المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

القسم الأول فخصّه بالنحو ومباحثه ، وكاد لا يترك فى هذه المباحث جانبا إلا استقصاه من جميع أطرافه فى الجزء الأول من الكتاب وأوائل الجزء الثانى ، حتى إذا فرغ من هذه المباحث انتقل يبسط فى دقة القسم الثانى وما يخوض فيه من المباحث الصرفية محيطا بكل تفاصيلها إحاطة تامة واصلا لها بمادة صوتية واسعة من مثل الحديث عن الإمالة والوقف والروم والإشمام والإشباع وما إلى ذلك.

وقد تحول ما ذكره من قواعد النحو والصرف إلى ما يشبه نجوما قطبية ثابتة ظل النحاة بعده إلى اليوم يهتدون بأضوائها فى مباحثهم ومصنفاتهم. ويمكن أن نقول بصفة عامة إن الكثرة من المصطلحات النحوية والصرفية التى لا تزال شائعة على كل لسان فى عصرنا كان لكتابه الفضل الأول فى إشاعتها وإذاعتها طوال العصور ، وكأنه لم يترك للنحاة من بعده إلا ما لا خطر له ، كما قال صاعد آنفا ، كأن يميزوا بعض المصطلحات أو يضيفوا مصطلحات جديدة لغرض الدقة فى التوضيح ، فمن ذلك أنه عرض لأبواب التوابع عرضا واسعا ، وجرت على لسانه كلمات النعت والبدل والتوكيد والعطف ويريد به عطف البيان ، ولكنها جميعا يتداخل بعضها فى بعض ، بحيث يسميها أحيانا صفة ، وقد يسمى عطف البيان نعتا (١) ، وجعل التوكيد قسمين : قسما مكررا وقسما غير مكرر (٢) ، وسمّاهما خالفوه التوكيد اللفظى والتوكيد المعنوى. وكان يسمى عطف النسق الشركة وحروفه مثل الواو حروف الإشراك (٣). وقد لا يضع الاصطلاح الخاص المميز كأن نجده يقول : «هذا باب نظائر ضربته ضربة ورميته رمية (٤)» وسمى النحاة الباب بعده «اسم المرة». ويقول : «هذا باب ما عالجت به (٥)» وسماه النحاة بعده «اسم الآلة» مثل المقص. ويقول «هذا باب اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التى ليست فيها زيادة من لفظها» (٦) مثل مجلس ، وسمى النحاة بعده ذلك «باسم المكان المشتق». ومن مصطلحاته التى تركها الصرفيون مصطلح البيان والتبيين (٧) وقد سموه باسم «فك

__________________

(١) المغنى ص ٦٣١ وانظر الكتاب ١ / ٢٢٣.

٣٠٦ ، ٣٩٣ وفى مواضع مختلفة.

(٢) الكتاب ١ / ٣١٥.

(٣) الكتاب ١ / ٢٠٩ ، ٢٤٧.

(٤) الكتاب ٢ / ٢٤٦.

(٥) الكتاب ٢ / ٢٤٩.

(٦) الكتاب ٢ / ٢٤٦.

(٧) الكتاب ٢ / ٤٠٧.

٦١

الإدغام». ويقول : «هذا باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذى يفعل به وما كان نحو ذلك» (١) مثل كلمت وكلمنى محمد وسمى النحاة هذا الباب باسم «باب التنازع». ويقول : «هذا باب ما يكون فيه الاسم مبنيّا على الفعل قدّم أو أخّر وما يكون الفعل فيه مبنيّا على الاسم» (٢) وسمى النحاة الباب باسم «باب الاشتغال». ومن ذلك عنوانه فى أول الكتاب : «هذا باب مجارى أواخر الكلم من العربية» (٣) وهو ما سماه النحاة بعده باسم «أنواع الإعراب والبناء».

وتلقانا فى مواطن مختلفة من الكتاب ظلال من الغموض والإبهام ، وقد يرجع ذلك فى الكثير الأكثر إلى أن سيبويه كان يضع قوانين النحو والصرف وضعا مفصلا متشعبا لأول مرة ، فطبيعى أن يتصعب عليه التعبير أحيانا وأن يداخله من حين إلى حين شىء من الإبهام والالتواء. وكثيرا ما يوجز فى موضع يفتقر إلى شىء من البسط ، ويصوّر ذلك من بعض الوجوه أن نجده يتحدث عن الحذف فى الكلام وما قد يجرى فيه حذف الفعل ، ويمثل لذلك بقولهم : «حينئذ الآن» على تقدير حينئذ اسمع الآن ، كما يمثل بمثال ثان هو قولهم : «ما أغفله عنك شيئا» وظل النحاة حتى عصر المبرد لا يدرون معنى العبارة ولا يعرفون بالتالى موضع حذف الفعل حتى جاء الزجاج ، فقال إن العبارة تعليق على كلام تقدّم ، كأن قائلا قال : «زيد ليس بغافل عنى» فأجابه صاحبه : «ما أغفله عنك ، شيئا» على تقدير انظر شيئا ، يريد أن يقول له : تفقّد أمرك ودع الشك عنك (٤) ، وبذلك فهمت العبارة واتضحت بعد أن كانت عند من سبقه من النحاة كأنها لغز من الألغاز.

وهذا الغموض فى جوانب من الكتاب كان سببا فى أن يتناوله كثيرون من النحاة بالشرح والتفسير والتعليق وفى مقدمتهم تلميذه الأخفش وأصحابه من مثل الجرمى والمازنى ، وكلما تقدمنا مع الزمن تكاثرت شروحه وتفسيراته والتعليقات عليه ، ومن أشهرها شرح السّيرافى وشرح الرّمّانى. وعنوا عناية واسعة بشرح شواهده

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٧.

(٢) الكتاب ١ / ٤١.

(٣) الكتاب ١ / ٢.

(٤) الكتاب ١ / ٢٧٩.

٦٢

الشعرية ونسبة المجهول منها إلى من نظموه من العرب ، وكان أول من عنى بذلك الجرمىّ ، وفى ذلك يقول : «نظرت فى كتاب سيبويه ، فإذا منه ألف وخمسون بيتا ، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتّها ، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها» (١). وعنى بعده كثيرون بشرح هذه الشواهد وفى مقدمتهم المبرد والزجاج والسيرافى. وكان سيبويه من الثقة بحيث لم يطعن أحد فى شىء مما أنشده من الأشعار المجهولة القائل ولا تعلق عليه باتهام أو إنكار ، وفى ذلك يقول صاحب الخزانة : «الشاهد المجهول ... إن صدر من ثقة يعتمد عليه قبل وإلا فلا ، ولهذا كانت أبيات سيبويه أصح الشواهد ، اعتمد عليها خلف بعد سلف ، مع أن فيها أبياتا عديدة جهل قائلوها وما عيب بها ناقلوها» (٢)

٣

التعريفات والعوامل والمعمولات

يغلب على سيبويه أن يعنى فى توضيح الباب الذى يتحدث عنه بذكر أمثلته التى تكشفه ، يقول مثلا فى باب التنازع بعد ذكر عنوانه السالف : «وهو قولك ضربت وضربنى زيد ، وضربنى وضربت زيدا تحمل الاسم على الفعل الذى يليه فالعامل فى اللفظ أحد الفعلين وأما فى المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع إلا أنه لا يعمل فى اسم واحد رفع ونصب ، وإنما كان الذى يليه أولى لقرب جواره» ويقول فى باب الإمالة : «هذا باب ما تمال فيه الألفات ، فالألف تمال إذا كان بعدها حرف مكسور ، وذلك قولك عابد وعالم ومساجد ومفاتيح وعذافر وهابيل» (٣). والكثرة الغالبة فى أبواب الكتاب تجرى على هذا النحو من تصويرها عن طريق التمثيل وذكر الشواهد ، وقد يعمد إلى ذكر الأقسام المنطوى عليها الباب ، كقوله فى فاتحة كتابه : «الكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل» وقوله مقسما المنادى إلى منصوب ومرفوع : «هذا باب النداء ، اعلم أن النداء كلّ اسم مضاف فيه فهو نصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره ،

__________________

(١) خزانة الأدب للبغدادى ١ / ١٧٨.

