المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

شروح على التسهيل لابن مالك مطولة ومختصرة ، ومنهج السالك فى الكلام على ألفية ابن مالك. وله وراء ذلك مصنفات فى النحو مستقلة أهمها الارتشاف وهو فى ستة مجلدات ، ومختصره وهو فى مجلدين ، ويقول السيوطى فى البغية : «لم يؤلّف فى العربية أعظم من هذين الكتابين ولا أجمع ولا أحصى للخلاف وعليهما اعتمدت فى كتابى جمع الجوامع». وكان ظاهرىّ المذهب ، وانتقل بأخرة إلى مذهب الشافعى ، وظل المذهب الظاهرى عالقا بنفسه حتى ليروى عنه أنه كان يقول : «محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه».

وقد وصل تعلقه بمذهب الظاهر بينه وبين ابن مضاء ، وحقّا لم يدع إلى إلغاء نظرية العامل فى النحو ، ولكنه دعا مرارا وتكرارا إلى إلغاء ما يتعلق به النحاة من كثرة التعليل للظواهر اللغوية والنحوية وجلب التمارين غير العملية ، ونقل السيوطى فى الهمع تعرضه لذلك فى غير موضع ، وأول ما يلقانا فى هذا الجانب تعليقه على خلاف البصريين والكوفيين فى الإعراب وهل هو أصل فى الأسماء فرع فى الأفعال أولا؟ فقد قال : «هذا من الخلاف الذى ليس فيه كبير منفعة» (١). وعلق على تعليلهم لامتناع الجر من الفعل والجزم من الاسم ولحوق تاء التأنيث الساكنة للماضى دون أخويه بأن تعليل أمثال ذلك من الوضعيات ينبغى أن يمنع لأنه يؤدى إلى تسلسل السؤال ، يقول : إنما يسأل عما كان يجب قياسا فامتنع (٢). ويعرض لاختلافهم فى معنى الصرف ويقول إنه «خلاف لا طائل تحته» (٣) كما يعرض لتعليلهم ضم التاء فى مثل «كلمت» للمتكلم وفتحها للمخاطب وكسرها للمخاطبة ، يقول : «هذه التعاليل لا يحتاج إليها لأنها تعليل وضعيات ، والوضعيات لا تعلّل» (٤). ويقف بإزاء تعليلاتهم لتسكين الماضى وعدم فتحه حين يسند إلى التاء والنون ونا ، قائلا : «الأولى الإضراب عن هذه التعاليل» (٥) كما يقف عند اختلافهم فى همزة أل التعريفية وهل هى همزة قطع أو وصل قائلا : «وهذا الخلاف

__________________

(١) الهمع ١ / ١٥.

(٢) الهمع ١ / ٢١.

(٣) الهمع ١ / ٢٤.

(٤) الهمع ١ / ٥٦.

(٥) الهمع ١ / ٥٧.

٣٢١

لا يجدى شيئا ولا ينبغى أن يتشاغل به» (١). ويعقّب على وجوه الخلاف السبعة فى رافع المضارع بقوله : «لا فائدة لهذا الخلاف لأنه لا ينشأ عنه حكم تطبيقى» كما يعقب على اختلاف البصريين والكوفيين فى أيهما الفعل أو المصدر أصل الاشتقاق قائلا : «هذا الخلاف لا يجدى كبير منفعة» (٢). ومرت بنا دعوة ابن مضاء إلى إلغاء القياس مستضيئا بإلغاء المذهب الظاهرى له ، وقد مضى أبو حيان فى إثره يقدم السماع على القياس وخاصة إذا تعارضا ، على نحو ما يتضح فى بعض القراءات المخالفة للقياس من مثل العطف على الضمير المتصل المجرور بدون إعادة الخافض ، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول (٣). وكان يعارض الكوفيين ومن يتابعهم أحيانا مثل ابن مالك فى القياس على الشاذ والنادر قائلا إن ذلك يفضى إلى التباس الدلالات وصور التعبير (٤). ونقل عنه السيوطى تقيده بالسماع وعدم القياس عليه فى مواضع مختلفة من الهمع (٥). ومع اهتمامه بالسماع كان يخالف ابن مالك فى الاعتماد على الحديث فى الاستشهاد ، لأنه روى بالمعنى ، ورواه أعاجم كثيرون يفشو اللحن على ألسنتهم (٦).

ودائما نراه يتعبّد لسيبويه وجمهور البصريين ، مما جعله يقف فى صف مقابل لابن مالك وما انتهجه لنفسه من متابعة الكوفيين كثيرا فى آرائهم على نحو ما مر بنا آنفا. وليس معنى ذلك أنه رفض جميع آراء الكوفيين ، فقد كان يختار من حين إلى حين بعض آرائهم ، من ذلك ما ذهبوا إليه ، وتابعهم فيه ابن جنى ، من أن عامل الرفع فى المبتدأ الخبر وعامل الرفع فى الخبر المبتدأ فهما مترافعان (٧) ، وكذلك

__________________

(١) الهمع ١ / ٧٩.

(٢) الهمع ١ / ١٨٦ وانظر ٢ / ٦١.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٤٢ ، ٤ / ٢٢٩ وراجع ٢ / ٤٩٩ وكان يقول : ما قرئ به فى السبعة لا يرد ولا يوصف بضعف ولا بقلة (همع ٢ / ٥٥) وقال فى قراءة الحسن البصرى (همع ٢ / ٥٥) وقال فى قراءة الحسن البصرى (وما تنزلت به الشياطون) إن ذلك تشبيه لزيادتى التكسير فى الشياطين بزيادتى الجمع السالم فنقلت من الإعراب بالحركات إلى الإعراب بالحروف على جهة التوهم كما صعوا فى همز مصائب ومعائش. انظر الهمع ١ / ٤٧.

(٤) الهمع ١ / ٥٠.

(٥) انظر الهمع ١ / ٤٧ ، ٥١ ، ٨٧ ، ١٤٣ ، ٢ / ٨ ، ١٧ ، ٤٩ ، ٧٦ ، ٨٩ ، ١٠٢ ، ١١٨.

(٦) كان يتابع فى ذلك أستاذه ابن الضائع ، انظر الهمع ١ / ١٠٥.

(٧) الهمع ١ / ٩٤ وما بعدها.

٣٢٢

ما ذهبوا إليه مع الأخفش من أن الفعل الماضى يقع حالا بدون «قد» وبدون تقدير لها كما جاء فى الذكر الحكيم : (أو جاءوكم حصرت صدورهم) (١). وجعله تفسيره للقرآن الكريم فى كتابه «المحيط» يتعقب الزمخشرى كثيرا ، من ذلك قراءة الآية : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) بتنوين كلا على أنها مصدر من الكلّ بمعنى الإعياء أو الثقل أى «حملوا كلّا» وجوز الزمخشرى أن تكون كلا فى القراءة هى نفسها حرف الرّدع ونوّن كما نونت سلاسلا فى آية : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) وردّ ذلك أبو حيان قائلا إن ذلك إنما صح فى (سلاسلا) لأنه اسم أصله التنوين فرجع به إلى أصله للتناسب ، أو على لغة من يصرف ما لا ينصرف (٢). ومن ذلك توجيه الزمخشرى لقراءة المضارع بالغيبة فى قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) والقراءة المشهورة (وَلا تَحْسَبَنَّ) فقد جعل التقدير فى القراءة الأولى : ولا يحسبنهم ، والذين فاعل.

