المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

فقد قال إن الشيب «أسود» من الظلم ، والبصريون لا يجيزون ذلك بينما يجيزه الكوفيون (١). ولا يتسع المقام لعرض مثل هذه الشذوذات الكوفية عنده ، وشعره يزخر بها ، حتى لكأنما رأى أن يكون ديوانه معرضا واسعا لها.

ويلقانا فى النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى أبو الحسين أحمد (٢) بن فارس المتوفى سنة ٣٩٥ للهجرة وفيه يقول القفطى : «طريقته فى النحو طريقة الكوفيين» غير أن أكثر عنايته إنما صبّها على المباحث اللغوية ومن أشهر كتبه معجم مقاييس اللغة وهو منشور ، وفيه يرد معانى مفردات المادة اللغوية إلى معنى واحد. وقد جمع كثيرا من المسائل اللغوية فى كتابه الصاحبى الذى صنفه للصاحب بن عباد وزير البويهيين بالرى. ويقول مترجموه إن له مصنفا فى النحو سماه المقدمة ، ومصنفا آخر باسم «اختلاف النحويين» وأكبر الظن أنه ناقش فيه كثيرا من المسائل النحوية التى اختلف فيها البصريون والكوفيون موردا على الأولين كثيرا من الحجج والبراهين التى تؤيد رأى الأخيرين ، ويقول القفطى إنه كان كثير الحجاج والجدال ، مما يؤكد أنه أسهم بقوة فى احتجاجات الكوفيين.

ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن آخر النحاة الذين استظهروا آراء المدرسة الكوفية فى مصنفاتهم ابن آجروم (٣) الصنهاجى المغربى صاحب المتن المشهور باسم الآجرومية ، وفيه نراه يذهب إلى أن السكون فى فعل الأمر سكون جزم لا سكون بناء ، بالضبط كما كان يذهب الكوفيون. وذهب مذهبهم فى عدّه «كيفما» بين أدوات الشرط الجازمة. وجعل ـ مثلهم ـ حتى وأو والفاء والواو تنصب المضارع مباشرة دون تقدير أن المصدرية كما ذهب إلى ذلك الخليل والبصريون. وتابع الكوفيين أيضا فى بعض المصطلحات مثل النعت وعطف النسق.

وسنرى المدرسة البغدادية منذ أبى على الفارسى تمزج بين النحوين البصرى

__________________

(١) الإنصاف ، المسألة رقم ١٦.

(٢) انظر فى ترجمة ابن فارس نزهة الألباء ص ٣٢٠ ومعجم الأدباء ٤ / ٨٠ والفهرست ص ٨٠ واليتيمة ٣ / ٣٦٥ وإنباه الرواة ١ / ٩٢ ومقدمة مقاييس اللغة (طبع دار المعارف) وبغية الوعاة ص ١٥٣.

(٣) راجع فى ترجمة ابن آجروم بغية الوعاة ص ١٠٢ وجذوة الاقتباس (طبع فاس) ص ١٣٨.

٢٤١

والكوفى مؤثرة فى الجملة آراء البصريين ، واحتذتها فى ذلك مدرسة الأندلسيين ومدرسة المصريين وكذلك احتذاها فى هذا النهج كبار النحاة التالين فى الشام والعراق وإيران من أمثال الزمخشرى وابن يعيش. وهيّأ ذلك لأن تظل آراء المدرسة الكوفية حية نابضة فى كتب النحاة المتأخرين.

٢٤٢

القسم الثالث

مدارس مختلفة

٢٤٣
٢٤٤

الفصل الأول

المدرسة البغدادية

١

نشوء المدرسة البغدادية

اتبع نحاة بغداد فى القرن الرابع الهجرى نهجا جديدا فى دراساتهم ومصنفاتهم النحوية يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعا ، وكان من أهم ما هيّأ لهذا الاتجاه الجديد أن أوائل هؤلاء النحاة تتلمذوا للمبرد وثعلب ، وبذلك نشأ جيل من النحاة يحمل آراء مدرستيهما ويعنى بالتعمق فى مصنفات أصحابهما والنفوذ من خلال ذلك إلى كثير من الآراء النحوية الجديدة.

وكان من هذا الجيل من يغلب عليه الميل إلى الآراء الكوفية ومن يغلب عليه الميل إلى الآراء البصرية ، فاضطرب كتّاب التراجم والطبقات إزاءه ، فمنهم من حاول تصنيف أفراده فى المدرستين الكوفية والبصرية على نحو ما صنع الزّبيدى فى طبقاته ومنهم من أفردهم بمدرسة مستقلة كما صنع ابن النديم فى الفهرست ، وإن كان قد أدخل فيهم نفرا ليس لهم نشاط نحوى مذكور مثل ابن قتيبة وأبى حنيفة الدينورى.

وحاول بعض الباحثين المعاصرين أن ينفى وجود المدرسة البغدادية ، معتمدا على من ينظمون أفرادها فى البصريين والكوفيين وأن علمين من أعلام جيلها الثانى ينسبان أنفسهما فى البصريين ، وهما أبو على الفارسى وتلميذه ابن جنى ، إذ يعبّران فى تصانيفهما عنهم كثيرا بكلمة أصحابنا (١) ، وينتصران فى أغلب الأمر للآراء البصرية وكثيرا ما يطلق ابن جنى على الكوفيين اسم البغداديين (٢) ، وكأنهم مدرسة واحدة.

__________________

(١) انظر أبو على الفارسى لعبد الفتاح شلى (طبع مطبعة نهضة مصر) ص ١٠٦ والخصائص لابن جنى (طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٩٥٢) ١ / ١٣٧ وسر صناعة الإعراب (طبعة الحلبى) ١ / ٢٦٧.

(٢) الخصائص ١ / ١٨ وقارن ١ / ١٩٩.

٢٤٥

ولا يكفى أن ينسب ابن جنى وأبو على الفارسى أنفسهما فى البصريين ، لنعدهما حقّا منهم ، فإنهما اتبعا فى مصنفاتهما المذهب البغدادى الانتخابى ، وإن كانت قد غلبت عليهما النزعة البصرية ، وهى لا تخرجهما عن دوائر الاتجاه البغدادى القائم على الانتخاب من آراء البصريين والكوفيين. وعلى غرارهما الزجاجى آخر الجيل الأول من البغداديين.

