المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

فلزم ابن برّى نحوىّ مصر وعاد فنزل الأندلس وتصدر للإقراء بالمريّة وغيرها من مدن الأندلس وتلمذ عليه هناك جماعة منهم الشلوبين. وله المقدمة المشهورة فى النحو وهى حواش على كتاب الجمل للزجاجى أفادها من مباحث كانت تثار فى مجلس أستاذه ابن برى ، ومن أجل ذلك كان لا ينسبها إلى نفسه. وكان يذهب مع ابن السراج البصرى إلى أنه لا يجوز تقدم المفعول به على الفاعل إذا حصل لبس مثل «كلّم موسى عيسى». (١) وذهب مع أبى على الفارسى وابن طاهر إلى أن نون المثنى والجمع المذكر عوض عن الحركة والتنوين فى المفرد (٢). وكان يرى أنه يجب أن يتحول المفعول الأول إلى نائب فاعل ولا تصح نيابة المفعول الثانى (٣) ، كما كان يرى أنه يصح حذف نون الوقاية فى من وعن ، فيقال «منى وعنى» بالتخفيف (٤)

أما ابن (٥) خروف فهو على بن يوسف بن خروف القرطبى المتوفى سنة ٦٠٩ للهجرة ، كان إماما فى العربية أخذ النحو عن ابن طاهر ، وأقرأه فى موطنه ، ورحل عنه إلى المغرب ، وأخذ يطوف فى البلدان العربية حتى ألقى عصاه بحلب. واشتهر بمناظراته فى العربية مع السهيلى ، وبشرحه لكتاب سيبويه وكتاب الجمل للزجاجى. وله اختيارات كثيرة وخاصة من مذاهب البصريين. من ذلك أنه كان يذهب إلى أن «ما» تأتى معرفة تامة ونقله عن سيبويه ، وبذلك كان يجعلها فاعلا لنعم فى مثل «دققته دقّا نعمّا» والتقدير نعم الدق (٦). وكان يذهب مذهب سيبويه وأستاذه ابن طاهر وابن الباذش فى أنه لا يجوز حذف أحد مفاعيل أعلم وأرى بدون دليل (٧). وذهب مذهب سيبويه والمبرد فى أن نباتا فى مثل «أنبت الزرع نباتا» منصوب بفعل المصدر الجارى عليه وهو نبت مضمرا والفعل الظاهر دليل عليه (٨). وكان يذهب مذهب المبرد فى أن لام المستغاث زائدة بدليل صحة إسقاطها فتقول : «يا لزيد لعمرو» و «يا زيد لعمرو» (٩).

__________________

(١) الهمع ١ / ١٦١.

(٢) الهمع ١ / ٤٨.

(٣) الهمع ١ / ١٦٢.

(٤) الهمع ١ / ٦٤.

(٥) انظر فى ترجمة ابن خروف التكملة لابن الأبار ص ٦٧٦ ومعجم الأدباء ١٥ / ٧٥ وابن خلكان وفوات الوفيات ٢ / ٧٩ والمغرب ١ / ١٣٦ وبغية الوعاة ص ٣٥٤.

(٦) المغنى ص ٣٢٨ والهمع ١ / ٩٢.

(٧) الهمع ١ / ١٥٨.

(٨) الهمع ١ / ١٨٧.

(٩) المغنى ص ٢٤٠.

٣٠١

وذهب مذهب السيرافى فى أن «كان» إذا بنيت للمجهول حذف اسمها وخبرها وأقيم مقام مرفوعها ضمير مصدرها (١) ، واختار رأيه فى أن «ماذا» فى مثل «انظر ما ذا صنعت» اسم موصول بمعنى الذى (٢). وتبع الكوفيين وأستاذه ابن طاهر فى أن ناصب الظرف فى مثل «زيد عندك» هو المبتدأ لا عامل محذوف (٣). وكان يذهب إلى أن «أما» التى بمعنى حقّا فى مثل «أما أنه شاعر» حرف (٤) ، وجوّز أن تكون الجملة التعجبية صلة للموصول مثل «جاء الذى ما أكرمه». (٥) وكان يرى أن عامل الحال فى الجملة الاسمية المبتدأ نحو «هو على شاعرا» (٦) وأن موضع ما خلا فى مثل «قام القوم ما خلا محمدا» نصب على الاستثناء مثل غير (٧) ، وأنه يجوز فى «لا سيما زيد» أن تكون ما نكرة موصوفة ، وزيد خبر لمبتدأ محذوف والجملة صفة (٨) لها ، كما يجوز فى التمييز التالى لكأين فى مثل (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أن يكون منصوبا أو مجرورا بمن كما فى الآية أو بغيرها (٩).

أما الشلوبين (١٠) فهو عمر بن محمد المكنى بأبى على المتوفّى سنة ٦٤٥ للهجرة تلميذ السّهيلى والجزولى. كان إمام عصره فى العربية غير مدافع ، أقرأ نحو ستين سنة ، وبرع فى تلاميذه جلّة من النحاة ، وله تعليق على كتاب سيبويه وشرحان على الجزولية ومصنف فى النحو سماه التوطئة. وهو مثل أسلافه تارة يقف مع سيبويه والبصريين وتارة يقف مع النحاة الآخرين من موطنه وغير موطنه. ونراه يحتج لرأى سيبويه فى أن النكرة أصل والمعرفة فرع قائلا إنه نظر إلى حال الوجود إذ الأجناس هى الأول ثم الأنواع (١١) ، أو بعبارة أخرى النكرات تكون أولا ثم تكون المعارف. وكان يأخذ برأى الرمّانى فى أن خبر المبتدأ بعد لو لا إذا كان

__________________

(١) الهمع ١ / ١٦٤.

(٢) المغنى ص ٣٣٣.

(٣) المغنى ص ٤٨٤.

(٤) المغنى ص ٥٦.

(٥) الهمع ١ / ٨٦.

(٦) الهمع ١ / ٢٤٥.

(٧) المغنى ص ١٤٢.

(٨) الهمع ١ / ٢٣٤.

(٩) الهمع ١ / ١٥٥.

(١٠) انظر فى ترجمة الشلوبين المغرب ٢ / ١٢٩ وإنباه الرواة ٢ / ٣٣٢ والتكملة لابن الأبار ص ٦٥٨ وابن خلكان ١ / ٣٨٢ وابن فرحون فى الديباج ص ١٨٥ وشذرات الذهب ٥ / ٢٣٢ وبغية الوعاة ص ٣٦٤.

(١١) الهمع ١ / ٥٥.