وتصدى له أبو حيان قائلا إن ذلك يستلزم عود الضمير على المؤخر ، وكأنه فاته أن هذا المؤخر مقدّم فى الرتبة (٣). وكان يأخذ برأى الأعلم الشنتمرى فى أن الإعراب معنوى لا لفظى (٤) ، ونصر ابن الطراوة فى أن بناء «سحر» لتضمنها معنى حرف التعريف مثل أمس (٥) ، وكذلك نصر السهيلى فى أنه لا بد من تعاند معطوفى لا مثل «جاءنى رجل لا امرأة» (٦). وكان ابن الباذش يجوّز فى مثل «الهندان هما يفعلان» تذكير المضارع ، فيقال «يفعلان» حملا على لفظ هما ، وردّ أبو حيان رأيه فى جواز تذكير المضارع لأن الأصل رد الأشياء إلى أصولها وأيضا لأن السماع بالتاء فى مثل قول عمر بن أبى ربيعة : «لعلهما أن تبغيا لك حاجة» (٧). وكان ابن عصفور وتلميذه ابن الضائع يذهبان إلى أن «كلما» فى مثل «كلما استدعيتك فإن زرتنى فعبدى حر» مرفوعة بالابتداء وأن جملتى الشرط والجواب خبر ، ودفع قولهما أبو حيان بإنه لم تأت «كلما» فى الذكر الحكيم

__________________

(١) الهمع ١ / ٢٤٧.

(٢) المغنى ص ٢٠٨.

(٣) المغنى ص ٥٤٦ وانظر فى ردود أخرى على الزمخشرى المغنى ص ٣٩ ، ٤٤٦.

(٤) الهمع ١ / ١٤.

(٥) الهمع ١ / ٢٨.

(٦) الهمع ٢ / ١٣٧.

(٧) الهمع ٢ / ١٧١.

٣٢٣

إلا منصوبة مثل : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) وكذلك هى فى الأشعار (١).

وأكثر من كان يتصدّى له أبو حيان ويخالفه فى آرائه ابن مالك ، فمن ذلك أنه كان يضعّف رأيه فى أن الإعراب جزء من ماهية الكلمة ذاهبا مع الجمهور إلى أنه زائد على ماهيتها (٢). وذهب ابن مالك إلى أن الفعل الماضى قد يدل على الاستقبال فى مواضع ، هى : بعد همزة التسوية مثل «سواء علىّ أسافرت أم لم تسافر» وبعد أداة التحضيض مثل «هلا ذاكرت» ، وبعد كلما مثل (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ) وبعد حيث مثل (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وبعد الصلة مثل : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) وإذا وقع صفة لنكرة عامة كحديث : «نضّر الله امرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها» أى يسمع. وأنكر أبو حيان هذه الدلالة للماضى ، وقال الذى نذهب إليه فيها جميعا الحمل على المضىّ لإبقاء اللفظ على موضعه ، أما معنى الاستقبال فقد جاء من خارج أو بعبارة أخرى من قرينة خارجية (٣). وكان ابن مالك يذهب إلى أن الباء فد تزاد مع الحال مستدلا بقول أحد الشعراء :

فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها

وقول آخر :

كائن دعيت إلى بأساء داهمة

فما انبعثت بمزءود ولا وكل

وخالفه أبو حيان ، وخرّج البيتين على أن التقدير بحاجة خائبة وبشخص مزءود أى مذعور ، ويريد بالمزءود نفسه على حد قولهم «رأيت به أسدا» (٤). وكان ابن مالك يجوّز حذف الضمير العائد فى الصلة إذا تعيّن الحرف قياسا على الجملة الخبرية كقولك «الذى سرت يوم الجمعة» أى فيه. وردّ ذلك أبو حيان قائلا إنه لا ينبغى أن تقاس الصلة على جملة الخبر ولا أن يذهب إلى ذلك إلا بسماع ثابت عن العرب (٥). وكان ابن مالك يذهب إلى أن حذف نون يكون

__________________

(١) المغنى ص ٢٢٢ وما بعدها.

(٢) الهمع ١ / ١٥.

(٣) الهمع ١ / ٩.

(٤) المغنى ص ١١٧ وما بعدها.

(٥) الهمع ١ / ٩٠.

٣٢٤

المجزومة فى قولهم «لم يك» للتخفيف ، وردّ أبو حيان هذا التعليل ذاهبا إلى أن العلة هى كثرة الاستعمال مع شبه النون بحروف العلة (١). وذهب ابن مالك إلى أن «كل» قد تأتى توكيدا مع إضافتها إلى اسم ظاهر حال محل الضمير مثل :

كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم

يا أشبه الناس كلّ الناس بالقمر

وخالفه أبو حيان ذاهبا إلى أن «كل الناس» فى البيت نعت لا توكيد (٢). ومرّ بنا أن ابن مالك كان يجوّر ـ تبعا للأخفش ـ مجىء الحال مع المضاف إليه بشرط أن يكون المضاف جزءا منه أو مثل جزئه نحو : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وردّ ذلك أبو حيان وقال إن إخوانا منصوبة على المدح وحنيفا حال من ما أو من الضمير فى اتبع محتجّا بأن العامل فى الحال هو العامل فى صاحبها وعامل المضاف إليه اللام المقدرة أو الإضافة وكلاهما لا يصلح أن يعمل فى الحال (٣). ومرّ بنا أيضا أن ابن مالك كان يجوّز ـ تبعا لابن جنى والزمخشرى ـ أن تبدل الجملة من المفرد كقول بعض الشعراء :

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشام أخرى كيف يلتقيان

فكيف يلتقيان فى رأيهم بدل من حاجة وأخرى ، كأن الشاعر قال : أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما ، وقال ابن مالك ، ومنه : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ) ـ الآية) فإن وما بعدها بدل من ما وصلتها. وردّ ذلك أبو حيان قائلا إن البدلين جميعا استئناف (٤).

وله وراء ما قدمنا اجتهادات وتخريجات وآراء مختلفة ينفرد بها ، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن «أن المصدرية» لا توصل بالأمر ، وأن «أن» الموصولة به فى بعض العبارات مثل «كتبت إليه أن قم» تفسيرية ، أما ما حكاه سيبويه من قولهم : «كتبت إليه بأن قم» فالباء فيه زائدة (٥). وكان يذهب إلى أن اللام فى مثل : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) هى لام الابتداء مفيدة لمعنى التوكيد ويجوز أن يكون قبلها قسم مقدر أو لا يكون (٦). وكان ينكر مجىء «ما» نكرة

__________________

(١) الهمع ١ / ١٢٢.

(٢) المغنى ص ٢١٢.

(٣) الهمع ١ / ٢٤٠.

(٤) الهمع ٢ / ١٢٨.

(٥) المغنى ص ٢٦ وما بعدها.

(٦) المغنى ص ٢٥٢.

