغير : «من العرب من يقول فى ناب نويب ، فيجىء بالواو لأن هذه الألف مبدلة من الواو أكثر ، وهو غلط منهم» (٢). وأساس الغلط عنده أن ما ثانيه حرف علة مقلوب عن الياء أو الواو يرد إلى أصله فى التصغير ، فناب تصغّر على نييب وباب على بويب. ولذا كان يرى أن نويبا غلط وأنه ينبغى أن تكون نييبا. ويشير إلى العلة فى إجراء هؤلاء العرب نابا على مثال باب ، إذ الألف الزائدة فى التصغير إذا كانت ثانية فى اللفظة تقلب واوا ، ولما كان ذلك يجرى فى كثير من الكلمات مثل كاتب وكويتب وشاعر وشويعر ظنوا أن من حقهم أن يقلبوا ألف ناب فى التصغير واوا. وعلى هذا النحو كان سيبويه يعرض سماعه على المقاييس النحوية ، أو بعبارة أدق كان يتخذ هذه المقاييس مما دار على ألسنة العرب كثيرا ، وما خالفه ينحى عليه بكلمات تدل على مخالفته للذائع المشهور الذى استنبطت منه القواعد ، وينعته بالغلط يريد أن يثبت عليهم التوهم فيه.

وتكثر التعليلات فى كتاب سيبويه كثرة مفرطة ، سواء للقواعد المطردة أو للأمثلة الشاذة ، يقول فى فواتح كتابه : «وليس شىء يضطرون (العرب) إليه إلا وهم يحاولون به وجها» فهو لا يعلل فقط لما كثر فى ألسنتهم واستنبطت على أساسه القواعد ، بل يعلل أيضا لما يخرج على تلك القواعد ، وكأنما لا يوجد أسلوب ولا توجد قاعدة بدون علة. ونحن لا نكاد نمضى فى قراءته حتى

__________________

(١) الكتاب ١ / ٤٢٣.

(٢) الكتاب ٢ / ١٢٧.

٨٢

نجده يعلل لعدم جزم الأسماء ، يقول : «وليس فى الأسماء جزم لتمكنها وللحاق التنوين ، فإذا ذهب التنوين لم يجمعوا على الاسم ذهابه وذهاب الحركة» (١). وواضح أنه لا يعلل لواقع الاسم فحسب ، بل يعلل أيضا لما لا يجرى فى واقعه ، مما جرى فى الأفعال من بعض وجوه الإعراب. وبذلك وسّع التعليل فشمل ما هو واقع وما لم يقع ، فى الأسماء وفى الأفعال جميعا ، إذ لا يلبث أن يقف عند إعراب المضارع ، وأنه يرفع ، وينصب مع أدوات النصب ، ويجزم مع أدوات الجزم ، ويلاحظ أنه لا يجرّ ، ويحاول التعليل لذلك فيقول : «وليس فى الأفعال المضارعة جر ، كما أنه ليس فى الأسماء جزم ، لأن المجرور داخل فى المضاف إليه معاقب للتنوين ، وليس ذلك فى هذه الأفعال» (٢). ونراه يعلل لإعراب المضارع وتسميته باسمه بأنه يضارع أو يشابه اسم الفاعل فى معناه ووقوعه موقعه فإنك تقول إن عبد الله ليفعل كما تقول إن عبد الله لفاعل فيما تريد من المعنى. وأيضا فإنك تلحق به لام الابتداء ، كما ألحقتها باسم الفاعل فى نفس العبارتين المذكورتين ، وهى لا تدخل إلا على الأسماء ويمتنع دخولها على الأفعال الماضية. وبهذا كله استحق المضارع أن يعرب وأن يدخل على آخره الرفع والنصب والجزم (٣). ونحس كأنه يستشعر أنه كان الواجب أن يكون آخر الماضى ساكنا ، وكأن الأصل فى الأفعال أن تكون ساكنة الآخر ، ولا يلبث أن يعلل لفتح آخره بأن فيه بعض المضارعة ، ولذلك كان يقع موقع اسم الفاعل والمضارع جميعا ، إذ تقول «هذا رجل ضرب محمدا» كما تقول هذا رجل ضارب محمدا ، وتقول إن فعل فعلت كما تقول إن يفعل أفعل. ولذلك فارق الماضى السكون إلى الفتح ، ولم يعرب إعرابا كاملا مثل المضارع لأن مضارعته ناقصة ، إذ لا تدخل عليه لام الابتداء (٤). ومعنى ذلك أن الأفعال ثلاثة أقسام قسم منها ضارع الاسم مضارعة تامة ، فأعرب ، وهو الفعل المضارع ، وقسم ضارعها أو شابهها مشابهة ناقصة ، فبنى على الفتح وهو الماضى ، وقسم ثالث بقى على أصله من السكون وهو فعل الأمر. ويلاحظ أن النون فى الأسماء المثناة والمجموعة ليست علم الإعراب،

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣.

(٢) الكتاب ١ / ٣.

(٣) الكتاب ١ / ٣ وانظر فى تعليله لرفعه ١ / ٤٠٩.

(٤) الكتاب ١ / ٣.

٨٣

بل علمه حروف اللين قبلها وهى الألف والياء فى المثنى والواو والياء فى جمع المذكر السالم ، أما النون فحرف يقابله تنوين الاسم المفرد ، ولذلك كانت تحذف مثله فى حالة الإضافة. ويقارن بين هذه النون وبين أختها فى الأفعال الخمسة : يفعلان وتفعلان ، ويفعلون وتفعلون ، وتفعلين ، ويقول إن نون هذه الأفعال علم الرفع ، أما حروف اللين قبلها فضمائر وليست علما للأعراب كما هو الشأن فى الأسماء المثناة والمجموعة ، ويشرح ذلك شرحا معلّلا وافيا قائلا (١) :

«واعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلين لحقها ألف ونون ولم تكن الألف حرف الإعراب ، لأنك لم ترد أن تثنى يفعل : هذا البناء ، فتضمّ إليه يفعلا آخر ، ولكنك إنما ألحقته هذا علامة للفاعلين. ولم تكن (يفعل) منوّنة ولا تلزمها الحركة لأنه يدركها الجزم والسكون ، فيكون الأول حرف الأعراب والآخر كالتنوين. فلما كان حال يفعل فى الواحد غير حال الاسم ، وفى التثنية لم يكن بمنزلته. فجعلوا إعرابه فى الرفع ثبات النون لتكون له فى التثنية علامة الرفع كما كان فى الواحد إذ مع حرف الإعراب (يريد الضم). وجعلوا النون مكسورة كحالها فى الاسم ، ولم يجعلوها حرف إعراب (أى حرفا يظهر عليه الإعراب) إذ كانت متحركة لا تثبت فى الجزم. ولم يكونوا ليحذفوا الألف لأنها علامة الإضمار والتثنية فى قول من قال أكلونى البراغيث وبمنزلة التاء فى قلت وقالت ، فأثبتوها فى الرفع ، وحذفوها فى الجزم ، كما حذفوا الحركة فى الواحد. ووافق النصب الجزم فى الحذف ، كما وافق النصب الجرّ فى الأسماء ، لأن الجزم فى الأفعال نظير الجر فى الأسماء ، وليس للأسماء فى الجزم نصيب ، كما أنه ليس للفعل فى الجر نصيب ، وذلك قولك : هما يفعلان ، ولن يفعلا ولم يفعلا. وكذلك إذ الحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان ، إلا أن الأولى واو مضموم ما قبلها لئلا يكون الجمع كالتثنية ، ونونها مفتوحة بمنزلتها فى الأسماء ، كما فعلت ذلك فى التثنية ، لأنهما وقعتا فى التثنية والجمع ههنا كما أنهما فى الأسماء كذلك ، وهو قولك هم يفعلون ولم يفعلوا ولن يفعلوا. وكذلك إذا ألحقت التأنيث فى المخاطبة إلا أن الأولى ياء وتفتح النون لأن الزيادة

__________________

(١) الكتاب ١ / ٥.

٨٤

التى قبلها بمنزلة الزيادة التى فى الجمع ، وهى تكون فى الأسماء فى الجر والنصب ، وذلك قولك : أنت تفعلين ، ولم تفعلى ولن تفعلى».

ويمضى سيبويه ، فيعلل لدخول التنوين على الأسماء المتمكنة دون الأفعال المضارعة فضلا عن غيرها من الأفعال ، بسبب خفته وثقلها ، يقول : «واعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض ، فالأفعال أثقل من الأسماء ، لأن الأسماء هى الأول (يريد ما ذهب إليه من أن المصادر أصل الأفعال ، ولذلك كانت الأسماء تتقدم الأفعال فى الرتبة) وهى أشد تمكنا ، فمن ثمّ لم يلحقها (أى الأفعال) تنوين ولحقها الجزم والسكون ، وإنما هى من الأسماء (أى أنها مشتقة من المصادر) ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم (أى أنه تابع له ، إذ لا يوجد فعل بدون فاعل) وإلا لم يكن كلاما ، والاسم قد يستغنى عن الفعل تقول : الله إلهنا ، وعبد الله أخونا (١)». ويلاحظ أن الاسم إذا أشبه المضارع فى بنائه منعوه من التنوين والجر ، فيجر بالفتحة ، ويقول : «واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء فى الكلام ووافقه فى البناء أجرى لفظه مجرى ما يستثقلون ومنعوه ما يكون لما يستخفون (أى من الأسماء المتمكنة) فيكون فى موضع الجر مفتوحا ، استثقلوه حيث قارب الفعل فى الكلام ووافقه فى البناء وذلك نحو أبيض وأسود وأحمر وأصفر ، فهذا بناء أذهب وأعلم» (٢). ويقول إن الاسم يجر بالفتحة أيضا إذا نقل عن المضارع مثل يشكر علما على شخص. ويجعل التنوين مطردا فى كل ما هو أشد تمكنا ، ولذلك كان أكثر الكلام ينوّن إذا كان منكرا ، وكذلك ينون المفرد ولا ينون الجمع الذى لا يكون له مثال فى المفرد مثل مصابيح. وأيضا ينون الاسم المذكر لأنه أخف عليهم من المؤنث ، ولذلك حرموه التنوين ، ويقول : جميع ما لا ينصرف إذا أدخل عليه الألف واللام أو أضيف انجرّ ، لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرف ، وأدخل فيها المجرور كما يدخل فى المنصرف .. وجميع ما يترك صرفه (تنوينه) مضارع به الفعل ، لأنه إنما فعل به ذلك لأنه ليس له تمكن غيره ، كما أن الفعل ليس له تمكن الاسم (٣).

__________________

(١) الكتاب ١ / ٦.

(٢) الكتاب ١ / ٦.

(٣) الكتاب ١ / ٧.

٨٥

وكل هذه التعليلات فى الصفحات الأولى من الكتاب ، إذ لم نتجاوز حتى الآن الصفحة السابعة فيه ، وبذلك ثبّت سيبويه جذور التعليل فى النحو والصرف ومدّها فى جميع قواعدهما ومسائلهما ، فليس هناك شىء لا يعلّل ، بل لكل شىء علته يمسك بها فى يمينه. وتنتشر هذه التعليلات فى أكثر صفحات الكتاب ، ويكفى أن نذكر منها أطرافا ، فمن ذلك تعليله لاختصاص الاستفهام بالأفعال وأن الأصل فيها أن تدخل عليها لا على الأسماء لمشابهتها حروف الجزاء أو الشرط ، ولأن جوابها. يجزم أحيانا كما يجزم الأمر ، وأدوات الشرط إنما يليها دائما الأفعال ، يقول : «وحروف الاستفهام كذلك بنيت للفعل إلا أنهم قد توسعوا فيها فابتدأوا بعدها الأسماء ، والأصل غير ذلك ألا ترى أنهم يقولون هل زيد منطلق وهل زيد فى الدار وكيف زيد آخذ؟ فإن قلت كيف زيدا رأيت؟ وهل زيد يذهب؟ قبح (لأنه ينبغى تقديم الفعل متى كان موجودا مع أداة الاستفهام) ولم يجز إلا فى شعر ، لأنه لما اجتمع الفعل والاسم حملوه على الاصل .. وإنما فعلوا هذا بالاستفهام لأنه كالأمر فى أنه غير واجب وأنه يريد به من المخاطب أمرا لم يستقر عند السائل ألا ترى أن جوابه جزم (أى كما يكون جواب الأمر حين يستخدم حرف جزاء وشرطه) فلهذا اختير النصب وكرهوا تقديم الاسم (أى فى مثل هل زيدا أنت) لأنها حروف ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء ، وجوابها كجوابه ..إذا قلت أين عبد الله آته» (١) أى كما تقول ائتنى آتك. ومن أجل ذلك كله اختار فى باب الاشتغال كما مر بنا نصب الاسم المشغول عنه بعد أدوات الاستفهام ، حتى يكون بعدها فعل فى التقدير. ويعلل لقصور الصفة المشبهة عن اسم الفاعل فى قوة العمل بأنها ليست فى معنى الفعل المضارع : لا فى زمنه ولا فى بنائه ، إذ تدل على الثبوت ، وهى لا تقابله فى الحركات والسكنات مثل اسم الفاعل ، ولذلك استحسن أن يكون ما بعدها معرفا باللام والألف ومضافا إليها مثل محمد حسن الوجه ، حتى يبعد شبهها عن اسم الفاعل (٢) الذى يجرى مجرى المضارع فى العمل. ويعلل لحذف التاء كثيرا فى ترخيم المنادى بأنها تنقلب هاء فى الوقف ، ولذلك كان حذفها أولى ، وأيضا فإن المنادى بمثل «يا ضباعا» بدلا من يا ضباعة

