المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

وما بعدها معطوف على ما قبلها ، وتقتضى المعادلة ، مثل أضربت عليّا أم نهرته (١).

ومن نحاة العصر الأيوبى النابهين على (٢) بن محمد بن عبد الصمد السخاوى المتوفى سنة ٦٤٣ للهجرة ، وله شرحان على كتاب المفصل للزمخشرى ، وشرح على أحاجيه النحويه. واسمه يدور فى كتاب الأشباه والنظائر. وله ملاحظ وآراء دقيقة كثيرة ، من ذلك قوله إن باب فعيلة تحذف منه التاء والياء فى النسب مثل حنيفة وحنفى وكأنه لما تطرق إليه تغيير بحذف التاء حذفت معها الياء بينما فعيل مثل تميم لا يحذف منه فى النسب شىء (٣). وكان يقول لا يدخل على المقسم به المضمر غير الباء (٤) ، وشبّه الحال بالمفعول به فى مجيئها بعد الفاعل ، وبالظرف فى انقضاء مدتها مع فعلها ، وبالصفة ، وبالتمييز فى تنكيرها وبالخبر فى فائدتها (٥) وكان يقول حتى الجارة تختلف عن «إلى» فى أنه لا يليها مضمر مثلها وأن فيها معنى الاستثناء وأنها لا تقع خبرا بخلاف إلى فى مثل : (والأمر إليك) (٦). واحتفظ السيوطى له بأجوبته عن عشر مسائل نحوية ولغوية أثارها أبو نزار الحسن بن صافى النحوى ، وهى تدل على سعة معارفه النحوية (٧). وكان يعاصره ابن الحاجب وسنخصه بكلمة أكثر طولا.

وتنشط الدراسات النحوية فى عصر المماليك ، بل تزدهر وتثمر ثمارا رائعة ، ومن النحاة النابهين حينئذ بهاء الدين (٨) بن النحاس الحلبى الأصل المتوفى سنة ٦٩٨ للهجرة ، دخل مصر وأخذ عن شيوخها ، ثم جلس لإفادة الطلاب ، ولم يلبث أن أصبح شيخ الديار المصرية فى علم العربية. وعليه تتلمذ أبو حيان حين نزوله مصر ، وله مصنفات مختلفة من أهمها شرح على المقرب لابن عصفور. وكان يرى أن فائدة العدل فى مثل لفظة عمر الاختصار فهى أخصر من عامر (٩).

__________________

(١) الأشباه والنظائر ٢ / ٢١٤.

(٢) انظر ترجمته فى إنباه الرواة ٢ / ٣١١ وابن خلكان ١ / ٣٤٥ وطبقات القراء ١ / ٥٦٨ وطبقات الشافعية ٥ / ٢٦ ومعجم الأدباء ١٥ / ٦٥ وبغية الوعاة ص ٣٤٩.

(٣) الأشباه والنظائر ١ / ١٣٧.

(٤) الأشباه والنظائر ١ / ٢٢٨.

(٥) الأشباه والنظائر ٢ / ١٩٠.

(٦) الأشباه والنظائر ٢ / ١٩٢.

(٧) انظر الأشباه والنظائر ٣ / ١٥٨.

(٨) انظر ترجمته فى بغية الوعاة ص ٦.

(٩) الأشباه والنظائر ١ / ٣١.

٣٤١

وأجمع النحاة أن مضافا إليه محذوفا فى مثل «قطع الله يد ورجل من قالها» واختلفوا من أى الكلمتين حذف من يد أو رجل ، واختار رأى سيبويه القائل بأن المضاف إليه المحذوف مع رجل لا يد (١). وكان يقول : لا يثنّى «بعض» ولا يجمع حملا على «كل» لأنه نقيض ، وحكم النقيض أن يجرى على نقيضه (٢). وكان يختار مذهب سيبويه فى أن عسى فى مثل «عساى وعساك» خرجت عن بابها وعملت عمل لعل (٣). وكان يقول لا يضاف من ظروف المكان سوى حيث (٤). وكان الجمهور يذهب إلى أن الحرف معناه فى غيره وذهب إلى أنه يدل على معنى فى نفسه (٥). وكان يرى رأى ابن عصفور فى العطف على محل الجملة فى التعليق بالنصب مستدلين بقول كثير :

وما كنت أدرى قبل عزّة ما البكا

ولا موجعات القلب حتى تولّت

بعطف كلمة موجعات على جملة «ما البكا» (٦). وكان يقول إنما كسرت النون فى المثنى لسكونها وسكون الألف قبلها (٧)!. وله تعليلات مختلفة ساق منها السيوطى أطرافا (٨). وكان يذهب مع أستاذه ابن مالك إلى جواز مجىء المبتدأ مؤخرا نكرة مع حملة سابقة له مثل «قصدك غلامه رجل» (٩) والأولى أن تكون رجل فاعلا مؤخرا. ونصّ على أن «لو ما» مثل لو لا تماما يحذف بعدها الخبر ويذكر الجواب مثل «لوما محمد ما جئت» (١٠).

وربما كان أنبه تلاميذ أبى حيان ابن (١١) أم قاسم الحسن بن قاسم المتوفى سنة ٧٤٩ للهجرة ، وأم قاسم جدته لأبيه ، نسب إليها. وله شرح على المفصل للزمخشرى وثان على التسهيل وثالث على الألفية لابن مالك. وتحتفظ كتب النحو له بآراء مختلفه ، من ذلك أنه كان يرى أن المحذوف فى «إنا وأنا ولكنا» النون

__________________

(١) الأشباه والنظائر ١ / ٤٢.

(٢) الأشباه والنظائر ١ / ١٩٦.

(٣) نفس المصدر ١ / ٢٢٩.

(٤) الأشباه والنظائر ٢ / ٨٨.

(٥) الهمع ١ / ٤ والأشباه والنظائر ٣ / ٢.

(٦) المغنى ص ٤٦٧.

(٧) الأشباه والنظائر ١ / ١٩٦.

(٨) انظر الأشباه والنظائر ١ / ٢٤٢ ، ١ / ٢٦٢ ، ١ / ٢٧٠ ، ٢ / ٨٨.

(٩) الهمع ١ / ١٠١.

(١٠) الهمع ١ / ١٠٥.

(١١) انظره فى البغية ص ٢٢٦

٣٤٢

الأولى لا الثانية لأنها اسم ، والحروف أولى بالحذف من الاسم (١). وكان يتصدى لأستاذه أبى حيان كثيرا ، وخاصة حين يعارض ابن مالك ، ونراه يحكى عبارته حينئذ بصيغة قيل (٢) ، ومما عارضه فيه منحازا لابن مالك أن حرى من أخوات كاد وليست اسما منونا بمعنى حقيق (٣). وقد أنكر رأيه فى جواز حذف العائد المتصل بليت فى مثل «جاء الذى ليته زيد» (٤) وأكبر الظن أنه آن أن نفرد حديثا أكثر تفصيلا لأهم نحوىّ مصرى ظهر فى القرن السابع الهجرى وهو ابن الحاجب.