٣٠٢

كونا عامّا حذف ، وإذا كان كونا خاصّا وجب ذكره كما جاء فى الأثر : «لولا قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة» (١). وكان يذهب مذهب يونس فى أن ما بعد إلا فى مثل «ما محمد إلا قائم» يجوز فيه النصب مطلقا (٢). واختار رأى الأعلم الشنتمرى فى أن إياها فى مثل «فإذا هو إياها» مفعول مطلق على نحو ما مر بنا من توجيه الشنتمرى (٣) ، كما اختار رأى ابن خروف فى أن «ما خلا» الاستثنائية موضعها نصب على الاستثناء لا حال كما ذهب السيرافى (٤). وله آراء كثيرة انفرد بها ، من ذلك أن إذ فى مثل : «فبينما العسر إذ دارت مياسير ظرف زمان وعاملها محذوف يدل عليه الكلام (٥). وكان يذهب إلى أن عيونا فى مثل (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) ليست تمييزا ، وإنما هى حال. (٦) وذهب إلى أن «لو» لا تفيد الامتناع بوجه (٧) ، وأن مثل ميل وفرسخ ليس ظرفا مبهما لأن المبهم ما ليست له حدود محصورة (٨). وكان يرى أن الجملة المفسرة محلها محل الجملة التى تفسرها لأنها عطف بيان منها أو بدل ، (٩) كما كان يرى أن أصل ليس وما لنفى الحال ما لم يكن الخبر مخصوصا بزمان فإنهما يكونان حينئذ بحسبه من المضى والحال والاستقبال مثل : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ). (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٠).

وابن (١١) هشام الخضراوى هو أبو عبد الله محمد بن يحيى الخزرجى الأندلسى المتوفّى بتونس سنة ٦٤٦ تلميذ ابن خروف ، كان إماما مقدما فى العربية عاكفا على تعليمها. وله شرح على إيضاح الفارسى وشرح على أبياته ، وصنّف فصل المقال فى أبنية الأفعال ، كما صنف النقض على الممتع لابن عصفور. وله آراء نحوية مختلفة فى المعنى والهمع يتفق فى طائفة منها مع البصريين أو الكوفيين أو سابقيه

__________________

(١) المغنى ص ٣٠٢.

(٢) الهمع ١ / ١٢٣.

(٣) المغنى ص ٩٦.

(٤) المغنى ص ٧٧٢.

(٥) المغنى ص ٨٨ والهمع ١ / ٢٠٥.

(٦) الهمع ١ / ٢٥١.

(٧) المغنى ص ٢٨٣ والهمع ١ / ٦٥.

(٨) الهمع ١ / ١٩٩ وانظر فى تعليلات له طريفة الأشباه والنظائر ١ / ٥٣ ، ٢٥٩.

(٩) المغنى ص ٤٥٠ والهمع ١ / ٢٤٨.

(١٠) الهمع ١ / ١١٥.

(١١) انظر فى ترجمة الخضراوى بغية الوعاة ص ١١٥.

٣٠٣

من الأندلسيين وفى طائفة أخرى يستقل عنهم جميعا ، فمن ذلك استظهاره أن تكون «حتى» الناصبة للمضارع مرادفة أحيانا لإلا ، أخذا من قول سيبويه فى تفسير «والله لا أفعل إلا أن تفعل» المعنى حتى أن تفعل (١). ومن ذلك موافقته الكوفيين فى تثنية المركب المزجى مثل بعلبك وجمعه (٢). وكان يتفق مع الشلوبين فى أن «لو» الشرطية لا تدل على امتناع الشرط ولا امتناع الجواب ، إنما تدل على التعليق فى الماضى كما دلت «إن» على التعليق فى المستقبل (٣). وكان يذهب إلى أن لو التى للتمنى فى مثل «لو تأتينى فتحدثنى» ليست شرطية ، وإنما هى قسم برأسها ولا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط ، ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب كجواب ليت (٤). وذهب إلى أن «حتى العاطفة» يتحتم أن يكون معطوفها ظاهرا لا مضمرا كما أن ذلك شرط مجرورها (٥). وكان يرى أن ما فى «لا سيما» زائدة لازمة لا تحذف ألبتة (٦). وحرى بنا الآن أن نخصّ نحويين كبيرين هما ابن مضاء وابن عصفور بكلمتين أكثر تفصيلا.

ابن (٧) مضاء

هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مضاء اللّخمى القرطبى المتوفّى سنة ٥٩٢ للهجرة ، أخذ عن ابن الرمّاك كتاب سيبويه ، وكان حجة فى الفقه الظاهرى والحديث النبوى ، فولاه الموحدون قضاء فاس ، ثم ولوه قضاء الجماعة ، وكان طبيعيّا أن يحمل حملتهم على أصحاب المذاهب الفقهية : المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية لما ملأوا به كتبهم من فروع ، بل لقد تحولوا بحملتهم إلى ما يشبه ثورة عنيفة. فإذا هم يأمرون بإحراق كثير من تلك الكتب وحمل الناس فى دولتهم بالمغرب والأندلس على المذهب الظاهرى الذى يرفض

__________________

(١) المغنى ص ١٣٤.

(٢) الهمع ١ / ٤٢.

(٣) المغنى ص ٢٨٣ والهمع ٢ / ٦٥.

(٤) المغنى ص ٢٩٥.

(٥) المغنى ص ١٣٥.

(٦) الهمع ١ / ٢٣٤.

(٧) انظر فى ترجمة ابن مضاء الديباج المذهب لابن فرحون ص ٤٧ والتكملة لابن الأبار رقم ٢٣٤ وبغية الملتمس للضبى ص ١٩٢ وروضات الجنات ص ٨٢ وبغية الوعاة ص ١٣٩.

٣٠٤

القياس وما يتصل به من علل ويكتفى بالظاهر من القرآن والحديث. وقد استلهم ابن مضاء هذه الثورة لا فى حملة على الفقه والفقهاء ، وإنما فى حملة على النحو والنحاة من حوله ، إذ وجد مادة العربية تتضخم بتقديرات وتأويلات وتعليلات وأقيسة وشعب وفروع وآراء لا حصر لها ولا غناء حقيقى فى تتبعها أو على الاقل فى تتبع الكثير منها ، فمضى يهاجمها فى ثلاثة كتب ، هى «المشرق فى النحو» و «تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان» وكتاب «الرد على النحاة» وهو ـ وحده ـ الذى بقى من آثاره. وفيه (١) يهاجم نظرية العامل التى عقّدت النحو وأكثرت فيه من التقديرات والمباحث التى لا طائل وراءها فى رأيه ، والمتكلم فى الحقيقة كما لاحظ ابن جنى (٢) هو الذى يعمل الرفع والنصب والجر فى الكلام. ويفصّل القول فيما أدخلته هذه النظرية على النحو من عقد التقديرات على نحو ما هو معروف فى العوامل المحذوفة مما يبعد الصيغ عن وجهها الطبيعى ، ويدفع إلى تمحلات لا داعى لها كتقدير أن الظرف والجار والمجرور إذا وقعا أخبارا أو صلات أو أحوالا يتعلقان بعامل محذوف ولا حذف هناك ولا عامل ـ فى رأيه ـ ولا عمل. ولا يلبث أن ينكر أن يكون فى قام من قولك «زيد قام» ضمير مستتر فاعل فهى فعل ولا فاعل له ، كما لاحظ ذلك من قبله الكسائى فى مثل «كلمنى وكلمت محمدا» فقد ذهب كما مر بنا فى غير هذا الموضع إلى أن فاعل كلمنى محذوف ولا فاعل لها ، غير أن ابن مضاء يتسع بذلك كما فى المثال السابق. ويذهب إلى أن ضمائر التثنية والجمع فى مثل «قاما وقاموا وقمن ويقومون» ليست ضمائر بل هى علامات تدل على التثنية والجمع ، وهو فى ذلك يستضىء برأى الأخفش الذى عرضنا له فيما أسلفنا من الحديث. ولكى يوضح فساد نظرية العامل وأنها دفعت النحاة أحيانا إلى رفض بعض أساليب العرب ووضع أساليب مكانها لا يعرفها العرب الجاهليون والإسلاميون درس باب التنازع دراسة مفصلة موضحا ما جلبه فيه النحاة من صيغ معقّدة عسرة لم ينطق بها العرب ولا وقعت فى أوهامهم. واستضاء فى ذلك بما مر بنا عند الجرمى من منعه التنازع فى الأفعال التى تتعدى