(٢) البغدادى ١ / ٨.

(٣) الكتاب ٢ / ٢٥٩.

٦٣

والمفرد رفع وهو فى موضع اسم منصوب (١)» وقوله فى باب التصغير مصوّرا له فى أمثلته أو صيغه : «هذا باب التصغير ، اعلم أن التصغير إنما هو فى الكلام على ثلاثة أمثلة على فعيل وفعيعل وفعيعيل» (٢) ثم يذكر الأمثلة مثل جبيل وجعيفر ومصيبيح. وكأنه فى كل ذلك آثر المنهج التحليلى الذى يعنى فى تصوير الموضوع ببيان أقسامه وتفريعاته مباشرة. وقد يعمد إلى المنهج العقلى المجرد ، فيحاول أن يحدّ بعض ما يتحدث عنه من أبواب عن طريق التعريف الكلى الجامع ، من ذلك تعريفه للفعل فى السطور الأولى من الكتاب إذ يقول : «وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث (مصادر) الأسماء وبنيت لما مضى ولما يكون ولم يقع وما هو كائن لم ينقطع» وهو تعريف دقيق إذ جمع فيه بين دلالة الفعل على الحدث أى المصدر ودلالته على الزمان الماضى والمستقبل والحاضر ، وبذلك شمل التعريف أقسام الفعل الثلاثة : الماضى والأمر والمضارع. وتضمّن التعريف مسألة دقيقة طال الجدل بعده فيها بين خالفيه من البصريين وبين الكوفيين ، وهى مسألة أيهما هو الأصل المصدر أو الفعل؟ أو بعبارة أخرى أيهما اشتقّ من صاحبه؟ وواضح من قول سيبويه : «أما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء» أن المصدر ـ فى رأيه ـ هو الأصل وأن الفعل مشتق منه. ورأى الكوفيون أن الفعل هو الأصل واشتق منه المصدر. ومن تعريفاته الجامعة تعريفه للمبتدأ بأنه «كل اسم ابتدئ به ليبنى عليه كلام» ويعرّف الترخيم بأنه «حذف أواخر الأسماء المفردة تخفيفا» ويقول إنه لا يكون إلا فى النداء. وكأنه هو الذى وضع فى النحو فكرة التعريف للأبواب تعريفا جامعا يجمع قضاياها وجزئياتها المختلفة ، وإن كان لم يتسع بذلك كما اتسع النحاة بعده.

وتتداخل نظرية العوامل فى كل أبواب الكتاب وفصوله النحوية ، بل لا نغلو إذا قلنا إنها دائما الأساس الذى يبنى عليه حديثه فى مباحث النحو ، وهى تلقانا منذ السطور الأولى فى الكتاب ، فقد عقّب على حديثه عن مجارى أواخر الكلم الثمانية ، أو بعبارة أخرى عن أنواع الإعراب والبناء للكلمات بقوله : «وإنما

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٠٣.

(٢) الكتاب ٢ / ١٠٥.

٦٤

ذكرت لك ثمانية مجار ، لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة ، لما يحدث فيه العامل وليس شىء منها إلا وهو يزول عنه ، وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شىء أحدث ذلك فيه من العوامل التى لكل عامل منها ضرب من اللفظ فى الحرف ، وذلك الحرف حرف الإعراب». فالعامل هو الذى يحدث الإعراب وعلاماته من الرفع والنصب والجر والسكون. وقد مضى يوزع الأبواب باعتبار العوامل ، وبدأ بالفعل ، ووزع الأبواب الأولى على لزومه وتعديه إلى مفعول واحد ومفعولين وثلاثة مفاعيل. ثم تحدث عما يعمل عمله من أسماء الفاعل والمفعول والمصادر ونراه فى الفعل المتعدى إلى مفعول واحد لا يقف عند المفعول به ، بل يضيف إلى ذلك عمله فى المصادر أو بعبارة أخرى المفاعيل المطلقة مثل ذهب الذهاب الشديد وقعد القرفصاء ورجع القهقرى ، كما يضيف عمله فى المفعول فيه أو بعبارة أدق فى ظرفى الزمان والمكان (١). ويذكر عمله فى المجرور عن طريق الجار (٢) ، ويلاحظ هنا أن حرف الجر الأصلى قد يحذف ، وينصب المجرور على نزع الخافض مثل نبّئت زيدا يقول كذا أى عن زيد. ويفرق بين مثل هذا الحرف المنوى تقديره وحرف الجر الزائد فإنه إذا حذف من مثل (كَفى بِاللهِ) أصبح لفظ الجلالة فاعلا ، ولم تقدّر باء محذوفة. ويعرض لصيغ المبنى للمجهول إذا كان متعديا لمفعولين ، ويقول إن أولهما هو الذى ينوب عن الفاعل ، مثل كسى عبد الله الثوب (٣). ويتحدث عن عمل الفعل فى الحال مفرقا بينه وبين المفعول (٤) ، إذ الحال صفة للفاعل أو للمفعول. ويقف عند كان وأخواتها : صار وما دام وليس وما كان نحوهن من الفعل ، ويقول إن المنصوب بعدها ليس مفعولا ، وإنما هو خبر لها ، وهى بذلك أفعال ناقصة ، وقد تأتى تامة فتكتفى بفاعل كغيرها من الأفعال مثل كان الأمر أى وقع وأصبح محمد أى دخل فى الصباح ، ويقول إن ليس لا تأتى إلا ناقصة (٥). ويتحدث عن عمل ما النافية عند الحجازيين عمل ليس مثل : (ما هذا بَشَراً) ويذكر لات

__________________

(١) الكتاب ١ / ١٥.

(٢) الكتاب ١ / ١٧. ويسمى سيبويه هنا حرف الجر باسم حرف الإضافة.

(٣) الكتاب ١ / ١٩.

(٤) الكتاب ١ / ٢٠.

(٥) انظر فى هذا كله الكتاب ١ / ٢١.