٣٢٥

موصوفة ، أما قولهم : «مررت بما معجب لك» فما فيه زائدة (١). وكان سيبويه يذهب إلى أن قول بعض العرب «ما أنت وزيدا» و «كيف أنت وزيدا» على تقدير كان محذوفة أى ما كنت وزيدا وكيف تكون وزيدا وذهب الفارسى وغيره من النحاة إلى أن كان المقدرة تامة ، وذهب أبو حيان إلى أنها الناقصة ، فما خبرها وكذلك كيف (٢). ومعروف أن الجملة الموصوف بها يربطها دائما بموصوفها ضمير إما مذكور وإما مقدر مثل (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) على تقدير فيه محذوفة أربع مرات ، وذهب أبو حيان مذهبا بعيدا قائلا إن الأولى أن لا يقدر فى الآية ضمير بل يقدّر أن الأصل واتقوا يوما يوم لا تجزى بإبدال يوم الثانية من يوم الأولى ، ثم حذف المضاف ، وهو تخريج ظاهر التكلف (٣). واختلف البصريون والكوفيون فى ألفاظ العدد المعدولة على وزن فعال ومفعل ، فوقف بها البصريون عند أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع وخماس ومخمس وعشار ومعشر لمجيئها سماعا وقاس عليها الكوفيون سداس ومسدس وسباع ومسبع وثمان ومثمن وتساع ومتسع ، وقال أبو حيان : الصحيح أن البناءين مسموعان من واحد إلى عشرة على نحو ما حكى ذلك أبو عمرو الشيبانى وغيره (٤). وكان جمهور النحاة يجيز ترخيم العلم المركب تركيب مزج مطلقا ومنع أكثر الكوفيين ترخيم ما آخره «ويه» مثل سيبويه ، وذهب أبو حيان إلى أنه لا يجوز ترخيم هذا العلم بحال (٥) وكان جمهور النحاة يذهب إلى أن المنصوب فى مثل أنت الرجل علما أو أدبا أو حلما وأنت زهير شعرا وأنت حاتم جودا ويوسف حسنا حال ، وذهب أبو حيان إلى أنه تمييز (٦). وذهب الجمهور إلى أن «نعم» فى مثل «نعم هذه أطلالهم» للتذكير ، بينما ذهب أبو حيان إلى أنها تصديق لما بعدها وقدّمت ، قال : والتقديم أولى من ادعاء معنى لم يثبت لها (٧).

__________________

(١) المغنى ص ٦٢٧.

(٢) الهمع ١ / ٢٢١.

(٣) المغنى ص ٥٥٧.

(٤) الهمع ١ / ٢٦.

(٥) الهمع ١ / ١٨٢.

(٦) الهمع ١ / ٢٣٨.

(٧) الهمع ٢ / ٧٧.

٣٢٦

الفصل الثالث

المدرسة المصرية

١

النشاط النحوى فى مصر

كان طبيعيّا أن تنشط دراسات النحو فى مصر مبكرة مع العناية بضبط القرآن الكريم وقراءاته ، مما دفع إلى نشوء طبقة من المؤدّبين على غرار ما حدث بالأندلس ، كانوا يعلّمون الشباب فى الفسطاط والإسكندرية مبادئ العربية حتى يحسنوا تلاوة الذكر الحكيم ، وأسهم فى ذلك معهم غير عالم ممن كانت تجذبهم مصر إليها ، ومن أقدمهم عبد الرحمن (١) بن هرمز تلميذ أبى الأسود الدؤلى المتوفى بالإسكندرية سنة ١١٧ للهجرة ، وقد عرضنا له فى أوائل حديثنا عن نشوء مدرسة البصرة ، وقلنا إنه ممن أذاع نقط الإعراب ونقط الإعجام فى المصحف ، وإنه كان من جلّة القرّاء ، وكان قد أخذ القراءة عن عبد الله بن العباس وأبى هريرة وعنه أخذها نافع ابن أبى نعيم مقرىء أهل المدينة وأحد القراء السبعة المشهورين. ومن أنبه القراء الذين خلفوه بمصر وأشهرهم ورش : عثمان (٢) بن سعيد القبطىّ الأصل المتوفى فى سنة ١٩٧ للهجرة ، رحل إلى المدينة وأخذ عن نافع قراءته سنة ١٥٥ ثم عاد إلى الفسطاط ، فانتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية ، وكان ماهرا فى العربية ، وحمل عنه قراءته كثيرو أذاعوها لا فى مصر وحدها ، بل أيضا فى الأندلس ، وفى المغرب ولا تزال شائعة به إلى اليوم.

وأول نحوىّ حمل بمصر راية النحو بمعناه الدقيق ولّاد (٣) بن محمد التميمى

__________________

(١) انظر فى ترجمة ابن هرمز المراجع التى ذكرناها فى حديثنا عن وضع البصرة للنحو.

(٢) راجع فى ترجمة ورش معجم الأدباء ١٢ / ١١٦ وطبقات القراء ١ / ٥٢.

(٣) انظر فى ترجمة ولاد طبقات الزبيدى ص ٢٣٣ وإنباه الرواة ٣ / ٣٥٤ وبغية الوعاة ص ٤٠٥.

٣٢٧

البصرىّ الأصل الناشئ بالفسطاط ، وقد رحل إلى العراق ، فلقى الخليل بن أحمد ، وأخد عنه ، ولازمه ، وسمع منه الكثير ، وعاد إلى مصر ، ومعه كتبه التى استفادها فى العربية من إملاءات الخليل ، وأخذ يحاضر فيها الطلاب ، ويقول الزبيدى : «إنه لم يكن بمصر كبير شىء من كتب النحو واللغة قبله». وكان يعاصره أبو الحسن (١) الأعز الذى تتلمذ على الكسائى. وبذلك اتصلت الدراسات النحوية بمصر فى زمن مبكر بإمامى المدرستين الكوفية والبصرية.

وتلت هذه الطبقة طبقة ثانية لمع فيها اسم الدّينورى أحمد (٢) بن جعفر الذى رحل من موطنه دينور إلى البصرة فى طلب النحو ، فأخذ عن المازنى وحمل عنه كتاب سيبويه ، ودخل إلى بغداد فأصهر إلى ثعلب ، غير أنه كان يترك حلقته إلى حلقة المبرد ، ثم قدم مصر واستقر بها يعلّم النحو ، وصنّف لطلابه المصريين كتابا سماه «المهذب» ذكر فى صدره اختلاف الكوفيين والبصريين ، غير أنه لما أمعن فيه عوّل على مذهب البصريين وخاصة على كتابات الأخفش الأوسط ، وصنّف فى ضمائر القرآن مصنفا نوه به القدماء وقد توفى سنة ٢٨٩ للهجرة.

وكان يعاصره محمد (٣) بن ولاد بن محمد التميمى المتوفى سنة ٢٩٨ وقد عكف مثل أبيه ولاد على دراسة العربية وبدأ بأخذ كل ما عند الدينورى ومعاصريه من النحاة المصريين أمثال محمود (٤) بن حسان ، ثم رحل إلى بغداد ، وقرأ كتاب سيبويه على المبرد. وعاد إلى موطنه فتصدّر لإقراء النحو وصنف فيه كتابا سماه «المنمّق» حمله عنه المصريون ، وانتقلت نسخته من كتاب سيبويه إلى ابنه أبى العباس.

__________________

(١) انظر الزبيدى ص ٢٣٣.

(٢) راجع فى ترجمة الدينورى الزبيدى ص ٢٣٤ وإنباه الرواة ١ / ٣٣ ومعجم الأدباء ٢ / ٢٣٩ وبغية الوعاة ص ١٣٠ وشذرات الذهب ٢ / ١٩٠.

(٣) انظر فى ترجمة محمد بن ولاد الزبيدى ص ٢٣٦ وتاريخ بغداد ٣ / ٣٣٢ ومعجم الأدباء ١٩ / ١٠٥ وإنباه الرواة ٣ / ٢٢٤ وبغية الوعاة للسيوطى ص ١١٢.

