المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

أن عامل المبتدأ هو الابتداء لا الخبر كما قال الكوفيون (١). ويهاجم رأى الكوفيين القائل بأن عندك فى مثل محمد عندك منصوب بالخلاف (٢) ، ويضعف رأيهم فى أن الأسم الواقع بعد لو لا يرتفع بها لنيابتها عن الفعل (٣) ، كما يضعّف رأيهم فى أنّ إن وأخواتها لا تعمل الرفع فى الخبر وإنما هو مرفوع على حاله قبل دخول إن وصواحبها (٤). وعلى هذا النحو لا يزال ابن يعيش يضعف آراء الكوفيين ويقوى آراء البصريين ، ويلقانا من حين إلى حين استحسانه لبعض آراء الكوفيين كاستحسانه تخريجهم لقراءة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) على أن إن نافية واللام بمعنى إلا ، والتقدير ، ما هذان إلا ساحران ، يقول وهو تقدير حسن (٥).

وجوّز رأى الكسائى فى أن «حيث» قد تضاف إلى المفرد وقال إنها لغة كقول بعضهم «حيث لىّ العماثم» (٦). وذهب مع الفراء والزمخشرى إلى أن لو تأتى للتمنى وحينئذ تكون مصدرية مثل أن (٧) وكان يجوّز مع الكوفيين صرف ما لا ينصرف فى ضرورة الشعر (٨) وكان يستحسن رأى أبى على الفارسى فى أن المعطوف فى مثل قام محمد وعمر معمول لفعل محذوف من جنس الفعل الأول (٩) ، وكذلك رأيه فى أن اللام الداخلة أو اللازمة مع إن الملغاة فارقة بينها وبين إن النافية (١٠).

واحتج لرأيه فى أن إما فى مثل جاء إما على وإما عمر ليست عاطفة (١١). ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إنه كان أكثر البغداديين المتأخرين انتصارا وحماسة للبصريين.

والرضىّ (١٢) الإسترابادى هو نجم الدين محمد بن الحسن ، مولده ومرباه فى إستراباد من أعمال طبرستان ، وليس بين أيدينا أخبار واضحة عن حياته ،

__________________

(١) ابن يعيش ١ / ٨٤ وما بعدها.

(٢) ابن يعيش ١ / ٩١ وقد قرر هنا مثل ابن جنى والفارسى أن الظرف هو الخبر نفسه لا المتعلق المحذوف.

(٣) ابن يعيش ١ / ٩٦.

(٤) ابن يعيش ١ / ١٠٢.

(٥) ابن يعيش ٣ / ٢٩.

(٦) ابن يعيش ٤ / ٩٠ وما بعدها.

(٧) ابن يعيش ٩ / ١١.

(٨) الأشباه والنظائر للسيوطى (طبعة حيدر آباد) ٢ / ٣٣ وقابل شرحه على المفصل ١ / ٦٨ وما بعدها.

(٩) ابن يعيش ٨ / ٨٩.

(١٠) ابن يعيش ٨ / ٧١ وانظر المغنى ص ٢٥٦.

(١١) ابن يعيش ٨ / ١٠٣.

(١٢) انظر فى الرضى شذرات الذهب ٥ / ٣٩٥ وخزانة الأدب للبغدادى ١ / ١٢ وبغية الوعاة ص ٢٤٨.

٢٨١

واختلف الرواة فى تاريخ وفاته ، ويغلب أن يكون حوالى سنة ٦٨٦ للهجرة ، واشتهر له شرحه على الكافية فى النحو لابن الحاجب ، وشرحه على مقدمته الصرفية المسماه بالشافية ، وانتهاجه نهج البغداديين واضح منذ الصفحات الأولى فى شرحه على الكافية ، إذ نراه يقف تارة مع الكوفيين وتارة مع البصريين ، وكثيرا ما يختار ما انفرد به بعض أعلامهما ، وقد يختار بعض آراء البغداديين. ونحن لا نصل إلى الصفحة الثامنة عشرة من الجزء الأول فى شرحه للكافية حتى نراه يذكر رأى البصريين فى أن عامل الرفع فى المبتدأ هو الابتداء ، ويضعفه مؤثرا عليه مذهب الكسائى والفراء فى أن عامل الرفع فيه هو الخبر ، إذ كل منهما صار عمدة بصاحبه.

ويذكر رأى البصريين فى أن عامل النصب فى المفعول هو الفعل ، ويضعفه مصوّبا رأى الفراء فى أن عامل النصب فيه هو الفعل والفاعل معا ، إذ إسناد أحدهما إلى الآخر هو السبب فى كون المفعول فضلة فيكونان السبب فى علامة الفضلة وهى النصب (١). ويعرض لما نسب إلى الخليل من أن أصل المرفوعات الفاعل ، والمبتدأ فرع عنه وما نسب إلى سيبويه من أن أصلها المبتدأ والفاعل فرع عنه ، ويختار رأى الأخفش وابن السراج القائل بأن المبتدأ والفاعل جميعا أصلان فى الرفع وليس أحدهما محمولا على الآخر ولا فرعا عنه. ويمد ذلك فى المفعول به وما قيل من أن بقية المفعولات محمولة عليه ، فجميعها هى الأخرى أصول وليست فروعا للمفعول به (٢). وما يلبث أن يذكر المذاهب التى مرت بنا لسيبويه والكوفيين والمازنى والجرمى والفارسى فى إعراب الأسماء الخمسة ، ويضعف الأربعة الأولى منها منتصرا للفارسى (٣). ونمضى معه فنراه يرجح رأى البصريين فى باب التنازع واختيارهم لإعمال الفعل الثانى (٤) ، وكذلك رأيهم فى أن ما بعد لو لا فى مثل لو لا محمد لجئت مبتدأ (٥) ، وأن الخبر محذوف فى مثل «كل عامل وعمله» (٦) ، وأن العامل فى المعطوف هو العامل فى المعطوف عليه بواسطة حرف العطف (٧). وعلى هذا النحو لا يزال

__________________

(١) انظر شرح الرضى على الكافية (طبعة إستانبول) ١ / ٢١.

(٢) الرضى على الكافية ١ / ٢٠.

(٣) الرضى على الكافية ١ / ١١٩.

(٤) الرضى على الكافية ١ / ٧٠ وما بعدها.

(٥) الرضى على الكافية ١ / ٩٣.

(٦) الرضى على الكافية ١ / ٩٧.

(٧) الرضى على الكافية ١ / ٢٧٧.

٢٨٢

الرضىّ يقارن بين آراء النحاة من البصريين والكوفيين والبغداديين مختارا لنفسه منها ما تتضح علله ، وكثيرا ما يضمّ إلى مختاره عللا جديدة ، وقد ينفرد ببعض الآراء على نحو ما مرّ بنا آنفا من ذهابه إلى أن كل مرفوع أصل بنفسه وكذلك كل منصوب.