٦٥

وأنها تعمل أيضا عمل ليس ، غير أنها لا تعمل إلا فى الحين مع إضمار مرفوعها ، وقد يرفع ما بعدها مع إضمار خبرها ، ولكن الأول هو الذائع الشائع كما فى الذكر الحكيم : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) فى قراءة الجمهور بنصب (حين مناص) (١). ويمنع هنا أن تعطف جملة على معمولين لعاملين مختلفين ، فلا يقال مثلا : «ما زيد بمنطلق ولا قائم عمرو» بجر قائم عطفا على منطلق ورفع عمرو عطفا على زيد (٢) ، وهى صورة بينة الفساد. ويفتح بابا لبعث صورة التنازع المعروفة فى مثل «قام ومضى المحمدون». وهنا تصل نظرية الفعل العامل الذروة ، إذ يرفض سيبويه مثل هذا التعبير ، ويحتم إعمال الفعل الثانى فى كلمة «المحمدون» لقربه ، ويضمر فى الأول بحيث يقال : «قاموا ومضى المحمدون» حتى لا يكون الفاعل الواحد فاعلا لفعلين ، فيجتمع بذلك مؤثران على أثر واحد. وكأنما العوامل النحوية تدخل فى المؤثرات الحقيقية ، وهو بعد فى تصور خطر العامل النحوى ، وقد جرّه كما جرّ النحاة بعده إلى أن يرفضوا الصورة الأولى التى جاءت فعلا عن العرب ، ويضعوا مكانها هذه الصورة المقترحة (٣).

ويعقد بابا يصور فيه عمل اسم الفاعل واسم المفعول عمل الفعل ، ويتحدث عن عمل صيغ المبالغة وأنها فى ذلك تشاكل اسم الفاعل ، وهى صيغ فعول ومفعال وفعّال وفعل وفعيل (٤) ، ويقول إن مفعولها قد يتقدم عليها كما يتقدم على اسم الفاعل والفعل ، وقد يفصل بينه وبينها الظرف والجار والمجرور. ثم يتحدث عن المصادر وأنها تعمل عمل أفعالها مثل «ضربا زيدا» أى اضرب زيدا (٥). ويفرد بابا لبيان الإعمال والإلغاء للأفعال فى باب ظن وأخواتها ، أما الإعمال فيتحتم إذا تقدم الفعل فى مثل «ظننت محمدا منطلقا» ، وأما الإلغاء فيجوز إذا تأخر الفعل عن مفعوليه أو توسّط مثل «محمدا منطلقا ظننت» ، و «محمدا ظننت منطلقا» ، ويجوّز الرفع فى المفعولين على أنهما مبتدأ وخبر ، وحينئذ يلغى عمل ظن (٦). وينص على أن الفعل يعمل فى البدل كما يعمل فى المبدل منه مثل

__________________

(١) الكتاب ١ / ٢٩ وما بعدها.

(٢) هامش الكتاب ١ / ٣١.

(٣) راجع كتاب الرد على النحاة لابن مضا القرطبى (طبع دار الفكر العربى) ص ٢٧.

(٤) الكتاب ١ / ٥٧.

(٥) الكتاب ١ / ٥٩.

(٦) الكتاب ١ / ٦١.

٦٦

رأيت قومك أكثرهم ، ويشّبه عمله فيه بعمله فى التوكيد مثل (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ)(١). ويفتح فصلا لاسم الفاعل الذى يجرى مجرى المضارع ويعمل عمله ، لدلالته على الاستقبال مثل : «هذا ضارب زيدا غدا» فمعناه وعمله مثل «هذا يضرب زيدا غدا» ، ويذكر أن اسم الفاعل قد يضاف إلى ما بعده ، وحينئذ تحذف نونه إذا كان مثنى أو مجموعا مثل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) ويشير هنا إلى أنه قد يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور فى الشعر (٢). ويتحدث عن اسم الفاعل المعرف بالألف واللام وأن ما بعده ينصب مثل «هذا الضارب زيدا» وقد يضاف مثل هذا الضارب الرجل بكسر الرجل وجرّه بالإضافة ، وكأن الألف واللام فيه على نية الانفصال (٣). ويعقد بابا للمصادر التى تعمل عمل المضارع وتؤدى معناه مثل عجبت من ضرب زيد عمرا (٤). ويتحدث عن عمل الصفة المشبهة وأفعل التفضيل ويجعل المنصوب بعدهما فى مثل محمد حسن وجها و (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) مشبها بالمفعول به (٥). ويفرد بابا لتعليق ظن وأخواتها عن العمل ، إما لكون المفعول الأول اسم استفهام أو لأن المفعولين دخلت عليهما أداة الاستفهام أو لام الابتداء مثل : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ومثل : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى)(٦). ويعقد بابا لأسماء الفعل الدالة على الأمر والنهى مثل «هلمّ ورويدا» ويتبعها بأسماء الفعل المحّولة عن أسماء المكان والزمان والجار والمجرور مثل «مكانك وبعدك» إذا حذّرت المخاطب شيئا خلفه ومثل «عندك» بمعنى قف «ووراءك» بمعنى تأخّر و «إليك» بمعنى تنحّ. ويقول إنها لا تتصرف تصرف الأفعال وكذلك لا تتصرف تصرف الأسماء فتكون مبتدأ أو فاعلا ، وحكمها فى العمل كحكم أفعالها فمثل «رويد» بمعنى أمهل تتعدى فيقال رويد زيدا ، بخلاف «صه» بمعنى اسكت. ويقول أيضا إن الكاف فى مثل رويدك زيدا حرف خطاب ، وهى مجرورة فى مثل هلم لك (٧). ويذهب

__________________

(١) الكتاب ١ / ٧٥.

(٢) الكتاب ١ / ٨٢ ـ ٩١.

(٣) الكتاب ١ / ٩٣ وما بعدها.

(٤) الكتاب ١ / ٩٧.

(٥) الكتاب ١ / ٩٩ وما بعدها.

(٦) الكتاب ١ / ١٢٠.

(٧) الكتاب ١ / ١٢٣.

٦٧

إلى أن الفعل يعمل فى المفعول معه بواسطة الواو مثل استوى الماء والخشبة (١) ، أما المفعول له فيعمل فيه الفعل مباشرة مثل فعلت ذاك حذار الشر (٢). وعنده أن العامل فى الجر المضاف أو حرف الجر الذى يصل به الفعل أو يوصله إليه (٣). أما العامل فى المبتدأ فالابتداء ، وهو العامل المعنوى الوحيد الذى أثبته سيبويه (٤). ويعمل المبتدأ فيما بعده عمل الفعل ، أى أنه هو العامل فى الخبر وكل ما يكون بعده (٥) من مثل الحال. ويفتح فصولا لإن وأخواتها ذاكرا أنها عملت فيما بعدها النصب والرفع تشبها بالفعل ، وكأنها بمنزلة كان للزوم المبتدأ والخبر لها ، مما جعلها تعمل عمل كان معكوسا (٦). ويتابع الخليل فى الوقوف عند دخول ما عليها وجواز إلغاء عملها ويقول إن إنّ حين تخفف تلغى وتدخلها اللام الفارقة بينها وبين إن العاملة مثل : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ). ويذكر أن بعض العرب يعملها وهى مخففة فيقول : «إن عمرا لمنطلق» (٧). ويقف عند صور التمييز مثل : «ما فى السماء موضع كفّ سحابا» و «لله درّه رجلا» ورجلا فى مثل «نعم رجلا عبد الله» وعنده أن نعم وبئس فعلان وأن التمييز يعمل فيه ما قبله (٨). وليست يا هى العاملة فى النداء والندبة وما إليهما وإنما العامل الفعل المحذوف إذ التقدير فى مثل يا عبد الله أدعو عبد الله (٩) ، وكأن المنادى عنده بمنزلة المفعول به. وتعمل لا النافية للجنس عمل إنّ ويحذف التنوين من اسمها فيكون مبنيّا على الفتح (١٠). ويتحدث عن الاستثناء وأدواته ، ويفهم من كلامه أن إلا هى العاملة فى المستثنى بعدها ، وقد يحمل كلامه على أنها توصّل الفعل السابق للعمل فيما بعدها مثل واو المعية فى باب المفعول معه (١١). وعنده أن عدا فى الاستثناء فعل دائما ، أما حاشا فحرف يجرّ ما بعده دائما (١٢). وكان يذهب إلى أن لو لا إذا وليها ضمير مثل لولاك كانت حرف جر وما بعدها

__________________

(١) الكتاب ١ / ١٥٠.

