المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

الكوفى والبصرى ، بل يشكلها أيضا أنه كان يجتهد وينفرد بآراء لم يسبق إليها ، من ذلك أن سيبويه وجمهور البصريين كانوا يذهبون إلى أن العامل فى المعطوف هو العامل فى المعطوف عليه فمثل كلمت محمدا وعليّا انتصب محمد وعلى جميعا بكلمت. وذهب ابن السراج إلى أن حرف العطف هو العامل ، أما أبو على فرأى أن العامل فى المعطوف فعل محذوف بعد أداة العطف لأن الأصل فى مثل كلمت محمدا وعليّا كلمت محمدا وكلمت عليّا ، فحذف الفعل بعد الواو لدلالة الأول عليه ، بدليل أنه يجوز إظهاره (١). وكان سيبويه يذهب إلى أن ناصب المنادى فعل محذوف تقديره أنادى أو أدعو ، وذهب المبرد إلى أن ناصبه حرف النداء يا وأخواتها لنيابتها عن الفعل ، وذهب أبو على الفارسى إلى أن أدوات النداء ليست حروفا وإنما هى أسماء أفعال (٢) ، وأن المنادى مشبه بالمفعول به (٣). ومرّ بنا فى غير هذا الموضع اختلاف النحاة فى إعراب الأسماء الخمسة ، فقد كان سيبويه يرى أنها معربة بحركات مقدرة فى الحروف ، وقال الكوفيون إنها معربة بالحركات على ما قبل حروف العلة ، ووافقهم المازنى إلا أنه قال إن تلك الحروف ناشئة عن إشباع الحركات ، وقال قطرب من البصريين وهشام من الكوفيين إن حروف العلة نابت عن الحركات ، وقال الجرمى انقلاب تلك الحروف هو الإعراب ، وذهب أبو على الفارسى إلى أنها حروف إعراب دالة عليه (٤). وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن الأفعال الخمسة ترفع بالنون وتنصب وتجزم بحذفها ، وقال الأخفش هى معربة بحركات مقدرة على ما قبل الألف فى مثل يكتبان والواو والنون ، وقال أبو على هى معربة ولا يوجد بها حرف إعراب ، لا النون لأنها تسقط فى النصب من الجزم ولا الألف والواو والياء لأنها ليست فى آخرها ، ولأنها ضمائر متصلة بها (٥). وكان سيبويه يذهب إلى أن «حتى» يتعين نصب المضارع بعدها إذا وليت فعلا غير موجب مثل «ما سرت حتى أدخل

__________________

(١) ابن يعيش ٨ / ٨٩ والرضى ١ / ١١٩.

(٢) ابن يعيش ١ / ١٢٧ والرضى ١ / ١٢٩.

(٣) الهمع ١ / ١٧١.

(٤) الرضى ١ / ٢٤.

(٥) الهمع ١ / ٥١.

٢٦١

المدينة» وجوز الفارسى الرفع بعدها فى جميع الأحوال بدون استثناء (١). وذهب البصريون إلى أن الخبر إذا كان ظرفا أو جارّا ومجرورا تعلّق بفعل أو اسم فاعل محذوف هو الخبر ، ومر بنا أن الكوفيين كانوا يرون أن الظرف فى مثل محمد عندك منصوب بالخلاف ، وذهب أبو على الفارسى مستضيئا برأى ابن السراج الذى مر بنا إلى أن الجار والمجرور والظرف هما الخبر وليس هناك عامل محذوف معلقان به (٢). وكان الجمهور يمنع العطف على محل المجرور فى مثل مررت بزيد وعمرو فلا يقال عمرا بالنصب ، وأجاز ذلك الفارسى (٣). ومنع الجمهور إتباع فاعل نعم وبئس بالنعت مثل لنعم الفتى المدعو للحرب على ، وأجازه الفارسى (٤).

وكان سيبويه يذهب إلى أن ما فى مثل غسلته غسلا نعمّا معرفة بمعنى الشىء فهى فاعل لنعم ، وذهب الفارسى إلى أنها نكرة تامة بمعنى شىء وأنها تمييز لفاعل نعم المستتر (٥) ، وكان يذهب إلى أن «من» أيضا فى باب نعم نكرة تامة تمييز لفاعل نعم المستتر مثل : «نعم من هو فى سر وإعلان» ولم يوافقه أحد من النحاة فى هذا الرأى ، إذ يجمعون على أنها موصولة فاعل لنعم (٦). وذهب سيبويه والجمهور إلى أن أمّا فى قول بعض الشعراء :

أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإن قومى لم تأكلهم الضّبع

مركبة من أن المصدرية وما المزيدة والأصل لأن كنت ، فحذف الجار وكان للاختصار فانفصل الضمير لحذف ما يتصل به وزيدت ما عوضا عن كان ، وأدغمت النون فى الميم للتقارب ، وبذلك يكون المرفوع بعدها اسما لكان المحذوفة والمنصوب خبرها ، وذهب أبو على إلى أن ما الزائدة هى الرافعة الناصبة لكونها عوضا من الفعل فنابت منابه (٧). ولم يثبت النحاة ما الزمانية وأثبتها أبو على مستدلا بقوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم (٨).

وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن الدار والمسجد فى مثل دخلت الدار والمسجد منصوبان على الظرفية ، وذهب الأخفش ـ كما مر بنا ـ إلى أنهما

__________________

(١) الهمع ٢ / ٩.

(٢) الهمع ١ / ٩٩.

(٣) الخصائص ٢ / ٣٥٣ والهمع ٢ / ١٤١

(٤) الهمع ٢ / ٨٥.

(٥) المغنى ص ٣٢٨ والهمع ١ / ٢٥٠.

(٦) المغنى ص ٤٨٨ والهمع ١ / ٩٢.

(٧) المغنى ص ٤٨٩ والهمع ١ / ١٢٢.

(٨) المغنى ص ٣٣٥.

٢٦٢

مفعولان به ، وتوسط الفارسى ذاهبا إلى أن «فى» حذفت ، فنصبا على المفعولية اتساعا وتجوزا (١). وذهب الجمهور إلى أن «غير» محمولة فى الاستثناء على ما بعد إلا فحكمها حكمه ، وذهب الفارسى إلى أنها منصوبة على الحال فى مثل جاء القوم غير على (٢). والجمهور يذهب إلى أن لا فى مثل «لا سيما محمد» نافية للجنس وسى اسمها بمعنى مثل وما زائدة والخبر محذوف ، وذهب الأخفش إلى أن ما خبر لا وذهب أبو على فى كتابه «الهيتيات» نسبة إلى هيت بلدة بالعراق إلى أن لا فى مثل قام القوم لا سيما محمد مهملة وسى حال أى قاموا غير مماثلين لزيد فى القيام (٣). وذهب الجمهور فى مثل لا أبالك ولا أخا لك إلى أن أبا اسم لا النافية للجنس واللام فى لك زائدة وأبا مضاف إلى الكاف ومثلها أخا والخبر محذوف ، وذهب هشام من الكوفيين وابن كيسان من البغداديين إلى أن أبا محذوف ، وذهب هشام من الكوفيين وابن كيسان من البغداديين إلى أن أبا وأخا غير مضافين ولكنهما عوملا معاملة المضاف فى الإعراب ، ولك فى موضع الصفة لهما والخبر محذوف ، بينما ذهب الفارسى إلى أن أبا وأخا فى العبارتين جاءتا على لغة القصر وإلزام الأب والأخ الألف ، ولك هى الخبر (٤). وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن لام الاستغاثة فى مثل «يا لزيد» متعلقة بفعل أنادى المحذوف فى النداء ، وذهب أبو على إلى أنها متعلقة بيا (٥). وذهب سيبويه والجمهور إلى أن اللام الداخلة على الخبر مع إن المهملة فى مثل إن محمد لقائم (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) هى لام الابتداء ، وذهب أبو على إلى أنها ليست لام الابتداء وإنما هى لام فارقة بين إن المؤكدة وإن النافية ، وكان يحتج بدخولها على الماضى فى مثل «إن زيد لقام» وعلى منصوب الفعل المؤخر فى مثل (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) وكلاهما لا يجوز دخول اللام عليه مع إن المشددة (٦).