__________________

(١) الكتاب ١ / ٥١.

(٢) الكتاب ١ / ٩٩.

٨٦

عادة يمدّ صوته ، وكأنما جعلوا المدّة التى تلحق المنادى المرخّم بدلا منها (١). ويعلل لجزم المضارع فى جواب الأمر والنهى والاستفهام والتمنى والعرض بأنهم جعلوه معلقا بما سبقه غير مستغن عنه ، بالضبط كما يكون الشرط ، فقولك ائتنى آتك هو كقولك إن تأتنى آتك ، ولذلك جزموه كما جزمو جواب الشرط ، وكأن هناك شرطا مقدرا (٢). ويعلل لحذف الفعل فى التحذير مع العطف أو كما يسميه هنا التثنية بقوله : «يقول رأسك والحائط وهو يحذّره ، كأنه قال : اتّق رأسك والحائط ، وإنما حذفوا الفعل فى هذه الأشياء حين ثنوا لكثرتها فى كلامهم واستغناء بما يرون من الحال وبما جرى من الذكر» (٣).

وعلى نحو ما يتسع سيبويه بالتعليل فى النحو يتسع به فى الصرف ، وخاصة فى باب القلب والإعلال ، يقول فى «أينق» جمع ناقة : كان القياس فيها أن تجمع على أنوق ، وإما أن يكونوا قدموا الواو على النون وأبدلوها ياء ، وبذلك حدث فيها قلب وإعلال ، وزنتها على هذا التحول «أعفل» وإما أن يكونوا قد حذفوا الواو من «أنوق» وجعلوا الياء عوضا لها ، وزنتها على هذا الأساس «أيفل» (٤) ويذهب فى لفظة «اطمأنّ» إلى أن أصلها «طأمن» وحدث بها قلب أو بعبارة أخرى تقديم الميم على الهمزة (٥). ويقول إن قياس مصدر فعّل المضاعف الفعّال ، ولكن العرب عدلت عن ذلك البناء إلى التفعيل مثل قطّع تقطيعا ، ويعلل لذلك بقوله : «جعلوا التاء التى فى أوله بدلا من العين الزائدة فى فعّلت ، وجعلوا الياء بمنزلة ألف الإفعال (مصدر أفعل مثل إكرام) فغيّروا أوله كما غيّروا آخره» (٦).

وطبيعى أن يكثر القياس فى كتاب سيبويه كثرة مفرطة ، لأنه الأساس الذى يقوم عليه وضع القواعد النحوية والصرفية واطّرادها ، وهو يعتمد عنده فى أكثر الأمر على الشائع فى الاستعمال على ألسنة العرب ، كما يقوم على المشابهة بين استعمالاتهم فى الأبنية والعبارات المختلفة ، فمن ذلك أن نراه يقيس حذف العائد فى النعت على حذفه فى الصلة متمثلا بقول جرير :

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٣١.

(٢) الكتاب ١ / ٤٤٩.

(٣) الكتاب ١ / ١٣٨.

(٤) الكتاب ٢ / ١٢٩.

(٥) الكتاب ٢ / ١٣٠ ، ٣٨٠.

(٦) الكتاب ٢ / ٢٤٣.

٨٧

أبحت حمى تهامة بعد نجد

وما شىء حميت بمستباح

يريد الهاء (أى حميته) وقول الحارث بن كلدة :

فما أدرى أغيّرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا

يريد أصابوه .. يقول : «كما لم يكن النصب (أى الضمير المنصوب) فيما أتممت به الاسم يعنى الصلة» ويقول إن حذفه فى الصلة أحسن لأن الموصول والصلة بمنزلة اسم واحد فكرهوا طولها ، أما فى الصفة فحذفه حسن ولكنه لا يبلغ فى الحسن مبلغ حذفه فى الصلة ، ولذلك جعل الحذف فى الصلة الأصل وقاس عليه الحذف فى الصفة ، وضعّف حذف العائد فى الخبر ، لأن الخبر غير المخبر عنه ، وليس معه كشىء واحد ، كما هو الحال فى الصلة والصفة (١) :

ويقيس اسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة على الفعل المضارع فى العمل ، ويرتّب على ذلك أنه يجوز فى المعمولات معها من التقديم والتأخير والإظهار والإضمار ما يجوز مع الفعل (٢). ويضع قاعدة عامة للحال أنه دائما يأتى نكرة ، ويرتب على ذلك أن المصدر إذا كان حالا منع القياس دخول الألف واللام عليه ، فلا يقال مررت بزيد الضاحك بالنصب على الحال ، وإنما يقال مررت بزيد ضاحكا (٣) ونصّ على ما جاء من ذلك شذوذا عن العرب مثل أرسلها العراك ، وقد أوّله أستاذه الخليل على أن العرب تكلمت بمثل هذا الحال المعرف على نية طرح الألف واللام (٤). ويقيس عمل إن وأخواتها على عمل الفعل المتعدى ، غير أن المنصوب معها يتقدم على المرفوع ، دلالة على أنها ليست أصلا فى عمل الرفع والنصب (٥). ونراه يقف عند استعمال ما النافية استعمال ليس فى رفع اسمها ونصب خبرها فى مثل «ما زيد منطلقا» ثم يعقب بلغة تميم فيها وأنها لا تعملها ، يقول : «وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل ، وهو القياس لأنها ليست بفعل ، وليس ما كليس ، ولا يكون فيها إضمار ، أما أهل الحجاز فيشبهونها بليس ، إذ كان معناها كمعناها» (٦)

__________________

(١) الكتاب ١ / ٤٥.