(٢) الكتاب ١ / ١٨٥.

(٣) الكتاب ١ / ٢٠٩.

(٤) الكتاب ١ / ٢٧٨.

(٥) الكتاب ١ / ٢٦٠.

(٦) الكتاب ١ / ٢٧٩ وما بعدها.

(٧) الكتاب ١ / ٢٨٣.

(٨) الكتاب ١ / ١٩٨ وما بعدها.

(٩) الكتاب ١ / ٣٠٣.

(١٠) الكتاب ١ / ٣٤٥.

(١١) الكتاب ١ / ٣٥٩ وما بعدها.

(١٢) الكتاب ١ / ٣٧٧.

٦٨

مجرور بها (١). ويتحدث عن نواصب المضارع وجوازمه (٢) ، وكان يرى أن إذن تنصب المضارع بنفسها لا بأن مضمرة كما ذهب الخليل (٣). ويتحدث عن أدوات الشرط وجزمها للفعلين ويفيض فى صور الجزم ورفع الجواب أحيانا (٤) ، ويتحدث عن جزم المضارع فى جواب الأمر والنهى ، ويعود إلى إنّ وأن ومواضعهما فى الاستعمال. وكان يرى أن أما فى مثل أما زيد فذاهب تفيد التوكيد والشرط وأن الجار والمجرور والظرف إذا ولياها فى مثل «أما فى الدار فإن زيدا جالس» و «أما اليوم فإنى ذاهب» عملت فيهما لما فيها من معنى الفعل ، ومنع أن يكون العامل فيهما خبر إن لأن معموله لا يتقدم بحال عليها (٥).

والعوامل تعمل مذكورة ومحذوفة ، ويكثر حذف الفعل وبقاء عمله ، مما جعل سيبويه يفرد لذلك صحفا كثيرة ، تأول فيها أن يستقصى صور حذفه استقصاء دقيقا ، وهداه ذلك منذ بادئ الأمر إلى اكتشاف باب الاشتغال الذى يشغل فيه الفعل أو شبهه بضمير أو بملابسه عن العمل فى الاسم مثل «زيدا كلمته وزيدا مررت به وزيدا قرأت كتابه». وقد جعل زيدا فى ذلك كله مفعولا به لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور. ومضى يستقصى صور الباب موزعا الكلام فيها على ما يجب نصبه وما يختار فيه النصب وما يستوى فيه النصب والرفع وما يختار فيه الرفع وما يجب رفعه ، أما وجوب النصب فبعد حروف التحضيض وحرف الشرط ، لأنه لا يليها جميعا إلا الأفعال ، لذلك يجب نصب ما بعدها على أنه مفعول لفعل محذوف مثل «هلا زيدا كلمته» ، و «إن زيدا كلمته كلمك» (٦). ويختار النصب مع النهى والأمر أما قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فالخبر فيه مبنى على الإضمار ، لأن الأصل فى خبر المبتدأ أن يكون خبريّا لا طلبيّا ولذلك لم يجعل سيبويه فعل الأمر خبرا عن السارق ، بل جعل الخبر محذوفا تقديره فى الفرائض أو فيما فرض عليكم (٧). ويختار النصب أيضا إذا تلا الاسم همزة الاستفهام (٨)

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٨٨.

(٢) الكتاب ١ / ٤٠٧.

(٣) الكتاب ١ / ٤١٢.

(٤) الكتاب ١ / ٤٣١.

(٥) المغنى ص ٥٩ وما بعدها.

(٦) الكتاب ١ / ٥١ ، ٦٧.

(٧) الكتاب ١ / ٧١.

(٨) الكتاب ١ / ٤٧ وما بعدها.

٦٩

أو ما ولا النافيتين (١) مثل «أزيدا لقيته» و «ما زيدا كلمته» وكذلك إذا عطفت الجملة التى فيها الاسم الذى شغل عنه الفعل على جملة فعلية مثل «ضربت زيدا ، وعمرا أكرمته» ومنه قوله جلّ وعز : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٢). ويستوى النصب والرفع إذا عطفت جملة الاشتغال على جملة مصدرة بمبتدأ وخبرها فعل أو جملة فعلية مثل : «زيد أكرمته ، وعبد الله لقيته» فعبد الله يرفع إن عطفت جملته على جملة المبتدأ والخبر وينصب إن عطفت على جملة الخبر لتناسب المعطوف والمعطوف عليه فى الوجهين (٣). ويختار الرفع إذا تلا الاسم جملة خبرية موجبة مثل «زيد لقيته» لأننا لا نحتاج حينئذ إلى تقدير فعل محذوف (٤) ، غير أن النصب جائز ومنه قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وكذلك إذا فصل بين حرف الاستفهام والاسم المشغول عنه الفعل بفاصل مثل : «أأنت عبد الله ضربته» (٥). ويجب الرفع إذا توسّط بين الاسم المشغول عنه الفعل وبين الفعل أداة شرط أو استفهام مثل «زيد إن تكرمه يكرمك» و «زيد كم مرة لقيته» و «عمرو هل رأيته» وكذلك إذا كان الفعل فى موضع الصفة مثل «ما شىء حميته بمستباح» لأن جملة «حميته» صفة لشىء وبمستباح خبرها. ومما يجب رفعه أيضا أن يكون الفعل معه صلة لموصول مثل «زيد الذى رأيته سأل عنك» وكذلك إن أبدلت منه أو وكدته مثل «زيد أن تكرمه خير من أن تهينه» لأن ما بعد أن الناصبة للفعل يعدّ من صلتها (٦). والرفع فى كل ذلك إنما هو على الابتداء. وقال سيبويه إن الاشتغال يكون فى الأفعال الناقصة على نحو ما يكون فى الأفعال التامة مثل : «أعبد الله كنت مثله ، وزيدا لست مثله» (٧). وذكر أن اسم الفاعل والمفعول وأسماء المبالغة تجرى فى هذا الباب مجرى الأفعال مثل «أزيدا أنت ضاربه» و «أزيدا أنت ضرّابه» (٨). وحتّم الرفع فى مثل «زيد أنت الضاربه» لأن الألف واللام بمعنى

__________________

(١) الكتاب ١ / ٧٢.

(٢) الكتاب ١ / ٤٦.

(٣) الكتاب ١ / ٤٧.

(٤) الكتاب ١ / ٤٢.

(٥) الكتاب ١ / ٥٤.