__________________

(١) انظر فى تحليل هذا الكتاب وصلته بالمذهب الظاهرى دراستنا له فى مدخله. وهو مطبوع بدار الفكر العربى فى القاهرة.

(٢) انظر الخصائص ١ / ١٠٩ وما بعدها.

٣٠٥

إلى مفعولين أو ثلاثة ، لما فى ذلك من تكلف لصيغ لم تأت عن العرب. وبنفس الصورة درس باب الاشتغال مستلهما فى بيان أحكام النصب والرفع فيه تحليل الأخفش لبعض صيغه على نحو ما مر بنا فى حديثنا عنه. وكذلك درس باب فاء السببية وواو المعية اللتين ينصب بعدهما المضارع مصورا تعسف النحاة فى التأويل والتقدير ، ومستهلما رأى الجرمى الذى أنكر إضمار أن معهما كما استلهم مذهبه الظاهرى الذى يرفض ما وراء ظاهر النصوص من تقديرات وتأويلات. ويتسع فى استلهام هذا المذهب ، فإذا هو يهاجم ـ مستضيئا بابن جنى فى إنكاره علة العلة (١) ـ العلل الثوانى والثوالث ، كالتعليل لعمل إن النصب والرفع ، ولماذا لم تنصب الثانى وترفع الأول كالفعل ، مما ليس فيه نفع ولا فائدة فى ضبط الألسنة ، كما يهاجم الأقيسة النحوية وما حشد منها فى جميع أبواب النحو ، مما يبعد تصوره ويصعّب فهمه ولا يفيد فى النطق السليم بالعربى أى فائدة فى رأيه. وبالمثل يهاجم القياس ملاحظا تارة ضعفه وتارة فساده ، كما يهاجم التمارين غير العملية مما عرضنا له عند سيبويه والخليل كقول النحاة : «ابن من البيع على مثال فعل» ذاهبين إلى أنه يصح أن يقال بوع أو بيع قياسا على مثل موقن فى قلب الياء واوا أو على مثل بيض وغيد بقلب الضمة كسرة. وكل ذلك ـ فى رأيه ـ فضول ينبغى أن يبرّأ منها النحو ويخلّص تخليصا ، حتى لا يكون فيه عسر ولا صعوبة.

ابن (٢) عصفور

هو أبو الحسن على بن مؤمن بن محمد بن على بن عصفور الحضرمى الإشبيلى المتوفى سنة ٦٦٣ للهجرة حامل لواء العربية فى زمانه بالأندلس ، وهو تلميذ الشلوبين ، تصدر لإقراء النحو بعدّة بلاد فى موطنه. وله فى النحو والتصريف مصنفات مختلفة ، منها المقرّب ، والممتع فى التصريف ومختصر المحتسب لابن جنى ، وكانت له ثلاثة شروح على الجمل للزجاجى. وله آراء كثيرة تدور فى

__________________

(١) الخصائص ١ / ١٧٣ وما بعدها.

(٢) انظر فى ترجمة ابن عصفور بغية الوعاة ص ٣٥٧.

٣٠٦

كتب النحاة ، منها ما يقف فيه مع سيبويه والبصريين ومنها ما يقف فيه مع الكوفيين أو البغداديين ، ومنها ما يستقل به. فمما يقف فيه مع الأولين أنه كان يرى رأى سيبويه فى أن لام المستغاث فى مثل «يا لزيد» متعلقة بفعل النداء المحذوف لا بياكما ذهب إلى ذلك ابن جنى ولا زائدة كما ذهب إلى ذلك المبرد (١). وكذلك كان يختار رأيه فى أن ما بعد لو لا مبتدأ لا فاعل بإضمار فعل كما ذهب الكسائى (٢). وكان يذهب مذهب الأخفش فى أن «إن» يجوز فيها الكسر والفتح إذا تلت مذ ومنذ مثل «ما رحلت إلى هذا البلد مذ أو منذ أن الله خلقنى» (٣) وكذلك فى أنه يجوز نصب زيد على الاشتغال بعد إذا الفجائية فى مثل «خرجت فإذا زيد قد كلمه عمرو» (٤). وكان يرى رأى الزجاج فى أن إذا الفجائية ظرف زمان (٥). واختار رأى الجرمى والمازنى فى أن إعراب المثنى والجمع المذكر السالم ببقاء الألف والواو رفعا وانقلابهما ياء نصبا وجرّا (٦). واختار رأى ابن السراج فى أنه يجوز حذف مفعولى ظن دون قرينة وكذلك أخواتها مستدلا بمثل قوله عزّ شأنه : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أى يعلم ، وقوله : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ)(٧). واختار رأى السيرافى أن الحائط فى مثل «رأسك والحائط» معطوفة على رأسك لا منصوبة بفعل آخر مضمر كما ذهب ابن طاهر وابن خروف (٨). وكان يرى رأى أبى على الفارسى فى أن الفعل لا ينصب أكثر من حال واحدة لصاحب واحد فلا يصح عندهما «نظرت إلى محمد جالسا قارئا (٩)». واختار رأى الكوفيين فى عدّ «هب» من أخوات ظن (١٠) وفى أنه تجوز الحكاية لكلام المتكلم لا بعد قال فقط بل أيضا بعد كل فعل يلتقى بها فى معناها كناديت ودعوت مثل : (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) (١١). واختار رأى ابن السّيد السالف فى

__________________

(١) المغنى ص ٢٤٠ وما بعدها.

(٢) الأشباه والنظائر للسيوطى ١ / ١٨٧ وانظر فى تعليلات له مختلفة ١ / ٢٦٢ ، ٢٧٥.

(٣) الهمع ١ / ١٣٨.

(٤) المغنى ص ١٩١.

(٥) المغنى ص ٩٢.

(٦) الهمع ١ / ١٤٨.

(٧) الهمع ١ / ١٥٢.

(٨) الهمع ١ / ١٦٩.

(٩) الهمع ١ / ٢٤٤.

(١٠) الهمع ١ / ١٤٥.

(١١) الهمع ١ / ١٥٧.