أما إطلاق ابن جنى اسم البغداديين على الكوفيين أحيانا فيرجع إلى أن جمهور الجيل الأول من البغداديين كانت تغلب عليه النزعة الكوفية ، فسماهم الكوفيين تارة ، وتارة سماهم البغداديين ، وأهمهم ثلاثة : ابن كيسان المتوفى سنة ٢٩٩ للهجرة وابن شقير (١) المتوفى سنة ٣١٥ وابن الخياط (٢) المتوفى سنة ٣٢٠ وفيهم يقول الزجاجى : «من علماء الكوفيين الذين أخذت عنهم أبو الحسن بن كيسان وأبو بكر بن شقير وأبو بكر بن الخياط لأن هؤلاء قدوة أعلام فى علم الكوفيين ، وكان أول اعتمادهم عليه ، ثم درسوا علم البصريين بعد ذلك فجمعوا بين العلمين» (٣). ويصرّح الزجاجى فى موضع آخر بأن هؤلاء الأعلام ومعهم ابن الأنبارى الكوفى الخالص هم الذين ينقل عنهم احتجاجات الكوفيين لآرائهم ، فهم الذين ضبطوا هذه الاحتجاجات ووثقوها وأحكموها ، يقول فى كتابه الإيضاح بعد أن أن أورد جملة وجوه الاحتجاج لآراء الكوفيين التى سردها فى الكتاب سردا : «وإنما نذكر هذه الأجوبة عن الكوفيين على حسب ما سمعنا مما يحتج به عنهم من ينصر مذهبهم من المتأخرين وعلى حسب ما فى كتبهم إلا أن العبارة عن ذلك بغير ألفاظهم والمعنى واحد ، لأنا لو تكلفنا حكاية ألفاظهم بأعيانها لكان فى نقل ذلك مشقة علينا من غير زيادة فى الفائدة ، بل لعل أكثر ألفاظهم لا يفهمها من لم ينظر فى كتبهم ، وكثير من ألفاظهم قد هذّبها من نحكى

__________________

(١) راجع فى ترجمة ابن شقير السيرافى ص ١٠٩ حيث سلكه فى البصريين وكذلك الزبيدى ص ١٢٨ وانظر تاريخ بغداد ٤ / ٨٩ ونزهة الألباء ص ٢٥١ ومعجم الأدباء لياقوت ٣ / ١١ وإنباه الرواة ١ / ٣٤ وبغية الوعاة ص ١٣٠.

(٢) انظر فى ترجمته طبقات الزبيدى ص ١٢٨ ونزهة الألباء ص ٢٤٧ ومعجم الأدباء ١٧ / ١٤١ وإنباه الرواة ٣ / ٥٤ وبغية الوعاة ص ١٩.

(٣) الإيضاح فى علل النحو للزجاجى ص ٧٩.

٢٤٦

عنه مذهب الكوفيين مثل ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط وابن الأنبارى ، فنحن إنما نحكى علل الكوفيين على ألفاظ هؤلاء ومن جرى مجراهم ، مع أنه لا زيادة فى المعنى عليهم ولا بخس حظ يجب لهم» (١).

ومعنى ذلك أن ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط الذين جمعوا بين علمى البصرة والكوفة كما يقول الزجاجى هم الذين اشتقوا احتجاجات الكوفيين فى جملتها ، وهم الذين انتزعوا مقاييسها وعللها ، مع ما أمدهم به الكوفيون من الكسائى إلى ابن الأنبارى.

وكان تثقفهم بالنحو البصرى وما بسط فيه من العلل والمقاييس ووجوه الاحتجاج مادة صاغوا منها عملهم. وبذلك تتضح لنا صحة ما رواه صاحب الإنصاف من احتجاجات الكوفيين بإزاء احتجاجات البصريين فإن من يبحث عن هذه الاحتجاجات فيما وصلنا من كتابات الفراء وثعلب قلما يجد لها أصلا عندهما ، مما قد يدعو إلى الشك فى صحتها وأنها قد تكون من عمل بصريين متأخرين كما ظن ذلك فايل فى مقدمته للإنصاف ، وهو ظن واهم ، إنما هى من عمل أوائل البغداديين ممن سميناهم وأمثالهم ، ممن حاولوا ـ كما لاحظ الزجاجى ـ الاحتجاج للآراء الكوفية والاحتيال لها والتلطف فى بيانها. وهم أنفسهم الذين يطلق عليهم ابن جنى تارة اسم الكوفيين مدمجا فيهم سابقيهم من أمثال الكسائى والفراء ، وتارة يطلق عليهم اسم البغداديين ، يقصدهم وحدهم دون من تقدموهم من الكوفيين ، وهو الاسم الصحيح الذى يتطابق مع ما أكدته كتب التراجم من خلطهم بين آراء المدرستين الكوفية والبصرية.

وكان يعاصرهم من يخلط بين آراء المدرستين نازعا نزعة بصرية قوية ، على نحو ما يلقانا عند الزجاجى ، وخلفه أبو على الفارسى وتلميذه ابن جنى ، وكانا أشد منه نزوعا إلى آراء المدرسة البصرية ، ولعلهما من أجل ذلك كانا ينسبان أنفسهما إلى تلك المدرسة ، مما جعل الأمر يغمّ على بعض المعاصرين ، فيضيفهما إلى البصريين (٢) ، وهما ـ كما سنرى عما قليل ـ بغداديان ، يقفان غالبا مع

__________________

(١) الزجاجى ص ١٣١.

(٢) انظر مقدمة الشيخ محمد على النجار لكتاب الخصائص ص ٤٤.

٢٤٧

البصريين وقد يقفان مع الكوفيين حسب ما يقتضيه اجتهادهما ، وقد يخالفانهما جميعا حسب ما صحّ عندهما من الرأى الصائب.