ابن (٥) الحاجب

هو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبى بكر المتوفى سنة ٦٤٦ للهجرة ، ولد فى «إسنا» بصعيد مصر سنة ٥٧٠ ونشأ بالقاهرة ، وأكبّ على الدرس والتحصيل حتى أصبح علما فى الفقه على مذهب مالك وفى الأصول والنحو. وكان أبوه حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحى ، فغلبت عليه النسبة إلى وظيفته. ورحل إلى دمشق ، وأقبل الطلاب يفيدون من علمه الغزير هناك ، ثم عاد إلى القاهرة فدرّس النحو بالمدرسة الفاضلية ، ثم نزل الإسكندرية ولم تطل إقامته بها ، إذ سرعان مالبّى نداء ربه. وله مصنفات كثيرة فى الفقه المالكى والأصول والعروض ، ولكن شهرته طبّقت الخافقين بما صنفه فى النحو ، وأهم مصنفاته فيه الكافية وهى مطبوعة مرارا بشرح الرضى الإسترابادى وغيره ، وشرح له الرضى أيضا الشافية ، وهى فى فن التصريف وشرحه مطبوع. وفى دار الكتب المصرية مخطوطة من أماليه النحوية فى أكثر من ستمائة وخمسين صحيفة.

ولابن الحاجب آراء كثيرة اتفق فيها مع بعض النحاة وأخرى خالف فيها جمهورهم ،

__________________

(١) الهمع ١ / ٦٤.

(٢) الهمع ١ / ٧٢.

(٣) الهمع ١ / ١٢٨ وما بعدها.

(٤) الهمع ١ / ٩٠.

(٥) انظر فى ترجمة ابن الحاجب الديباج لابن فرحون ص ٣٧٢ وطبقات القراء للجزرى ١ / ٥٠٨ وشذرات الذهب ٥ / ٢٣٤ وطبقات القراء للذهبى ٢ / ٢٠١ وذيل الروضتين ص ١٦٠ ، ١٨٢ وتاريخ ابن كثير ١٣ / ١٧٦ وبغية الوعاة ص ٣٢٣.

٣٤٣

من ذلك ذهابه ـ مع الجمهور ـ إلى أن الإعراب لفظى لا معنوى (١). وكان يرى أن الأسماء «قبل تركيبها فى صيغ وعبارات» مبنية (٢) وأن «ذان وتان» الإشاريتين وضعتا للمثنى وليستا مثنيين حقيقيين ، ومعنى ذلك أن ذان صيغة وضعت للرفع وذين صيغة أخرى وضعت للنصب والجر (٣) ، ومثلها تان. وذهب جمهور النحاة إلى أن مثل «غلامى» مبنى لإضافته إلى مبنى ، وخالفهم ابن الحاجب فعده معربا مقدرا إعرابه بدليل إعراب نحو «غلامه وغلامك» (٤). وذكر النحاة أن من مسوغات الابتداء بالنكرة أن يسبقها استفهام «مثل أتلميذ فى الفصل» وقصر ابن الحاجب ذلك على همزة الاستفهام المعادلة بأم مثل «أرجل فى الدار أم امرأة» (٥) واضطرب النحاة بإزاء قول الحكمى :

غير مأسوف على زمن

ينقضى بالهمّ والحزن

فقال بعضهم غير مبتدأ لا خبر له ، وقال ابن جنى ـ وتبعه ابن الحاجب ـ إن غير خبر مقدم محذوف مبتدؤه ، إذ الأصل زمن ينقضى بالهم والحزن غير مأسوف عليه ، ثم قدمت غير وما بعدها ، ثم حذف زمن ـ وهو المبتدأ ـ دون صفته ، فعاد الضمير المجرور بعلى على غير مذكور فأتى بالاسم الظاهر مكانه (٦) ومما اتفق فيه مع أبى على الفارسى جواز تذكير الفعل مع فاعله إذا كان جمع مؤنث سالما ، فنقول قال الزينبات وقالت (٧). وكان يذهب ـ مع الزمخشرى ـ إلى أن لام الابتداء هى التى تكون مع المبتدأ وحده فى مثل «لزيد قائم» ولقائم زيد ، أما ما سوى ذلك فسمّى اللام فيه لاما مؤكدة مثل «إن محمدا لقائم» (٨). وكان يذهب معه ومع الكوفيين فى الفاعل الساد مسد الخبر مع الوصف أن يكون اسما ظاهرا

__________________

(١) الرضى على الكافية ١ / ١٥ وانظر الهمع ١ / ١٤.

(٢) الرضى على الكافية ١ / ١٤ ، ٢ / ٢.

(٣) الرضى ٢ / ٢٩ والمغنى ص ٣٨ والهمع ١ / ٤٢.

(٤) الرضى ١ / ٣٠.

(٥) الرضى ١ / ٧٩ وما بعدها والمغنى ص ٥٢٢.

(٦) المغنى ص ١٧٢.

(٧) الرضى ١ / ١٥٨ وانظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح على التوضيح (طبعة عيسى البابى الحلبى) ١ / ٢٨٠.

(٨) الرضى ٢ / ٣١٤ ، ٣٣٠ والمغنى ص ٢٥٢.

٣٤٤

مثل أقائم الزيدان ، لا ضميرا مثل أقائم أنتما (١). وكان يذهب مذهبه ومذهب الكوفيين فى أنه لو تلت «لو» أن المؤكدة كانت هى وما بعدها فاعلا بفعل مقدر تقديره ثبت (٢). وكان يذهب إلى أن «إلا» لا يوصف بها مثل غير إلا إذا كانت تالية لجمع منكر غير محصور مثل (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ومثل «ما جاءنى أحد إلا زيد» بخلاف «له على عشرة إلا درهما» فإنه يتعين حينئذ أن تكون إلا حرف استثناء (٣). وكان يذهب فى تخريج المسألة الزنبورية فى رواية الكسائى : «فإذا هو إياها» مذهبا بعيدا ، إذ يجعل كلمة إياها منصوبة على الحال من الضمير فى الخبر المحذوف ، والأصل فإذا هو ثابت مثلها ، ثم حذف المضاف فانفصل الضمير وانتصب فى اللفظ على الحال على سبيل النيابة ، قال ابن هشام : وهو وجه غريب (٤). وكان يرى مع الزجاج أن المضاف إليه مجرور بتقدير حرف مثل «اللام وفى ومن» لا بالمضاف كما ذهب سيبويه (٥). وكان يزعم أن من العرب من يصرف سراويل وأنكر ابن مالك ذلك عليه (٦). وكان يرى أن ما المصدرية قد تعمل عمل أختها أن كما فى الحديث : «كما تكونوا يولّى عليكم» (٧) ومما انفرد به ذهابه إلى أن المفعول المطلق قد يكون جملة ، وجعل من ذلك مقول القول فى مثل «قال زيد عمرو منطلق» وذهب إلى أن المفعولين الثانى والثالث لأنبأ فى مثل «أنبأت زيدا عمرا فاضلا» مفعول مطلق لأنهما نفس النبأ ، يقول ابن هشام : «وهذا الذى قاله لم يقله أحد ولا يقتضيه النظر الصحيح (٨). وقد ذهب مع الزمخشرى إلى أن السموات فى قوله عزّ شأنه : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) مفعول مطلق لا مفعول به (٩)

وكان ابن الحاجب دقيق النظر ، فخاض فى تعليلات كثيرة مستنبطا منها

__________________

(١) الرضى ١ / ٧٧ وشرح التصريح على التوضح ١ / ١٥٧ والمغنى ص ٦١٥.