٣٠٧

«ما» وأنها تقع صفة للتعظيم مثل (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ)(١). وله وراء ذلك آراء انفرد بها كثيرة ، منها أنّ أن تأتى مفسرة بعد صريح القول مثل «قلت لهم أن أنصتوا» (٢) كما تأتى لربط الجواب بالقسم فى مثل :

أما والله أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق (٣)

وكان يرى اختيار المصدر نائبا للفاعل إذا اجتمع مع الظرف أو المجرور مستدلا بمثل قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)(٤) كما كان يرى لزوم «من» مع كأين مثل (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) فلا يصح مثل «وكأين رجلا أقدم» كما نصّ على ذلك سيبويه (٥). وكان يرى أنه لا يصح الاستثناء فى العدد فلا يقال «له على ألف إلا خمسين» معتلا بأن أسماء العدد نصوص فلا يجوز أن ترد إلا على ما وضعت له. (٦) وذهب إلى أن «لكن» فى مثل «ما قام زيد ولكن عمرو» هى العاطفة والواو زائدة لازمة (٧) كما ذهب إلى أن جملة «ما خلا» ونظائرها فى الاستثناء مستأنفة ، وليست حالا كما ذهب السيرافى ، ولا منصوبة على الاستثناء كما ذهب ابن خروف (٨). وجوّز أن يكون المحذوف فى مثل «عمرك» و «أيمن الله» المبتدأ لا الخبر (٩) كما جوّز الفصل بالظرف بين «إذن» ومنصوبها مثل «إذن غدا أكرمك» (١٠). وكان يرى أن «ماذا» فى مثل «انظر ما ذا صنعت» لا يصح أن تكون مفعولا لا نظر كما ذهب السيرافى وابن خروف والفارسى لأن الاستفهام له الصدر ، إنما «ما» اسم استفهام مبتدأ و «ذا» اسم موصول خبر وجملة صنعت صلة (١١). ورأى أن عيونا فى مثل (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) تمييز لاحال (١٢). وكان يذهب إلى أن القسم إذا أجيب بماض متصرف مثبت فإن كان قريبا من الحال جىء باللام وقد معا مثل : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) وإن كان بعيدا جىء باللام

__________________

(١) الهمع ١ / ٩٢.

(٢) المغنى ص ٣١ وما بعدها.

(٣) المغنى ص ٣٢.

(٤) الهمع ١ / ١٦٣.

(٥) المغنى ص ٢٠٣.

(٦) الهمع ١ / ٢٢٨.

(٧) المغنى ص ٣٢٤.

(٨) الهمع ١ / ٢٤٩.

(٩) المغنى ص ٦٨٤.

(١٠) الهمع ٢ / ٧.

(١١) المغنى ص ٣٣٣.

(١٢) الهمع ١ / ٢٥١.

٣٠٨

وحدها (١). وكان يذهب إلى أن الكاف والياء المتصلتين بكأن فى مثل «كأنى وكأنك بالدنيا لم تكن» زائدتان وكافتان لكأن عن العمل والباء زائدة فى المبتدأ (٢). وقد يبعد فى رأيه كقوله بأن الفاء فى (فانفجرت) فى قوله جلّ وعزّ شأنه : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) هى الفاء الداخلة على ضرب المحذوفة وأن فاء (فانفجرت) حذفت ليكون على المحذوف دليل ببقاء بعضه. وليس هذا الرأى بشىء كما قال ابن هشام لأن لفظ الفاءين واحد فكيف يحصل الدليل؟ (٣). وكان يختار مع كثيرين من موطنه أن «غير» منصوبة فى الاستثناء انتصاب التالى لإلا ، لا انتصاب الحال كما ذهب إلى ذلك أبو على الفارسى (٤).

٣

ابن (٥) مالك

هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائى الجيّانى المتوفّى بدمشق سنة ٦٧٢ للهجرة إمام النحاة واللغويين لعصره أخذ العربية عن غير عالم فى موطنه ، واستمع إلى الشلوبين ، ورحل إلى المشرق حوالى سنة ٦٣٠ ولقى ابن الحاجب وأخذ عنه واستقرّ بحلب ، وفيها تتلمذ لابن يعيش ، وتصدر بها مدة للإقراء. ثم تركها إلى دمشق ، واستوطنها متوليا بها مشيخة المدرسة العادلية حيث المجمع العلمى العربى الآن. وكان أمة لا فى الاطلاع على كتب النحاة وآرائهم فقط بل أيضا فى اللغة وأشعار العرب التى يستشهد بها فى النحو ، وكذلك

__________________

(١) المغنى ص ١٨٨.

(٢) المغنى ص ٢١٠.

(٣) المغنى ص ٦٩٦ وما بعدها.

(٤) المغنى ص ١٧١.

(٥) انظر فى ترجمة ابن مالك طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ٢٨ ، ٢٥٧ وفوات الوفيات ٢ / ٢٢٧ وطبقات القراء لابن الجزرى ٢ / ١٨٠ والسلوك للمقريزى ١ / ٦١٣ ونفح الطيب (طبعة القاهرة ١٣٠٢ ه‍) ١ / ٤٢٧ والنجوم الزاهرة ٧ / ٢٤٣ وشذرات الذهب ٥ / ٣٣٩ وبغية الوعاة ص ٥٣ وشرح الخضرمى على ابن عقيل (الطبعة الثانية بالمطبعة الأزهرية) ١ / ٧.

٣٠٩

كان أمة فى القراءات ، ورواية الحديث النبوى. وجعله ذلك يكثر من الاستشهاد بالقرآن فى مصنفاته ، فإن لم يكن فيه الشاهد عدل إلى الحديث ، فإن لم يجد فيه ما يريده من الشواهد عدل إلى أشعار العرب. وهو يعدّ أول من استكثر من رواية الحديث فى النحو ، وحقّا كان يستشهد به من قبله فى مصنفاتهما ابن خروف والسّهيلى ، بل كان يستشهد به أحيانا أبو على الفارسى وابن جنى وابن برّى المصرى ، ولكنه هو الذى توسع فى الاستشهاد به. وكان نظم الشعر سهلا عليه ، مما جعله يخلّف فيه منظومات مختلفة فى النحو والصرف ، منها ألفيته المشهورة ، وهى فى ألف بيت ، والكافية الشافية ، وهى فى ثلاثة آلاف بيت ، ومنها المؤصّل فى نظم المفصل للزمخشرى ، وتحفة المودود فى المقصور والممدود. وخلّف مصنفات كثيرة فى العربية ، منها شرح الكافية ، والتسهيل وشرحه ، وشرح الجزولية ، وإعراب مشكل صحيح البخارى ، وعمدة الحافظ وعدة اللافظ وشرحه ، وإيجاز التعريف فى علم التصريف ، والمقدمة الأسدية صنفها لابنه تقى الدين الأسد ، والفوائد فى النحو. وقد بلغت مصنفاته نحو ثلاثين مصنفا بين منظوم ومنثور.