وتلك هى المنازع العامة للمدرسة البغدادية ، وكأنما اتجهت اتجاهين : اتجاها مبكرا عند ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط نزع فيه أصحابه إلى آراء المدرسة الكوفية وأكثروا من الاحتجاج لها ، مع فتح الأبواب لكثير من آراء المدرسة البصرية ، وأيضا مع فتح باب الاجتهاد لبعض الآراء الجديدة ، واتجاها مقابلا عند الزجاجى ثم عند أبى على الفارسى وابن جنى ، نزع فيه أصحابه إلى آراء المدرسة البصرية وهو الاتجاه الذى ساد فيما بعد لا فى مدرسة بغداد وحدها ، بل فى جميع البيئات التى عنيت بدراسة النحو. ولعل من الخير أن نقف وقفة قصيرة عند أهم من مشّلوا المنزعين فى نشأة تلك المدرسة ، وهما ابن كيسان والزجاجى ، ثم نتلوهما بالحديث عن أبى على الفارسى وابن جنى ومن جاء فى إثرهما من نحاة إيران والعراق والشام ممن استضاءوا بمنهجهما النحوى فى نشاطهم العلمى.

ابن كيسان (١)

هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان ، وسلكه بروكلمان وبعض كتاب التراجم فى المدرسة البصرية ، وهو يعد أول أئمة المدرسة البغدادية ، فقد توفى سنة ٢٩٩ للهجرة ، وكان قد أخذ عن المبرد وثعلب وأتقن مذهبى البصريين والكوفيين فى النحو ، وكان أبو بكر بن مجاهد إمام القراء فى عصره يقول هو أنحى من ثعلب والمبرد ، وصنف كتبا كثيرة منها كتاب اختلاف البصريين والكوفيين وكتاب الكافى فى النحو وكتاب التصاريف ، وكتاب المختار فى علل النحو فى ثلاث مجلدات وقد أشار إليه الزجاجى فى الإيضاح ، ولعله هو الذى عنى فيه بوضع احتجاجاته لآراء المدرسة الكوفية.

__________________

(١) انظر فى ترجمة ابن كيسان الزبيدى ص ١٧٠ والسيرافى ص ١٠٨ ومراتب النحويين ص ١٤٠ ونزهة الألباء ص ٢٣٥ وتاريخ بغداد ١ / ٣٣٥ ومعجم الأدباء ١٧ / ١٣٧ وإنباه الرواة ٣ / ٥٧ ومرآة الجنان ٢ / ٢٣٦ وشذرات الذهب ٢ / ٢٣٢ وبغية الوعاة ص ٨.

٢٤٨

وفى كلام الزجاجى عنه ما يدل على أنه كان يعنى بحدود النحو ، فقد نقل عنه حدّ الاسم بقوله : «الأسماء ما أبانت عن الأشخاص وتضمنت معانيها نحو رجل وفرس» ثم قال : «ولا بن كيسان فى كتبه حدود للاسم غير هذا هى من جنس حدود النحويين ، وحدّه فى الكتاب المختار بمثل الحد الذى ذكرناه من كلام المنطقيين» (١) يريد حدّهم له بقولهم : «الاسم صوت موضوع دال باتفاق على معنى غير مقرون بزمان» (٢). ولعل فى ذلك ما يدل على أن ابن كيسان كان يأخذ نفسه بثقافة منطقية عميقة ، ويقول مترجموه إنه كان يمتاز بحدة خاطره وبعد غوصه وغرائب قياساته ، ويضربون مثلا لذلك أنه سئل عن قراءة آية سورة طه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ما وجهها من الإعراب؟ فقال : نجعلها مبنية (أى تلزم الألف فى حالتى النصب والجر) فسئل عن علة بنائها فقال لأن المفرد منها مبنى وهو هذا وكذلك الجمع هؤلاء مبنى ، فنجعلها مبنية مثلهما.

ويقول مترجموه أيضا إنه مزج النحوين : البصرى والكوفى ، فأخذ من كل واحد منهما ما غلب على ظنه صحته ، واطرد له قياسه ، وترك التعصب لأحد الفريقين على الآخر. وتدور له فى كتب النحو آراء كثيرة ، منها ما وافق فيه البصريين ومنها ما وافق فيه الكوفيين ومنها ما وصل إليه باجتهاده وبعد غوره ، فمما وافق فيه البصريين ذهابهم إلى أن الناصب للمضارع بعد لام التعليل أن مضمرة مثل جئت لأكرمك ، وإنما قدروا بعدها أن لأنها قد تظهر فى مثل قولك جئت لأن أكرمك. ومع ارتضائه هذا الرأى البصرى أضاف إليه أنه يجوز أن يكون الناصب بعد لام التعليل كى محذوفة لمجيئها أيضا فى مثل قولك جئت لكى أكرمك ، ومعروف أن الكوفيين يذهبون إلى أن لام التعليل تنصب المضارع بنفسها دون حاجة إلى تقدير أن كما ذهب البصريون (٣). وكان يذهب مذهب المبرد وابن السراج تلميذه فى أن العامل فى التابع من النعت والتأكيد وعطف البيان هو العامل فى المتبوع ينصبّ عليهما انصبابة واحدة ، وكان الخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن العامل فيها جميعا هو التبعية (٤). وكان يرى رأى الزجاج فى أن الضمير

__________________

(١) الزجاجى ص ٥٠.

(٢) انظر الزجاجى ص ٤٨.

(٣) المغنى ص ٢٣١ والهمع ٢ / ١٦.

(٤) الهمع ٢ / ١١٥.

٢٤٩

من «هو وهى» الهاء فقط والواو والياء زائدتان لحذفهما فى المثنى والجمع. بينما كان يرى بقية البصريين أن هو وهى جميعا أصلان (١). وكان يتابع يونس فى أن «إما» فى مثل قولك جاء إما زيد وإما عمرو ليست عاطفة ، وإنما العطف بالواو التى قبلها (٢).