(٦) الكتاب ١ / ٦٥ وانظر ٤٥.

(٧) الكتاب ١ / ٥٢.

(٨) الكتاب ١ / ٥٥ وما بعدها.

٧٠

الذى ، فضاربه من صلتها ، فحكمها مع الاسم الذى شغلت عنه حكم الفعل السالف فى الصلة ، ولذلك يجب الرفع (١) على الابتداء.

ولم نعرض لكل صور الاشتغال عند سيبويه إنما عرضنا لصوره المشهورة ، وكأنما نثر كنانة اللغة بين يديه وجمع منها كل ما أراد من صور لا فى هذا الباب وحده ، بل أيضا فى كل الأبواب التى يحذف معها الفعل. وقد استكمل صور حذفه مع المفعول به فيما وراء باب الاشتغال ، من ذلك تصويره لحذفه فى باب التحذير مثل الأسد الأسد (٢) ، وإياك ، وإياك والأسد (٣) ، وفى باب الاختصاص مثل «إنا معشر العرب كرام» وهو على تقدير أعنى (٤). ويصوّر حذفه جوازا إذا قامت قرينة مثل «مكة» لمن رأيته قاصدا الحج أى تريد مكة (٥). ويعرض لكثير من الصور السماعية التى يحذف فيها وجوبا مثل «هذا ولا زعماتك» أى ولا أتوهم زعماتك (٦) ، ومن ذلك قول العرب فى بعض أمثالهم : «كليهما وتمرا» أى أعطنى كليهما وتمرا (٧) ، وقول الله جلّ وعزّ : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أى ائتوا خيرا لكم (٨) ، وقولهم : «مرحبا وأهلا وسهلا» أى أدركت مرحبا وأصيت أهلا ونزلت سهلا ، (٩) وقولهم : «امرأ ونفسه» (١٠) أى دع امرأ ونفسه ، وقولهم : «ما لك وزيدا» أى وتناولك زيدا (١١) ، وقولهم «تربا وجندلا» أى ألزمك الله أو أطعمك (١٢).

وقد أكثر سيبويه من عقد الأبواب التى تصوّر حذف الفعل مع المفعول المطلق جوازا ووجوبا ، وهو إنما يجب إذا جاء بدلا من فعله كقولهم فى الدعاء له «سقيا ورعيا» أى سقاك الله ورعاك (١٣) و «هنيئا» أى لتهنأ (١٤) وقولهم فى الدعاء عليه «ويلك وويحك» (١٥) ، وقولهم : «حمدا وشكرا» (١٦) ، وقولهم «سبحان الله ومعاذ الله

__________________

(١) الكتاب ١ / ٦٦.

(٢) الكتاب ١ / ١٢٨.

(٣) الكتاب ١ / ١٣٨.

(٤) الكتاب ١ / ٣٢٧.

(٥) الكتاب ١ / ١٢٩.

(٦) الكتاب ١ / ١٤١.

(٧) الكتاب ١ / ١٤٢.

(٨) الكتاب ١ / ١٤٣.

(٩) الكتاب ١ / ١٤٩.

(١٠) الكتاب ١ / ١٥٠.

(١١) الكتاب ١ / ١٥٥.

(١٢) الكتاب ١ / ١٥٨.

(١٣) الكتاب ١ / ١٥٧.

(١٤) الكتاب ١ / ١٥٩.

(١٥) الكتاب ١ / ١٦٠. (١٦) الكتاب ١ / ١٦٠.

٧١

وعمرك الله» (١). ومما اطرد فيه حذف الفعل قولهم : «ما أنت إلا سيرا» و «ما أنت إلا السير» بالنصب و «ما أنت إلا السير السير» (٢) ، وزعم سيبويه أنهم استخدموا فى هذا الباب صفات مثل أقائما وقد قعد الناس (٣) وأتميميّا مرة وقيسيّا أخرى أى أتتحول تميميّا مرة وقيسيّا أخرى (٤). ومما حذف معه الفعل المصادر المثناة مثل لبيّك وسعديك (٥) ، وحقّا فى قولهم «هذا عبد الله حقّا» (٦) وعرفا فى قولهم : «علىّ ألف درهم عرفا» (٧). ويحذف الفعل مع قطع النعت ونصبه فى مثل «الحمد لله الحميد» بالنصب (٨) ، كما يحذف فى باب النداء على نحو ما ذكرنا ذلك آنفا.

وليس الفعل التام وحده الذى يحذف ، فكان الناقصة تحذف فى مواضع منها قولهم : «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر» أى إن كان الجزاء خيرا فخير ، وإن كان شرّا فشر. وأجاز أن يقال إن خير فخير أى إن كان فى أعمالهم خير فالّذى يجزون به خير. هكذا قدّر العبارة (٩). ومن مواضع حذف كان قولهم كيف أنت وزيدا وما أنت وزيدا على تقدير كيف تكون أنت وزيدا وما كنت وزيدا (١٠) ، وإنما قدّر كان فى المثالين ليسبق المفعول معه فعل يعمل فيه النصب. ومن تلك «المواضع قولهم : «أما أنت منطلقا انطلقت معك» ، على تقدير أن كنت منطلقا انطلقت (١١) ، فحذفت كان وانفصل اسمها وعوض عنهما بلفظة ما.

ومما يطّرد معه حذف العامل الجارّ والمجرور إذا كانا فى موضع الحال أو الصفة أو الخبر ، إذ يقدرهما متعلقين بفعل استقر محذوفا ، فإذا قلت «فى الدار زيد» كان ذلك على تقدير استقر فى الدار زيد (١٢). ومثلهما الظرف. ويطرد مع لام التعليل التى ينصب بعدها المضارع وأخواتها مثل أو والواو والفاء حذف أن الناصبة له ، والخليل كما مرّ بنا هو الذى نبّه على هذا الحذف. وتضمر ربّ

__________________

(١) الكتاب ١ / ١٦٢.

(٢) الكتاب ١ / ١٦٨.

(٣) الكتاب ١ / ١٧١.

(٤) الكتاب ١ / ١٧٢.

(٥) الكتاب ١ / ١٧٤.

(٦) الكتاب ١ / ١٨٩.

(٧) الكتاب ١ / ١٩٠.

(٨) الكتاب ١ / ٢٤٨.

(٩) الكتاب ١ / ١٣٠ وما بعدها.

(١٠) الكتاب ١ / ١٥٢ وما بعدها.

(١١) الكتاب ١ / ١٤٨.

(١٢) الكتاب ١ / ٢٦٠.