ولابن مالك اختيارات كثيرة من مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين وسابقيه من الأندلسين غير آراء اجتهادية ينفرد بها ، فمما اختاره من مذاهب البصريين ما ذهب إليه سيبويه من أن نون الرفع مع المضارع المجموع هى المحذوفة فى مثل «تأمرونى» (١) وكذلك ما ذهب إليه سيبويه من أن الفعل عسى فى قولك «عسيت أن تفعل» مضمّن معنى قاربت ، وبذلك يكون محل «أن تفعل» النصب على المفعولية (٢). وكان يرى رأى يونس فى أن إما الثانية فى مثل «قام إما زيد وإما عمرو» غير عاطفة ، إنما العاطف الواو السابقة لها (٣) وكذلك فى أن «الذى» قد تأتى حرفا مصدريا مثل (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أى كخوضهم (٤). وكان يذهب مذهب المبرد فى أنه يجوز دخول لام الابتداء على معمول الخبر المقدّم عليه إذا كان ظرفا أو جارّا ومجرورا مثل «إن محمدا لبك واثق» وجوّزا

__________________

(١) المغنى ص ٦٨٥ وانظر فى اجتماع نون الوقاية مع نون الإناث الهمع ١ / ٦٥.

(٢) المغنى ص ٢٥ وما بعدها.

(٣) المغنى ص ٦٢

(٤) الهمع ١ / ٨٣ والمغنى ص ٦٠٢ وما بعدها.

٣١٠

معا «إن محمدا لبك لواثق» بدخول اللام على الخبر ومعموله جميعا (١). وكذلك اختار رأى المبرد فى أن إذا الفجائية ظرف مكان (٢). وأكثر من اختيار آراء الأخفش ، من ذلك مسألتان فى باب كان وأخواتها ، أما أولاهما فدخول الواو على أخبارها إذا كانت جملة تشبيها لها بالجملة الحالية مستدلّين بقول بعض الشعراء :

وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا

وأكثر ما يعطونه النظر الشّزر

وذهب الجمهور إلى أن «أصبحوا» فى البيت تامة والجملة حالية. وأما المسألة الثانية فدخول الواو على خبر ليس وكان المنفية إذا كان جملة وتاليا لإلا كقول أحد الشعراء :

ليس شىء إلا وفيه إذا ما

قابلته عين البصير اعتبار

وقول آخر :

ما كان من بشر إلا وميتته

محتومة لكن الآجال تختلف

وأنكر ذلك الجمهور ذاهبين إلى أن الخبر حذف ضرورة أو أن الواو زائدة (٣). وكان يأخذ برأى الأخفش فى أن «من» الجارة تأتى زائدة مطلقا ، وخرّج عليها قوله جلّ شأنه : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(٤) وأخذ برأيه فى أن اسم عسى أخت كاد قد يأتى بصورة المنصوب المتصل مثل عسانى وعساك وعساه وهو فى محل رفع نيابة عن المرفوع الذى حلّ محله (٥) ، وأيضا أخذ برأيه فى أن الحال لا تجىء من المضاف إليه إلا إذا كان جزءا من المضاف أو مثل جزئه على شاكلة قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) وقوله : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) لأنه لو استغنى عن المضاف وقيل ونزعنا ما فيهم إخوانا واتبع إبراهيم حنيفا لاطّرد السياق والكلام (٦). ومر بنا فى غير هذا الموضع أن الكوفيين تابعوا الأخفش فى مسائل كثيرة ، ونرى ابن مالك يتابعهم فى الأخذ

__________________

(١) الهمع ١ / ١٣٩.

(٢) المغنى ص ٩٢.

(٣) الهمع ١ / ١١٦.

(٤) المغنى ص ٣٦١.

(٥) الهمع ١ / ١٣٢.

(٦) الهمع ١ / ٢٤٠.

٣١١

برأيه فى غير مسألة ، من ذلك حذف الموصول الاسمى ، كقول حسان :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

على تقدير : ومن يمدحه (١). ومن ذلك جواز منع الاسم من الصرف فى ضرورة الشعر (٢) ، وجواز إقامة غير المفعول به من الظرف والجار والمجرور والمصدر نائب فاعل مع وجوده كما جاء فى قراءة أبى جعفر : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٣) ، ومجىء إذ الظرفية مفعولا به مثل : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) وبدلا منه مثل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) والجمهور لا يثبتون ذلك (٤) ، ومجىء أو العاطفة بمعنى الواو أى لمطلق الجمع مثل : «لنفسى تقاها أو عليها فجورها» ، أى وعليها ، ومثل قول جرير فى عبد الملك بن مروان : «جاء الخلافة أو كانت له قدرا» ، وقال ابن مالك : من أحسن شواهده الحديث : «اسكن حراء ، فما عليك إلا نبى أو صدّيق أو شهيد» (٥).

وفى كثير من المسائل التى ينفرد بها الكوفيون نراه يختار رأيهم ، من ذلك ما ذهبوا إليه من أن مذ ومنذ ، إذا وليهما اسم مرفوع مثل «ما رأيته مذ أو منذ شهران» ، ظرفان مضافان لجملة حذف فعلها وبقى فاعلها والأصل : مذ كان شهران ، وكان المبرد وابن السراج والفارسى يذهبون إلى أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر ، وذهب الأخفش والزجاج والزجاجى إلى أنهما ظرفان مخبر بهما عما بعدهما (٦). ومن ذلك اختياره رأيهم فى جواز أن يوضع المفرد والمثنى والجمع موضع الآخر مثل قول امرئ القيس : «بها العينان تنهلّ» أى تنهلان ، وقولهم «لبيك» أى تلبية مكررة وقولهم «شابت مفارقه» وليس للشخص سوى مفرق واحد ، ومثل عظيم المناكب وغليظ الحواجب والوجنات (٧). واختار رأيهم فى أنه إذا وقع بعد الجار والمجرور مرفوع وتقدمهما نفى أو استفهام أو موصوف أو موصول أو

__________________

(١) المغنى ص ٦٩٢.

(٢) الهمع ١ / ٣٧.

(٣) الهمع ١ / ١٦٢.

(٤) الهمع ١ / ٢٠٤.

(٥) الهمع ٢ / ١٣٤.

(٦) المغنى ص ٣٧٣.

(٧) الهمع ١ / ٥٠.

٣١٢

صاحب خبر أو حال كان فاعلا للجار والمجرور لنيابتهما عن الفعل المقدر باستقر فى مثل «ما فى الدار أحد» (١). ومما أخذ برأيهم فيه دخول الفاء على الخبر إذا كان أمرا مثل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وأوّل ذلك جمهور (٢) البصريين مع حذف الخبر ، والتقدير مما يتلى عليكم أى حكم ذلك. واختار رأيهم فى أن إياه فى مثل رأيته إياه توكيد لا بدل (٣) ، وأن «هب» من أخوات ظن (٤) وأن عسى فعل ناقص فى مثل «عسى محمد أن يقوم» وجملة أن يقوم بدل اشتمال سدّ مسدّ الجزأين كما فى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)(٥) ، وأنه يجوز بناء الظروف المبهمة مثل حين وزمن ومدة ووقت إذا أضيفت إلى الجمل الأسمية لمجىء ذلك كثيرا فى الشعر مثل : «كريم على حين الكرام قليل» (٦) ، كما يجوز نصب المضارع مع فاء السببية فى جواب الرجاء بدليل ورود ذلك فى القرآن الكريم مثل : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) ومثل : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) فى قراءة من نصب فيهما (٧). وكان يتابع الكسائى ومن أخذ برأيه من البصريين أمثال المازنى والمبرد فى جواز تقديم التمييز على عامله لوروده فى قول بعض الشعراء : «وما كاد نفسا بالفراق تطيب» ، غير أنه اشترط أن يكون الفعل متصرفا فلا يقال فى التعجب : «ما رجلا أحسن زيدا» (٨). واستضاء برأيه فى أن الفاعل محذوف مع الفعل الأول فى صورة التنازع : كلمنى وكلمت زيدا ، فذهب إلى أن المرفوع محذوف مع أفعال الاستثناء «ليس ولا يكون وما خلا» وهو كلمة بعض مضافة إلى ضمير من تقدم فى مثل «قام القوم ليس زيدا (٩)». وكان يذهب مذهب الفراء فى أن «دام» أخت كان لا تتصرف (١٠) وأن لو مصدرية فى مثل : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) ومثل (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(١١).