(٢) الرضى ٢ / ٣٦٣ والهمع ١ / ١٣٨ وانظر المغنى ص ٥٦٣ وموافقته الكوفيين فى باب التنازع.

(٣) الرضى ١ / ٢٢٥.

(٤) المغنى ص ٩٧.

(٥) الرضى ١ / ٢٢٥ والهمع ٢ / ٤٦.

(٦) أوضح المسالك لابن هشام (بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد) طبع القاهرة ٣ / ١٤٢.

(٧) المغنى ص ٧٧٩.

(٨) المغنى ص ٧٣٧ وانظر ص ٤٨٩.

(٩) شرح التصريح ١ / ٧٩.

٣٤٥

ما لا يكاد يقف به عند حد ، من ذلك تعليله بناء الاسم بشبهه للحرف من وجه واحد ومنعه من الصرف بشبهه للفعل من وجهين ، يقول : لأن الشبه بالحرف يبعده عن الاسمية ويعقد صلة بينه وبين ما لا يجانسه ، بينما الشبه بالفعل قريب ، ولذلك لابد من تعدد وجهه ، حتى يبتعد الاسم عن بابه ، ويقول إن صلة الحرف بالآسم كصلة الجماد بالإنسان بينما صلة الفعل بالاسم كصلة الإنسان بالحيوان (١). ويتساءل : لم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ولم يفعل ذلك فى الموصول؟ ويجيب بأن الصفة تدل على الذات التى دلّ عليها الموصوف بنفسها باعتبار التعريف والتنكير ، لأنها تابعة للموصوف فى ذلك ، والموصول لا ينفك عن جعل الجملة التى معه فى معنى اسم معرّف ، فلو حذف لكانت الجملة نكرة فيختل المعنى (٢).

٣

ابن (٣) هشام

هو جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصارى المصرى ، ولد بالقاهرة سنة ٧٠٨ للهجرة ، وبها توفى سنة ٧٦١ وقد طارت شهرته فى العربية منذ حياته ، فأقبل عليه الطلاب من كل فجّ يفيدون من علمه ومباحثه النحوية الدقيقة واستنباطاته الرائعة. ويقال إنه لم يقرأ على أبى حيان سوى ديوان زهير ، وكأنه ثمرة العلماء المصريين من أساتذته ، وقد تحول يتعمق مذاهب النحاة ، وتمثّلها تمثلا غريبا نادرا ، وهى مبثوثة فى مصنفاته مع مناقشتها وبيان الضعيف منها والسديد ، مع إثارته ما لا يحصى من الخواطر والآراء فى كل ما يناقشه وكل ما يعرضه. وبلغ الإعجاب به لدى بعض معاصريه حدّا

__________________

(١) الأشباه والنظائر ٢ / ٢٣٢.

(٢) الأشباه والنظائر ٢ / ٢٤٥.

(٣) راجع فى ترجمة ابن هشام الدرر الكامنة لابن حجر ٧ / ٣٠٨ وشذرات الذهب ٦ / ١٩١ وبغية الوعاة ص ٢٩٣ والمنهج الأحمد للعليمى ص ٢٥٥.

٣٤٦

جعلهم يقولون إنه أنحى من سيبويه! وخلّف فى العربية مصنفات كثيرة ، من أهمها كتاب «مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب» وقد اختط له منهجا لم يسبق إليه ، إذ لم يقمه على أبواب النحو المعروفة ، بل قسمه قسمين كبيرين قسما أفرده للحروف والأدوات التى تشبه مفاتيح البيان فى لغتنا ، ومضى يوضح وظائفها وطرق استخدامها مع عرض جميع الآراء المتصلة بها عرضا باهرا. أما القسم الثانى فتحدث فيه عن أحكام الجملة وأقسامها المتنوعة وأحكام الظرف والجار والمجرور وخصائص الأبواب النحوية وصور العبارات الغريبة مع ما لا يكاد ينفد من ملاحظات وقواعد كلية تجسم أسرار العربية ، وقد طبع هذا الكتاب مرارا ، وطبع معه شرحان أو حاشيتان للأمير والدسوقى. ومن مصنفاته «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك» وهو مطبوع مرارا ، وشرحه الشيخ خالد الأزهرى باسم «التصريح على التوضيح» وكتب عليه حاشية الشيخ يس العليمى الحمصى ، والحاشية والشرح مطبوعان معه. ولابن هشام بجانب هذين المصنفين شذور الذهب فى معرفة كلام العرب ، وهو مطبوع مرارا ومثله «قطر النّدا وبل الصّدا» و «الإعراب عن قواعد الإعراب». وله وراء ذلك مصنفات نحوية كثيرة لا تزال مخطوطة ومحفوظة على رفوف المكتبات المختلفة. وهو يمتاز فيها جميعا بوضوح عبارته مع الأداء الدقيق إلى أبعد حدود الدقة مسهبا مطنبا أو موجزا مجملا.

ومنهجه فى النحو هو منهج المدرسة البغدادية ، فهو يوازن بين آراء البصريين والكوفيين ومن تلاهما من النحاة فى أقطار العالم العربى ، مختارا لنفسه منها ما يتمشى مع مقاييسه مظهرا قدرة فائقة فى التوجيه والتعليل والتخريج ، وكثيرا ما يشتق لنفسه رأيا جديدا لم يسبق إليه ، وخاصة فى توجيهاته الإعرابية على نحو ما يتضح لقارئ كتابه المغنى.

وهو فى أغلب اختياراته يقف مع البصريين ، من ذلك اختياره رأى سيبويه فى أن المبتدأ مرفوع بالابتداء وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ (١) ، وأن كان وأخواتها

__________________

(١) شرح التصريح على التوضيح ١ / ١٥٨.

٣٤٧

تعمل الرفع فى اسمها والنصب فى خبرها (١) ، وأن المفعول به منصوب بالفعل (٢) ، وأن المضاف إليه مجرور بالمضاف لا بالإضافة ولا بمعنى اللام المحذوفة (٣) ، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه كان يجلّ سيبويه إجلالا بعيدا ، كما كان يجل جمهور البصريين ، وفى كل جانب من كتاباته نراه متحمسا لهم مدافعا عن آرائهم ، من ذلك أنه كان يذهب مذهب يونس بن حبيب فى أن تاء أخت وبنت ليست للتأنيث (٤). وكان يرى رأى سيبويه وجمهور البصريين فى أن المحذوف فى مثل «تأمرونى» نون الرفع لا نون الوقاية (٥). وكان يرفض رأى الكوفيين القائل بأن أسماء الإشارة قد تحل محل أسماء الصلة ، فى مثل : «وهذا تحملين طليق» إذ يعرب الكوفيون هذا اسم موصول بمعنى الذى (٦) ، كما رفض رأيهم متشيعا للبصريين فى أن الوصف يسد معه الفاعل مسد الخبر إذا لم يتقدمه نفى أو استفهام فى مثل «خبير بنو لهب» (٧) وكان يحتم مع جمهور البصريين أن يكون الخبر مع الظرف والجار والمجرور محذوف وتقديره كائن أو مستقر لا كان أو استقر (٨). وكان يختار رأى سيبويه فى أن المرفوع بعد لو لا فى مثل «لولا محمد لهلك العرب» مبتدأ مرفوع بالابتداء ، يقول : «وليس المرفوع بعد لو لا فاعلا بفعل محذوف ولا بلولا ، خلافا لزاعمى ذلك» (٩) واختار رأيه فى أن عسى فى مثل عساك وعساه تجرى مجرى لعل ، ويوضح ذلك قائلا إن فى مثل هذا التعبير ثلاثة مذاهب : أحدها أنها أجريت مجرى لعل فى نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها فى اقتران خبرها بأن ، قاله سيبويه ، والثانى أنها باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع ، قاله الأخفش ، ويورد ابن هشام عليه اعتراضين ، كما يعترض على المذهب الثالث فيها ، وهو مذهب المبرد وأبى على الفارسى ،

__________________

(١) التصريح ١ / ١٨٤.