٧٢

بعد الواو فى مثل قول القائل : «وبلدة ليس بها أنيس» (١). ويحذف المضاف ويظل عمله أو أثره كقولهم : «ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة» فبيضاء فى موضع جرّ على تقدير إضمار كل ، كأنك قلت ولا كلّ بيضاء شحمة ، ومن ذلك قول أبى داود :

أكلّ امرىء تحسبين امرءا

ونار توفّد بالليل نارا

فقد أراد وكلّ نار ، ومن هنا قال إن لفظة نار مجرورة بكل أخرى مقدرة وليست معطوفة على امرئ ، حتى لا تكون الجملة الثانية فى البيت والمثل السالف معطوفة على عاملين مختلفين ، فتكون شحمة معطوفة على «تمرة» ونارا معطوفة على «امرءا» (٢). ويكثر حذف المبتدأ العامل فى الخبر ما دامت هناك قرينة تدل عليه. وهو يضع فى تضاعيف كلامه قاعدة عامة لعمل العوامل مضمرة ، إذ يقول :«وإذا عملت العرب شيئا مضمرا لم يخرج عن عمله مظهرا فى الجر والنصب والرفع» (٣) ويمثّل للرفع بحذف المبتدأ فى قولك «الهلال» تريد هذا الهلال. ومما يصح أن يدخل فى حذف المبتدأ قول الله تعالى : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) على تقدير أمرى طاعة وقول معروف (٤) ، وقول العرب : «الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر» فقد قدر ـ كما مربنا آنفا ـ فى لفظة خير المرفوعة ومثلها شر المرفوعة أن يكونا خبرين لمبتدأين محذوفين على تقدير فالذى يجزون به خير ، وكذلك فالذى يجزون به شر (٥). ومن حذف المبتدأ قولك : «إن جزع وإن إجمال صبر» أى فإما أمرى جزع وإما أمرى إجمال صبر (٦) ، وقولهم فى الخطاب : «مصاحب معان ومبرور مأجور» على تقدير أنت مصاحب معان وأنت مبرور مأجور (٧). وواضح من هذا التقدير أن سيبويه لم يكن يعدّد الخبر ، بل يجعل لكل خبر مبتدأ خاصا به. ومن حذف المبتدأ أيضا قول الله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) على تقدير الأمر صبر جميل ، ومثله قول بعض العرب : «من أنت

__________________

(١) الكتاب ١ / ١٣٣.

(٢) الكتاب ١ / ٣٣.

(٣) الكتاب ١ / ٥٤.

(٤) الكتاب ١ / ٧١.

(٥) الكتاب ١ / ١٣١.

(٦) الكتاب ١ / ١٣٥.

(٧) الكتاب ١ / ١٣٧.

٧٣

زيد» أى «من أنت كلامك زيد» ، فتركوا إظهار الرافع (١) ، يريد إظهار المبتدأ ، وقول الله جلّ وعزّ : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) أى ذاك بلاغ (٢). ومما يطرد فيه حذف المبتدأ النعت المقطوع لمدح أو ذم أو ترحم مثل مررت بمحمد الفاضل أو اللئيم أو المسكين (٣). وكذلك أى الموصولة إذا أضيفت وحذف عائدها أو بعبارة أخرى المبتدأ بعدها مثل : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) على تقدير هو أشد (٤).

وعلى نحو ما اتسع سيبويه فى الحديث عن حذف العوامل على هدى ما قاله أستاذه الخليل فى ذلك اتسع فى الحديث عن حذف المعمولات ، فمن ذلك الخبر بعد مرفوع لو لا فى مثل «لولا عبد الله للقيتك» ، ويفهم من كلامه فيها أن جوابها أغنى عن الخبر (٥). وكذلك الخبر بعد لو فى مثل (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) فقد جعل أن وما بعدها فى محل رفع بالابتداء ، وقال إن المبتدأ هنا لا يحتاج إلى خبر لاشتمال صلة لو لا على المسند إليه والمسند (٦). ويحذف الخبر فى مثل «كلّ رجل وضيعته» و «أنت وشأنك» أى مقرونان (٧). وهو يحذف جوازا كلما وجدت قرينة ، وجعل من ذلك (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فى أحد توجيهيه ، إذ قال من الممكن أن يكون الخبر هو المحذوف على تقدير طاعة وقول معروف أمثل (٨) ، وكان الخليل يقول بذلك كما مر بنا فى غير هذا الموضع ومن مواضع حذفه قولهم «ما أنت إلا سيرا» أى تسير سيرا ، وخرّج عليه كما أسلفنا الآية الكريمة : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أى فيما فرض عليكم حتى لا يكون الخبر طلبيّا (٩). ويحذف خبر إنّ مثل إنّ ولدا أى إن لنا ولدا ، وخبر ليت مثل : «يا ليت أيام الصبا رواجعا» ، أى يا ليت لنا ، وكذلك خبر لا النافية للجنس ، وجعل منه «ألاماء باردا» أى لنا (١٠) ، وكذلك خبر لا العاملة عمل ليس مثل :

__________________

(١) الكتاب ١ / ١٦٢.

(٢) الكتاب ١ / ١٩١.

(٣) الكتاب ١ / ٢٥٢ وما بعدها.

(٤) الكتاب ١ / ٣٩٨ وما بعدها.

(٥) الكتاب ١ / ٢٧٩.

(٦) المغنى ص ٢٩٨.

(٧) الكتاب ١ / ١٥١.

(٨) الكتاب ١ / ٧١.

(٩) انظر الكتاب ١ / ٧٢.

(١٠) انظر فى الأمثلة المذكورة الكتاب ١ / ٢٨٤.

٧٤

من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (١)

وتابع الخليل فى أن اسم إن وأخواتها إذا كان ضمير شان حذف كثيرا ، وسبق أن صورنا ذلك فى حديثنا عن الخليل. ولاحظ أن اسم «كان وليس» المضمر يكثر حذفه وعقد لذلك بابا (٢) مثل «كان الناس صنفان : صالح وطالح» ، و «ليس كلّ وقت تلقى صاحبك». وجعل إضمار اسمهما واجبا فى باب الاستثناء مثل جاء القوم لا يكون محمدا ، وليس محمدا (٣). ويحذف المفعول به ضرورة فى مثل «زيد رأيت» وقياسا فى باب ظن حين يلغى الفعل كما مر بنا فى غير هذا الموضع. ويحذف التمييز فى مثل كم صمت؟ أى كم يوما ، وكثيرا ما يحذف عائد الصلة ، وحتى المؤكد قد يحذف عنده وعند أستاذه الخليل ، يقول : «سألته عن مررت بزيد وأتانى أخوه أنفسهما» ما موضع أنفسهما؟ فقال الرفع على تقدير هما صاحباى أنفسهما ، ويجوز النصب على تقدير أعنيهما أنفسهما» (٤) ويحذف البدل فى مثل ظننت ذاك ، فقد جعل ذاك مفعولا مطلقا على تقدير ظننت ذاك الظن (٥). ويحذف المضاف ويحلّ المضاف إليه محله فى مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أى أهل القرية. ويخيل لمن يتابع سيبويه أن ليس فى اللغة معمول لا يحذف ، وحتى الجملة تحذف ، ويطّرد ذلك إذا اجتمع الجزاء والقسم فى مثل لئن فعلت ذلك لأكافئنك ، فقد حذف جواب إن لدلالة جواب القسم عليه (٦). وكان يقدر جواب الشرط محذوفا فى مثل إن قام زيد أقوم ويقول إن الفعل المضارع مؤخر فى هذا المثال من تقديم وأن الأصل أقوم إن قام زيد ، وحذف الجواب لدلالة أقوم عليه (٧)

وأكثر سيبويه من تحليله للعبارات حتى تتجه مع ما يراه لألفاظها من إعراب ، من ذلك أن نراه يعرب المصدر حالا إذا اتجه ذلك فى مثل «ذهب به مشيا» أى ماشيا ، واشترط لذلك أن لا تدخله الألف واللام إلا ما جاء سماعا مثل أرسلها

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٥٤.