(٢) الكتاب ١ / ٥٥ وما بعدها

(٣) الكتاب ١ / ١١٨.

(٤) الكتاب ١ / ١٨٨.

(٥) الكتاب ١ / ٢٧٩ ، ٣٠٠.

(٦) الكتاب ١ / ٢٨.

٨٨

وكأنه يرى نقصا فى قياس الحجازيين لها على ليس إذ لا يكفى أن تكون بمعناها ، بل لا بد لما يعمل الرفع والنصب متواليين أن يكون فعلا يصح الإضمار فيه. ويقيس حذف الجزء الثانى من أربعة عشر ومعد يكرب فى الترخيم على حذفه فى النسب ، ويقول بل هو الأجدر أن يحذف فى الترخيم ، إذ يحذف فيه ما لا يحذف فى النسب ، فإنك تنسب إلى جعفر جعفرىّ ، وإذا رخمته ، حذفت الياء والراء فقلت يا جعف. (١) ويقيس فى باب الاشتغال حروف الاستفهام على حروف الجزاء ، ويقيس عليها حروف النفى. وجعل الأمر والنهى فى هذا الباب يضارعان حروف الجزاء أيضا ، مع أنهما لا يكونان إلا بفعل (٢). ويقيس المصدر على الفعل فى عمله ومعناه (٣) ، كما يقيس على المصدر ما جرى من الأسماء والصفات مجراه مثل جندلا ، وهنيئا مريئا (٤). ويقيس المكان المختص على المكان غير المختص فى نصبه سماعا مثل هو منى منزلة الشغاف ومناط الثريا (٥). ويقيس البدل على التوكيد فى إعرابه إعراب متبوعه (٦). ويقيس التمييز بعد نعم فى مثل نعم رجلا عبد الله على قولك حسبك به رجلا عبد الله ، سواء فى عمل ما قبله فيه أو فى المعنى لأنهما جميعا ثناء فى استيجابهما المنزلة الرفيعة ، ولانهم إنما بدأوا فيهما بالإضمار على شريطة التفسير. وقد جمع بين حسبك به رجلا وويحه رجلا ولله دره رجلا ، فجميعها يوضح التمييز فيها جهة التعجب ، وقاس على ويحه رجلا قولهم «ربّه رجلا» فكل هذه العبارات تفسير لإضمار سابق (٧).

والصرف عنده كله أقيسة ، وقد أظهر فى حصر أبنية الأفعال والأسماء المجردة والمزيدة وما يقابلها من التفاعيل ذكاء منقطع النظير وخاصة أبنية الأسماء ، إذ أورد لها ثلاثمائة مثال (تفعيلة) وثمانية (٨). وهو فى كل مثال يبحث عن نظائره فى اللغة ، فإن لم يجد لكلمة مثالا أو تفعيلة ردّها إلى مثال آخر قاسها عليه ، من ذلك كلمة عزويت أى قصير ، فإنه لم يجد لها فى اللغة نظيرا فى صيغتها ،

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٤٢.

(٢) الكتاب ١ / ٧٢.

(٣) الكتاب ١ / ٩٧.

(٤) الكتاب ١ / ١٥٨ ، ١٥٩.

(٥) الكتاب ١ / ٢٠٥.

(٦) الكتاب ١ / ٧٩.

(٧) الكتاب ١ / ٢٩٩ وما بعدها.

(٨) المزهر للسيوطى (طبعة عيسى البابى الحلبى) ٢ / ٤.

٨٩

فأبى أن يضع لها مثالا على وزنها ، وهو فعويل ، وحملها أو بعبارة أخرى قاسها على «فعليت» لوجود النظير فى هذا المثال ، وهو عفريت ونفريت (١). وأساس ذلك عنده أن القاعدة لا توضع لمثال واحد شاذ ، وإنما توضع لأمثلة كثيرة ، وإذا وجد مثال شاذ حمل على غيره ودخل فى قياسه. وإذا نطقوا كلمة على صيغتين وكانت إحداهما مقيسة والثانية شاذة نصّ على ذلك فى وضوح مؤثرا لبناء المقيسة على الشاذة ، من ذلك كلمة ثور ، فقد جمعها العرب على ثورة جمعا قياسيّا ، كما تقول فى كوز كوزة وعود عودة وزوج زوجة وجمعوها أيضا على ثيرة جمعا شاذّا ، يقول : «وقد قالوا ثورة وثيرة قلبوها حيث كانت بعد كسرة ، واستثقلوا ذلك ، كما استثقلوا أن تثبت فى ديم ، وهذا ليس بمطرد يعنى ثيرة» (٢). وعنده أن جمع صائم صوّم لأنه واوى الأصل ، ويقول إنه سمع من العرب من يقول فى جمعها صيّم بالياء حملا لها وقياسا على عصىّ (٣). ويقول إنهم يجمعون حلقة على حلق شذوذا محدثين فيها هذا النقص وتغيير حركة اللام كما صنعوا فى النسب ، إذ نسبوا ثقيفا قائلين ثقفيّا بحذف الياء وفتح القاف ، والقياس فيها عنده ثقيفى (٤). ويقيس جمع مثل بازل وبزل وشارف وشرف على جمع مثل صبور وصبر وغفور وغفر ، وجعل علة القياس أن كلا من المثالين على أربعة أحرف وبه حرف زائد هو الواو فى مثل صبور والألف فى مثل بازل (٥). ويقول إن القياس فى جمع مثل مضروب مضروبون غير أنهم قد قالوا مكسور ومكاسير وملعون وملاعين ومشئوم ومشائيم شبّهوا هذه الألفاظ أو بعبارة أخرى قاسوها على ما يكون من الأسماء على هذا الوزن مثل بهلول وبهاليل (٦). ويقول إنهم قاسوا المصدر من سخط اللازم على المصدر من غضب المتعدى ، فجعلوه سخطا (٧). ودائما يتشدد سيبويه فى القياس ، وقد يفضى به تشدده إلى أن يرفض القياس على بعض

__________________

(١) الكتاب ٢ / ٣٤٨.

(٢) الكتاب ٢ / ٣٦٩.

(٣) الكتاب ٢ / ٣٧٠.

(٤) الكتاب ٢ / ١٨٣ وقابل ب ٢ / ٦٩.

(٥) الكتاب ٢ / ٢٠٦.

(٦) الكتاب ٢ / ٢١٠.

(٧) الكتاب ٢ / ٢١٥.