وكان أبو على يسند آراءه دائما بالأدلة التى اصطلح عليها النحاة البصريون والكوفيون ، وهى السماع والقياس والتعليل ومواد السماع عنده هى نفسها المواد المستخدمة قديما من القرآن وقراءاته والشعر ورواياته ، وقد يتمثل بالحديث النبوى

__________________

(١) الهمع ١ / ٢٠٠.

(٢) المغنى ص ١٧١ والهمع ١ / ٢٣١.

(٣) المغنى ص ٣٤٧.

(٤) الخصائص ١ / ٣٣٨ والهمع ١ / ١٤٥.

(٥) المغنى ص ٤٨٩ والهمع ١ / ١٨٠.

(٦) المغنى ص ٢٥٦.

٢٦٣

أحيانا ، لا لغرض استنباط القواعد وإنما للاستئناس. ويتعجب ابن جنى كثيرا من مهارته فى القياس حتى ليقول : «ما كان أقوى قياسه .. فكأنه كان مخلوقا له» (١) ويروى عنه أنه كان يقول : «أخطئ فى خمسين مسألة فى اللغة ولا أخطئ فى واحدة من القياس» (٢) ويدل دلالة واضحة على اتساعه فى القياس ما قاله عنه ابن جنى فى الإلحاق ، إذ ذكر أنه قال : «لو شاء شاعر أو ساجع أو متّسع أن يبنى بإلحاق اللام اسما وفعلا وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب ، وذلك نحو قولك خرجج أكرم من دخلل ، وضربب زيد عمرا ، ومررت برجل ضربب وكرمم ونحو ذلك. قال ابن جنى : فقلت له : أفترتجل اللغة ارتجالا؟ قال : ليس بارتجال ، ولكنه مقيس على كلامهم ، فهو إذن من كلامهم» (٣).

وعلى نحو ما يتعجب ابن جنى من سداد أقيسته يتعجب من قدرته على التعليل وكثرة ما كان يدلى به من تعليلات فى مسائل النحو والتصريف حتى ليقول : «أحسب أن أبا على قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا» (٤).

ويكفى أن نذكر مثالين من تعليلاته أولهما أن سيبويه كان يذهب إلى أن حركة الإعراب حادثة بعد الحروف النهائية فى الكلمات ، وذهب أبو على إلى أنهما حدثتا معا مستدلا بأن النون الساكنة مخرجها من الأنف ومخرج النون المتحركة من الفم ، ولو كانت الحركة حادثة بعد الحرف لوجب أن تكون النون المتحركة أيضا من الأنف (٥). والتعليل الثانى ما رواه ابن جنى من أنه سأله عن ردّ سيبويه كثيرا من أحكام التصغير إلى أحكام جمع التكسير وحمله إياها عليها ، فقال سريحين فى تصغير سرحان لقولهم سراحين وعشيمين فى تصغير عثمان لقولهم عشامين ، فقال أبو على : «إنما حمل التحقير فى هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيدا عن رتبة الآحاد ، فاعتدّ ما يعرض فيه لاعتداده

__________________

(١) الخصائص ١ / ٢٧٧.

(٢) الخصائص ٢ / ٨٨.

(٣) الخصائص ١ / ٣٥٨ وما بعدها.

(٤) الخصائص ١ / ٢٠٨.

(٥) الخصائص ٢ / ٣٢١ وما بعدها.

٢٦٤

بمعناه ، والمحقّر هو للمكبر ، والتحقير فيه جار مجرى الصفة فكأن لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد» ويعلق ابن جنى على هذا التعليل بقوله : «هذا معقد معناه ، وما أحسنه وأعلاه» (١). وواضح أن تعليلاته لم تكن تقف عند آرائه ، بل كانت تمتد إلى آراء سيبويه وغيره من النحاة السابقين.

٣

ابن جنى (٢)

هو أبو الفتح عثمان بن جنّى الموصلى ، كان أبوه مولى روميّا ، وربما كان اسمه جنى تعريبا لكلمة suianneG اليونانية ، وقد ولد له ابنه عثمان حوالى سنة ٣٢٠ للهجرة ، ويبدو أنه رأى فيه مخايل ذكاء فدفعه إلى التعلم ، ولم يلبث أن منح عنايته لعلوم اللغة ، فأكبّ على دروس أحمد بن محمد الموصلى النحوى مواطنه. وأغلب الظن أنه نزل بغداد مبكرا ، ففى تصانيفه ترداد لذكر بعض تلاميذ المبرد مثل محمد بن سلمة وبعض تلاميذ ثعلب مثل ابن مقسم ، غير أنه سرعان ما عاد إلى الموصل ، وأخذ يدرس للطلاب فى مسجدها ، وهو فى أثناء ذلك يتعرض للأعراب الفصحاء ويأخذ عنهم مثل أبى عبد الله الشجرى الذى يتردد ذكره فى الخصائص. وحدث أن مرّ بحلقته فى سنة ٣٣٧ للهجرة أبو على الفارسى إمام النحاة فى عصره ، فأعجبه ذكاؤه ، وتعجب من قعوده للدرس والإملاء قبل نضجه ، فقال له : لقد أصبحت زبيبا وأنت حصرم ، وكأنما دلعت هذه الكلمة نارا فى قلبه ، ليستكمل أداته ، ولم يجد خيرا من ملازمة هذا الإمام الفذ ، فلزمه أربعين سنة متنقلا معه فى رحلاته ، مشغوفا بآرائه مبهورا بفطنته

__________________

(١) الخصائص ١ / ٣٥٤.

(٢) انظر فى ترجمة ابن جنى نزهة الألباء ص ٣٣٢ ويتيمة الدهر ١ / ٨٩ ودمية القصر ص ٢٩٧ وتاريخ بغداد ١١ / ٣١١ ومعجم الأدباء ١٢ / ٨١ وإنباه الرواة ٢ / ٣٣٥ ومرآة الجنان ٢ / ٤٤٥ وابن خلكان ١ / ٣١٣ وشذرات الذهب ٣ / ١٤٠ وروضات الجنات ص ٤٦٦ وبغية الوعاة ص ٣٢٢.