الزمخشرى (١)

هو محمود بن عمر ، ولد سنه ٤٦٧ بزمخشر ، قرية من قرى خوارزم ، فنسب إليها ، وبها كان منشؤه ومرباه ، وقد أقبل منذ نعومة أظفاره على العلوم اللغوية والدينية ، ورحل فى سبيل طلب العلم إلى بخارى وإلى بغداد ، وجاور بمكة حقبة طويلة ، نشط فيها لتصنيف تفسيره للقرآن المسمى بالكشاف ودرس حينئذ كتاب سيبويه على أحد علماء الأندلس النابهين على نحو ما سنعرف فى حديثنا عن نحاة الأندلس ، وتكاثرت تصانيفه منذ هذا الحين. وعاد إلى موطنه ، وشهرته قد ملأت الآفاق ، والطلاب يفدون عليه من كل صوب وحدب يأخذون عنه معجبين مكبرين ، حتى اختاره الله لجواره فى سنة ٥٣٨ للهجرة. وهو يسلك فى المعتزلة وفى علماء التفسير الأفذاذ وأئمة اللغة والنحو ، ومعجمه «أساس البلاغة» مشهور. ومن مصنفاته الفائق فى غريب الحديث ، وصنّف فى اللغة والأدب والعروض والنحو مصنفات مختلفة ، ومن أشهر مصنفاته النحوية النموذج ، والمفصل وعنى بصنع حاشية له ، وشرحه ابن يعيش شرحا ضافيا على نحو ما قدمنا. وقد جعله فى أقسام أربعة ، قسم للأسماء تحدث فيه عن المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والنسب والتصغير والمشتقات ، وقسم للأفعال وضروبها وأنواعها المختلفة ، وقسم للحروف وأصنافها من حروف عطف وغير حروف عطف ، وقسم للمشترك أراد به الإمالة والزيادة والوقف والإبدال والإعلال والإدغام.

__________________

(١) انظر فى ترجمة الزمخشرى الأنساب للسمعانى الورقة ٢٧٧ ومعجم الأدباء ١٩ / ١٢٦ ومعجم البلدان فى مادة زمخشر وإنباه الرواة ٣ / ٢٦٥ واللباب فى الأنساب ٢ / ٥٠٦ وابن خلكان ٢ / ٨١ وأزهار الرياض ٣ / ٢٨٢ وشذرات الذهب ٤ / ١١٨ ونزهة الألباء ص ٣٩١ وطبقات المفسرين للسيوطى ص ٤١ والبغية ص ٣٨٨.

٢٨٣

وإذا أخذنا نتعقب آراءه وجدناه يمثل الطراز البغدادى الذى رأيناه عند أبى على الفارسى وابن جنى ، فهو فى جمهور آرائه يتفق ونحاة البصرة الذين نهجوا علم النحو ووطّأوا الطريق إلى شعبه الكثيرة ، ومن حين إلى حين يأخذ بآراء الكوفيين أو بآراء أبى على أو ابن جنى ، وقد ينفرد بآراء خاصة به لم يسبقه أحد من النحاة إليها. ويكفى أن نرجع إلى المفصل فسنراه يضع كتاب سيبويه نصب عينيه ، حتى ليصبح ملخصا له أحيانا على نحو ما يلقانا فى باب المفعول المطلق وصوره الكثيرة ، وغالبا ما يتابعه فى آرائه النحوية ، ونضرب لذلك بعض الأمثلة من القسم الأول من كتابه ومن صحفه الأولى التى شرحها ابن يعيش ، فمن ذلك متابعته له فى أن الفعل الثانى هو العامل فى باب التنازع (١) وأن مثل «هل زيد قام» تعرب فيه زيد فاعلا لفعل محذوف يفسره المذكور لا مبتدأ كما ذهب الكوفيون (٢) ، وكذلك متلوّ إن الشرطية فى مثل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ)(٣). واختار رأيه فى أن متلو لو لا فى مثل «لولا على لسافرت» مبتدأ خبره محذوف (٤) وفى أن خبر إن وأخواتها مرفوع بها لا بما كان مرتفعا به قبل دخول إن كما زعم الكوفيون (٥) ، وفى أن الناصب للمنادى ما ينوب عنه حرف النداء وهو الفعل مثل أريد وأدعو (٦). وجعله تشرّب روحه للمذهب البصرى يعبّر عن البصريين كما عبر عنهم أبو على الفارسى وابن جنى باسم أصحابه ، فهو فى أغلب أحواله إما أن ينزع عن قوسهم جميعا ، وإما أن ينزع عن قوس بعضهم كأخذه برأى الخليل فى أن الفاعل أصل المرفوعات والمبتدأ محمول عليه ، وكان سيبويه كما أسلفنا منذ قليل يذهب إلى العكس (٧) ، وكأخذه برأى الأخفش فى أن الكاف تأتى فى النثر كثيرا مرادفة لمثل ، فتعرب إعرابها وتخرج عن حرفيتها ، وبذلك جوّزا أن تعرب فى مثل «زيد كالأسد» خبر لزيد مضاف للأسد (٨) ، وكأخذه برأى المبرد فى أن لفظ «الآن» مبنى لأنه استعمل من أول وضعه بالألف واللام ، ولم يستعمل نكرة (٩) ، وكأخذه

__________________

(١) انظر ابن يعيش على المفصل ١ / ٧٧.

(٢) ابن يعيش على المفصل ١ / ٨١.

(٣) ابن يعيش على المفصل ١ / ٨٢.

(٤) ابن يعيش على المفصل ١ / ٩٥.

(٥) ابن يعيش على المفصل ١ / ١٠١.

(٦) ابن يعيش على المفصل ١ / ١٢٧.

(٧) ابن يعيش على المفصل ١ / ٧١ وقابل بالهمع ١ / ٩٣.

(٨) ابن يعيش على المفصل ٨ / ٤٢.

(٩) ابن يعيش ٤ / ١٠٣.

٢٨٤

برأى الزجاج فى أن مثل «أكرم بزيد» أمر على حقيقته لكل أحد أن يصف زيدا بالكرم والباء زائدة ، وكان سيبويه يذهب إلى أن الفعل فى مثل هذه الصيغة ماض أخرج بلفظ الأمر والباء زائده مثلها فى كفى بالله (١). وعلى شاكلة أضرابه من البغداديين كان يختار رأى الكوفيين أحيانا فى بعض المسائل ، من ذلك أنه زاد معهم فى الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل فعل حدّث كقول الحارث بن حلّزة اليشكرى :

إن منعتم ما تسألون فمن ح

دّثتموه له علينا العلاء (٢)

ومما اختاره من مذهبهم جواز أن يكون البدل والمبدل منه نكرة كما فى قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) وقوله : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ)(٣). واختار ـ على غرارهم ـ أن تكون جملة البسملة متعلقة بفعل محذوف تقديره أقرأ لا باسم كما ذهب البصريون (٤). واختار مثلهم أن تكون أن وما بعدها فى مثل «لو أنك جئت» فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت ، لأن لو تتطلب أن يتلوها فعل (٥). ومما وافق فيه أبا على الفارسى أن ما فى مثل «نعمّا محمد» نكرة تامة منصوبة على التمييز (٦) ، وأن الجملة تنقسم إلى اسمية وفعلية وشرطية وظرفية. واعترض ابن يعيش على هذا التقسيم لأن الجملة الشرطية تردّ إلى الفعلية لأنها تتألف من فعل الشرط وفعل الجواب ، وكذلك الظرفية لأنها تقدر متعلقة بفعل (٧). ومما وافق الفارسى فيه أن الباء إنما تزاد مع ما الحجازية العاملة ولا تزاد مع ما التميمية المهملة ، فمثل ما محمد بقائم يتحتم أن تكون ما فيها حجازية (٨). ووافق ابن جنى فى مجىء أن ظرفية على غرار ما الزمانية مثل «جئتك أن تصلى العصر» أى زمن صلاة العصر ، وخرج الزمخشرى على هذا المعنى قوله جلّ شأنه : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أى وقت أن آتاه (٩). ووافقه أيضا فى أن الجملة تبدل من المفرد ، كما جاء فى قول بعض الشعراء :

__________________

(١) ابن يعيش ٧ / ١٤٧.