٩٠

ما جاء عن العرب كثيرا ، ومن خير ما يوضح ذلك عنده النسبة إلى فعيل وفعيل مثل ثقيف وهذيل ، فقد كثر عن العرب فى هذين المثالين أن يصوغوهما على فعلىّ وفعلى فتقول ثقفىّ وهذلىّ ، ونحوهما قرشىّ. ولم يرتض سيبويه أن يكون ذلك قياسا مطردا ، إذ رأى أن حق مثل هذه الألفاظ إقرار الياء فى النسب ، كقولهم فى حنيف حنيفى ، وبذلك منع أن يقاس على ما ورد عن العرب من ذلك ، وإن كثر على ألسنتهم ، فمثل سعيد ينبغى أن تكون النسبة إليه سعيديّا ، وكأنه اتخذ من المثال النادر وهو حنيف أصلا للقياس ، ورفض الكثير المستعمل لأن قياسه فى رأيه ضعيف (١).

وإذا كنا لاحظنا عند الخليل أنه فتح باب التمارين على قوانين النحو والصرف وقواعدهما ، فإن سيبويه قد فتحه بكلتا يديه على مصاريعه ، فإذا هو يصوغ فى كل جانب من كتابه أمثلة توضح تلك القواعد والمقاييس ، وحقّا لا يتسع بذلك فى النحو كما اتسع به فى الصرف ، فقد كان يسير فى النحو بحذاء ما سمعه عن العرب وشيوخه وما ثقفه من قراءات الذكر الحكيم ، وقلما عمد إلى وضع الأمثلة. أما فى الصرف فقد اتسع فى ذلك اتساعا كبيرا ، فمن ذلك أن نراه فى الممنوع من الصرف يعرض أبنية كثيرة لم تسمع عن العرب ، يقول مثلا : «وإن سميت رجلا ضربوا فيمن قال أكلونى البراغيث (أى من يعامل الواو معاملة تاء التأنيث) قلت «هذا ضربون قد أقبل» تلحق النون كما تلحقها فى أولى لو سميت بها رجلا من قوله عزوجل (أُولِي أَجْنِحَةٍ) ومن قال هذا مسلمون فى اسم رجل قال هذا ضربون ورأيت ضربين ، وكذلك يضربون فى هذا القول. فإن جعلت النون حرف الإعراب فيمن قال هذا مسلمين (علما على شخص) قلت هذا ضربين قد جاء» (٢). وتكثر مثل هذه الأبنية المظنونة أو المقترحة فى الصرف ، حتى لنراه يعقد لها أحيانا فصولا برمتها ، ومن خير ما يصور ذلك عنده «باب ما قيس من المعتل من بنات الياء والواو ولم يجئ فى الكلام إلا نظيره من غير المعتل» (٣) ويأخذ فى عرض ذلك عرضا يطول حتى يشغل أكثر من أربع

__________________

(١) الكتاب ٢ / ٦٩ وما بعدها.

(٢) الكتاب ٢ / ٨.

(٣) الكتاب ٢ / ٣٩٢.

٩١

صفحات طويلة ، وكلها فى صيغ من بنات أفكاره يحاول أن يقيسها على صيغ معروفة. وعلى هذا النسق «باب ما قيس من المضاعف الذى عينه ولامه من موضع واحد ولم يجئ فى الكلام إلا نظيره من غيره» ويستهله على هذا النحو : «تقول فى فعل من رددت ردد ، كما أخرجت فعلا على الأصل لأنه لا يكون فعلا ، وتقول فى فعلان رددان وفعلان رددان يجرى المصدر فى هذا مجراه لو لم تكن بعده زيادة ألا تراهم قالوا خششاء ، وتقول فى فعلان ردّان وفعلان ردّان أجريتهما على مجراهما وهما على ثلاثة أحرف ليس بعدها شىء كما فعلت ذلك بفعل وفعل ، وتقول فى فعلول من رددت رددود وفعليل ردديد كما فعلت ذلك بفعلان» (١). وعلى هذا النحو لا يحيط سيبويه بأبنية اللغة وشاراتها النحوية فحسب ، بل يمدّ بحثه فيهما إلى كل مظنون فى التعبير وكل صيغة ممكنة ، مع دعم كلامه بالأقيسة والعلل دعما لا يعلّم به النحو والصرف فحسب ، بل يعلّم به أيضا العقل ، ويرهف الحسّ اللغوى عند قارئه ، إذ لا يزال يعرض عليه دقائق التعبير وخصائص الأبنية عرض من أتقنها علما وفقها وتحليلا. ويدل على ذلك من بعض الوجوه وقوفه عند المصادر التى جاءت على وزن فعلان ، إذ نراه يحس فيها دلالة على الاضطراب والحركة فى أحداثها لتوالى الحركات فى بنائها ، يقول : «ومن المصادر التى جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعانى قولك : النّزوان والنّقزان والقفزان ، وإنما هذه الأشياء فى زعزعة البدن واهتزازه فى ارتفاع ، ومثله العسلان والرتكان .. ومثل هذا الغليان لأنه زعزعة وتحرك ، ومثل ذلك اللهبان .. والوهجان لأنه تحرك الحروثؤوره ، فإنما هو بمنزلة الغليان» (٢). وبهذا الحس المرهف وما سنده من ملكات عقلية باهرة رسم سيبويه أصول العربية وصاغ لها قوانينها الإعرابية والصرفية ، وفيه يقول ابن جنى : «لما كان النحويون بالعرب لاحقين وعلى سمتهم آخذين وبألفاظهم متحلّين ولمعانيهم وقصودهم آمّين جاز لصاحب هذا العلم (سيبويه) الذى جمع شعاعه (٣) ،

__________________

(١) الكتاب ٢ / ٤٠٢.

(٢) الكتاب ٢ / ٢١٨.

(٣) شعاعه : متفرقه.

٩٢

وشرع أوضاعه ، ورسم أشكاله ، ووسم أغفاله (١) وخلج أشطانه (٢) ، وبعج (٣) أحضانه وزمّ شوارده ، وأفاء (٤) فوارده أن يرى فيه نحوا مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التى حذوا ، لا سيما والقياس إليه مصغ ، وله قابل ، وعنه غير متثاقل» (٥).

__________________

(١) أغفاله : جمع غفل وهو ما لا سمة له.

(٢) خلج : جذب ، أشطانه : جمع شطن وهو الحبل الطويل.

(٣) بعج : فتق.

(٤) أفاء الفوارد : رجع الشوارد.

(٥) الخصائص ١ / ٣٠٨.