(٢) التصريح ١ / ٣٠٩.

(٣) التصريح ٢ / ٢٤.

(٤) التصريح ١ / ٧٤.

(٥) المغنى ص ٣٨٠ والتصريح ١ / ١١١.

(٦) التصريح ١ / ١٣٩.

(٧) التصريح ١ / ١٥٧.

(٨) التصريح ١ / ١٦٦ وانظر ابن يعيش ١ / ٩٠.

(٩) المغنى ص ٣٠٢ والتصريح ١ / ١٧٨ وانظر ابن يعيش ١ / ٩٥ ، ٣ / ١١٨.

٣٤٨

إذ ذهبا إلى أنها باقية على إعمالها عمل كان ولكن قلب الكلام فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس (١) وواضح من اعتراضه على المذهبين الثانى والثالث أنه إنما يرتضى مذهب سيبويه. وكان يقف معه ضد الكسائى فى أن زيدا فى مثل «هل زيدا رأيته» منصوب على الاشتغال بفعل محذوف ولا يصح أن يكون مبتدأ (٢) ، وأن حيث لا تضاف إلى المفرد قياسا (٣) ، وأن اسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان بمعنى الحال والاستقبال وقد تمسك الكسائى بإعماله وهو بمعنى الماضى فى الآية الكريمة : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وخرّج ذلك ابن هشام على حكاية الحال (٤). ومما خالف فيه الكسائى أيضا متشيعا لسيبويه وجمهور البصريين أن معمول اسم الفعل لا يصح أن يتقدم عليه (٥) ، وأن «إذن» الناصبة للمضارع لابد أن تتصدر الجملة (٦) ، وأن المضارع ينصب بأن مضمرة وجوبا بعد اللام وأو وحتى والفاء والواو (٧). وكان يأخذ برأى سيبويه فى أن «إذما» حرف شرط مثل إن الشرطية تماما خلافا للمبرد والفارسى القائلين بأنها ظرف زمان (٨) ، وكذلك أخذ برأيه فى أنه لا يجوز أن يقال : «هذا لك وأباك» بنصب أباك مفعولا معه لعدم تقدم فعل فى الجملة أو شبهه خلافا للفارسى (٩). ومما كان يأخذ فيه برأى جمهور البصريين أنّ «زيد» فى «مثل إن زيد قام» فاعل لفعل محذوف لا مبتدأ خلافا للأخفش والكوفيين (١٠) ، وأن الفاعل لا يصح أن يتقدم على فعله خلافا لأهل الكوفة (١١).

وليس معنى ذلك أنه كان متعصبا لسيبويه وجمهور البصريين ، وإنما معناه أنه كان يوافقهم فى الكثرة الكثيرة من آرائهم النحوية ، ولكن دون أن يوصد الأبواب أمام بعض آراء الكوفيين والبغداديين حين يراها جديرة بالاتباع ، ومما كان يتابع فيه الكوفيين أن الفعل ماض ومضارع فقط وأن الأمر فرع من

__________________

(١) المغنى ص ١٦٤.

(٢) التصريح ١ / ٢٩٧.

(٣) التصريح ٢ / ٣٩ والمغنى ص ١٤١.

(٤) التصريح ٢ / ٦٦.

(٥) التصريح ٢ / ٢٠٠.

(٦) التصريح ٢ / ٢٣٤.

(٧) التصريح ٢ / ٢٣٥.

(٨) التصريح ٢ / ٢٤٧ وانظر المغنى ص ٩٢.

(٩) التصريح ١ / ٣٤٣.

(١٠) التصريح ١ / ٢٧٠.

(١١) التصريح ١ / ٢٧١.

٣٤٩

المضارع المصحوب بلام الطلب فى مثل لتقم ، حذفت للتخفيف فى مثل قم واقعد وتبعها حرف المضارعة ، يقول : «وبقولهم أقول لأن الأمر معنى حقه أن يؤدى بالحرف ولأنه أخو النهى ولم يدلّ عليه إلا بالحرف ، ولأن الفعل إنما وضع لتقييد الحدث بالزمان المحصل وكونه أمرا أو خبرا خارج عن مقصوده» (١). وكان سيبويه يذهب إلى أن «أبؤسا» فى مثل «عسى الغوير أبؤسا» خبر عسى ، وذهب الكوفيون ومعهم ابن هشام إلى أن «أبؤسا» خبر لكان أو يكون محذوفة أى يكون أبؤسا ، والجملة خبر عسى (٢). وذهب سيبويه إلى أن «كيف» تكون دائما ظرفا وذهب الكوفيون وتابعهم ابن هشام إلى أنها تكون ظرفا أحيانا وأحيانا اسما غير ظرف ، بدليل أنه يبدل منها بالرفع فيقال كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟ ولا يبدل المرفوع من المنصوب (٣). وكان جمهور البصريين يمنع توكيد النكرة مطلقا وأجازه الأخفش والكوفيون إذا أفاد ، وتابعهم ابن هشام ، مصححا مثل «اعتكفت أسبوعا كله» (٤). ومما أخذ فيه برأى الكوفيين إنكار أن التفسيرية محتجّا بأنه إذا قيل «كتبت إليه أن قم» لم يكن قم نفس كتبت. ولهذا لو جئت بأى مكان أن فى المثال لم تجده مقبولا فى الطبع (٥). وكان يجوّز مع الكوفيين منع صرف المنصرف فى ضرورة الشعر (٦) ، وكذلك مدّ المقصور كقول بعض الشعراء : «فلا فقر يدوم ولا غناء» بمدّ كلمة غنى (٧). وجوّز أيضا مع الكوفيين عدا الفرّاء العطف على الضمير المتصل المخفوض بدون إعادة الخافض لقراءة حمزة وغيره : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بالخفض عطفا على الهاء المخفوضة بالباء (٨) ، كما جوّز معهم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول مستدلا بقراءة ابن عامر : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) بإضافة قتل إلى شركائهم أو بعبارة أخرى إضافة المصدر إلى فاعله مع الفصل بينهما بالمفعول به وهو كلمة (أولادهم (٩)).

__________________

(١) المغنى ص ٢٥٠ والتصريح ١ / ٥٥.

(٢) المغنى ص ١٦٤ والتصريح ١ / ٢٠٤.