(٢) ابن يعيش ٧ / ٦٥.

(٣) ابن يعيش ٣ / ٦٨ والمغنى ص ٥٠٨ والهمع ٢ / ١٢١.

(٤) المغنى ص ٤٢٣ وما بعدها.

(٥) ابن يعيش ١ / ٨١ والمغنى ص ٢٩٩ والهمع ١ / ١٣٨.

(٦) ابن يعيش ٧ / ١٣٤ وانظر المغنى ص ٣٢٨ والهمع ١ / ٢٥٠.

(٧) ابن يعيش ١ / ٨٨.

(٨) المغنى ص ٦١٩.

(٩) المغنى ص ٧٥٦ والهمع ١ / ٨٢.

٢٨٥

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشام أخرى كيف يلتقيان

فكيف يلتقيان بدل من حاجة وأخرى كأنه قال أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما (١).

وللزمخشرى بجانب اختياراته من المذاهب البغدادية والكوفية والبصرية آراء كثيرة ينفرد بها ، من ذلك ذهابه إلى أن «إذ» قد تقع مبتدأ ، وخرّج على ذلك قراءة بعضهم آية آل عمران : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) أى وقت بعثه فيهم رسولا (٢) ، وأن أما فى مثل «أما زيد فذاهب» تعطى الكلام فضل تأكيد (٣) ، وأن واو العطف قد تفيد الإباحة فى مثل جالس محمدا وعليّا (٤) ، وأن رافع الخبر هو الابتداء فقط ، وكان ابن جنى كما أسلفنا يرى أن رافعه الابتداء والمبتدأ (٥) ، وأنه قد يلى إلا نعت لما قبلها ، مفرد مثل «ما مررت برجل إلا شجاع» وجملة مثل ما مررت بأحد إلا زيد خير منه (٦) ، وجعل الجملة بعد إلا فى مثل قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) صفة لقرية ، وقال إن الواو للصوق الصفة ، وجعلها غيره واو الحال (٧). وفرّق بين التعدية بالهمزة والتضعيف ، فجعل التضعيف يفيد التكرار ، فمثل نزّل تفيد تكرار النزول بخلاف أنزل (٨). وجوّز أن يكون الفاعل جملة ، وبذلك خرج آية السجدة : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) فجعل جملة كم وما بعدها فاعل الفعل المجزوم «يهد» ورأى ابن هشام أن الفاعل مستتر راجع إلى الله سبحانه وتعالى (٩). وذهب إلى أن «لن» تفيد تأكيد النفى ، بل تأبيده مثل لن أجبن (١٠). وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن همزة الاستفهام إذا جاءت فى جملة معطوفة بالواو أو الفاء أو ثم تأخرت حروف العطف بعدها لما لها من الصدارة مثل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) وذهب الزمخشرى إلى أن

__________________

(١) الهمع ٢ / ١٢٨.

(٢) المغنى ص ٨٥.

(٣) المغنى ص ٥٩.

(٤) المغنى ص ٦٧ ، ٣٩٦.

(٥) ابن يعيش ١ / ٨٣ ، ٨٥ والرضى على الكافية ١ / ٨٧.

(٦) ابن يعيش ٢ / ٩٣ والهمع ١ / ٢٣٠.

(٧) المغنى ص ٤٨٣.

(٨) المغنى ص ٥٧٨ والهمع ٢ / ٨٢.

(٩) المغنى ص ٦٥٢.

(١٠) ابن يعيش ٨ / ١١١ والمغنى ص ٣١٤.

٢٨٦

الهمزة فى مكانها الأصلى غير أن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف ، فيقول التقدير فى الآية الأولى أمكثوا فلم يسيروا فى الأرض؟ وفى الآية الثانية أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا؟ (١).

__________________

(١) المغنى ص ٩.

٢٨٧

الفصل الثانى

المدرسة الأندلسية

١

النشاط النحوى فى الأندلس

لا نكاد نمضى فى عصر بنى أمية بالأندلس (١٣٨ ـ ٤٢٢ ه‍) حتى تنشأ طبقة كبيرة من المؤدّبين الذين كانوا يعلمون الشباب فى قرطبة وغيرها من الحواضر الأندلسية مبادئ العربية عن طريق مدارسة النصوص والأشعار ، يدفعهم إلى ذلك حفاظهم على القرآن الكريم وسلامة لغته وتلاوته ، وبذلك كان أكثرهم من قرّاء الذكر الحكيم ، وكان كثير منهم يرحلون إلى المشرق فيتلقون هذه القراءات ، ويعودون إلى موطنهم فيرسمونها للناس بجميع شاراتها كما يرسمون لهم العربية بمقوماتها اللغوية.

ومن أجل ذلك لا نعجب إذا وجدنا مشهورى هؤلاء المؤدّبين يعنون بالتأليف فى القراءات يتقدمهم أبو موسى الهوارى ، وهو كما يقول الزّبيدى : «أول من جمع الفقه فى الدين وعلم العرب بالأندلس ، رحل فى أول إمارة عبد الرحمن الداخل (١٣٨ ـ ١٧٢ ه‍) فلقى مالكا ونظراءه من الأئمة ولقى الأصمعى وأبا زيد ونظراءهما ، وداخل الأعراب فى محالها ، وله كتاب فى القراءات» (١). وكان يعاصره الغازى بن قيس الذى احترف تأديب الناشئة بقرطبة ، وقد رحل مثله إلى المشرق وأخذ عن مالك الفقه وعن نافع بن أبى نعيم مقرئ أهل المدينة قراءته للذكر الحكيم ، وأقرأ بها فى قرطبة ، ولقى الأصمعى ونظراءه (٢).

وأول نحاة الأندلس بالمعنى الدقيق لكلمة نحوى جودىّ (٣) بن عثمان المورورى

__________________

(١) الزبيدى ص ٢٧٥.

(٢) الزبيدى ص ٢٧٦.

(٣) الزبيدى ص ٢٧٨ ومعجم الأدباء ٧ / ٢١٣ وإنباه الرواة ١ / ٢٧١ وبغية الوعاة ص ٢١٣.

٢٨٨

الذى رحل إلى المشرق وتتلمذ للكسائى والفرّاء ، وهو أول من أدخل إلى موطنه كتب الكوفيين ، وأول من صنف به فى النحو ، وما زال يدرسه لطلابه حتى توفىّ سنة ١٩٨ للهجرة. وكان يعاصره أبو عبد الله (١) محمد بن عبد الله الذى رحل مثله إلى المشرق ، وأخذ عن عثمان بن سعيد المصرى ، المعروف باسم ورش ، قراءته ، وأدخلها إلى الأندلس ، وكان بصيرا بالعربية.

ويتكاثر هؤلاء القرّاء والمؤدبون فى القرن الثالث الهجرى ، ويتميز من بينهم عبد الملك (٢) بن حبيب السّلمى المتوفى سنة ٢٣٨ للهجرة ، وكان إماما فى الفقه والحديث والنحو واللغة ، وبين مصنفاته كتاب فى إعراب القرآن. ويعنى فى نفس القرن مفرج (٣) بن مالك النحوى بوضع شرح على كتاب الكسائى ، كما يعنى معاصره أبو بكر (٤) بن خاطب النحوى المكفوف بوضع كتاب فى النحو كانت له شهرة فى موطنه. ويذكر الزبيدى كثيرين كانوا يعنون بالشعر القديم والعباسى وشرحه للطلاب.