ومما كان يوافق فيه الكوفيين جواز تقديم خبر «ما زال» عليها ، فتقول قائما ما زال زيد ، بينما كان البصريون لا يجيزون مثل هذا التعبير (٣). وكان يوافقهم فى أن «إيا» عماد فى «إياك وإياى وإياه وأخواتهما» والضمير ما يتلوها ، بينما ذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمازنى إلى أن الاسم المضمر هو «إيا» وما بعده حرف يدل على أحوال المرجوع إليه من الخطاب والتكلم والغيبة (٤). ووافقهم فى أن الاسم المؤنث علما لرجل مثل طلحة يجوز أن يجمع جمع مذكر سالما فيقال طلحون ، وكان الكوفيون يوجبون سكون عينه ، بينما جوّز فتحها قياسا على الجمع بالألف والتاء ، إذ يقال طلحات بفتح اللام وكان البصريون لا يجيزون جمع هذا العلم إلا جمع مؤنث سالما (٥). ومما وافقهم فيه جواز التوكيد بأكتع وأبصع وأبتع دون ذكر لكلمة جميع ، فيقال جاءوا أكتعون ، واشترط البصريون سبق كلمة أجمع لها فلا يقال عندهم إلا «جاءوا أجمعون أكتعون» ، واستدل ابن كيسان والكوفيون بسماع مثل قول بعض الشعراء : تحملنى الذلفاء حولا أكتعا (٦). وكان يذهب مذهبهم فى أن مثل ثلاث ورباع ممنوع من الصرف للعلمية والعدل ، بينما ذهب البصريون إلى أن المانع الوصفية والعدل ، بدليل وقوعه حالا فى مثل جاءنى القوم مثنى (٧). ومنع الفراء الفصل بين اسم إن وخبرها فى مثل «إن زيدا لأظن قائم وإن زيدا لغير شك قائم وإن زيدا لئن شاء الله قائم» واحتج لذلك ابن كيسان بقوله : إنما امتنع ذلك لأنه كلام معترض به من إخبارك عن نفسك كيف وصفت الخبر عن زيد شكّا كان عندك أو يقينا ،

__________________

(١) ابن يعيش ٣ / ٩٧ والهمع ١ / ٦١.

(٢) الهمع ٢ / ١٣٥

(٣) ابن يعيش ٧ / ١١٣

(٤) الرضى على الكافية ٢ / ٩.

(٥) الرضى ٢ / ١٦٨.

(٦) الهمع ٢ / ١٢٣.

(٧) الرضى ١ / ٣٦.

٢٥٠

والتوكيد إنما هو لخبر زيد لا لخبرك عن نفسك لأن «إن» لا تتعلق بخبرك وهى متجاوزة إلى الخبر (١).

ولابن كيسان بجانب ذلك آراء اجتهادية كثيرة انفرد بها ، فمن ذلك أنه كان يجوّز تذكير الفعل مع المبتدأ المؤنث المجازى مثل «الشمس طلع» لمجىء ذلك على لسان الشعراء فى مثل : ولا أرض أبقل إبقالها. كما جوز تذكير الفعل مع الفاعل المؤنث الحقيقى بدون فاصل لقول بعض الشعراء : تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما. واستدل أيضا بأن سيبويه حكى عن بعض العرب : «قال فلانة» (٢). وكان يعتلّ بأن الحال سدت مسد الخبر فى مثل «كتابتى الشعر قائما» لشبهها بالظرف فكأنما قيل كتابتى الشعر فى حال قيام (٣). وذهب الجمهور إلى أن أمس بنيت لتضمنها معنى لام التعريف ، بينما ذهب ابن كيسان إلى أن علة بنائها تضمنها معنى الفعل الماضى ، وأعربت «غد» لأنها فى معنى الفعل المستقبل وهو معرب (٤). وكان يذهب إلى جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور مستدلا بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) بينما كان سيبويه وكثير من البصريين يمنعون ذلك (٥). وذهب الجمهور فى مثل ما قام زيد ولكن عمرو إلى أن الواو هى العاطفة ولكن حرف ابتداء ، بينما ذهب ابن كيسان إلى أن لكن هى العاطفة والواو زائدة (٦). ومنع الجمهور جمع مثل أحمر جمع مذكر سالما وكذلك جمع حمراء جمع مؤنث سالما ومثلهما سكران وسكرى ، وجوز ذلك ابن كيسان ، فيقال فى رأيه أحمرون وحمراوات وسكرانون وسكرايات (٧).

ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل على براعة ابن كيسان وكيف ابتدأ المدرسة البغدادية ، فهو يعكف على آراء الكوفيين والبصريين دارسا فاحصا ، منتخبا لنفسه طائفة من الآراء البصرية وأخرى من الآراء الكوفية ومشتقّا لنفسه آراء جديدة مبتكرة.

__________________

(١) الهمع ١ / ١٤٠.

(٢) المغنى ص ٧٣١ والهمع ٢ / ١٧١.

(٣) الهمع ١ / ١٠٦.

(٤) الهمع ١ / ٢٠٨.

(٥) الرضى ١ / ٨٩.

(٦) المغنى ص ٣٢٤ والهمع ٢ / ١٣٨.

(٧) الرضى ٢ / ١٦٩.

٢٥١

الزجاجى (١)

هو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحق ، من أهل الصّيمرة الواقعة بين ديار الجبل وديار خوزستان ، نشأ بنهاوند جنوبى همذان ، وانتقل إلى بغداد ينهل من حلقات العلماء ، ولزم الزجاج البصرى وقرأ عليه النحو ، ومنه لزمه لقبه الزجاجى. ورحل إلى الشام فأقام بحلب مدّة ، ثم تركها إلى دمشق واتخذها دار مقام له ، وأكب على تصانيفه فيها وإملاءاته للطلاب ، وحدث أن خرج إلى طبريّة ، فمات بها سنة ٣٣٧ للهجرة ، وقيل بل سنة ٣٤٠. وقد خلّف مصنفات كثيرة نشر منها أماليه الوسطى مع تعليقات للشنقيطى وهى تزخر باللغة والأخبار ، ومجالس العلماء وهى تحكى محاورات لطائفة كبيرة منهم أكثرها فى مسائل لغوية ونحوية. ونشر له أيضا كتاب الإيضاح فى علل النحو ، وكتاب الجمل وهو مختصر فى قواعد النحو نال شهرة مدوّية فى العصور الوسطى ، إذ عكف عليه العلماء بالدرس والشرح حتى قالوا إن شروحه زادت عن مائة وعشرين شرحا.