(٢) الكتاب ١ / ٣٥.

(٣) الكتاب ١ / ٣٧٦.

(٤) الكتاب ١ / ٢٤٧.

(٥) الكتاب ١ / ١٨.

(٦) الكتاب ١ / ٤٤٤.

(٧) الكتاب ١ / ٤٣٦.

٧٥

العراك أى معتركة (١) ، ويمثّل له فى موضع آخر بقولهم : «لقيته فجاءة ومفاجأة وعيانا» و «كلمته مشافهة وأتيته ركضا وعدوا ومشيا» و «أخذت ذلك عنه سمعا وسماعا» ثم يقول : «وليس كل مصدر وإن كان فى القياس مثل ما مضى من هذا الباب يوضع هذا الموضع لأن المصدر ههنا فى موضع فاعل إذا كان حالا ، ألا ترى أنه لا يحسن : أتانا سرعة ولا أتانا رجلة» إذ المصدر فى المثالين ليس فى موضع فاعل (٢). وجعله إحساسه الدقيق بأن الحال يقع فيها الفعل أو بعبارة أخرى تقيّد بزمنه ، فإنك إذا قلت جاء محمد ضاحكا ، كانت «ضاحكا» صفة له مقيّدة بالفعل وزمنه ، وجعله ذلك يقول إنها حال مفعول فيها (٣) ، وكأنها تقع بين النعت وظرف الزمان. وهذا نفسه هو الذى لفته إلى أن يقول إن واو الجملة الحالية فى مثل «جاء زيد والشمس طالعة» قيد بمعنى إذ ، أى أنها تدل على الزمان (٤). ومن تحليلاته الطريفة فى باب الحال وقد تصوّره مفعولا فيه ما عرض له فى الباب الذى عنونه بقوله : «هذا باب ما ينتصب من الأسماء التى ليست بصفة ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه» يقول (٥) : «وذلك قولك كلمته فاه إلى فىّ وبايعته يدا بيد كأنه قال كلمته مشافهة وبايعته نقدا ، أى كلمته فى هذه الحال ، وبعض العرب يقول كلمته فوه إلى فىّ كأنه يقول كلمته وفوه إلى فىّ أى كلمته وهذه حاله ، فالرفع على قوله كلمته وهذه حاله ، والنصب على قوله كلمته فى هذه الحال فانتصب ، لأنه حال وقع فيه الفعل ، وأما يدا بيد فليس فيه إلا النصب لأنه لا يحسن أن تقول بايعته ويد بيد ولم يرد أن يخبر أنه بايعه ويده فى يده ، ولكنه أراد أن يقول بايعته بالتعجيل ولا يبالى أقريبا كان أم بعيدا. وإذا قال كلمته فوه إلى فىّ فإنما يريد أن يخبر عن قربه منه وأنه شافهه ولم يكن بينهما أحد. ومثله من المصادر فى أن تلزمه الإضافة وما بعده مما يجوز فيه الابتداء ويكون حالا قولهم : رجع فلان عوده على بدئه وانثنى فلان عوده على بدئه كأنه قال انثنى عودا على بدء. ولا يستعمل فى الكلام رجع

__________________

(١) الكتاب ١ / ١١٨.

(٢) الكتاب ١ / ١٨٦.

(٣) الكتاب ١ / ١٩٤ وانظر ١ / ٢٦٠.

(٤) المغنى ص ٣٩٨.

(٥) الكتاب ١ / ١٩٥ وما بعدها.

٧٦

عودا على بدء ، ولكنه مثّل به. ومن رفع فوه إلى فىّ أجاز الرفع فى قوله : رجع فلان عوده على بدئه. ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل قولك : بعت الشاء شاة ودرهما ، وقامرته درهما فى درهم ، وبعته دارى ذراعا بدرهم ، وبعت البرّ قفيزين بدرهم ، وأخذت زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما ، وبيّنت له حسابه بابا بابا ، وتصدّقت بمالى درهما درهما. واعلم أن هذه الأشياء لا ينفرد منها شىء دون ما بعده ، وذلك أنه لا يجوز أن تقول كلمته فاه حتى تقول إلى فىّ لأنك إنما تريد مشافهة ، والمشافهة لا تكون إلا من اثنين ، فإنما يصح المعنى إذا قلت إلى فىّ. ولا يجوز أن تقول بايعته يدا لأنك إنما تريد أن تقول أخذ منى وأعطانى ، فإنما يصح المعنى «بيد» لأنهما عملان. ولا يجوز أن تقول انثنى عوده ، لأنك لا تريد أنه لم يقطع ذهابه حتى وصله برجوع ، وإنما أردت أنه رجع فى حافرته أى نقض مجيئه برجوع. وقد يكون أن ينقطع مجيئه ثم يرجع ، فيقول رجعت عودى على بدئى أى رجعت كما جئت ، والمجىء موصول به الرجوع ، فهو بدء والرجوع عود. ولا يجوز أن تقول بعت دارى ذراعا وأنت تريد بدرهم ، فيرى المخاطب أن الدار كلها ذراع. ولا يجوز أن تقول بعت شائى شاة شاة وأنت تريد بدرهم فيرى المخاطب أنك بعتها الأول فالأول على الولاء. ولا يجوز أن تقول بيّنت له حسابه بابا فيرى المخاطب أنك إنما جعلت له حسابه بابا واحدا غير مفسّر. ولا يجوز تصدّقت بمالى درهما فيرى المخاطب أنك تصدّقت بدرهم واحد. وكذلك هذا وما أشبهه».

وواضح ما يحمله هذا التحليل من دقة الحس ودقة الفقه بأساليب العربية واستعمالاتها ودلالاتها ، ومن هنا كان كتاب سيبويه لا يعلّم العربية وقواعدها فحسب ، بل يعلم أيضا أساليبها ودقائقها التعبيرية. وعلى نحو ما نراه فى هذه الفقرة يتوقف فى الكتاب مرارا لينص على ما لم يستعمله العرب ولا جرى على ألسنتهم. ودائما تلقانا فى الكتاب مثل هذه التحليلات الرائعة ، فهو لا يسجل القواعد فقط ، وإنما يفكر فى العبارات ويلاحظ ويتأمل ويستنبط خواصّها ومعانيها بحسّه الدقيق المرهف ، ويكفى أن نقف عند أمثلة أخرى من باب فاء

٧٧

السببية التى ينصب بعدها المضارع ، وقد يأتى مرفوعا ، يقول (١) :

«اعلم أن ما ينتصب فى باب الفاء قد ينتصب على غير معنى واحد ، وكل ذلك على إضمار أن ، إلا أن المعانى مختلفة ، كما أن «يعلم الله» يرتفع كما يرتفع يذهب زيد ، و «علم الله» ينتصب كما ينتصب ذهب زيد ، وفيهما معنى اليمين .. تقول : ما تأتينى فتحدّثنى ، فالنصب على وجهين من المعانى أحدهما ما تأتينى فكيف تحدثنى أى لو أتيتنى لحدّثتنى ، وأما الآخر فما تأتينى أبدا إلا لم تحدثنى ، أى منك إتيان كثير ولا حديث منك ، وإن شئت أشركت بين الأول والآخر فدخل الآخر فيما دخل فيه الأول ، فتقول ما تأتينى فتحدثنى (بالرفع) كأنك قلت : ما تأتينى وما تحدثنى ، ومثل النصب قوله عزوجل (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ومثل الرفع قوله عزوجل : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وإن شئت رفعت (تحدثنى) على وجه آخر كأنك قلت فأنت تحدثنا ، ومثل ذلك قول بعض الحارثيين :

غير أنا لم تأتنا بيقين

فنرجّى ونكثر التأميلا

كأنه قال : فنحن نرجّى ، فهذا فى موضع مبنىّ على المبتدأ (المحذوف) .. وتقول : حسبته شتمنى فأثب عليه ، إذا لم يكن الوثوب واقعا ، ومعناه أن لو شتمنى لوثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع ، لأن هذا بمنزلة قوله : ألست قد فعلت فأفعل».