(٤) انظره فى إنباه الرواة ٣ / ٢٦٤.

٣٢٨

ونزل فى سنة ٢٨٧ بمصر نحوى بصرى من تلاميذ المبرد هو على (١) بن سليمان الأخفش الصغير وظل بها حتى سنة ٣٠٠ للهجرة يعلم النحو واللغة ، وله تصانيف مختلفة فيهما ، من أهمها شرحه على كتاب سيبويه ، وكان يتعصب للمبرد والبصريين فى تصانيفه.

وما نكاد نمضى فى القرن الرابع الهجرى لعصر الدولة الإخشيدية حتى تظهر طائفة من النحاة النابهين فى مقدمتهم كراع النمل وأبو العباس أحمد بن ولّاد. وكراع (٢) النمل هو على بن الحسن الهنائى الأزدى ، عاش حتى سنة ٣٢٠ وقد رحل إلى بغداد ، وأخذ عن النحويين البصريين والكوفيين. وكان يمزج فى مصنفاته بين آرائهما وكان إلى آراء البصريين أميل ، وصنّف فى اللغة كتبا مختلفة ، من أهمها «المنضد» ويقال إنه لقب بكراع النمل لقصره.

وأنبه منه وأشهر أبو العباس (٣) أحمد بن محمد بن ولاد المتوفى سنة ٣٣٢ للهجرة. ورث العناية بالنحو والإكباب على درسه عن أبيه وجده السالفين ، وإليه صارت نسخة أبيه من كتاب سيبويه التى أخذها عن المبرد كما أسلفنا ، وقد رحل إلى العراق وتتلمذ للزجاج البصرى ، وكان يعجب به لذكائه وبصره بمسائل النحو وقدرته على الاستنباط. وعاد إلى موطنه وظل يفيد الطلاب ويصنف فى اللغة والنحو إلى وفاته. وعنه أخذ المنذر بن سعيد قاضى قضاة الأندلس معجم «العين» المنسوب للخليل. ويقال إن بعض أمراء مصر جمع بينه وبين أبى جعفر النحاس للمناظرة ، فقال له النحاس : كيف تبنى مثال «افعلوت» من رميت؟ فقال : أبو العباس : «ارمييت» فخطّأه النحاس قائلا : ليس فى كلام العرب افعلوت ولا افعليت. فقال أبو العباس : إنما سألتنى أن أمثّل

__________________

(١) راجع ترجمته فى الزبيدى ص ١٢٥ ونزهة الألباء ص ٢٤٨ وإنباه الرواة ٢ / ٢٧٦ وتاريخ بغداد ١٢ / ٤٣٣ ومعجم الأدباء ١٣ / ٢٤٦١ وابن خلكان ١ / ٣٣٢ وبغية الوعاة ص ٣٣٨ واللباب ١ / ٢٦ وشذرات الذهب ٢ / ٢٧٠.

(٢) انظر ترجمته فى إنباه الرواة ٢ / ٢٤٠ ومعجم الأدباء ١٣ / ١٢ وبغية الوعاة ص ٣٣٣.

(٣) راجع فى ترجمة أبى العباس بن ولاد الزبيدى ص ٢٣٨ وإنباه الرواة ١ / ٩٩ ومعجم الأدباء ٤ / ٢٠١ ومرآة الجنان ٢ / ٣١١ وبغية الوعاة ص ١٦٩.

٣٢٩

لك بناء ففعلت. قال الزبيدى : «وأحسن أبو العباس فى قياسه حين قلب الواو ياء لأن الواو تنقلب فى المضارعة ياء ، ولذلك تقول : ارمييت ولا تقول ارميوت .. وتبع أبو العباس سنة الأخفش سعيد بن مسعدة فإنه كان يبنى من الأمثلة ما لا مثال له» (١).

ومن مصنفاته المطبوعة كتاب المقصور والممدود على حروف المعجم وهو كتاب نفيس فى بابه. وله كتاب «الانتصار لسيبويه من المبرد» ومنه مخطوطة بدار الكتب المصرية وفيه يتعقب المبرد فى كتابه الذى تتبع به كلام سيبويه وسماه «مسائل الغلط» وكان قد كتبه فى حداثته مما جعله يعتذر منه (٢). وقد نقض عليه ابن ولاد كل ما أورده على الإمام النحوى الكبير ، وفى كتاب الرد على النحاة لابن مضاء بعض أمثلة من نقضه (٣). وله آراء نحوية مختلفة ، كان يتابع فيها أحيانا الكوفيين على الرغم من إعجابه الشديد بسيبويه وأئمة البصريين ، من ذلك تجويزهم أن يجرى المقصور مثل مصطفى فى جمعه جمعا سالما مجرى المنقوص ، فيضم فيه ما قبل الواو فى مثل مصطفون ويكسر ما قبل الياء ، فى مثل مصطفين وقاضين ، وكان يقول إن ذلك لغة لبعض العرب (٤). وكان يجوّز مع أستاذه الزجاج أن تدخل لام الابتداء على معمول الخبر المقدم إذا كان مفعولا به مثل «إن زيدا لطعامك آكل» (٥). وكان يذهب ـ وتبعه أبو على الفارسى ـ إلى أن نون المثنى والجمع السالم عوض عن الحركة والتنوين فى المفرد معا (٦). وذهب ـ وتبعه ابن مالك ـ إلى أن «من» مع اسم التفضيل فى مثل «زيد أفضل من عمرو» للمجاوزة لا الابتداء كما ذهب سيبويه ، كأنه قيل : جاوز زيد عمرا فى الفضل (٧). وكان سيبويه يذهب إلى أن قولهم : «لاه أبوك» أصله لله أبوك فحذفت لام الجر ، ولام التعريف ، وبنيت لاه لتضمنها لها مع

__________________

(١) وانظر مناظرة ابن ولاد مع أبى جعفر النحاس فى مسائل أخرى فى كتاب الأشباه والنظائر ٣ / ١٣٦ ـ ١٥٧.

(٢) الخصائص لابن جنى ١ / ٢٠٦.

(٣) انظر ص ١٢٨ وما بعدها.

(٤) الهمع ١ / ٤٦.

(٥) الهمع ١ / ١٣٩.

(٦) الهمع ١ / ٤٨.

(٧) الهمع ٢ / ٣٦.

٣٣٠

حذفها كما بنيت أمس لتضمنها معنى لام التعريف. وذهب ابن ولاد إلى أن أصل «لاه أبوك» آلله أبوك حذفت الهمزة النائبة عن واو القسم وقالوا للهى وخففت الألف (١). وكان يذهب إلى أن صيغة المبالغة «فعيّل» تعمل عمل اسم الفاعل فتنصب المفعول به مثل شرّبب الماء (٢)

٢

فى اتجاه المدرسة البغدادية

رأينا النابهين من النحاة المصريين يرحلون إلى البصرة وبغداد طوال القرنين الثانى والثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة ، وكانت المدرسة البصرية وأساتذتها غالبا وجهتهم فى بغداد ، وخير من يصور ذلك أبو العباس بن ولاد تلميذ الزجاج صاحب المبرد ، وبلغ من بصريته أن عنى بتأليف كتاب الانتصار لسيبويه ، وكأنه يؤمن بأن غلطا لا يمكن أن يعلق بقلمه. وفى نفس هذه الحقبة كانت قد اخذت تظهر مدرسة بغداد ممثّلة فى أئمتها الأولين من أمثال ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط الذين كانوا ينزعون فى أول حياتهم نزعة كوفية ، ثم مزجوا بين النحوين الكوفى والبصرى مع استمرار ميلهم الواضح لنحو الكوفيين.