وقد استقصى فى كتابه الإيضاح علل النحو البصرى والكوفى ، ونصّ كما مر بنا آنفا على أن الذين حرروا العلل الكوفية هم ابن الأنبارى وأوائل البغداديين : ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط ، وأضاف أن له فى ذلك نصيبا إذ قال : «وأكثر ما أذكره من احتجاجات الكوفيين إنما أعبر عنه بألفاظ البصريين» (٢) فهم الذين نهجوا التعبير عن العلل وذللوه ومهدوه. وكان أكثر علم الكوفيين عند الكسائى وثعلب بدون علل ، حتى جاء ابن كيسان وخالفوه ، فاستعاروا من البصريين لغتهم وطريقتهم فى الاحتجاج وغمسوا فيهما النحو الكوفى.

ومن يقرأ الكتاب يرى الفلسفة والمنطق وعلم الكلام ، والفقه أو بعبارة أدق عللها جميعا

__________________

(١) انظر فى ترجمة الزجاجى الزبيدى ص ١٢٩ ونزهة الألباء ص ٣٠٦ والأنساب للسمعانى الورقة ٢٧٢ وإنباه الرواة ٢ / ١٦٠ وشذرات الذهب ٢ / ٣٥٧ ومرآة الجنان ٢ / ٣٣٢ وابن خلكان ١ / ٣٨٩ والنجوم الزاهرة ٣ / ٣٠٢ وبغية الوعاة ص ٢٩٧.

(٢) الإيضاح فى علل النحو للزجاجى ص ٨٠.

٢٥٢

تمس جوانب التعليل والاحتجاج فيه. وهو يستهله بالحديث عن تقسيم سيبويه الكلام إلى اسم وفعل وحرف محتجّا لصحة هذا التقسيم. وما يلبث أن يتحدث عن حدود الاسم والفعل والحرف ، ويلتمس عند المناطقة تعريفهم للحد ، ويقف بإزاء اختلاف النحاة فى حدودهم ، ويقول إنه ليس اختلاف تضاد بل هو كاختلاف الفلاسفة فى حدهم للفلسفة ، ويقابل بين تعريف المناطقة للاسم وتعريف النحاة ، بادئا بسيبويه ثم الأخفش ثم ابن كيسان ، ثم المبرد ويرتضى تعريفه ناقضا ما يرد عليه من بعض الاعتراضات. وكذلك يصنع بحد الفعل وحد الحرف. ثم يقف عند اختلاف البصريين والكوفيين فى المصدر والفعل أيهما مأخوذ من صاحبه ، ويفيض فى بيان احتجاجات كل فريق ، محاولا إضعاف الحجج الكوفية. ويفتح فصلا لدراسة العلل النحوية ويقسمها إلى تعليمية مثل نصب «زيدا» فى قولنا «إن زيدا قائم» وتعليل ذلك بأنه اسم إن ، وقياسية ، مثل التعليل لعمل إن النصب والرفع فى معموليها بالفعل المتعدى لواحد ، وجدلية مثل التعليل لتقدم منصوبها على مرفوعها مخالفة بذلك الفعل الذى شبّهت أو قيست فى عملها به. ويستظهر هنا قاعدة فقهية أصولية ، فقد قيست إن على الفعل الذى تقدم مفعوله على فاعله وهو فرع للفعل الذى يتقدم عادة فاعله على مفعوله ، والأصل المعروف فى الفقه أن يقاس على الأصول لا على الفروع. ويتلو ذلك بفصول عن الإعراب والكلام أيهما أسبق؟ ولم دخل الإعراب فى الكلام؟ وهل الإعراب حركة أو حرف؟ وهل هو أصل فى الأسماء والأفعال جميعا ، أو هو أصل فى الأسماء فرع فى الأفعال المضارعة؟ وهل حقّا نشأت الأسماء قبل الأفعال وتبعتها الحروف؟ وأى الأفعال أسبق فى التقدم؟ وما حقيقة المضارع؟ وما الفرق بين النحو واللغة؟ وما معنى الرفع والنصب والجر؟ وما علة دخول التنوين فى الكلام؟ ولماذا ثقل الفعل وخفّ الاسم؟ وما علة امتناع الأسماء من الجزم؟ وما علة امتناع الأفعال من الخفض؟ وما معنى التثنية والجمع؟ وهل الألف والياء والواو فيهما إعراب أو حروف إعراب؟. وكل مسألة يرى فيها جدالا أو حجاجا بين البصريين والكوفيين يوردها مفصلا القول فيها ، وقد يضيف من عنده وجوها من العلل والأقيسة ، وهى جميعا تغمس

٢٥٣

فى اصطلاحات المناطقة والمتفلسفة والمتكلمين وأصحاب علم الأصول. ونحسّ فى وضوح أنه يقف مع البصريين مناضلا مدافعا ، مما يؤكد نزعة بصرية قوية فى مباحثه وكأنه كان استهلالا لانصراف البغداديين عن النزعة الكوفية إلى النزعة البصرية التى سادت بعده إلا قليلا.

وكتاب الجمل أفرده لقواعد النحو والصرف ، وحظى بشهرة مدوية لدقته ووضوح عبارته واستيعابه لدقائق النحو البصرى التى يحتاجها الناشئة ، وقد ألحق به فصلا عن الخط والإملاء. وهو فيه بعامة يتبع نظام النحو البصرى ، لأنه فعلا النظام السديد ، الذى أحكم بناؤه ، ومع ذلك نراه يستعير من الكوفيين بعض مصطلحاتهم ، فقد سمّى ـ متابعا لهم ـ نائب الفاعل باسم ما لم يسمّ فاعله ، وسمى الصفة النعت والشركة عطف النسق.