٩٣

الفصل الرابع

الأخفش الأوسط وتلاميذه

١

الأخفش (١) الأوسط

هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة ، فارسى الأصل مثل سيبويه ، وقد لزمه وتلمذ له ، وأخذ عنه كل ما عنده ، وهو الذى روى عنه كتابه ، بل كان الطريق الوحيدة إليه ، إذ لا يعرف أحد سواه قرأه على سيبويه أو قرأه سيبويه عليه ، ويروى عنه أنه كان يقول : «كنت أسأل سيبويه عما أشكل علىّ منه فإن تصعّب الشىء منه قرأته عليه». وقد جلس بعده للطلاب يمليه ويشرحه ويبيّنه ، وعنه أخذه تلاميذه البصريون من مثل الجرمى والمازنى ، وأخذه عنه علماء الكوفة وعلى رأسهم إمامهم الكسائى. ولما رأى اهتمام تلاميذه الكوفيين جميعا بالمسائل المتفرقة فى النحو والصرف صنع لهم كتاب المسائل الكبير ، وله وراءه كتب أخرى سقطت من يد الزمن مثل كتاب الأوسط فى النحو وكتاب المقاييس وكتاب الاشتقاق وكتاب المسائل الصغير. وكان يعنى بشرح الأشعار ، وله فيها كتاب معانى الشعر ، ويقال إنه أول من أملى غريب كل بيت من الشعر تحته. وله فى العروض والقوافى كتاب نوّه به القدماء ، ويقال إنه زاد فيه على الخليل بحر المتدارك أو الخبب ، ويظهر أنه إنما زاد اسمه فقط إذ نجد للخليل أشعارا على وزنه (٢). ويقول الجاحظ إنه كان ينشر فى مصنفاته ضربا من

__________________

(١) انظر فى ترجمة الأخفش أبا الطيب اللغوى ص ٦٨ والسيرافى ص ٥٠ والزبيدى ص ٧٤ والفهرست لابن النديم ص ٨٣ ونزهة الألباء ص ١٣٣ ومعجم الأدباء ١١ / ٢٢٤ وروضات الجنات ص ٣١٣ وابن خلكان فى سعيد وإنباه الرواة ٢ / ٣٦ وما به من مراجع ومرآة الجنان ٢ / ٦١ وشذرات الذهب ٢ / ٣٦ وبغية الوعاة ص ٢٥٨.

(٢) إنباه الرواة ١ / ٣٤٢.

٩٤

الغموض والعسر ، حتى يلتمس منه الناس تفسيرها رغبة فى التكسب بها (١). وقد ترك البصرة إلى بغداد بأخرة من عمره. وما زال الطلاب يقبلون من كل حدب على دروسه وإملاءاته حتى توفى سنة ٢١١ للهجرة.

وهو أكبر أئمة النحو البصريين بعد سيبويه ، وفى رأينا أنه هو الذى فتح أبواب الخلاف عليه ، بل هو الذى أعدّ لتنشأ ، فيما بعد ، مدرسة الكوفة ثم المدارس المتأخرة المختلفة ، فإنه كان عالما بلغات العرب ، وكان ثاقب الذهن حاد الذكاء ، فخالف أستاذه سيبويه فى كثير من المسائل ، وحمل ذلك عنه الكوفيون ، ومضوا يتسعون فيه ، فتكونت مدرستهم. ولا بد أن نلاحظ منذ الآن أن خلافاته وخلافات المدارس التالية ، وكذلك خلافات البصريين التالين له ، إنما هى خلافات فى بعض الفروع ، فإن النحو وأصوله وقواعده الأساسية تكونت نهائيّا على يد سيبويه وأستاذه الخليل ، وكأنهما لم يتركا للأجيال التالية سوى خلافات فرعية تتسع وتضيق حسب المدارس وحسب النحاة.

ويبدو أن الأخفش عنى بالحدود والتعريفات أكثر مما عنى أستاذه سيبويه ، ومن التعريفات التى روتها له كتب النحاة تعريفه الاسم وكان سيبويه اكتفى بالتمثيل له قائلا : «والاسم رجل وفرس وحائط» (٢) أما هو فقال : «الاسم ما جاز فيه نفعنى وضربنى» يريد أنه ما جاز أن يخبر عنه (٣). وعلى نحو ما عنى بالتعريفات عنى بالتعليلات ، حتى تعليل ما لم يقع فى اللغة ، من ذلك تعليل امتناع الفعل المضارع من الخفض ، وكان سيبويه يعلل لذلك بأن المجرور داخل فى المضاف إليه وأنه يعاقب التنوين والمضارع لا ينوّن. ونرى الأخفش يتخذ من هذا التعليل موقفين : موقفا يشرحه فيه قائلا : «لا يدخل الأفعال الجر ، لأنه لا يضاف إلى الفعل ، والخفض لا يكون إلا بالإضافة ، ولو أضيف إلى الفعل ، والفعل لا يخلو من فاعل ، وجب أن يقوم الفعل وفاعله مقام التنوين ، لأن المضاف إليه يقوم مقام التنوين ، وهو زيادة فى المضاف كما أن التنوين زيادة. فلم يجز أن تقيم الفعل والفاعل مقام التنوين لأن الاسم لا يحتمل زيادتين ،

__________________

(١) الحيوان للجاحظ ١ / ٩١.

(٢) الكتاب ١ / ٢.

(٣) الإيضاح فى علل النحو للزجاجى ص ٤٩.

٩٥

ولم يبلغ من قلة التنوين ـ وهو واحد ـ أن يقوما مقامه ، كما لم يحتمل الاسم الألف واللام مع التنوين» (١). والموقف الثانى هو محاولة الإدلاء بعلة جديدة إذ يقول : «لم يدخل الأفعال جرّ لأنها أدلة ، وليست الأدلة بالشىء الذى تدل عليه. وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك فهو الشىء بعينه ، وإنما يضاف إلى الشىء بعينه لا إلى ما يدل عليه ، وليس يكون جر فى شىء من الكلام إلا بالإضافة (٢)». وهو يريد أن الفعل دليل على الفاعل والمفعول والحدث. والإضافة إنما تكون إلى هذه الأشياء لا إلى ما دلّ عليها مما يصوّر حركات الفاعلين. ويعلل لإضافة اسم الزمان إلى الفعل بقوله : «إنما أضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال لأن الأزمنة كلها ظروف للأفعال والمصادر ، والظروف أضعف الأسماء فقوّوها بالإضافة إلى الأفعال» (٣)