وإذا كان أبو العباس بن ولاد لم يلتفت إلى هذه النزعة النحوية الجديدة فإن رفيقه ومواطنه أبا جعفر النحاس لم يقع بعيدا عنها ، وقد اختلف مثله إلى أصحاب المبرد وفى مقدمتهم الزجاج ، ولكن يظهر أنه اختلف أيضا إلى أصحاب ثعلب ، بل ينصّ القدماء على أنه كان يختلف إلى ابن الأنبارى ، ولا نشك أنه اختلف أيضا إلى حلقات ابن كيسان وابن شقير وأضرابهما من أوائل البغداديين لما سنرى عنده عما قليل من مزج بين آراء البصريين والكوفيين. وبذلك يلتحم نحو المدرسة المصرية بنحو المدرسة البغدادية مع نشأتها المبكرة.

وأبو (٣) جعفر النحاس هو أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادى المتوفى سنة

__________________

(١) الهمع ٢ / ٣٧.

(٢) الهمع ٢ / ٩٧.

(٣) انظر فى ترجمة النحاس الزبيدى ص ٢٣٩ والأنساب للسمعانى الورقة ٥٥٥ ونزهة.

الألباء ص ٢٩١ وإنباه الرواة ١ / ١٧ ومعجم الأدباء ٤ / ٢٢٤ وابن خلكان ١ / ٢٩ وشذرات الذهب ٢ / ٣٤٦ ومرآة الجنان ٢ / ٣١١ وبغية الوعاة ص ١٥٧.

٣٣١

٣٣٨ للهجرة أكبّ على النحو ودراساته فى موطنه ، ثم رحل إلى العراق ، فسمع الزجاج وغيره من أصحاب المبرد مثل ابن السراج ، كما سمع أصحاب ثعلب وأوائل البغداديين. وعاد إلى موطنه ، يدرس كتاب سيبويه لطلابه ، وطارت شهرته ، فرحل إليه الطلاب من الأندلس وفى مقدمتهم ـ كما مر بنا فى غير هذا الموضع ـ محمد بن يحيى الرّباحى الذى حمل عنه كتاب سيبويه رواية ، ودرّسه لطلابه بقرطبة.

وظل نحاة الأندلس من بعده يتوارثون رواية نسخته المضبوطة الوثيقة مثيرين لكنوز الكتاب ومفسرين معلقين. وبذلك كان للنحاس فضل بثّ دراسة كتاب سيبويه فى الأندلس وما رافقها هناك من نهضة الدراسات النحوية. ومما عنى به «تفسير أبيات سيبويه» ويقال إنه لم يسبق إلى مثله ، وكل من جاء بعده استمد منه.

وفى بعض المراجع أن له كتاب «شرح سيبويه» مما يدل على أنه كان له على الكتاب شرح مفرد يذلّله ويحل مشاكله. وعنى بالقرآن الكريم ، فكتب فيه كتبا مفيدة ، منها كتاب معانى القرآن وكتاب إعراب القرآن ، وهما كتابان قيّمان ويقال إنهما أغنيا عما صنف قبلهما فى معناهما. وله شروح على بعض دواوين الشعر والمعلقات والمفضليات. وصنّف فى النحو كتاب الكافى وهو مفقود ومختصرا أسماه كتاب التفاحة فى النحو نشره كوركيس عواد ببغداد ، كما صنف كتابا فى الاشتقاق. ويلفتنا بين مصنفاته التى روتها له كتب التراجم كتاب «المقنع فى اختلاف البصريين والكوفيين» مما يدل دلالة واضحة على أنه عنى باستيعاب آراء المدرستين عناية جعلته يخصهما بالتأليف.

ومن يرجع إلى مختصره الذى سماه كتاب التفاحة فى النحو والذى يقع فى ست عشرة صحيفة يجده يمزج فى وضوح بين آراء البصريين والكوفيين ، فهو فى الصورة العامة للكتيب وعرض مسائله بصرى ، وهو فى بعض آرائه وبعض المصطلحات كوفى ، وقد يختار رأيا لقطرب أو للأخفش مخالفا جمهور البصريين. ومن أول ما يلقانا فى الكتيب مخالفا لهم فيه ذهابه إلى أن الأسماء الخمسة : أباك وأخواتها معربة بحروف العلة نفسها متفقا فى ذلك مع قطرب وهشام من الكوفيين والزجاجى

٣٣٢

من البغداديين (١). ولا يلبث أن يذهب إلى أن المثنى والجمع السالم يرفعان بالألف والواو وينصبان وبجرّان بالياء ، لا نيابة عن حركات مقدرة ، وهو رأى الكوفيين وقطرب والزجاج أستاذه والزجاجى (٢). وذهب مع الكوفيين إلى أن فعل الأمر معرب مجزوم لا مبنى كما ذهب البصريون (٣). واختار رأيهم فى أن حتى ولام الجحود ولام كى وواو المعية ـ ويسميها واو الظرف ـ وأو وفاء السببية تنصب جميعها المضارع بدون تقدير أن (٤). واستظهر غير مصطلح من مصطلحات الفراء والكوفيين ، من ذلك تسمية النفى بالجحد (٥) وتسمية نائب الفاعل باسم المفعول الذى لم يسم فاعله (٦) ، وتسمية الصفة بالنعت (٧) ، وتسمية التمييز بالتفسير (٨).

وكان يذهب مع الكسائى إلى أن «ذو وذوو» لا تضافان إلى الضمير خلافا للجمهور لما جاء عن العرب فى النثر من مثل قولهم : «إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه» (٩). وذهب مع الأخفش إلى أن المضاف إليه مجرور بالإضافة لا بالمضاف كما ذهب سيبويه (١٠) ، كما ذهب أيضا معه إلى أن «لا سيما» من أدوات الاستثناء ، وأن ما بعدها فى مثل «لا سيما زيد» مرفوع أو مجرور (١١). وجعل ـ مع ابن السراج ـ لا النافية من أدوات التعليق مع ظن وأخواتها مثل «ظننت لا يقوم زيد» (١٢). وكان يذهب إلى أن «مع» الساكنة العين فى لغة ربيعة حرف (١٣).

ولعل فى ذلك كله ما يدل على أن مصر أخرجت نحويّا بغدادى النزعة فى

__________________

(١) كتاب التفاحة فى النحو ص ١٥ وقارن بالهمع ١ / ٣٨.

(٢) كتاب التفاحة ص ١٥ والهمع ١ / ٤٧.

(٣) كتاب التفاحة ص ١٦ والهمع ١ / ١٥.

(٤) كتاب التفاحة ص ١٩ وقارن بالهمع ٢ / ٧ ، ٨ ، ١٤ ، ١٧.

(٥) كتاب التفاحة ص ٢٠ وقارن بمعانى القرآن للفراء ١ / ٥٢.

(٦) كتاب التفاحة ص ٢١ وانظر معانى القرآن ١ / ٣٠١.

(٧) كتاب التفاحة ص ٢٢ وقارن بمعانى القرآن ١ / ١١٢ ، ١٩٨ ، ٢٧٧ ، ٢ / ١٤٥.

(٨) كتاب التفاحة ص ٢٤ وانظر معانى القرآن ١ / ٢٢٥.