ويدخل فى هذا التحليل للعبارات وفرة الاحتمالات فى إعرابها ، من ذلك «دخلوا الأوّل فالأول» جعله حالا مثل دخلوا واحدا فواحدا ، وجوّز أن يقال دخلوا الأول فالأول بالرفع على أن الأول بدل من الضمير (٢). ومن ذلك قولك : «إن زيدا منطلق العاقل اللبيب» فقد جوّز فيه النصب نعتا لزيد ، كما جوّز الرفع على وجهين : أن يكون العاقل بدلا من الضمير العائد على زيد فى منطلق ، أو يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، وكأنه جواب على سؤال مقدر ، كأنه قيل من هو؟ فأجيب بأنه العاقل اللبيب (٣). ومن ذلك نعت اسم لا النافية للجنس

__________________

(١) الكتاب ١ / ٤١٩ وما بعدها.

(٢) الكتاب ١ / ١٩٨.

(٣) الكتاب ١ / ٢٨٦.

٧٨

مثل لا رجل ظريف عندك ، فقد جوّز فى النعت أن يكون مبنيّا على الفتح غير منوّن مثل الاسم ، وقال لأنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد ، وجوّز أن يكون منصوبا منونا أى لا رجل ظريفا عندك ، يقول كأنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد (١).

وهدته هذه التحليلات وما يماثلها إلى تبين حروف الجر الزائدة ، وكلما التقى بها فى تعبير نصّ عليها ، من ذلك «من» الزائدة مع الاستفهام والنفى فى المبتدأ أو الفاعل مثل هل من طعام أى هل طعام وما من طعام أى وما طعام ، ومثل ما أتانى من رجل أى ما أتانى رجل (٢). ومن ذلك الباء الزائدة فى حسبك مثل قولهم : بحسبك قول السوء ، يقول : كأنهم قالوا : حسبك قول السوء (٣). وكما تدخل الباء على حسبك تدخل على المبتدأ بعدها إن قدّرت خبرا مقدما مثل مررت برجل حسبك به من رجل ، فبه هنا بمنزلة هو فى رأيه ورأى أستاذه الخليل (٤). ومن توجيهاته الطريفة أنه كان يقول إن الواو فى لغة «أكلونى البراغيث» حرف دال على الجماعة كما أن التاء فى قالت حرف دال على التأنيث (٥). وكان يذهب مع أستاذه الخليل إلى أن كان قد تأتى زائدة أى ملغاة فى مثل قول الشاعر :

فكيف إذا رأيت ديار قوم

وجيران لنا ـ كانوا ـ كرام

فقد زادت تبيينا لمعنى المضى (٦). وكان يرى كذلك أنه تزاد أن توكيدا للقسم بين اليمين وفعل القسم وما بعدهما مثل والله أن لو فعلت لفعلت ، وأقسم أن لو جئت لجئت (٧). وكان يسمى حروف الجر حروف الإضافة لأنها تضيف معانى الأسماء إلى الأفعال (٨) ، وعنده أن «إما» المكسورة المشددة مركبة من إن وما (٩) ، وأن التنوين فى جوار وغواش عوض عن الياء المحذوفة (١٠).

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٥١.

(٢) الكتاب ١ / ٢٧٩.

(٣) الكتاب ١ / ٣٥٣.

(٤) الكتاب ١ / ٢٣٠.

(٥) الكتاب ١ / ٢٣٦.

(٦) الكتاب ١ / ٢٨٩.

(٧) الكتاب ١ / ٤٥٥.

(٨) الكتاب ١ / ٢٠٩.

(٩) المغنى ص ٦١.

(١٠) الكتاب ٢ / ٥٧ وانظر تعليق السيرافى فى الهامش.

٧٩

وعلى هذا النحو لا تزال سيول من التحليلات حتى للحركات والحروف تلقانا عند سيبويه. وفى كل مكان نراه يتوقف ليوجّه النصب والرفع فى تعبير جاءت كلمة فيه على لسان العرب مرفوعة ومنصوبة ، أو جاءت مرفوعة فحسب أو منصوبة.

٤

السماع والتعليل والقياس

يجرى سيبويه فى السماع على الأساس الذى وضعته مدرسته ، كما رأينا عند ابن أبى إسحق وعيسى بن عمر والخليل ، وهو النقل عن القرّاء وعلماء اللغة الموثّقين والعرب الذين يوثق بفصاحتهم ، واستنّ بمدرسته فى قلة الاستشهاد بالحديث النبوى لأنه روى بالمعنى لا باللفظ ، ودخل فى روايته كثيرون من الأعاجم الذين لا يؤمنون على اللحن.

ويقول ابن الجزرىّ إنه أخذ القراءة عن أبى عمرو بن العلاء ، ويظهر إن صحّ ذلك أنه لم يأخذها عنه مباشرة ، إنما أخذها عن بعض تلاميذه ، إذ نراه فى الكتاب لا يذكر له مسألة إلا من طريق الرواية عن بعض هؤلاء التلاميذ وخاصة يونس بن حبيب ، مما يدل على أنه لم يلقه. ونظن ظنّا أنه حمل قراءة الذكر الحكيم عن هرون (١) بن موسى النحوى الذى يتردد ذكره فى الكتاب مع بعض القراءات التى يرويها ، وكذلك عن أستاذه الخليل وغيره من أئمة القراءات فى البصرة لعصره مثل يعقوب بن إسحق الحضرمى وهو أحد أئمة القراءات العشر. وسيبويه لا ينكر القراءة التى تخالف القياس ، بل عادة لا يعرض لها ، ومما وقف عنده الآية الكريمة : (كُنْ فَيَكُونُ) وكان ابن عامر يقرأ يكون بالنصب ، وهو بذلك يخالف القياس ، لأن المضارع لا ينصب بعد الفاء مع الأمر ، على نحو ما يقرّر ذلك سيبويه ، إلا إذا كان جوابا له ، ولم يرد الله فى رأيه أنه يقول للشىء كن فيكون ، وإنما أراد أنه يقول للشىء كن فحسب ، ثم أخبر أنه يكون ، ومعنى ذلك

__________________

(١) انظر ترجمته فى نزهة الألباء ص ٣٢ ومعجم الأدباء ١٩ / ٢٦٣ وإنباء الرواة ٣ / ٣٦١ وتاريخ بغداد ١٤ / ٣ وطبقات القراء ٢ / ٣٤٨ وبغية الوعاة ص ٤٠٦.

٨٠