ويبدو أن الأندلس تأخرت فى عنايتها بالنحو البصرى وأنها صبّت عنايتها أولا على النحو الكوفى مقتدية بنحويّها الأول جودى بن عثمان ، حتى إذا أصبحنا فى أواخر القرن الثالث الهجرى وجدنا الأفشنيق (٥) محمد بن موسى ابن هاشم المتوفى سنة ٣٠٧ يرحل إلى المشرق ويلقى بمصر أبا جعفر الدينورى ، ويأخذ عنه كتاب سيبويه رواية ويقرؤه بقرطبة لطلابه. ويأخذ غير نحوى فى مدارسة الكتاب مثل أحمد (٦) بن يوسف بن حجاج المتوفى سنة ٣٣٦ وكان يضع دائما كتاب سيبويه بين يديه ولا ينى عن مطالعته فى حال فراغه وشغله وصحته وسقمه.

__________________

(١) الزبيدى ص ٢٩٣ وبغية الوعاة ص ٦٣.

(٢) انظر فى ترجمته الزبيدى ص ٢٨٢ وابن الفرضى ١ / ٢٢٥ والحميدى فى الجذوة ص ٣٦٢ والمغرب فى حلى المغرب (طبع دار المعارف) ٢ / ٩٦ وابن فرحون ص ١٥٤ وإنباه الرواة ٢ / ٢٠٦ وبغية الوعاة ص ٣١٢.

(٣) الزبيدى ص ٢٩٧ وبغية الوعاة ص ٣٩٦.

(٤) الزبيدى ص ٢٩٧ والبغية ص ٢٠٢.

(٥) الزبيدى ص ٣٠٥ وابن الفرضى ١ / ٣٢٩ وإنباه الرواة ٣ / ٢١٦ وبغية الوعاة ص ١٠٨.

(٦) الزبيدى ص ٣٢٤ وبغية الوعاة ص ١٧٥.

٢٨٩

ولا يلبث محمد (١) بن يحيى المهلبى الرّباحى الجيّانى المتوفى سنة ٣٥٣ للهجرة أن يفتتح عصر الاهتمام البالغ فى موطنه بكتاب سيبويه ، وكان قد ثقف الفلسفة والمنطق والكلام ، ورحل إلى المشرق فلقى بمصر نحويّها النابه أبا جعفر ابن النحاس ، وأخذ عنه كتاب سيبويه رواية ، وعاد إلى قرطبة يفرغ له ولقراءته على الطلاب ، شارحا له ومفسرا تفسيرا مبينا ، تسعفه دقة نظره ومنطقه وقدرته على الاستنباط وتحليل العبارات والغوص على العلل. ولم يكن يكتفى بقراءته لطلابه ، فقد كان يعقد لهم مجلسا فى كل جمعة للمناظرة فى مسائله ، ويقول الزبيدى فى بيان مكانته فى تاريخ النحو بالأندلس : «لم يكن عند مؤدبى العربية ولا عند غيرهم ممن عنى بالنحو كبير علم (بالعربية) حتى ورد محمد بن يحيى عليهم ، وذلك أن المؤدبين إنما كانوا يعانون إقامة الصناعة فى تلقين تلاميذهم العوامل وما شاكلها وتقريب المعانى لهم فى ذلك. ولم يأخذوا أنفسهم بعلم دقائق العربية وغوامضها والاعتلال لمسائلها ، ثم كانوا لا ينظرون فى إمالة ولا إدغام ولا تصريف ولا أبنية ، ولا يجيبون فى شىء منها ، حتى نهج لهم سبيل النظر وأعلمهم بما عليه أهل هذا الشأن فى المشرق من استقصاء الفن بوجوهه واستيفائه على حدوده وإنهم بذلك استحقوا الرياسة». ويقول القفطى : «لما ورد محمد بن يحيى (على قرطبة) أخد فى التدقيق والاستنباط والاعتراض والجواب وطرد الفروع إلى الأصول ، فاستفاد منه المعلمون طريقه ، واعتمدوا ما سنّه من ذلك».

وكان يعاصره فى قرطبه أبو على (٢) القالى البغدادى الذى نزل الأندلس فى سنة ٣٣٠ للهجرة لعهد عبد الرحمن الناصر وقاد فيها نهضة لغوية ونحوية خصبة ، كان معوّله فيها على قراءة ذخائر اللغة والشعر والنحو التى حملها معه من المشرق ، وكان مما حمله كتاب سيبويه أخذه عن ابن درستويه عن المبرد ، وكان يجنح إلى المذهب البصرى وينافح عنه مناظرا مجادلا.

__________________

(١) الزبيدى ص ٣٣٥ وابن الفرضى ١ / ٣٦٤ وبغية الملتمس للضبى ص ١٣٤ وإنباه الرواة ٣ / ٢٢٩ وبغية الوعاة ص ١١٣.

(٢) ابن الفرضى ١ / ٦٥ والزبيدى ص ٢٠٢ وبغية الملتمس ص ٢١٦ وفهرست ابن خير فى مواضع متفرقة والصلة لابن بشكوال رقم ٤ ، ٢٨٩ ، ١٣٧٦ والتكملة لابن الأبار رقم ٣٦٢ ومعجم الأدباء ٧ / ٢٥ والأنساب الورقة ٤٣٩ وإنباه الرواة ١ / ٢٠٤ وشذرات الذهب ٣ / ١٨ ومرآة الجنان ٢ / ٣٥٩ وبغية الوعاة ص ١٩٨.

٢٩٠

وخلفه هو والرباحى جيل من تلاميذهما مضى يعكف على مدارسة كتاب سيبويه وكتب غيره من البصريين والكوفيين ، من أهمهم أبو بكر (١) بن القوطية المتوفى سنة ٣٦٧ للهجرة تلميذ القالى وصاحب كتاب الأفعال وتصاريفها المنشور فى ليدن ، ومحمد (٢) بن الحسن الزبيدى المتوفى سنة ٣٧٩ تلميذ القالى أيضا ومؤلف كتاب طبقات النحويين واللغويين الذى يتردد ذكره فى هوامش هذا الكتاب ، وله مصنف فى النحو سماه «الواضح». وأبو عبد الله (٣) محمد بن عاصم العاصمى المتوفى سنة ٣٨٢ تلميذ الرباحى وحامل روايته لكتاب سيبويه وكان لا يقل عن أصحاب المبرد بصرا بالعربية ودقائقها الخفية. وأحمد (٤) بن أبان المتوفى سنة ٣٨٢ ، وله شرحان على كتابى الكسائى والأخفش. ولعل فى ذكر الكسائى ما يدل على أن الأندلس ظلت تعنى بالنحو الكوفى بجانب عنايتها بالنحو البصرى. ومن هذا الجليل هرون (٥) بن موسى القرطبى النحوى المتوفى سنة ٤٠١ وله تصنيف فى تفسير عيون كتاب سيبويه. ويلقانا فى أوائل عصر ملوك الطوائف نحاة مختلفون ، من أشهرهم ابن الإفليلى (٦) المتوفى سنة ٤٤١ وكان متصدرا بقرطبة لإقراء الطلاب ، وكان يقرئهم فيما يقرئ كتاب سيبويه ، رواية عن العاصمى تلميذ الرباحى. وأشهر منه وأنبه ابن سيده (٧) الضرير

__________________

(١) ابن الفرضى ١ / ٣٧٠ وبغية الملتمس ص ١٠٢ وابن خلكان ١ / ٥١٢ والديباج المذهب ص ٢٨٢ ومعجم الأدباء ١٨ / ٢٧٣ وإنباه الرواة ٣ / ١٧٨ وبغية الوعاة ص ٨٤.