(٩) الهمع ٢ / ٥٠.

(١٠) كتاب التفاحة ص ١٨ وانظر الهمع ٢ / ٤٦.

(١١) كتاب التفاحة ص ٢٥ وما بعدها وقارن بالهمع ١ / ٢٣٤.

(١٢) الهمع ١ / ١٥٤.

(١٣) المغنى ص ٣٧٠ والهمع ١ / ٢١٧.

٣٣٣

وقت مبكر ، فهو يمزج بين النحو البصرى والكوفى ، وهو ينفذ إلى آراء جديدة. ومن أهم تلاميذه أبو بكر (١) الإدفوى المتوفى فى العصر الفاطمى سنة ٣٨٨ للهجرة ، وهو منسوب إلى مدينة إدفو بصعيد مصر ، وكان يروى عن أستاذه النحاس كلّ تصانيفه فى النحو والقرآن ، وعنى بالتفسير فصنف فيه كتابا فى مائة مجلد سماه «الاستغناء فى تفسير القرآن» جمع فيه من علوم العربية ما لم يجتمع بغيره ، ويظهر أن ضخامة الكتاب حالت من قديم دون الانتفاع به ومعرفة ما نثره فيه إلإدفوى من آراء فى العربية.

وأنبه تلامذة الإدفوى الحوفى ، وهو على (٢) بن إبراهيم المتوفى سنة ٤٣٠ للهجرة ، قرأ على الإدفوى وأخذ عنه وأكثر ، وتصدر لإقراء النحو ، وصنّف فيه مصنفا كبيرا استوفى فيه العلل والأصول وصنّف مصنفات أصغر منه اشتغل بها المصريون. وصنف فى إعراب القرآن كتابا فى عشرة مجلدات كان علماء موطنه يتنافسون فى تحصيله ، وصنف أيضا فى تفسير القرآن وعلومه. ونرى ابن هشام يعرض لإعراب «ذلك» فى قوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) ويقول إنها بدل أو عطف بيان ويقول : جوّز الفارسى كونها صفة ، وردّ ذلك الحوفى بأن الصفة لا تكون أعرف من الموصوف (٣). وفى ذلك ما يشهد بأن الحوفى كان مطلعا على كتاب الحجة لأبى على الفارسى ، وأكبر الظن أنه اطلع على كتاباته الأخرى وكأن نحاة مصر فى العصر الفاطمى من أمثال الحوفى كانوا يعنون بمعرفة آراء المدرسة البغدادية وأعلامها النابهين من أمثال الفارسى. وقد توقف ابن هشام مرارا فى كتابه المغنى بإزاء توجيهات الحوفى الإعرابية لبعض آى الذكر الحكيم ، وأكبر الظن أنه نقلها جميعا عن كتابه الذى صنفه فى إعراب القرآن ، وهو تارة يرتضى توجيهه وتارة يرفضه ، فمن ذلك استحسانه ما ذهب إليه فى الآية الكريمة :

__________________

(١) انظر فى ترجمة الإدفوى إنباه الرواة ٣ / ١٨٦ وطبقات القراء ٢ / ١٩٨ وطبقات المفسرين للسيوطى ص ٣٨ وشذرات الذهب ٣ / ١٣٠ وبغية الوعاة ص ٨١.

(٢) راجع فى ترجمة الحوفى معجم الأدباء ١٢ / ٢٢١ وإنباه الرواة ٢ / ٢١٩ والأنساب للسمعانى الورقة ١٨١ وابن خلكان ١ / ٣٣٢ واللباب فى الأنساب ١ / ٢٣٩ وشذرات الذهب ٣ / ٢٤٧ وبغية الوعاة ص ٣٢٥.

(٣) المغنى ص ٥٥٣.

٣٣٤

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) من أن (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) مبتدأ وخبره محذوف تقديره لهم (١). ومن ذلك رفضه ما ذهب إليه الحوفى مع الفراء من أن جملة (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) فى قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ، سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) معطوفة على ما قبلها بتقدير أن الأصل ولأنفسهم ثم حذف المضاف ، وقال ابن هشام إن هذا تكلف والواو فى الآية للاستئناف (٢). وقد أنكر رأيه فى أن الباء لها متعلق فى قوله جلّ شأنه : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) لأنها حرف جر زائد ، وحروف الزيادة لا متعلق لها (٣). وردّ ابن هشام رأيه فى قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أن جواب الشرط هو إن ذلك وما بعدها لأنها اسمية وهى لا تكون جوابا للشرط فى النثر بدون فاء ، إنما يختص ذلك بالشعر ، أما الآية فجواب الشرط فيها محذوف (٤). وارتضى رأيه فى أن خبر الذين فى قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) محذوف دلت عليه الجملة وتقديره مأجورون (٥). وأنكر قوله إن الباء من قوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) متعلقة بناظرة لأنها جارة لما الاستفهامية والاستفهام له الصدر (٦) ، كما أنكر ما ذهب إليه فى الآية : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) من أن (سَيَهْدِينِ) جملة حالية ، إنما هى اعتراضية (٧). وردّ إعرابه لقوله جلّ شأنه : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أن ظلمات مبتدأ وبعضها فوق بعض خبر ، قائلا : الصواب أن ظلمات خبر لمبتدأ محذوف (٨). وتلك هى كل مراجعات ابن هشام فى كتابه «المغنى» للحوفى فى كتابه إعراب القرآن ، وكأنه لم يجد وراءها ما يرده أو ينكره ، مما يشهد للقفطى فى قوله عنه إنه كان عالما بالنحو قيّما بعلل العربية أتم قيام.

وكان يعاصره الذاكر (٩) النحوى المصرى تلميذ بن جنى المتوفى سنة ٤٤٠ للهجرة وكان يتصدّر بمصر لإقراء العربية ، وله تعليقات مفيدة فى النحو ، وهو إشارة

__________________

(١) المغنى ص ٤٣٧.

(٢) المغنى ص ٤٤٣.

(٣) المغنى ص ٤٩٢ والهمع ٢ / ١٠٨.

(٤) المغنى ص ٥٥٢.

(٥) المغنى ص ٥٥٤.

(٦) مغنى ص ٥٩٧.

(٧) مغنى ص ٤٤٤.

(٨) مغنى ص ٦٣٨.

(٩) انظر فيه إنباه الرواة ٢ / ٨.

٣٣٥

واضحة إلى أن كتب ابن جنى عرفت على الأقل منذ عصره بمصر.