٢٦٥

ودقة أقيسته وتعليلاته ، ومن يقرؤه فى كتبه المطبوعة وخاصة الخصائص يحس أن مادة علمه مستمدة من أستاذه ، وكأنه كان قلما فى يده يسجّل كل خواطره ولفتاته النحوية والصرفية ، وهى لفتات وخواطر اندفع ينميّها ويضيف إليها من عقله الخصب النادر ما جعله يتقن ظواهر التصريف والنحو علما وفقها وتأويلا وتحليلا ، بل ما جعله يرث إمامة أستاذه ، بل لعله بذّه وخاصة فى وضع أصول التصريف على نحو ما يتضح فى الخصائص. وأتاحت له رفقته بأبى على أن يتعرف فى بلاط سيف الدولة على المتنبى وأن تنعقد بينهما صداقة رفيعة ، فيشرح ديوانه ، حتى إذا توفى رثاه رثاء رائعا احتفظ به القفطى فى إنباه الرواة. وأتاحت له تلك الرفقة أيضا أن يحظى برعاية البويهيين وأن تعلو مكانته عندهم. وقد خلف أستاذه فى التدريس ببغداد حين لبّى نداء ربه ، وظل يوالى التصنيف والتأليف ، حتى توفى سنة ٣٩٢ للهجرة.

وهو ممن أكثروا من التصنيف حتى بلغت مصنفاته نحو الخمسين ، وبينها مصنفات وقفها على تسجيل كلام أستاذه الفارسى مثل «اللمع وذى القدّ وتأييد تذكرة أبى على». وله مصنفات مختلفة حول المتنبى تفسيرا لشعره ودفاعا عنه أمام خصومه. ومن أهم مصنفاته كتاب «المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها» وقد نشر منه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة الجزء الأول.

والقسط الأكبر من نشاط ابن جنى إنما كان فى علم التصريف ، ودفعته رغبته فى التعمق فيه إلى أن يقرأ على أستاذه الفارسى كتاب التصريف للمازنى الذى كان يعدّ أنفس ما ألّف فى هذا العلم حتى عصره ، وعمد إلى شرحه فى كتابه المنصف الذى نشرته الإدارة العامة للثقافة بالقاهرة فى ثلاثة أجزاء ، وفيه يناقش مادته مناقشة واسعة ، مضيفا ما لا يحصى من ملاحظاته الطريفة كملاحظته أن الأفعال قد تشتق من أسماء الأعيان وقوله إننا إذا اشتققنا فعلا من سفرجل قلنا سفرج يسفرج سفرجة ، فهو مسفرج (١) ، ومثل ملاحظته أن الأفعال

__________________

(١) المنصف : شرح كتاب التصريف للمازنى ١ / ٣٣.

٢٦٦

قد تشتق من الحروف كاشتقاق قوّف من القاف وكوّف من الكاف ودوّل من الدال ، فيقال : «قوّفت قافا وكوّفت كافا ودوّلت دالا» (١).

ونشر لابن جنى أيضا فى القاهرة الجزء الأول من سر صناعة الإعراب ، وهو دراسة صوتية واسعة لحروف المعجم ومخارجها وصفاتها ، وما يحدث فى صوت الكلمة من إعلال وإبدال وإدغام ونقل وحذف ، وما يجرى فى حروفها من تلاؤم يؤدى إلى جمال الجرس. وطبع له كتاب التصريف الملوكى ، وهو كتاب يتناول هذا العلم بمعناه الدقيق ، فيتحدث عن المجرد والمزيد والإبدال والتغيير بالحركة والسكون والحذف والإعلال ، مع تدريبات صرفية كثيرة. وأهم كتبه فى هذا العلم الخصائص الذى حاول فيه محاولة رائعة هى وضع القوانين الكلية للتصريف ، وحقّا أنه أفاد فى كثرة هذه القوانين من ملاحظات أستاذه الفارسى على نحو ما مرّ بنا منذ قليل ، ولكن من الحق أيضا أنه أضاف إليها من ملاحظاته واستقصاءاته للأمثلة اللغوية وحسه الدقيق بأبنية اللغة وتصاريفها ما شخّصها وجسّمها تمام التجسيم وقد مضى يستخلص قوانين كلية أخرى لم يقف عندها أستاذه ، وبذلك استطاع أن يضع للتصريف أصولا على المذهب الذى سبقه إليه علماء الكلام والفقه فى وضع أصولهم ، وهى أصول يصدق منها جانب كبير على النحو ومسائله وقضاياه العامة كالإعراب والبناء وعلله ، وقد ذهب إلى أنها أقرب من علل الفقهاء إلى علل المتكلمين ، إذ تتعرض لمسائل ميتافيزيقية فى طبيعة العرب وسلائقهم. وأفاض فى بيان العلل النحوية منكرا تقسيم ابن السراج وتلميذه الزجاجى لها إلى علل أولى وثوان وثوالث ذاهبا إلى أن العلل الأخيرة تتميم للعلل الأولى ، وليس هناك علة للعلة ولا علة لعلة العلة (٢). ويعرض فى تفصيل للاطراد والشذوذ فى التصريف والنحو ، كما يعرض لعوامل الإعراب فى الكلم وأن النحاة قسموها إلى معنوى مثل الابتداء ولفظى مثل عمل المبتدأ فى الخبر ، ويقول إن العامل الحقيقى فى إعراب الكلم إنما هو المتكلم (٣) ، ويتحدث عن تعارض السماع والقياس أحيانا قائلا : «اعلم أنك إذا أدّاك القياس إلى شىء ما ، ثم سمعت

__________________

(١) المنصف ٢ / ١٥٤.

(٢) الخصائص ١ / ١٧٣.

(٣) الخصائص ١ / ١٠٩ وما بعدها.

٢٦٧

العرب قد نطقت فيه بشىء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم هم عليه» (١). ويطبق قاعدة الاستحسان فى الفقه الحنفى على بعض الأبنية. ونحسّ أثر المباحث الفقهية حين يتحدث عن حمل الفرع على الأصل والعكس (٢) والحمل على الظاهر (٣) ، وغلبة الفروع على الأصول (٤) واختلاف اللغات وكلها حجة على نحو ما يختلف الفقهاء (٥) ، ويعود مرارا إلى مراجعة الأصول والفروع (٦) ويتحدث عن تركيب المذاهب وعن وجوب الجائز. ويستعير من المتكلمين حديثهم عن السبب والمسبب (٧) والمستحيل (٨). ولعل فى ذلك كله ما يدل فى وضوح على أنه تأثر فى وضع أصول التصريف والنحو بأصول الفقهاء والمتكلمين جميعا.

ويردّد ابن جنى فى الخصائص وغيره حديثه عن البصريين باسم أصحابنا كما مر بنا فى غير هذا الموضع ، وكثيرا ما يضعهم مقابل البغداديين (٩) ، وكأنما ينزع نفسه منهم نزعا ، وقد أسلفنا أنه يريد بالبغداديين أوائلهم ممن كانوا ينزعون إلى الكوفة مثل ابن كيسان ، وهم حقّا من ذوق غير ذوقه ومن هوى غير هواه ، فهو بغدادى من طراز آخر ، طراز أستاذه أبى على الفارسى والزجاجى ، طراز كان ينزع إلى البصريين ، وهو الطراز الذى عمّ وساد منذ النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى ، وكان هو وأستاذه من أهم الأسباب فى شيوعه ، إذ كانا ينتخبان من المذهبين البصرى والكوفى مع نزعة شديدة إلى البصريين ، ومع الفسحة وفتح الأبواب على مصاريعها للاجتهاد ومخالفة البصريين والكوفيين بقدر ما يؤديهما النظر وتسعفهما الحجة.