(٢) ابن الفرضى ١ / ٣٨٣ والجذوة للحميدى ص ٤٣ ومطمح الأنفس لابن خاقان ص ٥٣ ويتيمة الدهر ٢ / ٦١ ومعجم الأدباء ١٨ / ١٧٩ وابن خلكان ١ / ٥١٤ والمغرب ١ / ٢٥٠ وبغية الوعاة ص ٣٤.

(٣) ابن الفرضى ٢ / ٧٦ وبغية الملتمس ١٠٧ وإنباه الرواة ٣ / ١٩٧ وبغية الوعاة ص ٥٠.

(٤) بغية الملتمس ١٥٩ والصلة ٧ ومعجم الأدباء ٢ / ٢٠٣ وإنباه الرواة ١ / ٣٠ وبغية الوعاة ١٢٦.

(٥) الصلة لابن بشكوال ٢ / ٥٩٥ وإنباه الرواة ٣ / ٣٦٢ وبغية الوعاة ص ٤٠٦.

(٦) الصلة ١ / ٩٣ والذخيرة لابن بسام (طبع جامعة القاهرة) المجلد الأول من القسم الأول ص ٢٤٠ وبغية الملتمس ص ٩٩ والمغرب ١ / ٧٢ ومعجم الأدباء ٢ / ٤ وإنباه الرواة ١ / ١٨٣ وابن خلكان ١ / ١٢ وبغية الوعاة ص ١٨٦.

(٧) جذوة المقتبس للحميدى ص ٢٩٣ والمطمح لابن خاقان ص ٦٠ وبغية الملتمس ص ٤٠٥ والصلة ص ٤١٠ ومعجم الأدباء ١٢ / ٢٣١ والمغرب ٢ / ٢٥٩ وابن فرحون ص ٢٠٤ وبغية الوعاة ص ٣٢٧.

٢٩١

المتوفى سنة ٤٤٨ «ولم يكن فى زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها». وله أكبر معجم مؤلف حسب المعانى هو المخصص المطبوع بالقاهرة فى سبعة عشر مجلدا ، وقد صبغ مباحثه فيه بصبغة نحوية وصرفية واسعة ، ويعلن ذلك فى أوائله ، إذ يقول : «ومن طريف ما أودعته إياه بغاية الاستقصاء ونهاية الاستقراء وإجادة التعبير والتأنق فى محاسن التحبير الممدود والمقصور والتأنيث والتذكير وما يجىء من الأسماء والأفعال على بناءين وثلاثة فصاعدا وما يبدل من حروف الجر بعضها مكان بعض». وتعنى الجامعة العربية الآن بنشر معجمه المسمى بالمحكم المرتب حسب مخارج الحروف على طريقه معجم العين للخليل ، وهو فى نحو عشرين مجلدا ، ويصرّح فى فواتحه بما أضاف إليه من مواد نحوية كثيرة ، يقول : «أما ما نثرت عليه من كتب النحويين المتأخرين المتضمنة لتعليل اللغة فكتب أبى على الفارسى : الحلبيات والبغداديات والأهوازيات والتذكرة والحجة والأغفال والإيضاح .. وكتب أبى الفتح عثمان بن جنى كالمعرب والتمام وشرحه لشعر المتنبى والخصائص وسر الصناعة والتعاقب والمحتسب».

وفى ذلك الدلالة البينة على أننا لا نصل إلى ابن سيده حتى ينغمس نحاة الأندلس فى النحو البغدادى بجانب انغماسهم فى النحو البصرى والكوفى ، ويكون ذلك إيذانا بأن تتضح شخصيتهم فى النحو ودراساته ، فقد تعمقوا فى مصنفاته على مر العصور وتعمقوا فى اتجاهاته.

٢

فى اتجاه المدرسة البغدادية وكثرة التعليلات والآراء

أخذت دراسة النحو تزدهر فى الأندلس منذ عصر ملوك الطوائف ، فإذا نحاتها يخالطون جميع النحاة السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين ، وإذا هم ينتجهون نهج الأخيرين من الاختيار من آراء نحاة الكوفة والبصرة ، ويضيفون إلى ذلك اختيارات من آراء البغداديين وخاصة أبا على الفارسى وابن جنى. ولا

٢٩٢

يكتفون بذلك ، بل يسيرون فى اتجاههم من كثرة التعليلات والنفوذ إلى بعض الآراء الجديدة ، وبذلك يتيحون لمنهج البغداديين ضروبا من الخصب والنماء.

ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن الأعلم (١) الشنتمرى المتوفى سنة ٤٧٦ للهجرة هو أول من نهج لنحاة الأندلس فى قوة هذا الاتجاه ، فقد كان لا يكتفى فى الأحكام النحوية بالعلل الأولى التى يدور عليها الحكم مثل أن كل مبتدأ مرفوع ، بل كان يطلب علة ثانية لمثل هذا الحكم يوضح بها لماذا رفع المبتدأ ولم ينصب ، يقول ابن مضاء : وكان الأعلم ـ رحمه‌الله ـ على بصره بالنحو مولعا بهذه العلل الثوانى ، ويرى أنه إذا استنبط منها شيئا فقد ظفر بطائل» (٢). وكان ما يزال يختار لنفسه من آراء البصريين والكوفيين والبغداديين ، من ذلك اختياره رأى السيرافى البصرى فى أن «من» أتى مرادفة لربما إذا اتصلت بما ، وبذلك خرّجا عبارة سيبويه فى الكتاب : «واعلم أنهم مما يحذفون كذا» (٣). ومن ذلك اختياره رأى الفرّاء إمام الكوفة فى أن الفاء قد تزاد فى الخبر إذا كان أمرا أو نهيا فقط مثل «زيد فكلّمه» و «زيد فلا تكلمه» (٤). وكان يخرّج ما ذهب إليه الكسائى من أن العرب تقول «فإذا هو إياها» فى مثل العبارة «كنت أظن أن العقرب أشدّ لسعة من الزّنبور فإذا هو هى» على أن إياها مفعول مطلق ، والأصل فإذا هو يلسع لسعتها ، ثم حذف الفعل كما تقول «ما زيد إلا شرب الإبل» ثم حذف المضاف (٥). وواضح ما فى ذلك من تقدير بعيد. وكان بعض النحاة يذهب إلى أن رحمانا فى مثل «تبارك رحمانا» تمييز ، وذهب الأعلم إلى أنه علم منصوب بإضمار أخص ، وصوّب رأيه ابن هشام (٦). وكان يذهب إلى أن الاستئناف مع الفاء العاطفة قد يكون على معنى السببية ، فينتفى الثانى لانتفاء الأول ، وبذلك خرّج قراءة السبعة : (لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) فالفاء فاء الاستئناف والفعل وراءها منفى لا مثبت (٧). وكان سيبويه ـ وتبعه المبرد وابن السراج وهشام

__________________

(١) الصلة رقم ١٣٩١ ونفح الطيب (طبعة أوربا) ٢ / ٤٧١ ومعجم الأدباء ٢٠ / ٦١ وابن خلكان ٢ / ٤٦٥ وبغية الوعاة ص ٤٢٢.