ويلقانا فى عصر المستنصر الفاطمى نحوىّ كبير هو ابن (١) بابشاذ طاهر بن أحمد المتوفى سنة ٤٦٩ للهجرة ، وقد رحل إلى بغداد وأخذ عن نحاتها وعلمائها ، وبذلك اتصل مباشرة بنحو البغداديين ، وعاد إلى موطنه فتصدر للإقراء بجامع عمرو بن العاص مع إشرافه على تحرير الكتب الصادرة عن ديوان الإنشاء الفاطمى إلى الأطراف ، وله فى النحو تصانيف سارت ـ كما يقول القفطى ـ مسير الشمس ، منها «المقدمة» فى النحو وشرحها وشرح الجمل للزجاجى أحد أئمة النحو البغدادى. وكانت له تعليقة كبيرة فى النحو كتبها فى غرفة بجامع عمرو انقطع فيها بأخرة للعبادة والنسك ، ويقال إنها كانت فى نحو خمسة عشر مجلدا ، وإنها ظلت تنتقل من تلميذ إلى تلميذ حتى نهاية القرن السادس ، وكانوا يسمونها «تعليق الغرفة». ومن مصنفاته «شرح الأصول» لابن السراج وكتاب المحتسب بناه على عشرة أشياء : الاسم والفعل والحرف ، والرفع والنصب والجر والجزم ، والعامل والتابع والخط ، وله عليه شروح ، واختصره ابن عصفور. وتدور لابن بابشاذ فى كتب النحو آراء مختلفة يتفق فى طائفة منها مع الكوفيين والبغداديين والبصريين ، مما يدل دلالة واضحة أنه كان يمزج بين كل تلك المذاهب ، فمن ذلك أن البصريين كانوا يمنعون عمل إذن النصب فى المضارع وهى مفصولة عنه بأى معمول له ، وأجاز ذلك الكسائى والفراء وغيرهما من الكوفيين وتوسط ابن بابشاذ بين الطرفين المتعارضين فجوّز الفصل بالنداء والدعاء مثل إذن يا زيد أحسن إليك وإذن ـ يغفر الله لك ـ يدخلك الجنة (٢). وكان يجيز ـ مع الكوفيين والأخفش ـ ترخيم الاسم الثلاثى المحرك الوسط مثل حكم فيقال : يا حك (٣). وكان يرى رأى ابن درستويه البصرى القائل بأن المبتدأ فى مثل «ضربى العبد مسيئا» لا خبر له (٤). وذهب مع الفارسى والسيرافى إلى أن عامل المستثنى

__________________

(١) راجع فى ترجمة ابن بابشاذ نزهة الألباء ص ٣٦١ ومعجم الأدباء ١٢ / ١٧ وإنباه الرواة ٢ / ٩٥ وابن خلكان ١ / ٢٣٥ وشذرات الذهب ٣ / ٣٣٣ ومرآة الجنان ٣ / ٩٨ وبغية الوعاة ص ٢٧٢.

(٢) الهمع ٢ / ٧ والمغنى ص ١٦.

(٣) الهمع ١ / ١٨٢.

(٤) الرضى على الكافية ١ / ٩٤.

٣٣٦

ما قبل إلا معدّى إليه بواسطتها (١). واختار رأى الأخفش والفارسى فى أن سمع قد تلحق بعلم فتنصب مفعولين مثل «سمعت محمدا يتكلم» (٢). وكان يرى أن لام التعريف العهدية خاصة بالأعيان بينما الجنسية خاصة بالأذهان (٣). وكان يذهب إلى أن الكاف فى أسماء الأفعال مثل «إليك» و «رويدك» و «مكانك» حرف خطاب وليست اسما مجرورا مع الحروف ومضافا إليه مع الظروف كما ذهب البصريون ولا فاعلا كما زعم الفراء ولا مفعولا كما زعم الكسائى (٤).

وتصدر لإقراء النحو بعده تلميذه محمد (٥) بن بركات المتوفى سنة ٥٢٠ للهجرة ، ويذكر السيوطى فى ترجمته أن من أساتذته أيضا محمد (٦) بن مسعود الغزنىّ المعروف بالزكى والعلاء بن أبى الفتح عثمان بن جنى ، أما الأول فاشتهر بكتاب له فى النحو سماه البديع ، يقول ابن هشام عنه إنه كتاب خالف فيه أقوال النحويين فى أمور كثيرة ، ويذكر قولا من أقواله هو أن «الذى وأن المصدرية يتقارضان ، فتقع الذى مصدرية كقول جميل :

أتقرح أكباد المحبين كالّذى

أرى كبدى من حبّ بشنة يقرح

وتقع أن بمعنى الذى كقولهم «زيد أعقل من أن يكذب ، أى من الذى يكذب» (٧). وأما العلاء فقد كان يروى كتب أبيه ابن جنى. ومعنى ذلك أن ابن بركات تزود من كتابات ابن جنى كما تزود من كتاب البديع لمحمد بن مسعود ، وأيضا تزود من أستاذه ابن بابشاذ وخاصة من «تعليقة الغرفة» التى ورثها عنه. وكانت له تصانيف فى النحو سقطت من يد الزمن.

واستوطن مصر لسنة خمسمائة كبير نحاة صقلية ولغويّيها على (٨) بن جعفر

__________________

(١) الهمع ١ / ٢٢٤.

(٢) الهمع ١ / ١٥٠.

(٣) الهمع ١ / ٧٩.

(٤) الرضى على الكافية ٢ / ٦٥ والهمع ٢ / ١٠٦.

(٥) انظر فى ترجمة ابن بركات معجم الأدباء ١٨ / ٣٩ وإنباه الرواة ٣ / ٧٨ وشذرات الذهب ٤ / ٦٢ ومرآة الجنان ٣ / ٢٢٥ وبغية الوعاة ص ٢٤.

(٦) انظره فى البغية ص ١٠٥.

(٧) المغنى ص ٦٠٢.

(٨) انظر ترجمته فى معجم الأدباء ١٢ / ٢٧٩ وابن خلكان ١ / ٣٣٩ وشذرات الذهب ٤ / ٤٥ ومرآة الجنان ٢ / ٢١٢ وإنباه الرواة ٢ / ٢٣٦ والبغية ص ٣٣١.

٣٣٧

السعدى المعروف بابن القطّاع ، وتصدّر فيها لإقراء اللغة والنحو ، ومن تصانيفه كتاب تهذيب أفعال ابن القوطية وأبنية الأسماء وحواش على الصّحاح للجوهرى ، وما زال مقيما على الإفادة والتصنيف حتى توفى سنة ٥١٥ للهجرة.

وأكبر نحاة مصر لأواخر العصر الفاطمى ابن برّىّ (١) المصرى المولد والمنشأ المقدسى الأصل ، وقد لحق الدولة الأيوبية وامتدت به حياته حتى سنة ٥٨٢ للهجرة. وهو تلميذ ابن بركات وغيره من المصريين والقادمين على مصر من الأندلس وخاصة محمد (٢) بن عبد الملك الشنترينى الذى قرأ عليه كتاب سيبويه ، وكان للأندلسيين ـ كما مر بنا ـ عناية به منذ نقل لهم الرّباحى صورة من نسخة النحاس المضبوطة الوثيقة ، وتوفروا عليها بالدرس والشرح والتفسير. وعلى نحو ما كان ابن برى قيّما بالنحو كان قيّما باللغة وشواهدها ، وكان إليه التصفح فى ديوان الإنشاء الفاطمى : وظيفة أستاذه ابن بركات وابن بابشاذ من قبلهما. وتصدر لإقراء النحو واللغة بجامع عمرو ، وطارت شهرته فى الآفاق فقصده الطلاب من كل فجّ ، وممن قصده وقرأ عليه كما أسلفنا عيسى الجزولى نحوىّ المغرب والأندلس ، وقد ذكرنا أنه لما قرأ عليه كتاب الجمل للزجاجى أثيرت مسائل جمعها فى مقدمته المعروفة بالجزولية ، وكان لا يسيغ أن يقول هى من تصنيفى لأنها من نتائج خواطر ابن برى وتلاميذه ، وقد عنى بها النحاة وشرحوها مرارا. واشتهر له فى اللغة حواشيه على صحاح الجوهرى وكانت فى ستة مجلدات ، وهى أحد المصادر الخمسة التى ألف منها ابن منظور معجمه الكبير لسان العرب كما يقول فى مقدمته ، واسمه يتردد فيه ترددا واسعا. ومن مصنفاته جواب المسائل العشر التى استشكلها أبو نزار الحسن بن صافى النحوى (٣) وأغاليط الفقهاء وحواش على درة الغواص فى أوهام الخواص للحريرى ، وقد راجعه فى أن التعبير بكلمة «صباح مساء» على الإضافة يراد به الصباح وحده بخلاف صباح مساء على التركيب ، فإن ذلك يعنيهما معا ،

__________________

(١) راجع فى ترجمة ابن برى معجم الأدباء ١٢ / ٥٦ وإنباه الرواة ٢ / ١١٠ وابن خلكان ١ / ٢٦٨ وشذرات الذهب ٤ / ٢٧٣ ومرآة الجنان ٣ / ٤٢٤ وبغية الوعاة ص ٢٧٨ وطبقات الشافعية للسبكى ٤ / ٢٣٣.