ونستطيع أن نرجع إلى الآراء المنثورة لابن جنى فى كتاباته المنشورة وفى المراجع النحوية ، فسنراه يطبق هذا المنهج تطبيقا دقيقا ، إذ كان يوافق البصريين فى

__________________

(١) الخصائص ١ / ١٢٥.

(٢) الخصائص ١ / ١١١ وانظر ١ / ٢٠٨ حيث يصرح بأنه يستضىء بأبى حنيفة فى حديثه عن الدور والوقوف منه على أول رتبة.

(٣) الخصائص ١ / ٢٥١.

(٤) الخصائص ١ / ٣٠٠.

(٥) الخصائص ٢ / ١٠.

(٦) الخصائص ٢ / ٣٤٢ وما بعدها.

(٧) الخصائص ٣ / ١٧٣.

(٨) الخصائص ٣ / ٣٢٨.

(٩) الخصائص ١ / ١٣٧.

٢٦٨

مسائل كثيرة ، من ذلك أن يأخذ برأيهم فى أن المصدر أصل والفعل مشتق منه (١) وأن المبتدأ رافعه الابتداء (٢) ، وأن ناصب المفعول به الفعل السابق له (٣) ، وأن المضارع منصوب بعد حتى بأن مضمرة وجوبا (٤) ، وكذلك بعد أو وفاء السبيبا وواو المعية (٥) ، وأن العامل فى باب التنازع هو الفعل الثانى (٦) ، وأن نعم وبئس فعلان ، وكذلك فعل التعجب (٧) ، وأن المفعول معه منصوب بالفعل مع توسط واو المعية (٨) ، وأن الاسم المرفوع بعد إذا الشرطية فى مثل (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فاعل لفعل محذوف ، وكذلك بعد همزة الاستفهام فى مثل أزيد قام (٩) ، وأن علة بناء الاسم شبهه بالحرف أو تضمنه معناه (١٠) ، وأن الإعراب أصل فى الأسماء فرع فى الأفعال وإنما أعرب المضارع لشبهه باسم الفاعل (١١).

وبجانب ذلك كان يأخذ بوجهة النظر الكوفية فى مسائل مختلفة ، من ذلك إعمال إن النافية عمل ليس متابعا فى ذلك أستاذه الفارسى والكوفيين ، كما مر بنا منذ قليل ، وإن لاحظ أن إعمالها يشوبه غير قليل من الضعف ، يقول تعليقا على قراءة سعيد بن جبير الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) : «ينبغى أن تكون إن هذه بمنزلة ما ، فكأنه قال : ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم ، فأعمل إن إعمال ما [العاملة عمل ليس] وفيه ضعف لأن إن هذه لم تختص بنفى الحاضر اختصاص ما به ، فتجرى مجرى ليس فى العمل» (١٢). وكان الكسائى ـ كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع ـ يجيز وجود الفعل بدون فاعل ، على نحو ما أجاز ذلك فى مثل قام وقعد عمرو ، إذ ذهب إلى أن عمرا فاعل قعد ، وقام لا فاعل لها ، وتبعه أبو على الفارسى يحتم ذلك فى قلّ حين تتصل بها ما ، ويقول ابن جنى إن «قلما يقوم زيد» دخلت فيه ما على قلّ كافة لها عن عملها ، ومثله كثر ما وطالما» (١٣). وكان يتابع أستاذه والكوفيين فى أن أو تأتى

__________________

(١) الخصائص ١ / ١١٣ ، ١١٩ وانظر المنصف ١ / ٦٥.

(٢) الخصائص ١ / ١٦٦.

(٣) الخصائص ١ / ١٠٢.

(٤) الخصائص ٣ / ٢٦٠.

(٥) الخصائص ١ / ٢٦٣ وما بعدها.

(٦) الخصائص ٢ / ٢٠٩.

(٧) المنصف ١ / ٢٤١.

(٨) سر صناعة الإعراب ١ / ١٤٤.

(٩) الخصائص ٢ / ٣٨٠.

(١٠) الخصائص ١ / ١٩٧.

(١١) الخصائص ١ / ٦٣.

(١٢) المحتسب ١ / ٢٧٠.

(١٣) الخصائص ١ / ١٦٧ ، ١٦٨.

٢٦٩

للإضراب مطلقا (١) ، كما تابعهما فى إعمال المصدر مضمرا فى الظرف مثل «قيامك أمس حسن ، وهو اليوم قبيح» فأعمل هو العائد على القيام فى اليوم (٢). وتابع الكوفيين فى أن حاش فى مثل «حاش لله» فعل ، بينما ذهب الجمهور إلى أنها اسم مرادف للبراءة من كذا (٣). وكان يتابع الكسائى وأستاذه أبا على فى أن خلا حين تتقدمها ما فى مثل قام القوم ما خلا زيدا ليس من الضرورى أن تكون فعلا حتما ، فقد يجوز الجرّ بها على تقدير ما زائدة (٤). وتابع الكوفيين فى جواز «ضرب غلامه محمدا» لمجىء ذلك فى النظم كثيرا مثل : «جزى ربّه عنى عدىّ ابن حاتم» ، وكان الجمهور يمنع ذلك لعود الضمير المتصل بالفاعل على متأخر لفظا ورتبة (٥). وكان يقف مع الكوفيين فى أن حذف خبر إنّ إنما يحسن إذا كان اسمها نكرة ، يقول تعليقا على قول الأعشى :

إنّ محلا وإن مرتحلا

وإنّ فى السّفر إذ مضى مهلا

«أراد : إن لنا محلا وإن لنا مرتحلا ، فحذف الخبر ، والكوفيون لا يجيزون حذف خبر إن إلا إذا كان اسمها نكرة ، ولهذا وجه حسن عندنا ، وإن كان أصحابنا (البصريون) يجيزونه مع المعرفة (٦). ومرّ بنا فى ترجمة الفراء أنه كان يضعّف قراءة ابن عامر : (وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) بالفصل بين المضاف وهو قتل والمضاف إليه وهو شركائهم بالمفعول به وأنه أنكر البيت الذى أنشده الأخفش دعما لذلك ، وهو قول بعض الشعراء فى وصف ناقته :

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبى مزاده

وقد خالفه فى ذلك جمهور الكوفيين مجوّزين الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به (٧) ، وانتصر لهم ابن جنى محتجا بقدرة الشاعر على أن يقول : زجّ القلوص أبو مزاده ، ويعلق على ذلك بقوله : «فى هذا البيت عندى دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم وأنه فى نفوسهم أقوى من أضافته إلى

__________________

(١) المغنى ص ٦٧.

(٢) الخصائص ٢ / ١٩.

(٣) المغنى ص ١٣٠.

(٤) المغنى ص ١٤٢.

(٥) الخصائص ١ / ٢٩٤ والهمع ١ / ٦٦.

(٦) المحتسب ١ / ٣٤٩.

(٧) الهمع ٢ / ٥٢.

٢٧٠

المفعول .. ومن ذلك قراءة ابن عامر : (وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) (١).