(٢) الرد على النحاة لابن مضاء (طبع دار الفكر العربى) ص ١٦٠.

(٣) المغنى ص ٣٥٧.

(٤) المغنى ص ١٧٩.

(٥) المغنى ص ٩٦.

(٦) المغنى ص ٥١٤.

(٧) المغنى ص ٥٣٤.

٢٩٣

من الكوفيين ـ يمنع العطف على معمولى عاملين مثل «فى الدار زيد والحجرة عمرو» و «فى الدار زيد وعمرو الحجرة» بعطف الحجرة على الدار بالجر وعمرو على زيد بالرفع. وأجاز ذلك الأخفش والكسائى والفراء والزجاج من البصريين. وفصّل القاعدة الأعلم ، فقال إن ولى المخفوض حرف العطف كالمثال الأول جاز ، لمجيئه فى السماع ، ولأن المتعاطفات تعادلت فيه ، وإلا امتنع كما فى المثال الثانى (١).

ونرى الأعلم يشرح كتاب الجمل للزجاجى البغدادى ، وروايته للدواوين الستة الجاهلية : دواوين امرئ القيس. وزهير ، والنابغة ، وعلقمة ، وطرفة ، وعنترة مسندة إلى الأصمعى مشهورة. وأهم من ذلك أنه روى كتاب سيبويه عن ابن الإفليلى ، وأقرأه لطلابه مبصرا لهم بدقائقه ، مذللا صعابه ، محللا مشاكله تحليلا واسعا. ويتوافر الأندلسيون من حوله ومن بعده على هذا الكتاب حتى يشتهر فى العالم العربى أن بيئة عربية لا تبلغ بيئة الأندلس فى تحرير نصّه وكشف غوامضه ، مما جعل الزمخشرى يرحل فى شبيبته من خوارزم إلى مكة لقراءته على نحوى أندلسى كان مجاورا بها هو عبد (٢) الله بن طلحة المتوفى سنة ٥١٨ للهجرة. وكان يعاصره ثلاثة من أعلام النحاة الأندلسيين عاشوا جميعا فى عصر المرابطين ، وهم أبو محمد ابن السّيد وابن الباذش وابن الطّراوة.

أما ابن (٣) السيد فهو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوس النحوى المتوفى سنة ٥٢١ كان يقرئ الطلاب فى قرطبة ثم فى بلنسية النحو ، وعنى بكتاب الجمل للزجاجى ، فكتب كتابا فى إصلاح الخلل الواقع فيه بسبب إيجازه الشديد وآخر فى شرح أبياته. وصنف فى النحو كتابا سماه «المسائل والأجوبة» (٤). وتدور له فى كتب النحاة آراء مختلفة ، منها ما يتابع فيه سيبويه مثل أن ما إذا

__________________

(١) المغنى ص ٥٣٩.

(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ٤ / ٣٧٢ وانظر فى ترجمة عبد الله بن طلحة بغية الوعاة ص ٢٨٤.

(٣) راجع فى ترجمة ابن السيد الصلة ١ / ٢٨٧ وأزهار الرياض للمقرى ٣ / ١٠١ وإنباه الرواة ٢ / ١٤١ وقلائد العقيان لابن خاقان ص ٩٣ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٤٤٩ والديباج المذهب ص ١٤٠ وشذرات الذهب ٤ / ٦٤ وبغية الوعاة ص ٢٨٨.

(٤) انظر فى كتاب الأشباه والنظائر ٣ / ٧٣ بعض مسائل منه.

٢٩٤

اتصلت بقلّ كفّتها عن العمل ولا تدخل حينئذ إلا على جملة فعلية ، أما ظهور الفاعل بعدها فى بعض الأشعار فضرورة (١). ومنها ما يتابع فيه الكوفيين مثل أنّ «كأنّ» لا تفيد التشبيه إلا إذا كان خبرها جامدا مثل كأن محمدا أسد (٢). وكان يتابع الكسائى فى أن زيدا فى مثل «أنا زيد ضربته» يجوز فيها الرفع والنصب على الاشتغال (٣). وتابع ابن جنى فى أن الرجل فى مثل «مررت بهذا الرجل» عطف بيان لا نعت (٤). ومما انفرد به عن سابقيه من النحاة أن «حتى» لا تعطف المفردات فقط بل تعطف أيضا الجمل مثل «سريت حتى تكلّ المطايا» برفع تكلّ (٥). ومن آرائه الدقيقة أن «ما» تقع صفة للتعظيم كقولهم «لأمر ما يسود من يسود» أى لأمر عظيم ومنه (الحاقّة ما الحاقّة) (٦). وكان يكثر من التخريجات فى الإعراب ، من ذلك ذهابه إلى أن ما بعد إلا فى مثل «ما قام إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا أحد» يجوز فيه أربعة أوجه : النصب على الاستثناء كما نص عليه النحويون ، والنصب على الحال ، وجعل الأول حالا وما يليه استثناء ، والعكس (٧). وخطّأ من يعرب «أن» فى قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مصدرية وهى وما بعدها عطف بيان من الضمير فى (به) لأن الضمير لا ينعت ولا يعطف عليه عطف بيان ، إنما هى فى الآية تفسيرية للقول على تأويله بالأمر (٨).

وابن (٩) الباذش هو على بن أحمد بن خلف الأنصارى الغرناطى المتوفى سنة ٥٢٨ ه‍ كان ذا معرفة واسعة بعلم العربية ، وصنّف شروحا على كتب مختلفة للبصريين والبغداديين مثل كتاب سيبويه وكتاب المقتضب للمبرد وأصول ابن السراج وجمل الزجاجى وإيضاح الفارسى. ومما ذهب فيه مذهب سيبويه أنه

__________________

(١) المغنى ص ٣٣٩.

(٢) المغنى ص ٢٠٩.

(٣) الهمع ٢ / ١١٣.

(٤) المغنى ص ٦٣١.

(٥) المغنى ص ١٣٦.

(٦) الهمع ١ / ٩٢.

(٧) الهمع ١ / ٢٢٨.

(٨) المغنى ص ٣٠ ، ٦٣٦.

(٩) انظر فى ترجمة ابن الباذش بغية الملتمس ص ٤٠٦ وإنباه الرواة ٢ / ٢٢٧ والديباج المذهب ص ٢٠٥ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٥١٨ وبغية الوعاة ص ٣٢٦.

٢٩٥

لا يجوز حذف المفاعيل الثلاثة فى باب أعلم لغير دليل (١). وكان يذهب مذهب السيرافى البصرى فى أن «غير» فى مثل «قام القوم غير على» منصوبة على التشبيه بظرف المكان (٢). وذهب مذهب أبى على الفارسى فى أن ناصب المفعول معه فى مثل «قمت وطلوع الشمس» هو الفعل معدى إليه بواسطة الواو (٣). وكان يأخذ برأى ابن جنى فى أن «إذ» فى مثل «فبينما العسر إذ دارت مياسير» ظرف عامله الفعل التالى له ، وعامل بينما محذوف يفسره الفعل المذكور (٤). وذهب كثير من النحاة إلى أن المخصوص فى مثل «نعم الرجل محمد» يجوز أن يكون خبرا ومبتدؤه محذوف ، وحتّم أن يكون المخصوص مبتدأ وما قبله خبر ، ويقول ابن هشام إنه ظاهر قول سيبويه (٥). ومما خالف فيه سابقيه من النحاة ذهابه إلى أن لام المستغاث لأجله فى مثل «يا لزيد لعمرو» متعلقة باسم محذوف تقديره مدعوّا لعمرو ، وكان ابن جنى يذهب إلى أنها متعلقة مع مجرورها بيا (٦). وكان يذهب إلى أن المضارع فى مثل «الهندان هما تفعلان» يجوز فيه التذكير والتأنيث أو بعبارة أخرى أن يبدأ بالتاء أو الياء حملا على اللفظ أو المعنى (٧).