وإذا أخذنا نتعقب آراءه التى تدور فى كتب النحاة وجدناه يتابع البصريين غالبا ، وقد يتابع الكوفيين على نحو ذهابه مذهبهم فى أن كأنّ إذا كان خبرها اسما جامدا كانت للتشبيه مثل كأن زيدا أسد ، وإذا كان مشتقّا كانت للشك بمنزلة ظننت وتوهمت مثل كأن زيدا قائم ، وقد تأتى للتحقيق مثل قول الحارث ابن خالد المخزومى :

فأصبح بطن مكة مقشعرّا

كأن الأرض ليس بها هشام

وكان البصريون يذهبون إلى أنها للتشبيه دائما ولا معنى لها سواه (١). وكان يكثر من التوقف بإزاء آراء الكوفيين والبصريين جميعا محاولا استنباط رأى جديد ، من ذلك أن سيبويه كان يذهب إلى أن سوى ظرف مكان دائما ، وذهب الكوفيون إلى أنها ظرف متمكن يستعمل ظرفا كثيرا وغير ظرف قليلا ، أما هو فذهب إلى أنها ليست ظرفا ألبتة وأنها تقع فاعلا فى مثل جاء سواك ومفعولا به فى مثل رأيت سواك ، وبدلا أو استثناء فى مثل ما جاءنى أحد سواك أى أنه يجوز فيها حينئذ الرفع على البدلية والنصب على الاستثناء (٢). وكان جمهور البصريين يذهب إلى أنه إذا وصلت إن وأخواتها بما بطل عملها ما عدا ليت ،

__________________

(١) المغنى ص ٢٠٩ والهمع ١ / ١٣٣.

(٢) المغنى ص ١٥١ والهمع ١ / ٢٠٢.

٢٥٤

فيجوّز فيها الإعمال والإهمال ، وأضاف إليها الزجاج لعل وكأن ، أما الزجاجى فعمم الإلغاء والإعمال حينئذ لما حكى عن بعض العرب من قولهم إنما زيدا قائم (١). وهو هنا يصدر عن منهج الكوفيين إذا سمعوا لفظا شاذّا قاسوا عليه وعمموا الحكم.

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور بغدادية الزجاجى على الرغم من أنه كان يسلك نفسه فى البصريين (٢) ، فقد كان يحيط بآراء المدرستين ووجوه اعتلالاتها واحتجاجاتها ، على خصائصها ، ومع الوفاء بحقوقها ، وكان حين يجد الحجة الكوفية تنقصها الدقة المنطقية الشائعة فى حجج البصريين لا يزال يداويها ويصلحها حتى تسبك فى الصورة البصرية. ومضى فى تصانيفه وآرائه النحوية يتوقف بإزاء كثير من المصطلحات والآراء البصرية مختارا لنفسه ما يقابلها عند الكوفيين ، وكثيرا ما نفذ إلى آراء جديدة.

٢

أبو على (٣) الفارسى

هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسى أبا ، أما أمه فعربية سدوسية من من سدوس شيبان ، ولد لها بفسا من أرض فارس بالقرب من شيراز حوالى سنة ٢٨٨ للهجرة. وكان فطنا ذكيّا فأكبّ على التعلم منذ نعومة أظفاره ، وما تقبل سنة ٣٠٧ حتى يرحل إلى بغداد ، ويعكف على حلقات البصريين مثل ابن السراج والأخفش الصغير والزجاج وابن دريد ونفطويه ومبرمان ، كما يعكف على حلقات البغداديين الأولين وخاصة حلقة ابن الخياط ، وأكب على حلقة أبى بكر بن

__________________

(١) الهمع ١ / ١٤٤.

(٢) الأشباه والنظائر للسيوطى (طبعة حيدر آباد) ٢ / ١٤٦.

(٣) انظر فى ترجمة أبى على الفهرست ص ٦٤ والزبيدى ص ١٣٠ وتاريخ بغداد ٧ / ٢٧٥ ونزهة الألباء ص ٣١٥ وإنباه الرواة ١ / ٢٧٣ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٢٠٦ ومعجم البلدان ٦ / ٣٧٦ ولسان الميزان ٢ / ١٩٥ وشذرات الذهب ٣ / ٨٨ والنجوم الزاهرة ٤ / ١٥١ والمزهر (طبعة الحلبى) ٢ / ٤٨٧ ، ٦٠٦ وبغية الوعاة ص ٢١٦ وأبو على الفارسى لعبد الفتاح شلبى طبعة مكتبة نهضة مصر ومطبعتها.

٢٥٥

مجاهد تلميذ ثعلب وشيخ القرّاء فى عصره. ولم يخالط الكوفيين والبغداديين والبصريين فى حلقات من استظهروا مذاهبهم فحسب ، فقد مضى يخالط سابقيهم فى كتاباتهم متمثلا ما كتبه سيبويه وغير سيبويه من مصنفات مختلفة. ويظهر أنه اتسع بثقافته ، فشملت كتابات المتكلمين ، إذ يقول مترجموه إنه كان يعتنق مذهب المعتزلة ، والاعتزال من قديم يجرّ إلى قراءة المنطق والفلسفة ، وأغلب الظن أنه كان شيعيّا ، لغلبة التشيع حينئذ على أهل العراق وفارس.

ونظن ظنّا أنه قعد للتدريس والإملاء فى مساجد بغداد مبكرا ، وكان فيه حب للرحلة ، فتنقل يملى ويدرس للطلاب فى «عسكر مكرم» وبعض مدن الموصل ، ويدخل حلب فى سنة ٣٤١ ومعه تلميذه ابن جنى الذى شغف به حبّا ، ويتحوّل إلى بعض مدن الشام ، ويعود إلى بغداد سنة ٣٤٦ وتطير شهرته ، فيستدعيه إلى شيراز عضد الدولة البويهى ، ويأخذ عنه هو وبعض أفراد أسرته ، ويفتخر عضد الدولة بذلك حتى ليقول إنه غلامه. ويظل عنده ، حتى إذا دخلت بغداد فى حوزته عاد إليها ثانية وظل بها إلى وفاته سنة ٣٧٧ للهجرة. واتبع عادة هى أن ينسب إملاءاته فى كل بلدة إليها ، وهى نسبة تعيّن رحلاته وأماكن دراساته ، فمن ذلك المسائل العسكرية نسبة إلى عسكر مكرم ، والمسائل القصرية نسبة إلى «قصر ابن هبيرة» بنواحى الكوفة ، والمسائل الحلبية ، والمسائل الدمشقية والمسائل البصرية والمسائل البغدادية والمسائل الكرمانية نسبة إلى كرمان فى إيران والمسائل الشيرازية. ومن مصنفاته الإيضاح والتكملة والعوامل المائة والمقصور والممدود ، ومن أهمها كتاب الحجة فى القراءات السبع ، وفيه يحتج لكل قراءة من تلك القراءات من اللغة والشعر ناثرا آراء النحاة البصريين والكوفيين ، منتصرا تارة للأولين وتارة للأخيرين مع نزعة قوية فيه إلى الأخذ بالآراء البصرية مما جعل الزبيدى فى طبقاته وابن النديم فى فهرسته يسلكانه فى البصريين ، ويقول أبو حيان فيه : «أبو على أشد تفردا بالكتاب (كتاب سيبويه) وأشد إكبابا عليه وأبعد من كل ما عداه من علم الكوفيين» (١). وسنرى أنه كان ممن خلط بين آراء المدرستين فى

__________________

(١) الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ١ / ١٣١.