ووقف فى «المحتسب» مرارا إزاء تحريك ما فيه حرف حلقى مثل جهرة وجهرة بتحريك الهاء قائلا إن الكوفيين والبغداديين ـ ويقصد أوائلهم النازعين منزعهم ـ يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه ، أى أنهم يجعلونه قياسا مطردا ، بينما يقتصر البصريون على ما سمع منه سالكين له فى باب اللغات ، ونراه ينتصر للكوفيين والبغداديين جميعا ، يقول فى التعليق على قراءة (جهرة) فى الآية رقم ٥٥ من سورة البقرة بفتح الهاء : «مذهب أصحابنا فى كل شىء من هذا النحو مما فيه حرف حلقى ساكن بعد حرف مفتوح أنه لا يحرّك إلا على أنه لغة فيه .. ومذهب الكوفيين أنه يحرك الثانى لكونه حرفا حلقيّا ، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه كالبحر والبحر والصّخر والصّخر ، وما أرى القول من بعد إلا معهم والحق فيه إلا فى أيديهم ، وذلك أننى سمعت عامة عقيل تقول ذلك ولا تقف فيه ، سائغا غير مستكره» (٢). ويعلق على قراءة محمد بن السّميفع (قرح) بفتح الراء فى الآية رقم ١٤٠ من سورة آل عمران قائلا : «ظاهر هذا الأمر أن يكون فيه لغتان : قرح وقرح كالحلب والحلب والطّرد والطّرد ... ثم لا أبعد من بعد أن تكون الحاء لكونها حرفا حلقيّا يفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنا من حروف الحلق نحو قولهم فى الصّخر الصّخر والنّعل والنّعل ، ولعمرى إن هذا عند أصحابنا (يريد البصريين) ليس أمرا راجعا إلى حرف الحلق ، لكنها لغات.

وأنا أرى فى هذا رأى البغداديين فى أن حرف الحلق يؤثّر هنا من الفتح أثرا معتدّا معتمدا ، فلقد رأيت كثيرا من عقيل لا أحصيهم يحرّك من ذلك ما لا يتحرك أبدا لو لا حرف الحلق ... وهذا ما لا توقف فى أنه أمر راجع إلى حرف الحلق لأن الكلمة بنيت عليه ألبتّة .. ولا قرابة بينى وبين البصريين ولكنها بينى وبين الحق ، والحمد لله (٣)».

__________________

(١) الخصائص ٢ / ٤٠٦ وما بعدها.

(٢) المحتسب ١ / ٨٤.

(٣) المحتسب ١ / ١٦٦.

٢٧١

ولعل فى ذلك ما يدل دلالة واضحة على أنه كان ينزع غالبا إلى البصريين لكن لا عن حمية ولا عن عصبية ، وإنما عن طول النظر والتبصر تبصرا كان يدفعه فى كثير من الأحيان إلى الوقوف فى صف الكوفيين وأوائل البغداديين حين يجد السداد فى جانبهم. وهو ما يؤكد بغداديته وأنه كان يقيم مذهبه النحوى والصرفى على الانتخاب من المذهبين البصرى والكوفى وما انبثق عنهما من المذهب البغدادى عند أوائل البغداديين ، وعند أستاذه أبى على الفارسى وقد تبعه فى كثير من آرائه الاجتهادية ، من ذلك أن الظرف والجار والمجرور هما الخبر فى مثل محمد عندك ومحمد فى الدار وليسا متعلقين بمحذوف هو الخبر (١). وكان يجوّز مثله العطف على محل المجرور بالنصب فى مثل مررت بزيد وعمرو ، فيقال مررت بزيد وعمرا (٢) ، كما كان يجوز مثله إتباع فاعل نعم وبئس بالنعت مثل نعم الفتى المدعو بالليل على (٣). وجوز متابعا له تقديم خبر كان ومعموله عليها مستدلين بقوله تعالى : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) فقد تقدمت كان (إياكم) معمول يعبدون ، وما يجوز وقوع المعمول فيه يجوز وقوع العامل (٤). وجوّز مثله معمول يعبدون ، وما يجوز وقوع المعمول فيه يجوز وقوع العامل (٥). وجوّز مثله أن تكون لك فى قولهم : «لا أبالك» و «لا أخا لك» خبر لا ، وأبا وأخا اسمى «لا» مقصورين تامين على لغة من يقول هذا أبا ورأيت أبا ومررت بأبا (٦). وكان يذهب مثله إلى أن اللام الداخلة على خبر إن المهملة فى مثل (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) ليست لام الابتداء كما زعم سيبويه ، وإنما هى لام فارقة بين إن المؤكدة والنافية (٧).

وذهب مذهبه فى أنه لا يصح تأكيد العائد المحذوف فى مثل «الذى رأيت نفسه زيد» على أن تكون نفسه تأكيدا للضمير المحذوف فى رأيت على تقدير رأيته (٨). وكان يتابعه فى أن اللام فى مثل «يالزيد» متعلقة بيا (٩) ، وأن أما فى قول بعض الشعراء :

أبا خراشة أما أنت ذا نفر

فإن قومى لم تأكلهم الضّبع

__________________

(١) الهمع ١ / ٩٩.

(٢) الخصائص ٢ / ٣٥٣ والهمع ٢ / ١٤١.

(٣) الهمع ٢ / ٨٥.

(٤) المحتسب ١ / ٣٢١.

(٤) المحتسب ١ / ٣٢١.

(٥) الخصائص ١ / ٣٣٨ وما بعدها.

(٦) المغنى ص ٢٥٦ والمحتسب ١ / ٩١.

(٧) الخصائص ١ / ٢٨٧ والمغنى ص ٦٧٣.

(٨) المغنى ص ٤٨٩ والهمع ١ / ١٨٠.

٢٧٢

هى عاملة الرفع والنصب فيما يتلوها (١). وجعله ذلك يضع قاعدة عامة كانت مصدر خلاف بينه وبين أستاذه فى بعض المسائل ، وهى أن ما ينوب عن شىء يعمل عمله ، فما فى أما المكونة من أن المصدرية وما الزائدة عملت لنيابتها مناب كان الرفع والنصب فيما تلاها. وينبغى طرد ذلك فى الصور المماثلة ، فمن ذلك أن أستاذه ـ كما مرّ بنا ـ كان يذهب إلى أن العامل فى المعطوف فى مثل جاء محمد وعلى عامل مقدر من جنس العامل فى المعطوف عليه ، وذهب ابن جنى إلى أن حرف العطف نفسه هو العامل لنيابته مناب العامل المحذوف (٢). ومن ذلك أدوات النداء فقد كان أبو على الفارسى يذهب إلى أنها أسماء أفعال عملت فى المنادى ، وذهب ابن جنى إلى أنها حروف تعمل فيه لنيابتها مناب الأفعال (٣)

ولابن جنى آراء اجتهادية مختلفة انفرد بها عن أستاذه والمدرستين البصرية والكوفية ، فمن ذلك أنه كان يجيز تقديم المفعول معه على المعمول قبله ، فيقال جاء وثياب الصوف البرد (٤). وكان يذهب إلى أن العامل فى الخبر هو الابتداء والمبتدأ معا ، وبذلك سوّغ تقدمه على المبتدأ فى مثل شاعر محمد ، لأنه إنما تقدم على أحد عاملى الرفع فيه وهو المبتدأ (٥). وذهب إلى أن إلا تأتى زائدة مستدلا بقول ذى الرمة فى وصف النوق :

حراجيج ما تنفكّ إلا مناخة

على الخسف أو نرمى بها بلدا قفرا (٦)

وكان الجمهور يذهب إلى أن لا العاملة عمل ليس لا تعمل إلا فى النكرات ، وذهب إلى أنها تعمل أيضا فى المعارف لقول النابغة :

وحلّت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا عن حبّها متراخيا (٧)

ومعروف أن الأسباب المانعة للاسم من الصرف هى العلمية والعدل وزيادة الألف والنون والوصفية ووزن الفعل والتأنيث وموازنة جمعى مفاعل ومفاعيل والعجمة

__________________

(١) الخصائص ٢ / ٣٨١ والمغنى ص ٦١.