وقلنا آنفا إنه هو الذى فتح للكوفيين أبواب الخلاف على سيبويه وأستاذه الخليل بما بسط من وجوهه ، وقد تابعوه فى كثير من هذه الوجوه بحيث يمكن أن يقال بحق إنه الأستاذ الحقيقى للمدرسة الكوفية ، لا لأن إمامها الكسائى والفراء تتلمذا له فحسب ، بل أيضا لأنهما تابعاه فى كثير من آرائه التى حاول بها نقض طائفة من آراء سيبويه والخليل ، وقد مضياهما وغيرهما من أعلام النحاة فى الكوفة يتخذون من آرائه قبسا للاهتداء به فيما نفذوا إليه من آراء أعدّت لقيام المدرسة الكوفية. وحسبنا أن نعرض مجموعة من آرائه التى وافقه فيها الكسائى والفرّاء والكوفيون لتتضح صحة ما نزعمه من أنه الإمام الحقيقى لهم ولمدرستهم. أما الكسائى فنراه يرى رأيه فى أنه يجوز تأكيد عائد الصلة المحذوف والعطف عليه مثل جاء الذى ضربت نفسه أى ضربته نفسه ، ومثل جاءنى الذى كلمت وعمرا ، أى كلمته وعمرا (٤). وكان يذهب مذهبه فى أن من الجارة تزاد فى الإيجاب مثل : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ، (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)

__________________

(١) الزجاجى ص ١١٠.

(٢) الزجاجى ص ١٠٩.

(٣) الزجاجى ص ١١٤.

(٤) همع الهوامع للسيوطى (طبعة الخانجى) ١ / ٩١.

٩٦

(نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(١). وتابعه فى إعمال إنّ إذا دخلتها ما الكافة جوازا مثل إنما زيدا قائم (٢) ، وفى أن من معانى لعل التعليل كما فى الآية الكريمة : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣) وفى أن لو لا قد تأتى بمعنى هلا كما فى آية الذكر الحكيم : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها)(٤) وفى أن كلمة (فيه) حذفت من قوله عزوجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٥). وكان يذهب مذهبه فى أن الحال السادة مسد الخبر فى مثل «كلامى محمدا مسيئا» قد تأتى فعلا مثل «رأى الناس يعطى الكثير» (٦). ومضى فى إثره يجيز فى مثل ثالث ثلاثة أن تكون ثالث منونة وثلاثة منصوبة أى متمم ثلاثة(٧).

وتابعه الفرّاء فى كثير من الآراء ، من ذلك تأخير الخبر إذا كان المبتدأ مبدوءا بأنّ المفتوحة مثل «أنّ العلم نور قول مشهور» قاسه الأخفش على مجيئه مؤخرا مع أن المصدرية فى مثل : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(٨). ومن ذلك جواز ترخيم الاسم الثلاثى وكان يمنع ذلك سيبويه ، فلا تقول فى نداء الثلاثى مثل «حكم» ياحك بالترخيم ، وخالفه الأخفش (٩). ومن ذلك جواز دخول لام الابتداء على نعم وبئس فى مثل «إن محمدا لنعم الرجل» (١٠). ومن ذلك أن إلا الاستثنائية قد تأتى عاطفة بمعنى الواو ومنزلتها فى التشريك لفظا ومعنى ، وجعلا منه قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أى ولا الذين ظلموا ولا من ظلم. وتأول الجمهور «إلا» فى الآيتين على الاستثناء المنقطع (١١). وتابع الفراء الأخفش أيضا فى أنه يجوز العطف على معمولى عاملين مختلفين ، فى مثل

__________________

(١) المغنى لابن هشام ص ٣٦٠.

(٢) شرح الرضى على الكافية (طبعة الآستانة) ٢ / ٣٢٤ وانظر شرح ابن عقيل على الألفية (نشرة محيى الدين عبد الحميد) ١ / ٣١٩.

(٣) المغنى ص ٣١٩.

(٤) المغنى ص ٣٠٥.

(٥) المغنى ص ٦٨٢.

(٦) الهمع ١ / ١٠٦.

(٧) الهمع ٢ / ١٥١.

(٨) الهمع ١ / ١٠٣.

(٩) الهمع ١ / ١٨٢ والرضى على الكافية ١ / ١٣٦.

(١٠) الهمع ١ / ١٤٠.

(١١) المغنى ص ٧٦.

٩٧

«فى الدار زيد والحجرة عمرو» بعطف الحجرة على الدار وعمر وعلى زيد (١). وذهب مذهبه فى أن المنادى المفرد العلم المرفوع إذا أكّد بمضاف جاز فيه النصب والرفع إذ حكى عن بعض العرب يا تميم كلّكم بالرفع (٢). ومما تابعه فيه أن حاشا فى الاستثناء لا تكون جارة فقط كما ذهب سيبويه ، بل قد تكون فعلا متعديا جامدا (٣) ، وفاعلها حينئذ فى رأى الأخفش ضمير مستكن فيها واجب الإضمار عائد على البعض المفهوم من الكلام فمثل قام القوم حاشا زيدا تقديره حاشا هو أى بعضهم زيدا. وتبع الفراء الأخفش فى أن عامل الرفع فى المضارع هو تجرده من النواصب والجوازم (٤).

وتنصّ كتب النحو كثيرا على أن الكوفيين تابعوا الأخفش فى هذا الرأى أو ذاك ، ومما تابعوه فيه أن اسم الموصول قد يحذف إذا علم ، كقول حسان :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

إذ كان يقدّر : ومن يمدحه (٥). وكان يجير ـ وتابعه الكوفيون ـ فى المبتدأ إذا كان اسم فاعل أن يغنى فاعله عن الخبر بدون اعتماد على استفهام أو نفى ، مثل قائم الزيدان (٦) ، وكذلك إذا كان اسم الفاعل اسما لإن ، مثل إن قائما الزيدان (٧). وكان سيبويه لا يجيز إلغاء ظن وأخواتها إذا تلاها المفعولان ، وجوّز ذلك الأخفش وتابعه الكوفيون ، مستدلين جميعا بقول بعض الشعراء : «إنى رأيت ملاك الشيمة الأدب» ، وقول آخر : «وما إخال لدينا منك تنويل» (٨). وتبعه الكوفيون فى أنه يجوز إقامة غير المفعول به من الظرف والجار والمجرور نائب فاعل مع وجوده فى الجملة ، لمجىء ذلك فى قراءة أبى جعفر : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فقد نصبت قوما ، وهى مفعول ، وجعل الجار والمجرور نائبا للفاعل ، إذ الفعل مبى للمجهول (٩). ومما تابعوه فيه أن إذا الفجائية فى مثل «خرجت فإذا محمد بالباب» حرف (١٠) وأن الظرف يرفع الاسم إذا تقدم عليه مثل

__________________

(١) المغنى ص ٥٣٩.