٢٥٦

وضوح. وهو بذلك بغدادى ينتخب من المدرستين ما يراه أولى بالاتباع ، وإن غلب عليه النزوع إلى المذهب البصرى لأنه كان المذهب الذى حرّرت أصوله وفروعه وعلله.

وكان عقل أبى على من الخصب بحيث ملأ نفس ابن جنى تلميذه ، حين ألمّ بالموصل ، من جميع أقطارها ، وهو يكثر من ذكر آرائه فى كتابه الخصائص وغيره ، حتى ليبدو كأنه كان كنزا سائلا بمسائل اللغة والنحو وما يجرى فيها من ضبط الأصول وضبط الأقيسة والعلل ، وقد استضاء به فى كثير من الأصول الكلية التى حرّرها فى كتابه الخصائص ، فمن ذلك «السلب» يقول : «نبّهنا أبو على ـ رحمه‌الله ـ من هذا الموضع على ما أذكره وأبسطه لتتعجّب من حسن الصنعة فيه» (١) ويأخذ فى بيان أن الأصل فى الفعل الإثبات مثل قام فهى لإثبات القيام ، ثم يقول إنهم قد استعملوا ألفاظا فى السلب ابتداء مثل مادة «عجم» فهى للإبهام ، ولتوضيح ذلك يعرضها فى استعمالاتها المختلفة ، ثم يبين أنهم قد يدخلون الهمزة على الفعل لإفادة السلب مثل أشكيت الرجل إذا زلت له عما يشكوه ، وقد يضعفون ثانيه لنفس الغاية مثل مرّضت الرجل أى داويته من مرضه ، وقد يأتى السلب بدون زيادة. ويفيض ابن جنى نقلا عن أستاذه فى أمثلة كثيرة. ونراه ينقل عنه فى باب تعارض القياس والسماع أمثلة خالف فيها العرب القياس مبينا أن ما استقر على لسانهم هو الأساس (٢). وبالمثل ينقل عنه فى باب الاستحسان وهو ما تكون علته ضعيفة غير مستحكمة مثل قولهم رجل غديان والقياس غدوان لأنه من قولهم غدوت (٣). ومن ذلك باب نقض المراتب إذا عرض عارض كتقديم المفعول به عل الفاعل (٤). ومن ذلك باب تلاقى اللغة ، يقول : «هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئا إلا لأبى على رحمه‌الله» (٥) ويذكر مما جاء على لسانه منه أجمع وجمعاء وأكتع وكتعاء وأخواتهما فإن هذه الصيغة لا تأتى إلا صفة ، بينما هى فى تلك الأمثلة معارف.

__________________

(١) الخصائص لابن جنى (طبعة دار الكتب المصرية) ٣ / ٧٥.

(٢) الخصائص ١ / ١٢٥.

(٣) الخصائص ١ / ١٤٣.

(٤) الخصائص ١ / ٢٩٣ وما بعدها.

(٥) الخصائص ١ / ٣٢١.

٢٥٧

ومن ذلك باب ما قيس على كلام العرب فإنه يصح من كلامهم (١) ، وباب الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع (٢). ومما نقله عنه باب الاشتقاق الأكبر ، يقول : «هذا موضع لم يسمّه أحد من أصحابنا غير أن أبا على ـ رحمه‌الله ـ كان يستعين به ويخلد إليه» (٣) ويريد به «أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا ، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه ، وإن تباعد شىء من ذلك عنه ردّ بلطف الصنعة والتأويل إليه .. نحو ك ل م ، وك م ل ، م ل ك ، م ك ل ، ل ك م ، ل م ك». ومن ذلك باب مشابهة معانى الإعراب معانى الشعر ، إذ يقول «نبّهنا أبو على ـ رحمه‌الله ـ من هذا الموضع على أغراض حسنة» (٤). ويقول فى باب تعليق الأعلام على المعانى دون الأعيان : «هذا باب من العربية غريب الحديث أراناه أبو على» (٥). وقد بنى باب محل حركات الإعراب من الحروف على كلام لأبى على (٦) ، واكتفى فى حديثه عن الحرف المبتدأ به أيمكن أن يكون ساكنا على توجيه أستاذه (٧) ويقول فى باب إضافة الاسم إلى المسمى والمسمى إلى الاسم : «هذا موضع كان يعتاده أبو على ـ رحمه‌الله ـ كثيرا ويألفه ويأنق له ويرتاح لسماعه» (٨). ويعقد بابا للاكتفاء بالسبب دون المسبب وبالمسبب من السبب قائلا : «هذا موضع من العربية شريف لطيف وواسع لمتأمله كثير ، وكان أبو على ـ رحمه‌الله ـ يستحسنه ويعنى به» (٩). ومن ذلك قوله فى فاتحة باب نقض الأصول وإنشاء أصول غيرها : «رأيت أبا على ـ رحمه‌الله ـ معتمدا هذا الفصل من العربية ملمّا به دائم التطرق له والفزع فيم يحدث إليه» (١٠) ويقول فى باب تجاذب المعانى والإعراب : «هذا موضع كان أبو على ـ رحمه‌الله ـ يعتاده ، ويلمّ كثيرا به ، ويبعث على المراجعة له ، وإلطاف النظر فيه» (١١).