(٢) انظره فى بغية الوعاة ص ٦٨.

(٣) أوردها السيوطى فى كتاب الأشباه والنظائر ٣ / ١٧١.

٣٣٨

وقال : إن هذا الفرق لم يقل به أحد وإن السيرافى صرّح بأن قولهم : «يأتينا صباح مساء وصباح مساء وصباحا ومساء معناهن واحد (١). وكان يذهب إلى أن لولا تفيد التعليل فى مثل «لولا إحسانك لما شكرتك» وأن العرب لذلك جرّوا بها المضمر فى مثل لولاى (٢) ، وهو بذلك يتفق مع سيبويه كما مر بنا فى أنها حين يليها المضمر تكون جارة. وذهب مذهب الكوفيين والأخفش فى أن إذا الفجائية حرف وليست ظرفا (٣) ، كما ذهب مذهب أبى على الفارسى فى أن «ما» قد تأتى زمانية فى مثل : (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) أى استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم (٤). ومعروف أن الفعل قد يأتى للمطاوعة ، وهى أن يدل أحد الفعلين على تأثير ويدل الآخر على قبول فاعله لذلك التأثير مثل علّمته فتعلّم ، وهو حينئذ يتعدى إلى واحد كما فى المثال ، وذهب ابن برى إلى أنه قد يتعدّى لاثنين نحو «استخبرت الخبر فأخبرنى الخبر» ومثل «استعينه كتابا فأعطانى كتابا» وقال ابن هشام : ما ذكره ابن برى ليس من باب المطاوعة وإنما هو من باب الطلب والإجابة (٥).

وكان يعاصره عثمان (٦) بن عيسى البلطىّ الموصلى نحوى دمشق المتوفى سنة ٥٩٩ للهجرة ، ولما ملك صلاح الدين مصر انتقل إليها فرتّب له جاريا لإقراء النحو بجامعها ، وكان يتعمق فى دراسته ودراسة العروض ، ومن مصنفاته «النّبر» فى العربية والعروض الكبير والعروض الصغير ، ويقول السيوطى إنه كان يخلط بين مذهبى الكوفة والبصرة.

ومن نحاة مصر فى العصر الأيوبى سليمان (٧) بن بنين الدقيقى تلميذ ابن برى المتوفى سنة ٦١٤ للهجرة ، وله مصنفات كثيرة فى النحو واللغة والأدب ، منها شرح على سيبويه سماه «لباب الألباب فى شرح الكتاب» وكتاب الوضّاح فى شرح أبيات الإيضاح لأبى على الفارسى ، وكتاب إغراب العمل فى شرح أبيات الجمل للزجاجى ، وكتاب اتفاق المبانى وافتراق المعانى فى اللغة.

__________________

(١) الهمع ١ / ١٩٧.

(٢) الأشباه والنظائر للسيوطى ١ / ٢٢٧.

(٣) الرضى على الكافية ١ / ٩٣ وانظر المغنى ص ٩٢.

(٤) المغنى ص ٣٣٥.

(٥) المغنى ص ٥٧٤ ، ٥٧٥.

(٦) انظر ترجمة البلطى فى معجم الأدباء ١٢ / ١٤١ وإنباه الرواة ٢ / ٣٤٤ وبغية الوعاة ص ٣٢٣.

(٧) انظره فى بغية الوعاة ص ٢٦١.

٣٣٩

ونزل مصر يحيى (١) بن معط المغربى المتوفى سنة ٦٢٨ قرأ على الجزولى ، ثم رحل إلى دمشق وأقرأ النحو بها مدة ، ثم تركها إلى القاهرة واستقر بها وتصدر بالجامع العتيق لإقراء الطلاب النحو ، وله مصنفات مختلفة منها ألفية فى النحو كألفية ابن مالك ، ومنها العقود والقوانين فى النحو ، ومنها الفصول وحواش على أصول ابن السراج وشرح على الجمل. وكان يذهب إلى أن ما النافية قد تحذف فى جواب القسم (٢) ، وكان يرى أنه إذا اجتمع مع الفعل المبنى للمجهول مصدر وظرف وجار ومجرور كان الجار والمجرور هما نائب الفاعل لا الظرف ولا المصدر ، بينما كان يرى البصريون أن لك الخيار فى إقامة أى الثلاثة نائبا للفاعل (٣). وذهب إلى أن «أيا ويا وهيا» للمنادى البعيد وأى والهمزة للمنادى القريب (٤). وكان يرى رأى الزمخشرى وأستاذه الجزولى فى أن علل البناء خمسة : شبه الحرف ، وتضمن معناه ، والوقوع موقع المبنى ، ومناسبة المبنى ، والإضافة إلى المبنى (٥). ومما ذكره فى كتابه الفصول أن أسماء الإشارة بنيت لشبهها بالحروف ولم يذكر ذلك غيره ، (٦) وذكر فى الفصول أيضا أن «دام» لا يجوز تقديم خبرها على اسمها (٧).

وكان يعاصره ابن الرماح (٨) على بن عبد الصمد المتوفى سنة ٦٣٣ للهجرة ، وقد تصدر لإقراء النحو وقراءات الذكر الحكيم ، وله مجموع فى النحو يتردد ذكره فى الأشباه والنظائر للسيوطى ، مع بعض ملاحظاته وآرائه ، من ذلك قوله إن العلم قد يرد معرفا بالألف واللام كالأجناس وذلك فى باب نعم وبئس ، إذ تقول مثلا نعم العمر عمر بن الخطاب (٩) وكان يقول إن أم المتصلة تفترق عن أم المنقطعة من سبعة أوجه ، ومما ذكره من هذه الأوجه أنها لا تقع إلا بعد استفهام

__________________

(١) راجع ترجمته فى معجم الأدباء ٢٠ / ٣٥ وشذرات الذهب ٥ / ١٢٩ وبغية الوعاة ص ٤١٦.

(٢) انظر المغنى ص ٧١٠ وقد تابعه فى ذلك ابن مالك وقابل بالأشباه والنظائر ٢ / ٥٨.

(٣) الهمع ١ / ١٦٣.

(٤) الأشباه والنظائر ١ / ٣٠٤.

(٥) الأشباه والنظائر ٢ / ٢٤.

(٦) الأشباه والنظائر ٣ / ٤.

(٧) الأشباه والنظائر ٣ / ٥ وانظر التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهرى (طبع عيسى البابى الحلبى) ١ / ١٨٧.

(٨) انظره فى البغية ص ٣٤١.

(٩) الأشباه والنظائر ٢ / ٤٠.

٣٤٠