(٣) المغنى ص ٢٢٦ والهمع ١ / ٢٠٢.

(٤) التصريح ٢ / ١٢٤.

(٥) المغنى ص ٢٩.

(٦) التصريح ٢ / ٢٢٨.

(٧) التصريح ٢ / ٢٩٣.

(٨) التصريح ٢ / ١٥٠.

(٩) التصريح ٢ / ٥٧.

٣٥٠

وكان يأخذ برأى الفراء فى أن «لو» قد تكون حرفا مصدريّا بمنزلة أن المصدرية إلا أنها لا تنصب المضارع ، ويكثر وقوعها حينئذ بعد ودّ ويودّ مثل : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) و (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) وقد تقع بدونهما كقول قتيلة :

ما كان ضرّك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

ويعرض لرأى جمهور البصريين فى أنها فى هذه المواضع شرطية وأن جوابها محذوف ، ويقول : «لا خفاء بما فى ذلك من التكلف» (١).

وعلى نحو ما كان يختار ابن هشام لنفسه من المدرستين الكوفية والبصرية كان يختار لنفسه أيضا من المدرستين البغدادية والأندلسية ، ومما اختاره من آراء أبى على الفارسى أن «حيث» قد تقع مفعولا به كما فى قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٢) وأن قلما فى مثل «قلما يقوم زيد» لا تحتاج لفاعل ، لأنها استعملت استعمال ما النافية (٣) ، وأن «ما» قد تأتى زمانية ، يقول : «وهذا ظاهر فى قوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم» (٤). ووافق ابن جنى فى أن الجملة قد تبدل من المفرد كقول بعض الشعراء :

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشام أخرى كيف يلتقيان

على تقدير أن جملة الاستفهام «كيف يلتقيان» بدل من كلمتى «حاجة وأخرى» أى إلى الله أشكو حاجتين : تعذر التقائهما (٥). وقد أكثر من مراجعة الزمخشرى ، ويكفى أن نذكر من ذلك ثلاثة أمثلة ، أولها رده ما ذهب إليه من أن «لن» تقتضى تأبيد النفى وتوكيده ، يقول : «وكلاهما دعوى بلا دليل ، ولو كانت للتأبيد لم يقيّد منفيها باليوم فى قوله تعالى : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ولكان ذكر الأبد فى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) تكرارا والأصل عدمه» (٦). وثانى الأمثلة ما ذهب إليه الزمخشرى فى الواو من أنها قد تأتى للإباحة مثل أو ، وذلك فى تعليقه بتفسيره على آية البقرة : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ

__________________

(١) المغنى ص ٢٩٣ والتصريح ٢ / ٢٥٤.

(٢) المغنى ص ١٤٠.

(٣) المغنى ص ٧٥٠.

(٤) المغنى ص ٣٣٥.

(٥) المغنى ص ٤٧٥ والتصريح ٢ / ١٦٢.

(٦) التصريح ٢ / ٢٢٩ والمغنى ص ٣١٤.

٣٥١

الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) فقد ذكر عند الكلام على قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) أن الواو تأتى للإباحة نحو «جالس الحسن وابن سيرين» وأنه إنما جاء بتلك العبارة دفعا لتوهم إرادة الإباحة فى قوله جلّ وعزّ : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) يقول ابن هشام : «وقلده فى ذلك صاحب الإيضاح البيانى ولا تعرف هذه المقالة لنحوى (١). والمثال الثالث يتصل بعطف الزمخشرى كلمات وعبارات متباعدة فى الذكر الحكيم بعضها على بعض ، إذ ذهب فى قوله عزّ شأنه : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) إلى أن (كل أمر مستقرّ) فيمن جرّ (مستقر) عطف على الساعة ، وهى فى رأى ابن هشام مبتدأ حذف خبره. ومن ذلك ذهاب الزمخشرى إلى أن الآية رقم ٣٨ فى سورة الذاريات : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) معطوفة على الآية رقم ٢٠ : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) وفى رأى ابن هشام أنها معطوفة على كلمة فيها فى الآية السابقة لها رقم ٣٧ : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٢). وليس معنى ذلك أنه كان يعارض دائما آراء الزمخشرى فقد كان يرتضى بل يستحسن كثيرا من آرائه ، من ذلك ما ذهب إليه من أن «أنما» بالفتح تفيد الحصر مثل «إنما» وقد اجتمعتا ، كما يقول ، فى قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(٣). ويقف بإزاء إفادة أما التوكيد فى مثل «أما زيد فمنطلق» ويقول : «قلّ من ذكره ولم أر من أحكم شرحه غير الزمخشرى فإنه قال : خ خ فائدة أما فى الكلام أن تعطيه فضل توكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت : أما زيد فذاهب ، ولذلك قال سيبويه فى تفسيره : مهما يكن من شىء فزيد ذاهب ، وهذا التفسير مدل بفائدتين : بيان كونه توكيدا وأنه فى معنى الشرط» (٤). وقد استصوب رأيه فى أن «قد» تأتى للتوقع وقد تأتى للتحقيق مثل (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ

__________________

(١) المغنى ص ٦٦.

(٢) المغنى ص ٦٠٥ وما بعدها.

(٣) المغنى ص ٣٩.

(٤) المغنى ص ٥٩.

٣٥٢

عَلَيْهِ) إذ دخلت لتوكيد العلم (١).

وأكثر الأندلسيين دورانا فى مصنفاته ابن عصفور وابن مالك وأبو حيان ، ومما اختاره من آراء الأول أن «لن» قد تأتى للدعاء ، والحجة فى ذلك قول الأعشى :

لن تزالوا كذلكم ثم لا زا

ت لكم خالدا خلود الجبال (٢)

وأن محل الجملة فى التعليق النصب ، ولذلك يعطف عليها بالنصب مثل «عرفت من زيد وغير ذلك من الأمور» وكان ابن عصفور يستدل بقول كثيّر :

وما كنت أدرى قبل عزّة ما البكا

ولا موجعات القلب حتى تولّت

بنصب «موجعات» وعطفها على عبارة : «ما البكا» التى علّق عنها فعل أدرى (٣). أما ابن مالك فهو صاحبه الذى عنى بشرح مصنفاته مثل التسهيل والألفية ، ومن يقرؤه فى «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك» يجده يتابعه فى جمهور آرائه ، وقلما خالفه ، وقد حكى آراءه أو قل كثيرا منها فى كتابه «المغنى» وتارة يوافقه وتارة يخالفه ، ومما وافقه فيه أن إلى قد تأتى بمعنى فى كما فى الآية الكريمة : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)(٤) وأنه يمكن تخريج مسألة الزّنبور : «فإذا هو إياها» على أن ضمير النصب استعير فى مكان ضمير الرفع ، يقول : ويشهد له قراءة الحسن : (إياك تعبد) ببناء الفعل للمفعول (٥) ، وأن حتى إذا عطفت على مجرور أعيد الخافض فرقا بينها وبين الجارة مثل مررت بالقوم حتى بزيد إلا إذا تعيّن كونها للعطف مثل «عجبت من القوم حتى بنيهم» قال ابن هشام : وهو قيد حسن (٦) ، وأن «عن» الجارة قد تفيد الاستعانة مثل «رميت عن القوس» أى بالقوس (٧) ، ويقول : «عبارة ابن مالك فى قد حسنة فإنه قال إنها تدخل على ماض متوقع ، ولم يقل إنها تفيد التوقع .. وهذا هو الحق» (٨) ويتابعه فى أن كلا قد تأتى توكيدا لمعرفة مثل «يا أشبه الناس كلّ

__________________

(١) المغنى ص ١٨٨ وما بعدها.