واختار آراء البغداديين فى كثير من المسائل ، من ذلك رأى الزجاجى فى أن

__________________

(١) المغنى ص ٤٩٤.

(٢) الهمع ١ / ١٠٩.

(٣) المغنى ص ٥٠٨.

(٤) الهمع ١ / ١٤٩.

(٥) المغنى ص ١٦٣.

(٦) الهمع ١ / ٢١٨.

(٧) الهمع ٢ / ١٢.

(٨) المغنى ص ٥١٥ والهمع ١ / ٢٥٢.

(٩) المغنى ص ٦٥٤.

(١٠) الهمع ١ / ١١٤.

(١١) المغنى ص ٢٩٤.

٣١٣

«سوى» مثل غير فى المعنى والتصرف فتكون فاعلا فى مثل جاءنى سواك ، ومفعولا فى مثل رأيت سواك ، وبدلا أو منصوبة على الاستثناء فى مثل ما جاءنى أحد سواك ، وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أنها ظرف مكان ملازم للنصب (١). وذهب مذهب الفارسى فى أن «غير الاستثنائية» فى مثل قام القوم غير زيد منصوبة على الحالية (٢) ، وأن ما تأتى زمانية كما فى قوله عزّ شأنه : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم (٣) ، وأن من معانى الباء الجارة التبعيض مثل : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ)(٤). وكان يأخذ برأى ابن جنى فى أنه لا سبب لبناء الاسم سوى شبهه بالحرف (٥) ، وأن «إلا» قد تأتى زائدة ، وحمل عليه قول أحد الشعراء :

أرى الدهر إلا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذّبا (٦)

واختار رأيه فى أن الجملة قد تبدل من المفرد ، وخرّج عليه قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ) ـ الآية) قائلا : إن ربك وما بعدها بدل من «ما» وصلتها (٧).

وكان أحيانا يأخذ برأى أسلافه من الأندلسيين ، من ذلك أخذه برأى ابن السّيد فى منع أن يكون عطف البيان تابعا لمضمر (٨) ، وبرأى ابن الطراوة فى أن هذا العطف لا يكون بلفظ الأول ، وتخريج مثل (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) على البدلية (٩). وكان يرى رأى الشّلوبين ومن سبقه مثل الرمانى فى أن خبر المبتدأ بعد لو لا إذا كان كونا عامّا كالوجود والحصول وجب حذفه مثل «لولا على لسافرت» أما إذا كان كونا مقيدا مثل السفر ونحوه وجب ذكره كقولك «لولا على مسافر لزرتك» (١٠). وكان يذهب مذهب ابن عصفور فى

__________________

(١) المغنى ص ١٥١.

(٢) المغنى ص ١٧١.

(٣) المغنى ص ٣٣٥.

(٤) المغنى ص ١١١.

(٥) الهمع ١ / ١٦.

(٦) المغنى ص ٧٦ والمنجنون : الدولاب الذى يستقى عليه.

(٧) الهمع ٢ / ١٢٨.

(٨) المغنى ص ٦٣٦.

(٩) المغنى ص ٥٠٩.

(١٠) المغنى ص ٣٠٢.

٣١٤

أن عيونا فى مثل (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) تمييز لاحال كما ذهب الشلوبين (١) ، وفى أن «كأيّن» كما تأتى للتكثير فى مثل (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) تأتى للاستفهام كما جاء فى قول أبى بن كعب لعبد الله بن مسعود : «كأيّن تقرأ سورة الأحزاب آية؟ فقال : ثلاثا وسبعين» (٢).

ولابن مالك وراء هذه الاختيارات من مذاهب النحاة السابقين آراء كثيرة ينفرد بها ، من ذلك أنه كان يرى أن علامات الإعراب جزء من ماهية الكلمات المعربة ، بينما كان يرى الجمهور أنها زائدة عليها (٣) ، وكان يرى أن «ذان وتان واللذان واللتان» مثّناة حقيقة ، وأنها لذلك معربة لا مبنية (٤). وذهب إلى أن قراءة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إنما هى على لغة بلحارث بن كعب فى إجراء المثنى بالألف دائما (٥). وجوز تثنية اسم الجمع والجمع المكسر مستدلا بمثل (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) ، (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ)(٦) كما جوّز حذف عائد الموصول قياسا على حذفه فى الخبر ، وجعل منه (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) أى به (٧) ، وجوّز الإخبار عن اسم عين بظرف الزمان بشرط الفائدة مثل الليلة الهلال والبلح شهرين (٨). وكان يذهب إلى أن «أم» المنقطعة تعطف المفردات مثل «بل» مستدلا بقول بعض العرب : «إن هناك لإبلا أم شاء» (٩) ، وأن «حرّى» فى مثل «حرى أن يفعل» من أخوات كاد (١٠) ، وأن «أو» العاطفة تأتى للتقسيم مثل «الكلمة اسم أو فعل أو حرف» (١١) وأن «من» الداخلة على «عن» فى قولك «قعدت من عن يمينه» زائدة (١٢) ، وأن الفاء تدخل فى جواب لما مثل (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وذهب الجمهور فى الآية إلى أن الجواب محذوف أى انقسموا قسمين فمنهم مقتصد (١٣). وكان يرى أن «إذ» قد تقع للاستقبال مستدلا بقوله جلّ

__________________

(١) الهمع ١ / ٢٥١.

(٢) المغنى ص ٢٠٣.

(٣) الهمع ١ / ١٥.

(٤) الهمع ١ / ٤٢.

(٥) المغنى ص ٣٧.

(٦) الهمع ١ / ٤٢.

(٧) الهمع ١ / ٩٠.

(٨) الهمع ١ / ٩٩.

(٩) المغنى ص ٤٦ والهمع ٢ / ١٣٣.

(١٠) الهمع ١ / ١٢٨.

(١١) المغنى ص ٦٨ ، ٣٩٦.

(١٢) المغنى ص ١٦٠.

(١٣) المغنى ص ١٨٠.