أما ابن (٨) الطراوة فهو سليمان بن محمد بن الطراوة المتوفى سنة ٥٢٨ ه‍ وهو نحوىّ مدينة المريّة وتلميذ الأعلم الشنتمرى ، كان علما فى العربية لعصره وتجوّل فى مدن الأندلس معلما يقبل عليه الطلاب من كل فجّ ، ومن مصنفاته فى النحو المقدمات على كتاب سيبويه. ويبدو أنه كان يقابله كثيرا على كتب الكوفيين والبغداديين منحازا إليهما ، أو بعبارة أدق متوسعا فى الاختيار من آرائهما. ومما اختاره من مذهب الكوفيين أن المعرفة أصل والنكرة فرع ، وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى العكس (٩). وذهب البصريون إلى أنه إذا تصدرت فى الجملة ظن وأخواتها لا يجوز إلغاء عملها بدون موجب للإلغاء ، وجوّز ذلك الكوفيون والأخفش

__________________

(١) الهمع ١ / ١٥٨.

(٢) المغنى ص ١٧١ والهمع ١ / ٢٣١.

(٣) الهمع ١ / ٢٢٤.

(٤) الهمع ١ / ٢٠٥.

(٥) المغنى ص ٦٦٧.

(٦) المغنى ص ٢٤٢.

(٧) الهمع ٢ / ١٧١.

(٨) انظر فى ترجمة ابن الطراوة بغية الملتمس ص ٢٩٠ والتكملة لابن الأبار ص ٧٠٤ وكتابه التحفة رقم ٤ والمغرب ٢ / ٢٠٨ وبغية الوعاة ص ٢٦٣.

(٩) الهمع ١ / ٥٥.

٢٩٦

وتابعهم ابن الطراوة إلا أن الإعمال عنده أحسن ، واستدلوا بمثل قول القائل : «وما إخال لدينا منك تنويل» (١). واشترط البصريون تنكير التمييز وذهب الكوفيون وتابعهم ابن الطراوة إلى أنه يجوز أن يكون معرفة ، لمجىء ذلك فى الشعر والنثر ، مثل : «وطبت النفس يا قيس بن عمرو» وقول العرب : سفه زيد نفسه (٢). وذهب البصريون إلى أن «ربّ» حرف تقليل ، وذهب الكوفيون ، وتابعهم ابن الطراوة ، إلى أنها اسم مبنى ، لأنها فى التقليل مثل «كم» فى التكثير وهى اسم بالإجماع (٣). ومما اختاره من آراء الفارسى أن أبا فى قولهم : «لا أبا لك» مفردة جاءت على لغة القصر والمجرور باللام هو الخبر (٤) ، وأن «على» التى ذهب الجمهور إلى أنها حرف جر هى اسم معرب ، لأنه لا يظهر فيها علامة البناء من شبه الحرف ، إذ لا حرف فى معناها (٥). وعلى ضوء من فكرة التضمين التى أطال ابن جنى القول فيها وجّه مجىء استغفر متعدية إلى مفعول واحد فى قولك «استغفرت الله من الذنب» لتضمنها معنى استتبت (٦). وله آراء مختلفة تفرد بها مخالفا النحاة ، من ذلك أن ضمير الشأن فى مثل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و «إنه محمد مسافر» حرف وليس اسما (٧) ، وأن أيّا فى مثل قوله جلّ شأنه : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) مبنية لاقتطاعها عن الإضافة ، و (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) مبتدأ وخبر ، والنحاة يجمعون على أن أيا إذا اقتطعت عن الإضافة أعربت (٨). ومما خالف فيه النحاة أن قعودا فى مثل «قعد قعودا» ليست مفعولا مطلقا ، وإنما هى مفعول به لفعل محذوف لا يجوز إظهاره (٩) ، وأن جواب لو لا فى مثل «لولا على لسافرت» هو خبر المبتدأ التالى لها (١٠). وكان يذهب إلى أن عسى ليست من النواسخ (١١).

ويكثر فى عصر الموحدين النحاة الذين عنوا بشرح كتاب سيبويه

__________________

(١) الهمع ١ / ١٥٣.

(٢) الهمع ١ / ٢٥٢ وقابل بالرضى على الكافية ١ / ٢٠٥.

(٣) الهمع ٢ / ٢٥ وقابل بالرضى على الكافية ٢ / ٣٠٧.

(٤) الهمع ١ / ١٤٥.

(٥) الهمع ٢ / ٢٩.

(٦) المغنى ص ٥٧٧.

(٧) الهمع ١ / ٦٧ وقارن بالرضى على الكافية ٢ / ٢٥.

(٨) المغنى ص ٨٢.

(٩) الهمع ١ / ١٨٧.

(١٠) المغنى ص ٣٠٣.

(١١) الأشباه والنظائر ٣ / ٦.

٢٩٧

وإقرائه للطلاب وفك معمياته مثل ابن (١) الرمّاك المتوفّى سنة ٥٤١ لأول عهد الموحدين بالأندلس ، وهو تلميذ ابن الطراوة ، ومثل الأقليشى (٢) المتوفى سنة ٥٥٠ تلميذ أبى محمد بن السّيد ، ومثل جابر (٣) الإشبيلى الحضرمى المتوفى سنة ٥٩٦ تلميذ ابن الرماك ، وتلميذه أبو بكر محمد (٤) بن طلحة المتوفى سنة ٦١٨ وكان يميل إلى آراء ابن الطراوة ويحتجّ لها. وأنبه من هؤلاء أبو بكر بن طاهر وأبو القاسم السّهيلى والجزولى وابن خروف ، ولا نمضى فى القرن السابع الهجرى طويلا حتى يظهر عمر بن محمد الشلوبين وابن هشام الخضراوى.

وابن (٥) طاهر هو محمد بن أحمد بن طاهر المتوفى فى عشر الثمانين وخمسمائة ، وهو تلميذ ابن الرّماك ، اشتهر بتدريسه لكتاب سيبويه ، وله عليه حواش اعتمدها تلميذه ابن خروف فى شرحه للكتاب ، وله أيضا تعليق على كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى. وله اختيارات مختلفة من مذاهب النحاة السابقين ، من ذلك اختياره رأى سيبويه وابن الباذش فى أنه لا يجوز حذف أحد مفاعيل أعلم بدون دليل (٦) ، واختار رأى السيرافى والأعلم الشنتمرى فى أن «مما» قد تأتى مرادفة لربما (٧) ، وكذلك رأى السيرافى فى أنه يجوز أن يعمل الفعل فى مصدرين : مؤكد ومبين مثل «ضربت ضربتين ضربا شديدا» (٨). وكان الكوفيون يذهب إلى أنه لا تقدير مع الظرف فى مثل «محمد عندك» وأنه منصوب على الخلاف بينما قدره البصريون متعلقا بفعل أو اسم محذوف ، وذهب ابن طاهر إلى أنه لا تقدير فيه إلا أنه جعل ناصبه المبتدأ لا المتعلق المحذوف (٩). وكان يذهب مذهب أبى على الفارسى فى أن نون المثنى وجمع المذكر السالم عوض عن التنوين والحركة فى المفرد (١٠) ،

__________________

(١) انظر فيه البغية للسيوطى ص ٣٠١.