(٢) المغنى ص ٣١٥.

(٣) المغنى ص ٤٦٧ والتصريح ١ / ٢٥٧.

(٤) المغنى ص ٧٩.

(٥) المغنى ص ٩٦.

(٦) المغنى ص ١٣٦.

(٧) المغنى ص ١٥٩.

(٨) المغنى ص ١٨٧.

٣٥٣

الناس بالقمر» وأنها ليست حينئذ نعتا كما زعم أبو حيان (١). وكان يعجب بقوله فى كيف : «لم يقل أحد إنها ظرف إذ ليست زمانا ولا مكانا ، ولكنها لما كانت تفسّر بقولك على أى حال لكونها سؤالا عن الأحوال العامة سميت ظرفا ، لأنها فى تأويل الجار والمجرور ، واسم الظرف يطلق عليهما مجازا» (٢) كما كان يعجب بقوله إن لما ظرف بمعنى «إذ» لا بمعنى حين كما زعم الفارسى وابن جنى (٣). أما أبو حيان فإنه كاد أن لا يوافقه فى شىء ، وكان كما أسلفنا يكثر من الخلاف على ابن مالك ، وكأنما جعل ابن هشام نصب عينيه أن ينقض كل ما أورده عليه (٤) ، وكذلك على الزمخشرى (٥).

ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن أهم نحوى مصرى تعقبه فى آرائه هو ابن الحاجب ، وكثيرا ما يثبت عليه السهو والوهم والتعسف (٦) وكثيرا ما يتوقف لنقض آرائه (٧). وكتابه «المغنى» فى الواقع موسوعة كبرى لعرض آراء النحاة السابقين له فى مختلف الأصقاع العربية ، وهو ليس عرضا فقط بل هو مناقشة واسعة لتلك الآراء وتبين الصحيح منها والفاسد ، مع كثرة الاستنباطات ومع اشتقاق الآراء المبتكرة غير المسبوقة ، ويكفى أن نضرب لذلك بعض الأمثلة كذهابه إلى أن «عشر» فى قولنا اثنى عشر حالة محل النون فى اثنين ، وهى بذلك ليست مضافة إلى ما قبلها ولا محل لها من الإعراب (٨). ومن ذلك أن كان وأخواتها ما عدا ليس تدل على الحدث كما تدل على الزمان (٩) ، وأن الحال كما تأتى مؤكدة لعاملها فى مثل «ولّى مدبرا» تأتى مؤكدة لصاحبها مثل «جاء القوم طرّا» و (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)(١٠). وأهم من الآراء المبتكرة وضعه للضوابط النحوية على نحو ما يتجلى فى الأبواب الثانى والثالث والرابع والخامس من كتابه المغنى ، وقد بلغت حدّا رائعا من

__________________

(١) المغنى ص ٢١٢.

(٢) المغنى ص ٢٢٦.

(٣) المغنى ص ٣١٠.

(٤) انظر المغنى ص ١١٧ ، ١٣٦ ، ٢١٢ ، ٢١٦.

(٥) انظر مثلا المغنى ص ٣٢ ، ٣٩ ، ٢٠٨.

(٦) انظر المغنى ص ٣٥ ، ٢٩٩.

(٧) راجع المغنى ص ٧٣ ، ١٠٣ ، ٢٩٠ ٥١٤.

(٨) الهمع ١ / ١٤.

(٩) المغنى ص ٤٨٨.

(١٠) المغنى ص ٥١٨.

٣٥٤

الدقة والسداد. ولا تقل عنها أهمية القواعد النحوية الكلية التى ضمنّها الباب الثامن من هذا الكتاب ، وهى مقتبسة فى جملتها من قواعد علم الأصول ، كقاعدة أن الشىء قد يعطى حكم ما أشبهه فى معناه أو فى لفظه أو فيهما. وقد عرضها فى أربع وعشرين صورة جزئية (١). ولعل فى ذلك كله ما يصوّر من بعض الوجوه نشاط ابن هشام النحوى ومدى استيعابه لآراء النحاة السالفين ومدى فطنته فى استخلاص الآراء واستنباطها والحوار فيها كأدق ما يكون الحوار مع النفوذ إلى القوانين النحوية الكلية العامة.

٤

نحاة متأخرون

أخذت الدراسات النحوية تنشط فى مصر نشاطا واسعا منذ عصر ابن هشام ، كما أخذ يتكاثر واضعو الشروح والحواشى على مصنفات ابن هشام وابن مالك ، وأول من نلقاه منهم ابن (٢) عقيل عبد الله بن عبد الرحمن المتوفى سنة ٧٦٩ للهجرة ، وهو يعدّ فى تلامذة أبى حيان. وكان يعنى بالقراءات والتفسير والأصول والفقه ، واشتغل بالقضاء فترة ، ودرّس للطلاب فى غير مسجد بالقاهرة ، وله شرح على التسهيل لابن مالك وشرحه على الألفية ذائع مشهور ، وعنى به كثيرون فكتبوا عليه حواشى ، من أشهرها حاشية الخضرى ، وهى مطبوعة معه مرارا. ويمتاز هذا الشرح بوضوح العبارة وسهولتها وقربها من أذهان الناشئة ، وهو يصور فيه آراء النحاة وخاصة حين يخالفهم ابن مالك ، ويتصدى لابنه بدر الدين حين يخالف أباه فى شروحه على مصنفاته : التسهيل وغيره ، مثبتا عليه السهو والخطأ (٣). ومر بنا أن ابن مالك كان يخالف البصريين وإمامهم سيبويه فى آراء كثيرة ، وقد

__________________

(١) المغنى ص ٧٥١.

(٢) انظر فى ترجمة ابن عقيل بغية الوعاة للسيوطى ص ٢٨٤ والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة لابن حجر رقم ٢١٥٧ وشذرات الذهب ٦ / ٢١٤.

(٣) انظر مثلا شرح ابن عقيل ومعه حاشية الخضرى عليه (طبعة المطبعة الأزهرية سنة ١٣١٩ ه‍) ١ / ١٨٧ وما بعدها.