٣١٥

شأنه : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها)(١) وأن إلى قد تأتى بمعنى فى مثل (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)(٢) وأن من معانى «عن» الاستعانة مثل «رميت عن القوس» (٣) ، وأن زيدا فى قولك «بحسبك زيد» مبتدأ مؤخر (٤) ، وأن على تأتى بمعنى مع مثل (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ)(٥) وأن الكاف تأتى للتعليل مثل (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ)(٦) وأن ذا زائدة فى مثل «ماذا صنعت» (٧) وأن مثل «بادئ بدء» و «أيادى سبأ» حالات مبنية (٨). وكان يمنع إبدال المضمر من الظاهر ويعرب «إياه» فى مثل «رأيت زيدا إياه» توكيدا لا بدلا (٩). وذهب إلى أن الجملة الحالية قد تخلو من الواو والضمير معا مثل «رأيت القمح القدح بدرهمين» أى منه (١٠).

وكان يرى أن «مثل» إذا كانت مضافة إلى معرفة وحذفت جاز فى المعرفة أن تكون صفة نحو «مررت برجل زهير» وحالا نحو «هذا زيد زهيرا (١١)» وكان يذهب إلى أن لكن فى مثل «ما قام زيد ولكن عمرو» غير عاطفة ، والواو عاطفة لجملة حذف بعضها على جملة صرّح بجميعها ، والتقدير ولكن قام عمرو (١٢). وكان الجمهور يذهب فى مثل قول شاعر : «وزجّجن الحواجب والعيونا» وقول آخر : «علفتها تبنا وماء باردا» إلى أنه من عطف الجمل بإضمار فعل مناسب مثل كحلن فى الشطر الأول وسقيتها فى الشطر الثانى ، وذهب ابن مالك إلى أنه من عطف المفردات لما يجمع بين العامل المذكور والمحذوف من معنى مشترك هو التحسين فى الأول والطعام فى الثانى (١٣). وكان الجمهور يرى أن رفع المضارع بعد لم الجازمة فى قول بعض الشعراء :

لولا فوارس من نعم وأسرتهم

يوم الصّليفاء لم يوفون بالجار (١٤)

__________________

(١) الهمع ١ / ٢٠٤.

(٢) المغنى ص ٧٩.

(٣) المغنى ص ١٥٩.

(٤) المغنى ص ١١٧.

(٥) الهمع ٢ / ٢٨.

(٦) المغنى ص ٣٤٤.

(٧) المغنى ص ٣٣٤.

(٨) الهمع ١ / ٢٤٩.

(٩) الهمع ٢ / ١٢٨.

(١٠) الهمع ١ / ٢٢٦.

(١١) المغنى ص ٩٧.

(١٢) المغنى ص ٣٢٤ والهمع ٢ / ٣٧.

(١٣) الهمع ٢ / ١٣٠.

(١٤) نعم : اسم قبيلة. يوم الصليفاء : أحد أيام العرب.

٣١٦

ضرورة ، وذهب ابن مالك إلى أنه لغة (١) ، وذكر أن المضارع قد يجزم بعد لعل عند سقوط فاء السببية ، مستدلا بقول أحد الشعراء :

لعل التفاتا منك نحوى مقدّر

يمل بك من بعد القساوة للرّحم (٢)

وهو دائما على هذا النحو يذكر الشاذ ولا يقيس عليه كما يصنع الكوفيون ولا يعمد إلى تأويله كما يصنع البصريون كثيرا. وكان رائده دائما السماع فهو لا يدلى بحكم دون سماع يسنده. وكان عقله دقيقا ولم يستغله فى تمثل آراء السالفين من النحاة واستنباط الآراء الجديدة فحسب ، بل استغله أيضا فى تحرير مباحث النحو وأبوابه ومصطلحاته وتذليل مشاكله وصعابه

٤

أندلسيون متأخرون

ظلت الأندلس تتابع نشاطها النحوى فى القرن السابع الهجرى ، على الرغم من الخطوب التى تتابعت عليها ، إذ ما زال الإسبانيون المغيرون من الشمال يقتطعون منها مدينة إثر مدينة ، حتى لم يعد للعرب إلا رقعة ضيقة هى إمارة غرناطة التى ظلت صامدة لهم نحو قرنين ونصف. وظل يضطرم بها ـ وخاصة فى الحقب الأولى ـ غير قليل من النشاط النحوى ، ثم لم تلبث أن توقفت آلته الكبيرة بسبب هجرة النحاة إلى المغرب والمشرق واضطراب شئون هذه الإمارة الصغيرة.

ويلقانا فى القرن السابع الهجرى كثيرون من تلامذة الشلوبين ، ونكتفى بالحديث عن أهمهم ، وهم ابن الحاج وابن الضائع وابن أبى الربيع ، أما ابن الحاج (٣) فهو أبو العباس أحمد بن محمد الأزدى المتوفى سنة ٦٥١ وقد اشتهر بشروحه على كتاب سيبويه وإيضاح الفارسى وكتاب سر الصناعة لابن جنى ، وإيراداته على كتاب المقرّب لابن عصفور ومنها نقده عليه ما ذكره من مجىء «لو» للتعليق

__________________

(١) المغنى ص ٣٠٧.

(٢) المغنى ص ١٦٧. والرحم : الرحمة.

(٣) انظر فى ترجمته بغية الوعاة ص ١٥٦.

٣١٧

فى المستقبل ، قال : ولهذا لا تقول : «لو يقوم زيد فعمرو منطلق» كما تقول ذلك مع إن الشرطية. (١) وكان يحتج لرأى المبرد فى أن «كان» حرف وليست فعلا قائلا إنها لا تدل على حدث بل دخلت على اسمها وخبرها لتفيد معنى المضى فى الخبر. (٢) وكان يذهب إلى أن اسم الإشارة لا ينوب عن الرابط لجملته الخبرية إلا إذا كان المبتدأ اسم موصول أو موصوفا والإشارة للبعيد ، مثل (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار) (٣). وكان لا يشترط تقدم الفاعل على المفعول فى حالة اللّبس مثل «ضرب موسى عيسى» ذاهبا إلى أن الذى التزم فاعلية الأول إنما هو بعض المتأخرين غير ملتفتين إلى أن الإلباس واقع فى العربية بدليل أسماء الأجناس والمشتركات (٤).

وابن (٥) الضائع هو أبو الحسن على بن محمد الكتامى الأبّدى المتوفى سنة ٦٨٠ ، وفيه يقول السيوطى : «له فى مشكلات كتاب سيبويه عجائب ... أملى على إيضاح الفارسى ، ورد اعتراضات ابن الطراوة عليه واعتراضاته على سيبويه .. وردّ على ابن عصفور معظم اختياراته. وله شرح الجمل وشرح كتاب سيبويه جمع فيه بين شرحى السيرافى وابن خروف باختصار». ونراه يردّ على ابن عصفور ما ذهب إليه من أن لام المستغاث لأجله فى مثل «يا لزيد لعمرو» متعلقة بفعل محذوف تقديره أدعوك لعمرو حتى لا تتعلق بالفعل النائبة عنه يا ، لأنه مسلط على المستغاث باللام ، والعامل الواحد فى رأيه لا يصل بحرف واحد مرتين. وأجاب ابن الضائع بأنهما مختلفتان معنى ، ولذلك يصح اتصاله بهما ، كما فى نحو «وهبت لك دينارا لترضى» (٦). ورد على ابن عصفور أيضا فى ذهابه إلى أن تثنية الضمير (بهما) فى قوله عزّ شأنه : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) شاذة ، قائلا إن (أو) فى الآية للتنويع وحكمها حكم الواو فى وجوب المطابقة (٧).