(٢) الهمع ٢ / ١٤٢.

(٣) المغنى ١ / ١٣٠ والهمع ١ / ٢٢٣.

(٤) الهمع ١ / ١٦٤.

(٥) المغنى ص ٦٩٢ والهمع ١ / ٨٨.

(٦) الهمع ١ / ٩٤.

(٧) الهمع ١ / ١٣٦.

(٨) الهمع ١ / ١٥٣.

(٩) الهمع ١ / ١٦٢.

(١٠) المغنى ص ٩٢ والهمع ١ / ٢٠٧.

٩٨

«أمامك زيد (١)» وهما عند سيبويه خبر مقدم وزيد مبتدأ مؤخر. وتبعوه فى أن الفعل الماضى يصح أن يأتى حالا بدون تقدم قد والواو عليه ، وكان يستدل بالآية الكريمة : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) ومثلها (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا)(٢). ومما ذهبوا مذهبه فيه أن المرفوع بعد إن الشرطية وإذا فى مثل (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لا يعرب فاعلا لفعل محذوف كما ذهب سيبويه ، وإنما يعرب مبتدأ (٣). وجوّزوا مثله توكيد النكرة إذا كانت محدودة مثل صمت شهرا جميعه (٤). وكان سيبويه يذهب إلى أن المصدر فى مثل أتيته ركضا حال مؤولة بالمشتق أى راكضا ، وذهب الأخفش ـ وتبعه الكوفيون ـ إلى إعراب المصدر فى مثل هذا الموضع مفعولا مطلقا ، وكان يجعله معمولا لفعل مقدر من لفظه ، وذلك الفعل هو الحال ، فتقدير المثال الآنف : أتيته أركض ركضا (٥). وكانوا يجوّزون مثله ترك صرف ما ينصرف فى ضرورة الشعر (٦) وكذلك مد المقصور (٧).

وهذه أطراف مما نجده منثورا فى كتب النحو من متابعة الكوفيين والكسائى والفراء للأخفش فى آرائه النحوية ، فإذا قلنا إنه يعدّ بحق الإمام الأول للمدرسة الكوفية لم نكن مبعدين ولا مغالين ، وحتى ما اشتهرت به هذه المدرسة من قياسها على الشاذ أحيانا نجده واضحا فى كثير من هذه الآراء التى أسلفناها. وأيضا ما اشتهر به جمهور هذه المدرسة من الاعتداد بالقراءات الشاذة على مقاييس سيبويه نجد أساسه عند الأخفش ، فقد أخذ ، كما مر بنا ، بقراءة أبى جعفر : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) مشتقّا منها قاعدة جواز إقامة غير المفعول به مع وجوده نائب فاعل مخالفا بذلك أستاذه (٨). ومرّ بنا أن سيبويه لم يكن يجيز العطف على الضمير

__________________

(١) الإنصاف لابن الأنبارى (طبع أو ربا) المسألة رقم ٦ وأسرار العربية لنفس المؤلف (طبعة دمشق) ص ٧١ ، ٢٩٥ والرضى على الكافية ١ / ٨٤.

(٢) الإنصاف : المسألة رقم ٣٢ والهمع ١ / ٢٤٧.

(٣) الخصائص لابن جنى ١ / ١٠٥ والمغنى ص ٦٤٣.

(٤) الهمع ٢ / ١٢٤.

(٥) الهمع ١ / ٢٣٨.

(٦) الإنصاف : المسألة رقم ٧٠ والهمع ١ / ٣٧.

(٧) الإنصاف ص ٣١٦.

(٨) الهمع ١ / ١٦٢ وابن يعيش ٣ / ٢٢.

٩٩

المخفوض بدون إعادة الخافض ، ومن أجل ذلك ضعّف البصريون المتأخّرون قراءة حمزة الآية الكريمة : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بالجر عطفا على الضمير المجرور بالباء ، وأبى الأخفش ـ وتبعه جمهور الكوفيين ـ قاعدة سيبويه المذكورة ، وجوّز مثل هذا العطف ، مستشهدا بقراءة حمزة للآية السالفة (١). وقال سيبويه : لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه إلا بالظرف وخصّ ذلك بالشعر ، ومن هنا ضعّف بعض البصريّين قراءة ابن عامر قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) بنصب أولادهم وخفض شركائهم ، وهو فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به لقتل ، وجوّز ذلك الأخفش ـ وتبعه الكوفيون ـ منشدا قول بعض الشعراء :

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبى مزاده (٢)

فقد فصل الشاعر بين زجّ وأبى مزاده بكلمة القلوص ، وهى مفعول به لزجّ (٣). ولعل من الغريب أن نجد بعض المعاصرين يكثرون من أن الكوفيين كانوا يختلفون مع البصريين فى قبول بعض القراءات الشاذة وتوجيهها ، بانين آراءهم فى ذلك على هاتين الآيتين غالبا ، وها هو الأخفش البصرى يقبلهما ، بل هو فى رأينا الذى دفع الكوفيين إلى اتخاذ القراءات مصدرا للقواعد ، مهما كانت شاذة. وبذلك لا يكون هناك شىء يتميز به النحو الكوفى من النحو البصرى إلا نجد أصوله عند الأخفش ، لامن حيث قبول الفراءات الشاذة على مقاييس سيبويه والخليل فحسب ، بل أيضا من حيث قبول بعض الأشعار الشاذة واتخاذها أصلا للقياس.

ونحن نعرض فى إجمال لطائفة من آرائه الكثيرة التى خالف فيها سيبويه والخليل إمامى البصرة ، فمن ذلك أنهما كانا يريان أن إعراب المثنى والجمع المذكر السالم إنما هو بحركات مقدرة فى الألف والواو والياء ، أى أنها نابت عن حركات الرفع والنصب والجر ، أما هو فكان يذهب إلى أن حروف اللين هذه دلائل

__________________

(١) الهمع ٢ / ١٣٩.

(٢) زججهّا : طعنتها. القلوص : الناقة.

(٣) شرح ابن يعيش على المفصل للزمخشرى ٣ / ٢٢.

١٠٠