(٢) انظر فيه إنباه الرواة ١ / ١٣٦ وبغية الوعاة ص ١٧١.

(٣) انظره فى البغية للسيوطى ص ٢١١.

(٤) راجعه فى البغية ص ٤٩ والمغرب ١ / ٢٥٣ والتكملة لابن الأبار ص ٣١٩. وروى السيوطى فى الأشباه والنظائر أنه كان يذهب إلى أن المضارع المتصل بنون النسوة باق على إعرابه وليس مبنيا وهو فى الواقع يتابع السهيلى فى ذلك.

انظر شرح التصريح على التوضيح ١ / ٥٦.

(٥) انظر فى ترجمته بغية الوعاة ص ١٢.

(٦) الهمع ١ / ١٥٨.

(٧) المغنى ص ٣٥٧.

(٨) الهمع ١ / ١٨٨.

(٩) المغنى ص ٤٨٤.

(١٠) الهمع ١ / ٤٨.

٢٩٨

وكذلك فى أنه إذا اجتمع معرفتان فى باب كان فأيتهما شئت جعلتها الاسم والثانية الخبر (١). ومما انفرد به أن الشرّ فى مثل «إياك والشرّ» منصوب بفعل محذوف تقديره احذر الشر (٢) ، وأنه إذا أضيفت «ويح» لزمت النصب ، وإذا أفردت فى مثل «ويح له» جاز فيها الرفع والنصب مع قوة الأول وضعف الثانى لأنها مصدر لا فعل له (٣).

أما السّهيلى (٤) فهو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الضرير صاحب كتاب الروض الأنف فى شرح السيرة النبوية المتوفّى سنة ٥٨١ للهجرة ، وهو تلميذ ابن الطراوة وابن طاهر. وكان بارعا فى العربية والتفسير وعلم الكلام. ومن كتبه المتصلة بالدراسات النحوية كتابه «نتائج الفكر» واشتهر بأنه صاحب استنباطات دقيقة وأنه كان يشغف بالعلل النحوية واختراعها على شاكلة الأعلم الشنتمرى حتى ليقول ابن مضاء : إنه كان يولع بها ويخترعها ويعتقد ذلك كما لا فى الصنعة وبصرا بها (٥). وتدور له فى كتب النحو اختيارات مختلفة من مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين ، من ذلك أنه كان يرى رأى المبرد فى أن التعدية بالباء الجارة تخالف التعدية بالهمزة ، فإذا قلت «ذهبت بزيد» كنت مصاحبا له فى الذهاب بخلاف قولك «أذهبت زيدا» معديا للفعل ذهب بالهمزة (٦). وكان يذهب مذهب ابن درستويه البصرى فى أن نائب الفاعل فى مثل «مرّ بزيد» ليس الجار والمجرور وإنما هو ضمير مستتر عائد على المصدر المفهوم من الفعل والتقدير «مرّ هو» أى المرور (٧). وكان يذهب مذهب الكسائى وهشام فى أن فاعل الفعل الأول فى مثل «ضربنى وضربت زيدا» محذوف (٨) وكان ينكر مع الفرّاء أن تأتى الحال مؤكدة وأنها فى مثل «فتبسم ضاحكا» مبينة لا مؤكدة (٩). ومما ذهب

__________________

(١) الهمع ١ / ١١٨.

(٢) الهمع ١ / ١٦٩.

(٣) الهمع ١ / ١٨٩.

(٤) انظر فى ترجمة السهيلى بغية الملتمس ص ٣٥٤ وابن خلكان ١ / ٢٨٠ والمغرب ١ / ٤٤٨ وابن فرحون ص ١٥٠ وإنباه الرواة ٢ / ١٦٢ وطبقات القراء ١ / ٣٧١ وشذرات الذهب ٤ / ٢٧١ وبغية الوعاة ص ٢٩٨ ومرآة الجنان ٣ / ٤٢٢.

(٥) الرد على النحاة لابن مضاء ص ١٦٠.

(٦) المغنى ص ١٠٧ والهمع ٢ / ٨٢.

(٧) الهمع ١ / ١٦٣.

(٨) المغنى ص ٦٧٣.

(٩) الهمع ١ / ٢٤٥.

٢٩٩

فيه مذهب الكوفيين أن إنّ وأخواتها لا تعمل فى الخبر ، بل هو باق على رفعه قبل دخولها عليه ، وكان يحتج لذلك بأنها أضعف من الأفعال فلا تعمل عملها (١). وكأن يأخذ برأى الكوفيين والبغداديين جميعا فى أن النكرة لا يجوز أن تبدل من المعرفة إلا إذا وصفت مثل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) محتجّا بأنها إن لم توصف لم تفد أى فائدة مثل «مررت بزيد برجل» (٢). ومن آرائه التى كان يتابع فيها سيبويه أن «أنّ» المفتوحة وما بعدها لا تؤوّل بمصدر وإنما تؤول بالحديث بخلاف أن الناصبة للمضارع فإنها تؤول معه بمصدر (٣). وكان ينكر أن مفعولى ظن وأخواتها أصلهما مبتدأ وخبر (٤) ، وكان يذهب إلى أن مهما قد تأتى حرفا كقول زهير :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

مستدلا بأنها فى البيت لا محل لها لأن «تكن» معها اسمها وخبرها (٥). وذهب إلى أن «لا» العاطفة إنما تقع بين متعاندين مثل «جاء رجل لا امرأة» ، بخلاف «جاء رجل لا زيد» لصدق اسم الرجل عليه (٦) ، كما ذهب إلى أن الاستفهام التقريرى فى مثل (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) خبر موجب (٧). وكان يرى أنه يحسن عطف الاسم على الفعل مثل : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) ويقبح العكس أى عطف الفعل على الاسم (٨) وذهب إلى أن لا الناهية فى مثل لا تضرب هى النافية والفعل مجزوم بلام مقدرة (٩) ، وهو تكلف واضح ، كما ذهب إلى أن أصل «الذى» ذو بمعنى صاحب ، يقول السيوطى : «قدر لذلك تقديرات فى غاية التعسف والتكلف» (١٠).

وعيسى (١١) الجزولى المتوفى سنة ٦٠٧ مغربى من قبيلة جزولة البربرية ، حجّ ،

__________________

(١) الهمع ١ / ١٣٤.

(٢) الهمع ٢ / ١٢٧.

(٣) المغنى ص ٣٩ والهمع ١ / ١٣٧.

(٤) الهمع ١ / ١٥١.

(٥) المغنى ص ٣٦٧.

(٦) الهمع ٢ / ١٣٧.

(٧) المغنى ص ١٢١.

(٨) الهمع ٢ / ١٤٠.

(٩) المغنى ص ٢٧٤.

(١٠) الهمع ١ / ٨٢.

(١١) انظر فى ترجمة الجزولى إنباه الرواة ٢ / ٣٧٨ وابن خلكان ١ / ٣٩٤ وشذرات الذهب ٥ / ٢٦ وبغية الوعاة ص ٣٦٩.

٣٠٠