(٢) الخصائص ٢ / ٣٨٧.

(٣) الخصائص ٢ / ٢٧٧.

(٤) الخصائص ٢ / ٣٨٣.

(٥) الخصائص ٢ / ٣٨٥.

(٦) المغنى ص ٧٦ والحراجيج : النوق الضخمة ، والخسف : الذل.

(٧) المغنى ص ٢٦٤ وما بعدها.

٢٧٣

والتركيب المزجى. وكان الجمهور يذهب إلى أنها تنقسم إلى معنوية هى العلمية والوصفية ، ولفظية وهى البقية. وذهب ابن جنى إلى أنها جميعا معنوية ما عدا وزن الفعل فى مثل أحمد ويزيد (١). وذهب الجمهور إلى أن اللام تزيد فى جواب لو ولو لا ولوما مثل «لو جئت لأكرمتك» و «لولاك لأسرعت» ، وذهب ابن جنى إلى أنها ليست واقعة فى جواب هذه الأدوات ، بل هى لام جواب قسم مقدر (٢). ومرّ بنا رأى أستاذه أن ما قد تكون ظرفية زمانية ، وأشرك ابن جنى معها فى ذلك أنّ بفتح الهمزة ، مستشهدا بقول بعض الشعراء :

وتالله ما إن شهلة أمّ واحد

بأوجد منّى أن يهان صغيرها (٣)

وكان سيبويه يذهب إلى أن كلمة خرب فى قولهم : «هذا جحر ضبّ خرب» مجرورة على الجوار لضب لأنه كان ينبغى أن ترفع ، إذ هى صفة لجحر. وقال ابن جنى : بل هى مجرورة على الأصل ، إذ أصل التعبير «هذا جحر ضب خرب جحره» فحذف المضاف وأنيب المضاف إليه فى «جحره» وهو الضمير ، فارتفع واستتر فى خرب ، فهو صفة لجحر على تقدير حذف المضاف ، وهو تأويل بعيد (٤).

ومن طريف ما هدته إليه بصيرته النافذة أن الأصل فى ظهور اللغات إنما هو اشتقاق كلماتها من الأصوات المسموعة ، يقول فى فواتح كتابه الخصائص : «ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوىّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب (صوت) الظبى ونحو ذلك ، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندى وجه صالح ومذهب متقبّل» (٥). وقد مضى فى الخصائص يثبت ذلك من حين لآخر كقوله عن الأفعال إنه كثر اشتقاقها من الأصوات الجارية مجرى الحروف مثل «هاهيت» من قولهم فى زجر الإبل هاها ، و «عاعيت» فى زجر الغنم من قولهم : عاعا ، و «حأحأت» فى زجر الكبش من قولهم حاحا ، و «شأشأت» فى

__________________

(١) الخصائص ١ / ١٠٩.

(٢) المغنى ص ٢٥٩.

(٣) المغنى ص ٣٣٨ والشملة : العجوز.

وأوجد : أكثر وجدا.

(٤) الخصائص ١ / ١٩٢.

(٥) الخصائص ١ / ٤٦ وما بعدها.

٢٧٤

زجر الحمار من قولهم شاشا. ويقول : هذا كثير فى الزجر ، وقد صنفت فيه كتابا (١). ويذكر فى موضع آخر أن العرب قد تسمى الأشياء بأصواتها كالخاز باز (الذباب) لصوته ، والبطّ لصوته ، والواق للصّرد (طائر فوق العصفور) لصوته ، وغاق للغراب لصوته ، والشّيب لصوت مشافر الإبل (٢).

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه هو الذى عمل على تثبيت قانونى الاشتقاق الأكبر والتضمين ، ومر بنا أنه كان يريد بالأول التقاليب الستة للأصل الثلاثى لأى كلمة وبيان أنه يجمعها هى ومشتقاتها معنى واحد ، وحقّا سبقه الخليل ـ كما مر بنا فى ترجمته ـ إلى بناء معجم العين على تقليب الأصل الثلاثى للكلمة فى صوره الستة ، ولكنه لم يفكر فى أنها هى واشتقاقاتها يمكن أن يجمعها معنى واحد. وقد اعترف فى فاتحة حديثه عنه بأن الفارسى كان يستعين به ، ولكنه لم يحاول تسميته ولا تأصيله وتطبيقه ، إنما هو الذى نهض بذلك ، فهو الذى سماه ، وهو الذى جسّمه فى أمثلة مختلفة ، منها «ك ن م» وتقليباتها ومشتقاتها وقد رجعها إلى معنى القوة والشدة ، ورجع «ق ول» وتقليباتها ومشتقاتها إلى معنى الإسراع والخفة ، كما رجع تقليب «ج ب ر» إلى معنى الشدة والقوة ، ومثلها مشتقاتها ، ورجع تقليب «ق س و» ومشتقاتها إلى معنى القوة والاجتماع ، كما رجع تقليب «س ل م» ومشتقاتها إلى معنى الإصحاب والملاينة (٣) وتوقف فى كتابه المحتسب ليطبق ذلك على «حجر» وتقليبها ومشتقاتها مبينا أنها تعود جميعا إلى الشدة والضيق والاجتماع (٤) وأوضح أيضا أن «ج د ل» وتقليباتها ومشتقاتها تعود إلى القوة (٥).

وعلى نحو ما عنى بالاشتقاق الأكبر وتطبيقاته على بعض الأبنية ، عنى بالتضمين ، وهو أن تشرب لفظا معنى لفظ وإذا كان فعلا أو مضدرا أعطى حكمه ، فعدّى بما يعدّى إليه. وحقّا لا حظ ذلك سيبويه والكسائى فى بعض الأمثلة بشهادته ، كما لاحظه أبو على الفارسى (٦) ، ولكنه هو الذى كشفه وأوضحه فى أمثلة كثيرة من مثل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) يقول : الرفث يتعدى

__________________

(١) الخصائص ٢ / ٤٠.

(٢) الخصائص ٢ / ١٦٥ وانظر ٣ / ٢٣١.

(٣) انظر الخصائص ٢ / ١٣٣ وما بعدها.

(٤) المحتسب ١ / ٢٣١.

(٥) المحتسب ١ / ٣٢١.

(٦) انظر الخصائص ٢ / ٣١١ ، ٣٨٩.

٢٧٥

بالباء غير أنه ضمّن فى الآية معنى الإفضاء ، ولذلك يتعدى بإلى كما يتعدى بها الإفضاء ، ومثل (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أى مع الله ، لأنه فى معنى من يضاف فى نصرتى إلى الله ، ومثل (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) وضعت إلى موضع فى لأن ما قبلها فى معنى أدعوك وأرشدك (١).