٣٥٥

توقف ابن عقيل إزاء كثير من هذه الآراء منحازا للبصريين وسيبويه ، من ذلك ذهاب ابن مالك إلى أن الأسماء الخمسة مثل «أبوك» معربة بالحروف ، بينما ذهب سيبويه إلى أنها معربة بحركات مقدرة على الواو والألف والياء ، وبرأيه أخذ ابن عقيل ناعتا له بأنه هو الصحيح (١). وكان ابن مالك يختار اتصال الضمير فى مثل كنته وخلتنيه ، واختار سيبويه الانفصال ، فتقول كنت إياه وخلتنى إياه ، ويقول ابن عقيل : «مذهب سيبويه أرجح لأنه هو الكثير فى لسان العرب على ما حكاه سيبويه عنهم» (٢). ويعرض لآراء النحاة فى رافع المبتدأ والخبر ، ويختار رأى سيبويه وجمهور البصريين وما ذهبوا إليه من أن المبتدأ مرفوع بالابتداء وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ ، ويقول على هدى أستاذه أبى حيان : «وهذا الخلاف مما لا طائل فيه» (٣). ويذكر رأى ابن مالك فى أن عائد الصلة فى مثل «جاء الذى كلمت أمس» بدلا من كلمته ومثل «الذى أنا معطيك كتاب واحد» بدلا من معطيكه ، ولا يلبث أن يقول : «كلام المصنف يقتضى أنه كثير وليس كذلك بل الكثير حذفه من الفعل ، وأما الوصف فالحذف منه قليل» (٤). وعلى هذا النحو كثيرا ما يراجع ابن مالك. وكان كثيرا ما يقرن آراءه فى الألفية بآرائه فى التسهيل وغيره.

وممن نلقاه فى القرن الثامن الهجرى ابن الصائغ (٥) محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة ٧٧٦ للهجرة ، وقد ولى مدة قضاء العسكر وإفتاء دار العدل ، ودرس للطلاب بالجامع الطولونى وغيره ، وله فى النحو مصنفات مختلفة ، منها التذكرة فى عدة مجلدات وشرح على ألفية ابن مالك. ومما حكاه له السيوطى فى الهمع من آراء ذهابه إلى أنه يجوز خلو جملة الصلة من ضمير يعود على الموصول يربطها به إذا عطف عليها بالفاء جملة مشتملة عليه مثل «الذى يطير الذباب فيغصب زيد» لارتباطهما بالفاء وصيرورتهما جملة واحدة (٦). وكان يذهب فى جملة «أبو من هو» فى قولك «عرفت زيدا أبو من هو» إلى أنها بدل اشتمال

__________________

(١) شرح ابن عقيل فى الطبعة السالفة ١ / ٣٦.

(٢) شرح ابن عقيل ١ / ٥٨.

(٣) شرح ابن عقيل ١ / ٩١.

(٤) شرح ابن عقيل ١ / ٨٢.

(٥) انظر فى ترجمة ابن الصائغ الدرر الكامنة رقم ١٣٤٧ وبغية الوعاة ص ٦٥ وشذرات الذهب ٦ / ٢٤٨.

(٦) الهمع ١ / ٨٦.

٣٥٦

من زيد ، بينما ذهب ابن عصفور إلى أنها بدل كل من كل (١). وذهب إلى أن «عوض» بنيت على الضم مع أنها غير مضافة إلى جملة حملا على نقيضتها «قط» (٢). وكان يرى أن «زيتا» فى مثل «ادهنت زيتا» منصوبة على نزع الخافض بدليل قولك «ادهنت بزيت» وأنه ينبغى أن يوقف على ما يماثل هذه الصيغة ويعرب تمييزا عند السماع مثل «امتلأ الإناء ماء» للزوم كلمة ماء التنكير ووجوب تأخيرها بإجماع (٣).

ونمضى فى القرن التاسع الهجرى ، فنلتقى بنحويين كثيرين ، من أنبههم الدمامينى (٤) محمد بن أبى بكر بن عمر الإسكندرى المتوفى سنة ٨٣٧ للهجرة ، ناب فى الحكم وتصدر بالجامع الأزهر لإقراء النحو ، وأقرأ بالإسكندرية ، ودخل اليمن سنة ٨٢٠ وركب البحر إلى الهند ، وظل بها إلى أن لبّى نداء ربه. وله من التصانيف النحوية شرح على التسهيل لابن مالك وشرح على مغنى ابن هشام سماه «تحفة الغريب فى حاشية مغنى اللبيب» تحامل فيه تحاملا شديدا على ابن هشام ، مما جعل الشّمنّى الإسكندرى المتوفى سنة ٨٧٢ للهجرة يتعقبه فى حاشيته على المغنى وقد سماها «المنصف من الكلام على مغنى ابن هشام» والحاشيتان جمعا مطبوعتان معا. ومن أمثلة تعقبه لابن هشام فى مغنيه أنه ذهب فى باب «أم» إلى أنها هى التى يتعين وقوعها بعد همزة التسوية لا «أو» فلا يقال : «سواء أكان كذا أو كذا» ولكن يقال «سواء أكان كذا أم كذا» وكذلك «سواء كان كذا أم كذا» بدون همزة التسوية ، ولاحظ الدمامينى أن ذلك إنما يكون حين تتلو سواء الهمزة ، وهى غير لازمة ، فيجوز مجىء أو فى مثل «سواء علىّ قمت أو قعدت» وفى قول الفقهاء : «سواء كان كذا أو كذا». وذكر ابن هشام فى باب «جير» أنها حرف بمعنى نعم ، لا اسم بمعنى حقّا فتكون مصدرا ، وراجعه الدمامينى بأنها بمعنى حقّا ، وأنها بنيت مثل ما التى بمعنى شىء ، وعلة

__________________

(١) الهمع ١ / ١٥٥.

(٢) الأشباه والنظائر للسيوطى ١ / ١٩٦.

(٣) الأشباه والنظائر ٢ / ٨٣.

(٤) انظر فى ترجمة الدمامينى بغية الوعاة ص ٢٧ والضوء اللامع للسخاوى ج ٧ رقم ٤٤٥ والشذرات ٧ / ١٨١ والبدر الطالع للشوكانى ٢ / ١٥٠.

٣٥٧

بنائها موافقتها لجير الحرفية ، ونقض عليه الشمنى كلامه قائلا إن ما إنما بنيت لمشابهتها الحرف فى الوضع بخلاف جير وأن من يقولون باسميتها لا يثبتون جير الحرفية. وعرض ابن هشام فى باب «ما» إلى أنها تكون مصدرية زمانية وأنها تدل على الزمان بالنيابة لا بذاتها مثل (ما دُمْتُ حَيًّا) أصله فى تقريره مدة دوامى حيّا ، واعترضه الدمامينى وقال إن «ما» لا تدل على الزمان أصلا لا بطريق الأصالة ولا بطريق النيابة وإنما يفهم الزمان فى مثل الآية بقرينة. وكان يذهب إلى أن الإضافة فى «يومئذ» ليست من إضافة أحد المترادفين للاخر ، وإنما هى من إضافة الأعم للأخص مثل «شجر عنب» (١) ومن غريب ما كان يذهب إليه أن جملة الصلة لها محل من الإعراب (٢).

ومن نحاة النصف الثانى من القرن التاسع الهجرى الكافيجى (٣) محمد بن سليمان الرومى المتوفى سنة ٨٧٩ للهجرة ، ولد فى بلاد الروم ، ثمّ دخل الشام وبيت المقدس واستقر فى القاهرة ودرس فى الشيخونية وغيرها ، وكان لا يشق غباره فى الفلسفة والمنطق والنحو ، وأكثر تآليفه مختصرات وأجلها وأنفعها شرحه على قواعد الإعراب لابن هشام. ومما أحصى له السيوطى تلميذه من آراء أنه كان لا يسوّغ الإخبار بجملة ندائية مثل زيد يا أخاه ولا مصدّرة بلكن أو بل أو حتى (٤). وكان يرى أن «إذن» فى قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ليست إذن المعهودة وإنما هى إذا الشرطية حذفت جملتها التى تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما فى «يومئذ» (٥). وكان يجوّز خلافا لسيبويه العطف على معمولى عاملين مختلفين مطلقا مثل «كان آكلا طعاما زيد وتمرا عمرو» ومثل

__________________

(١) شرح التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهرى ومعه حاشية الشيخ يس (طبع المطبعة الأزهرية سنة ١٣٢٥ ه‍.) ١ / ٣٥.