__________________

(١) الخصائص ١ / ٣٥٧.

(٢) الخصائص ٢ / ١٧.

(٣) الخصائص ٢ / ١٣٣.

(٤) الخصائص ٢ / ١٦٨.

(٥) الخصائص ٢ / ١٩٧.

(٦) الخصائص ٢ / ٣٢١.

(٧) الخصائص ٢ / ٣٢٩.

(٨) الخصائص ٣ / ٢٤.

(٩) الخصائص ٣ / ١٧٣.

(١٠) الخصائص ٣ / ٢٢٧.

(١١) الخصائص ٣ / ٢٥٥.

٢٥٨

ولعلنا لا نغلو إذا قلنا بعد ذلك إن أكثر الأصول التى اعتمدها ابن جنى فى كتابه الخصائص إنما استمدها من إملاءات أبى على أستاذه وملاحظاته. وإذا رجعنا إلى آرائه النحوية وجدناه فى طائفة منها ينصر الخليل وسيبويه ، وغيرهما من البصريين ، وفى طائفة أخرى ينتصر للكوفيين ، ويكفى أن ندل على ذلك ببعض الأمثلة ، فمما انتصر فيه للخليل أن لا النافية قد تأتى زائدة كما فى قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)(١). وانتصر له ولسيبويه فى تحليل ويكأنه فى قوله جلّ شأنه : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) إذ كانا يذهبان إلى أن (وى) مفصولة بمعنى أعجب ، وذهب الأخفش إلى أنها موصولة بالكاف ، أى (ويك أنه لا يفلح الكافرون) وويك عنده بمعنى أعجب ، وعلّق أن وما بعدها بما فى ويك من معنى الفعل. ووقف أبو على مع الخليل وسيبويه مؤكدا أن «كأن» قد تأتى كالزائدة ، وأنشد فى ذلك بيت عمر أبى ربيعة :

كأننى حين أمسى لا تكلمنى

ذو بغية يشتهى ما ليس موجودا

أى أنا كذلك» (٢). وكان سيبويه يذهب إلى أن «إذما» حرف شرط مثل إن ، وذهب المبرد وابن السراج ـ وتابعهما أبو على ـ إلى أنها ظرف مثل إذ (٣). وقد أجاز مع الأخفش والكوفيين ترك صرف ما ينصرف فى ضرورة الشعر (٤).

وعلى نحو ما كان ينتخب لنفسه من الآراء البصرية كان ينتخب من الآراء الكوفية ما صحّ فى قياسه ، من ذلك أنه كان يقف مع الكوفيين فى إعمال الفعل الأول فى باب التنازع مستدلا بقول امرىء القيس :

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفانى ـ ولم أطلب ـ قليل من المال (٥)

وكان يتابعهم فى إعمال إن النافية عمل ليس لما رووا عن بعض أهل العالية فى نجد من قولهم : «إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية» (٦). وتابعهم فى أن

__________________

(١) المغنى ص ٢٧٨.

(٢) الخصائص ٣ / ١٧٠.

(٣) المغنى ص ٩٢.

(٤) ابن يعيش على المفصل ١ / ٦٨.

(٥) المغنى ص ٥٦٣.

(٦) همع الهوامع ١ / ١٢٤.

٢٥٩

عطف البيان ومتبوعه قد يكونان نكرتين ، وقد استدلوا بمثل قوله جلّ شأنه : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) وقوله : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) وكان البصريون يؤولون مثل ذلك على أنه بدل ذاهبين إلى أن عطف البيان ينبغى أن يكون دائما معرفة (١). وذهب البصريون إلى أن لو شرطية دائما ، بينما ذهب الفراء ـ وتابعه أبو على ـ إلى أنها قد تكون حرفا مصدريّا بمنزلة أن إلا أنها لا تنصب ، وأكثر وقوع ذلك بعد ودّ ويودّ مثل (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) و (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) وقال البصريون إنها فى مثل ذلك شرطية وإن مفعول يود وجواب لو محذوف ، والتقدير : يود أحدهم التعمير لو يعمر ألف سنة لسره ذلك. ويقول ابن هشام لا خفاء بما فى هذا التقدير من التكلف (٢). وكان يجيز ـ مثل الكوفيين ـ إعمال الضمير العائد على المصدر فى الظرف مثل «قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح» فهو عنده تعمل فى اليوم عمل المصدر العائدة عليه (٣). وتابعهم فى أن «أو» تأتى للإضراب مطلقا بدون اشتراط تقدم نفى أو نهى كما اشترط سيبويه ، محتجّا بقول جرير :

ماذا ترى فى عيال قد برمت بهم

لم أحص عدّتهم إلا بعدّاد

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لولا رجاؤك قد قتّلت أولادى (٤)

ومما تابعهم فيه أن الباء الجارة قد تأتى بمعنى التبعيض مثل قوله تعالى :

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ»)(٥). وكان سيبويه يذهب إلى أن خلا إذا تقدمتها ما كانت فعلا ، وذهب الكسائى. وتبعه أبو على الفارسى ـ إلى أنها قد تكون حرف جر وما زائدة (٦).

وليس كل ما يشكّل بغدادية أبى على أنه كان ينتخب لنفسه من المذهبين

__________________

(١) الهمع ٢ / ١٢١.

(٢) المغنى ص ٢٩٤.

(٣) الخصائص ٢ / ١٩ وانظر الهامش.

(٤) المغنى ص ٦٧.

(٥) المغنى ص ١١١.

(٦) المغنى ص ١٤٢ ومما تابع فيه الكوفيين أن من حروف النصب المضارع كما بمعنى كيما (الهمع ٢ / ٦ والمغنى ص ١٩٣) ومر بنا أن الكسائى كان يرى فى مثل قام وقعد محمد أن فاعل الفعل الأول محذوف ولا فاعل ، وقد استضاء بذلك الفارسى فذهب إلى أن قلما فى مثل قلما ينظر محمد لا فاعل لها وكأن الفعل أجرى مجرى حرف النفى ومثلها كان المزيدة فى مثل أنت تكون ماجد نبيل (المغنى ص ٧٥٠ والهمع ١ / ١٢٠).

٢٦٠