وابن جنى يسند كلامه دائما بقراءات القرآن والسماع عن العرب ، وقد يستشهد بالحديث النبوى ، ولكن لا للاستنباط ووضع القواعد وإنما للائتناس (٢). وكان مثل أستاذه يعنى بالقياس عناية شديدة حتى ليمكن أن يقال إن كتابه الخصائص إنما هو مجموعة كبيرة من الأقيسة السديدة ، وبلغ من عنايته بالقياس أن كان يقول : «إن مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس» (٣). وقد عقد فى جزئه الأول فصلا طويلا لبيان أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم وإن لم ينطقوا به. واتسع فى ثنايا مصنفاته فى صور التدريب على الأقيسة ، ومن يرجع إلى كتابه المنصف فى شرح تصريف المازنى يجده يختمه بنحو ستين صحيفة فى تمارين صرفية أبنيتها كلها من صنعه. ودائما يدعم آراءه وآراء سابقيه من النحاة بالحجج البينة والأدلة الناصعة ، ووصف بعض أدلته بأنها كالأدلة الهندسية فى الوضوح والبيان (٤).

٤

بغداديون متأخرون

كان ظهور الإمامين النحويين الكبيرين أبى على الفارسى وتلميذه ابن جنى إيذانا بأن تنزع المدرسة البغدادية نزعة بصرية قوية وأن يسود اتجاهها فى الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية والاجتهاد فى استنباط آراء جديدة ، وأن يتأثر بهما النحاة النابهون الذين خلفوهما فى العراق والشام وإيران ، ويتخذوا

__________________

(١) الخصائص ٢ / ٣٠٨ وما بعدها.

(٢) الخصائص ١ / ٣٣.

(٣) الخصائص ٢ / ٨٨.

(٤) الخصائص ١ / ٦٠.

٢٧٦

نفس المنهج الذى أصّلاه ، فلا بد من تمثل الآراء البصرية والكوفية وآراء البغداديين الأولين الذين كانوا ينزعون نزعة كوفية ، ولا بد من تمثل آراء أبى على وابن جنى ، وهو تمثل جعلهم يعكفون على مصنفات جميع أئمة النحو المتقدمين وخاصة مصنفات أبى على وابن جنى ، مما جعلهم يسيرون فى نفس الطريق الذى نهجاه وذلّلاه ، ولن نستطيع استقصاءهم ، ولذلك سنكتفى بالحديث عن أعلامهم حديثا موجزا يتفق وغايتنا من صنع هذا الكتاب ، وفى رأينا أن أنبههم وأوسعهم شهرة الزمخشرى وابن الشجرى وأبو البركات الأنبارى وأبو البقاء العكبرى وابن يعيش والرضى الإستر آبادى ، وسنخص الزمخشرى بكلمة أكثر تفصيلا.

وابن الشجرى (١) كان نقيب الطالبيين بالكرخ فى بغداد ، ولد سنة ٤٥٠ وتوفى سنة ٥٤٢ للهجرة ، وهو أحد أئمة النحاة ، ويقال إنه لم يكن أنحى منه فى عصره ، وإنه ظل يدرس النحو لطلابه نحو سبعين عاما ، وفى أخباره ما يدل على أنه موصول النسب العلمىّ فيه بأبى على الفارسى ، فقد أخذه عن ابن طباطبا ، وأخذه ابن طباطبا عن على بن عيسى الربعى تلميذ أبى على. ويذكر ابن خلكان من تصانيفه شرح كتابى ابن جنى : اللمع والتصريف. وطبع له بحيدر آباد أماليه فى النحو واللغة والأدب ، وهو فيها يكثر من ذكر كتب أبى على مثل الإيضاح والتذكرة والحجة فى علل القراءات السبع ناقلا عنها آراءه. ونراه منذ فاتحة أماليه معجبا بالبصريين على شاكلة الفارسى وابن جنى وهو إعجاب جعله يقول فى حجج الكوفيين : «ولنحاة الكوفيين فى أكثر كلامهم تهاويل فارغة من الحقيقة» (٢). ومن آرائه التى خالف فيها جمهور النحاة ذهابه إلى أن لو الشرطية تجزم المضارع حين تدخل عليه لقول بعض الشعراء :

لو يشأ طار به ذو ميعة

لاحق الآطال نهد ذو خصل (٣)

وردّ بأن ذلك ضرورة شعرية أو لعل الشاعر خفّف نهاية الفعل يشأ ، ونطقه

__________________

(١) انظر فى ترجمة ابن الشجرى نزهة الألبا ص ٤٠٤ ومعجم الأدباء ١٩ / ٢٨٢ وإنباه الرواة ٣ / ٣٥٦ وابن خلكان ٢ / ١٨٣ وبغية الوعاة ص ٤٠٧.

(٢) أمالى ابن الشجرى ٢ / ١٢٩ ، ١٤٧.

(٣) ذوميعة : نشيط ، لاحق الآطال : ضامر الجنبين ، نهد : جسيم ، ذو خصل : طويل الشعر.

٢٧٧

بألف مقصورة (١). وذهب إلى أن «إذ» فى مثل : «فبينما العسر إذ دارت مياسير» زائدة ، وكان سيبويه يذهب إلى أنها بعد بينا وبينما نفس إذ الفجائية ، وقد اختلف النحاة فيها هل هى حرف أو ظرف (٢). ويظهر أنه كانت تنقصه الدقة ، فقد تعقبه ابن هشام فى عدة مواضع من كتابه المغنى مغلطا له (٣) ، ومثبتا عليه عدم التحرى فى نقل آراء الفارسى وسيبويه والأخفش والكسائى (٤).

وأبو البركات (٥) بن الأنبارى بغدادى ، ولد سنة ٥١٣ وتوفى سنة ٥٧٧ للهجرة ، وهو تلميذ ابن الشجرى ، وبذلك يتصل نسبه النحوى بأبى على الفارسى ، ويظهر أنه كان يعكف على مصنفاته ، ويدرسها لتلاميذه فى المدرسة النظامية ، إذ نجد بين مؤلفاته كتاب حواشى الإيضاح ، وهو من أهم مصنفات الفارسى. وتوفر على دراسة وجوه الخلاف بين البصريين والكوفيين فى مسائل النحو ، وصنّف فى ذلك كتابين هما : الإنصاف الذى نشره قابل لأول مرة وكتابه أسرار العربية المنشور بدمشق ، ولاحظ قابل أنه ينزع فى أولهما نزعة بصرية واضحة ، وهى نزعة استمدها من أبى على الفارسى ومنهجه الذى وصفناه. وقد وقف مع البصريين فى جمهور المسائل التى أحصاها ، ورجح ـ كما لاحظ قاييل ـ مذهب الكوفيين فى سبع مسائل هى العاشرة والثامنة عشرة والسادسة والعشرون والسبعون والسابعة والتسعون والواحدة والسادسة بعد المائة. وبذلك يصبح بغداديّا على شاكلة أبى على ، فهو يجرى فى جمهور آرائه مع البصريين ، ويفتح الأبواب لاختيار بعض آراء الكوفيين. وله فى علم الجدل النحوى مصنف غير منشور ، ومصنف آخر فى أصول النحو سماه لمع الأدلة ، منشور بدمشق ، فصّل القول فيه فى النقل والقياس والعلة ، ونشر معه مصنف له باسم الإغراب فى جدل الإعراب ، وهو يدور على أسئلة فى الإعراب وأجوبة مسندة بالأدلة. وكتابه نزهة الألباء فى تراجم النحاة معروف.