(٢) انظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح ١ / ١٤٢ ومن ملاحظاته الدقيقة أن كلا من الألف والتاء فى جمع المؤنث السالم جاء للتأنيث والجماعة ، أما الألف ففى مثل حبلى ورجال وأما التاء ففى مثل فاطمة ومثل كمأة جمع كمء ، انظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح ١ / ٧٩.

(٣) راجع فى ترجمة الكافيجى الضوء اللامع ج ٧ رقم ٦٥٥ وشذرات الذهب ٧ / ٣٢٦ وبغية الوعاة للسيوطى ص ٤٨.

(٤) الهمع ١ / ٩٦.

(٥) الهمع ١ / ٢٠٥.

٣٥٨

«لا فى الدار زيد والحجرة عمرو» على الرغم من أن مثل ذلك لم يأت عن العرب ، وكان يحتج لرأيه «بأن جزئيات الكلام إذا أفادت المعنى المقصود منها على وجه الاستقامة لا يحتاج إلى النقل والسماع وإلا لزم توقف تراكيب العلماء فى تصانيفهم عليه» (١).

ولمع حينئذ اسم الشيخ خالد (٢) الأزهرى المتوفى سنة ٩٠٥ للهجرة ، ولد بجرجا ونشأ بالقاهرة وأكبّ على علوم اللغة والنحو ، ولازم الشمنّى وغيره ، وأقرأ الطلاب فى الأزهر فنسب إليه ، ومن مصنفاته النحوية «المقدمة الأزهرية فى علم العربية» وشرح عليها وهما مطبوعان ، وشرح على كتاب ابن هشام «الإعراب عن قواعد الإعراب» وشرح على الآجرومية وشرح على الألفية وأهم شروحه «شرح التصريح على التوضيح» لابن مالك وهو مطبوع بمصر فى مجلدين مرارا. ويقول فى مقدمته إنه مزج كلامه فى شرحه بكلام ابن هشام وإنه ذكر أوجه الخلاف فى المسائل النحوية وعللها وما يطوى فيها من أدلة ، وإنه أوضح ما شاب كلام ابن هشام أحيانا من تناقض وما خالف فيه ابن مالك مع النصّ دائما على ما انفرد به ، وقد صوّرنا ذلك فى حديثنا عن ابن هشام مثبتين كثيرا من المواضع التى نصّ فيها صاحب التصريح على آرائه. وهو عادة يفيض فى بيان الخلاف وما يسنده من علل ، كما أشرنا ، ويكفى أن نمثل لذلك بمثال واحد هو تخفيف النون فى قراءة نافع : (تأمرونى وتحاجونى) يقول : «الصحيح عند سيبويه أن المحذوف نون الرفع واختاره ابن مالك ، لأن نون الرفع عهد حذفها للجازم والناصب ولتوالى الأمثال فى نحو (لتبلون) ولأن نون الرفع نائبة عن الضمة والضمة تحذف تخفيفا كما فى قراءة أبى عمرو نحو (يأمركم) .. وقيل المحذوف نون الوقاية لا نون الرفع وجزم ابن هشام به فى الشذور ، وهو مذهب الأخفش والمبرد وأبى على وابن جنى وأكثر المتأخرين واستدلوا له بأوجه ، أحدها أن نون الوقاية حصل بها التكرار والاستثقال فكانت أولى بالحذف ، وثانيها أن نون الرفع علامة الإعراب فالمحافظة عليها أولى ، وثالثها أن نون الرفع لعامل ، فلو حذفت لزم وجود مؤثر بلا أثر

__________________

(١) الهمع ٢ / ١٣٩.

(٢) انظر فى ترجمة الشيخ خالد الكواكب السائرة ١ / ١٨٨ والخطط الجديدة لعلى مبارك ١٠ / ٥٣ وشذرات الذهب ٨ / ٢٦ والضوء اللامع ج ٣ رقم ٦٦١.

٣٥٩

مع إمكانه» (١).

وكان يعاصره السيوطى ، وسنخصّه بكلمة أكثر تفصيلا ، وربما كان أنبه نحوىّ أخرجته مصر فى القرن العاشر الهجرى الأشمونى (٢) : نور الدين على بن محمد بن عيسى المتوفى سنة ٩٢٩ للهجرة ، أخذ عن الكافيجىّ وغيره من نحاة عصره فى القاهرة ، وكان عالما زاهدا متقشفا ، يكبّ على النحو وتدريسه للطلاب. ومن أهم مصنفاته النحوية شرحه على الألفية الذى سماه «منهج السالك إلى ألفية ابن مالك» وقد تمثل فيه الشروح الكثيرة التى سبقته تمثلا منقطع النظير كما تمثل كتابات النحاة المختلفين وتحوّل ذلك كله سيولا فى شرحه. وعادة يعرض الآراء المختلفة وما يسندها من علل ، وكثيرا ما يختار لنفسه الرأى الصحيح عنده مصرحا بذلك على نحو قوله فى الإعراب : «فى الاصطلاح فيه مذهبان أحدهما أنه لفظى واختاره الناظم ونسبه إلى المحققين وعرّفه فى التسهيل بقوله : ما جىء به لبيان مقتضى العامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف ، والثانى أنه معنوى والحركات دلائل عليه واختاره الأعلم وكثيرون ، وهو ظاهر مذهب سيبويه ، وعرّفوه بأنه تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليها لفظا أو تقديرا ، والمذهب الأول أقرب إلى الصواب لأن المذهب الثانى يقتضى أن التغيير الأول (وهو الانتقال من الوقف إلى الرفع) ليس إعرابا لأن العوامل لم تختلف بعد وليس كذلك» (٣). وواضح هنا استمداده تعريف الإعراب من التسهيل ، مصنّف ابن مالك المعروف وهو يكثر فى شرحه كله من الاستمداد منه : استمداد التعاريف وآراء النحاة وبراهينهم على تلك الآراء. وقد يناقش المصنف فى بعض ما ذكره فيه على نحو مناقشته له فى أن المضارع حين يتصل بنون الإناث يصبح مبنيّا بلا خلاف ، يقول : «وليس كما قال فقد ذهب قوم منهم ابن درستويه وابن طلحة والسهيلى إلى أنه معرب بإعراب مقدر منع من ظهوره ما عرض فيه من الشبه بالفعل

__________________

(١) انظر شرح التصريح ومعه حاشية الشيخ يس ١ / ١١١.

(٢) انظر فى ترجمة الأشمونى الضوء اللامع ٦ / ٥ وشذرات الذهب ٨ / ١٦٥.

(٣) شرح الأشمونى ومعه حاشية الصبان (طبع دار الكتب العربية الكبرى) ١ / ٤٣.

٣٦٠