__________________

(١) المغنى ص ٢٩٠.

(٢) همع ١ / ١٠.

(٣) المغنى ص ٥٥٣.

(٤) المغنى ص ٦٦٢ وما بعدها.

(٥) راجع فى ترجمته بغية الوعاة ص ٣٥٤ وقارن بصفحة ٤٢٦.

(٦) المغنى ص ٢٤٢.

(٧) المغنى ص ٤٣٥.

٣١٨

ومما وافقه فيه أن لام المستغاث فى مثل «يالزيد» متعلقة بفعل النداء المحذوف مثلها مثل لام المستغاث لأجله فى رأيه (١). وكان يوافق السهيلى فى وجوب التعاند فى معطوفى لا مثل جاءنى رجل لا امرأة (٢). ووافق ابن هشام الخضراوى فى أن لو التى للتمنى فى مثل «لو تأتينى فتحدثنى» لا تحتاج إلى جواب كجواب لو الشرطية (٣). واختار رأى أستاذه الشلوبين فى أن إلا فى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) بمعنى غير التى يراد بها البدل والعوض (٤).

وابن (٥) أبى الربيع هو عبيد الله بن أحمد الأموى الإشبيلى المتوفى سنة ٦٨٨ هاجر من إشبيلية حين استولى عليها الإسبان إلى سبتة ، وأقرأ بها النحو دهره ، وله شرح على سيبويه وشرح على إيضاح الفارسى وشرح على الجمل للزجاجى فى عشر مجلدات. وكان يذهب إلى أن «ليت» إذا اقترنت بما جاز دخولها على الأفعال ، فيقال «ليتما قام زيد» (٦) ورتّب على ذلك أن مثل «ليتما زيدا أكلمه» زيد فيه منصوب على الاشتغال ، والجمهور يجعل زيدا اسما لليت ، لأن ما لا تلغى عملها (٧). وذهب إلى أن عيونا فى (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) بدل من الأرض (٨) ، كما ذهب إلى أن «لكن» مقترنة بالواو تعطف الجمل بعضها على بعض مثل (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)(٩).

وممن يلقانا من تلاميذ ابن عصفور الصفار (١٠) وهو قاسم بن على ، وله شرح على سيبويه يردّ فيه كثيرا على الشّلوبين ، وكان يذهب إلى جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس مستدلا بمثل قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطفا على قوله عزّ شأنه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ

__________________

(١) المغنى ص ٢٤١.

(٢) الهمع ٢ / ١٣٧.

(٣) المغنى ص ٢٩٥ والهمع ٢ / ٦٦.

(٤) المغنى ص ٧٤ وانظر بعض ضوابطه وتعليلاته فى الأشباه والنظائر للسيوطى ٢ / ٨٠ ، ٢٤٢.

(٥) انظره فى البغية ص ٣١٩.

(٦) المغنى ص ٣١٦.

(٧) المغنى ص ٦٤٦.

(٨) الهمع ١ / ٢٥١.

(٩) المغنى ص ٣٢٤ وانظر له بعض اختيارات وآراء فرعية فى الهمع ١ / ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٨ ، ٢٣٤ وكذلك فى الأشباه والنظائر ١ / ٢٠٦ ، ٢٤٧ ، ٢٦٢.

(١٠) راجع ترجمته فى بغية الوعاة ص ٣٧٨.

٣١٩

الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(١). ونلتقى فى نهاية القرن السابع الهجرى بأبى جعفر (٢) أحمد بن إبراهيم بن الزبير المتوفى سنة ٧١٠ يقول السيوطى : «وبه أبقى الله ما بأيدى الطلبة فى الأندلس من العربية» وله تصنيف على كتاب سيبويه. وبه تخرّج أكبر نحوى ظهر فى الأندلس بعد ابن مالك ، وهو أبو حيان وبه نختم حديثنا عن نشاط النحو فى هذا الفردوس العربى المفقود.

أبو حيان (٣)

هو أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطى الأندلسى المتوفى سنة ٧٤٥ تلميذ أبى جعفر بن الزبير وابن الضائع فى النحو. وأكبّ بجانب ذلك على التفسير والحديث والقراءات والتاريخ ، حتى أتقن ذلك كله وبرع فيه. وقد رحل عن موطنه شابّا ، متنقلا فى شمال إفريقية ، إلى أن ألقى عصا ترحاله بالقاهرة سنة ٦٧٩ ولزم بهاء الدين بن النحاس تلميذ ابن مالك وأخذ عنه كتبه. وتنقّل فى بلاد عدة فى الشام والسودان والحجاز ، وعهد إليه بتدريس النحو فى جامع الحاكم بالقاهرة سنة ٧٠٤ كما عهد إليه بتدريس التفسير فى قبة السلطان المنصور سنة ٧١٠ وتولى منصب الإقراء بجامع الأقمر الفاطمى. وكان يقول خير الكتب النحوية المتقدمة كتاب سيبويه وأحسن ما وضعه المتأخرون كتاب التسهيل لابن مالك وكتاب الممتع فى التصريف لابن عصفور. وقد تخرج به جيل من النحاة المصريين أمثال ابن عقيل وابن أم قاسم ، وكان يعنى فى دروسه بكتب النحاة الثلاثة السالفين ، ويتضح ذلك مما أملاه عليها من شروح وفى مقدمتها كتاب سيبويه ، وكتاب الممتع فى التصريف ، وكتاب المقرب فى النحو لابن عصفور. وله ثلاثة

__________________

(١) المغنى ص ٥٣٥ وانظر له بعض توجيهات وآراء فى ص ٥٩ ، ٥٣٨٠ ، ٦٠٠ وفى الهمع ١ / ٤٠ ، ٢ / ١٣٣.

(٢) انظر ترجمته فى بغية الوعاة ص ١٢٦ وراجع تعليلا له فى الأشباه والنظائر ١ / ٢٦٨.

(٣) انظر فى ترجمة أبى حيان بغية الوعاة ص ١٢١ وطبقات الشافعية للسبكى ٦ / ٣١ وطبقات القراء ٢ / ٢٨٥ والدرر الكامنة لابن حجر ٤ / ٣٠٢ ونكت الهميان ص ٢٨٠ وفوات الوفيات ٢ / ٣٥٢ وشذرات الذهب ٦ / ١٤٥ ونفح الطيب (طبعة دوزى) ١ / ٨٢٣ والنجوم الزاهرة ١٠ / ١١٢ والبدر الطالع للشوكانى ٢ / ٢٨٩ وتاريخ الفكر الأندلسى ترجمة حسين مؤنس ص ١٨٧.

٣٢٠