__________________

(١) المغنى ص ٣٠٠ ، ٧٧٩ والهمع ٢ / ٦٤

(٢) المغنى ص ٨٨.

(٣) انظر المغنى ص ٤١ ، ٦٢ ، ٣٣٨.

(٤) المغنى ص ١٨١ ، ٦٨٢.

(٥) انظر فى ترجمة أبى البركات بن الأنبارى إنباه الرواة ٢ / ١٦٩ وابن خلكان ١ / ٢٧٩ وطبقات الشافعية للسبكى ٤ / ٢٤٨ وشذرات الذهب ٤ / ٢٥٨ وبغية الوعاة ص ٣٠١.

٢٧٨

وأبو البقاء (١) العكبرى النحوى الضرير ، بغدادى مثل سالفيه ، ولد سنة ٥٣٨ وتوفى سنة ٦١٦ للهجرة ، وصلته بالشيخين أبى على الفارسى وابن جنى تتضح فى شرحه لإيضاح الأول ولمع الثانى ، وأيضا فى مصنفاته : «الإفصاح عن معانى أبيات الإيضاح» و «تلخيص أبيات الشعر لأبى على» و «تلخيص التنبيه لابن جنى» و «المنتخب من كتاب المحتسب». وله مؤلفات مختلفة فى النحو وعلله ومسائل الخلاف فيه. وكان يعنى بقراءات الذكر الحكيم ونشر له فى مصر كتاب إعراب القرآن والقراءات فى جزأين ، وهو من صفحاته بل سطوره الأولى يجرى فى إعراب الألفاظ على المذهب البصرى فالمبتدأ مرفوع بالابتداء وهلم جرا ، ويتوقف مرارا ليرد على الكوفيين بعض وجوههم فى الإعراب ، وإذا رجعنا إلى آرائه المنثورة فى كتب النحو وجدناه يتبع الفارسى فى كثير منها ، فقد كان يرى رأيه ورأى الفراء قبله فى أن «لو» تأتى مصدرية غير عاملة فى مثل : «يود أحدهم لو يعمنر ألف سنة» ويشهد لهم قراءة بعضهم : (ودوا لو تدهن فيدهنوا) بحذف نون الفعل الأخير ، لعطفه بالنصب على (لو تدهن) وكأنها فى مكان أن تدهن (٢). ورأى رأى الفارسى أيضا فى أن ما قد تأتى زمانية على نحو إتيانها فى الآية الكريمة : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم (٣). وتابعه فى إعراب ذلك فى قوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) صفة للباس ، والمشهور أنها بدل أو بيان (٤). وكان يختار لنفسه أحيانا من آراء الكوفيين ، فقد كان يمنع مثل ثعلب أن تكون منذا مركبة تركيب ما ذا بحيث يمكن إعرابها فى مثل «منذا لقيت» مفعولا به ، وهى عندهما مبتدأ وخبر ، وذا اسم موصول ، ولقيت صلته ، وكان يعلل لذلك بأن ما أكثر إبهاما من أختها من ، فحسن أن تجعل مع غيرها كشىء واحد ، ولأن التركيب خلاف الأصل (٥). وهو بذلك بغدادى من مدرسة أبى على الفارسى ، التى كانت تعوّل على الاختيار والانتخاب من آراء النحاة السابقين ، ومن ثمّ كان الدكتور مصطفى جواد محقّا حين اتهم نسبة شرح ديوان المتنبى المطبوع

__________________

(١) انظر فى ترجمة أبى البقاء العكبرى إنباه الرواة ٢ / ١١٦ وابن خلكان ١ / ٢٦٦ ونكت الهميان ص ١٧٨ وشذرات الذهب ٥ / ٦٧ وبغية الوعاة ص ٢٨١.

(٢) المغنى ص ٢٩٤.

(٣) المغنى ص ٣٣٥.

(٤) المغنى ص ٥٥٣.

(٥) المغنى ص ٣٦٤.

٢٧٩

باسم التبيان فى شرح الديوان إليه ، لما يردد شارحه فيه من أنه كوفى وعلى مذهب الكوفيين (١).

ويعيش (٢) بن على بن يعيش موصلى الأصل حلبى الدار والمولد ، وكان مولده سنة ٥٥٦ وأقبل على تعلم العربية منذ نعومة أظفاره ، ورحل إلى بغداد ودمشق يتلقى عن الشيوخ ، وعاد إلى حلب فتصدّر الإقراء بها إلى أن توفّى سنة ٦٤٣ للهجرة. وصلته بالمدرسة البغدادية تتضح فى شرحه كتاب التصريف الملوكى لابن جنى. وأهم مصنفاته النحوية شرحه على مفصل الزمخشرى ، وهو مطبوع بالقاهرة فى عشرة مجلدات ، صنّفه ـ كما يقول فى مقدمته ـ فى سن السبعين ، وهو أشبه بدائرة معارف لآراء النحاة من بصريين وكوفيين وبغداديين ، حتى كأنه لم يترك مصنفا لعلم من أعلامهم إلا استوعبه وتمثل كل ما فيه من آراء تمثلا منقطع القرين. ويلقانا منذ الصفحات الأولى منتصرا للبصريين ، فقد انتصر لرأيهم فى أن الاسم مشتق من السمو لا من السمة كما قال الكوفيون (٣) ، ولا يلبث أن نراه يعرض آراء سيبويه والأخفش والجرمى والمازنى والكوفيين فى إعراب الأسماء الخمسة ، ويوهن فى صراحة آراء الكوفيين والمازنى والجرمى زاعما أنه خولف فى هذه الأسماء القياس بحذف لاماتها فى حال إفرادها ، لأنك إذا قلت أخ فأصله أخو وأب فأصله أبو ، والذى يدل على ذلك قولهم فى التثنية أبوان وأخوان ... وكان مقتضى القياس أن تقلب الواو فيها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، إلا أنهم حذفوها تخفيفا (٤).

ويعرض لرأى سيبويه والكسائى فى التنازع وما ذهب إليه الأول من أن فى ضربنى فى مثل ضربنى وضربت زيدا فاعلا مضمرا دل عليه مفعول ضربت ، وما ذهب إليه الكسائى من أن ضربنى لا فاعل لها ، بل فاعلها محذوف ، ويعلق على ذلك بأن رأى سيبويه هو الصحيح ويحتج له (٥). وينتصر لرأى البصريين فى

__________________

(١) انظر مقال مصطفى جواد فى الجزءين الأول والثانى من المجلد الثانى والعشرين من مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق.

(٢) راجع فى ترجمة ابن يعيش ابن خلكان ٢ / ٣٤١ وشذرات الذهب ٥ / ٢٢٨ وبغية الوعاة ص ٤١٩.

(٣) ابن يعيش على المفصل ١ / ٢٣.

(٤) ابن يعيش ١ / ٥٢.

(٥) ابن يعيش ١ / ٧٧.

٢٨٠