المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

وشركائهم بكلمة أولادهم أو بعبارة أخرى بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به. والنحاة لا يجوّزون هذا الفصل بينهما إلا بالظرف والجار والمجرور ، ومن هنا استشكل الفراء على القراءة ، وحاول أن يجد لجرّ شركائهم وجها ، فقال : «وفى بعض مصاحف أهل الشام شركائهم بالياء فإن تكن مثبتة عن (القرّاء) الأولين فينبغى أن يقرأ زين وتكون الشركاءهم الأولاد لأنهم منهم فى النسب والميراث» يريد بذلك أن تقرأ كلمة (أولادهم) بالجر مضافة إلى قتل وبذلك تكون كلمة شركائهم بدلا منها أو صفة. وكان الأخفش كما قدمنا فى ترجمته يصحح هذه القراءة ويحتج لها بقول بعضهم فاصلا بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول :

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبى مزاده

فقال رادّا عليه فى عنف : «وليس قول من قال إنما أرادوا مثل قول الشاعر (وأنشد البيت) بشىء وهذا مما كان يقوله نحويّو أهل الحجاز ولم نجد مثله فى العربية (١)» وقال فى موضع آخر : الصواب فى البيت :

فزججتها متمكّنا

زجّ القلوص أبو مزاده (٢)

ووهم صاحب الإنصاف ، فحمّل البصريين مسئولية رفض هذه القراءة (٣) ، ولا نعلم بصريّا معاصرا للفراء ولا سابقا له رفضها ، بل لقد صحّحها الأخفش البصرى معاصره ، كما قدمنا ، واحتج لها من الشعر. ومرّ بنا فى ترجمة المازنى أنه كان يرى أن تجمع معيشة على معايش بالياء لأن حرف اللين فيها عين الكلمة وليس حرفا زائدا مثل ياء صحيفة التى تجمع على صحائف ، وأنه لذلك أنكر قراءة نافع : معائش بالهمزة فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) وهو فى هذا الإنكار إنما كان يتابع الفراء فقد ذكر الآية ثم قال بعقبها : «معايش لا تهمز لأنها ـ يعنى الواحدة ـ مفعلة ، فالياء من الفعل ، فلذلك لم تهمز ، إنما يهمز من

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٣٥٧.

(٢) معانى القرآن ٢ / ٨١.

(٣) الإنصاف : المسألة رقم ٦٠.

٢٢١

هذا ما كانت الياء فيه زائدة مثل مدينة ومدائن وقبيلة وقبائل». وهو بذلك يعدّ أول من أنكر قراءة نافع لمعايش مهموزة ، وإن قال إن العرب ربما همزت هذا وشبهه يتوهمون أنه على وزن فعيلة لشبهها بها فى وزن اللفظ وعدّة الحروف على نحو ما صنعوا فى جمعهم لمصيبة على مصائب (١). ووقف بإزاء الآية الكريمة : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) وقال إن القرّاء قرءوها (تحسبن) بالتاء وقرأها حمزة (يَحْسَبَنَّ) بالياء ولم يلبث أن ضعّف قراءته قائلا : «ما أحبّها لشذوذها» (٢). وعلّق على الآية الكريمة : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) بقوله : «وقد قرأها الحسن البصرى (وشركاؤكم) بالرفع ، وإنما الشركاء ههنا آلهتهم كأنه أراد أجمعوا أنتم وشركاؤكم ، ولست أشتهيه لخلافه للكتاب (يريد كتابة المصحف) ولأن المعنى فيه ضعيف لأن الآلهة لا تعمل ولا تجمع» (٣).

وتلا قوله جلّ وعزّ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ثم قال قوله (يعقوب) يرفع وينصب أى يجوز فيه الوجهان ، ولم يلبث أن قال إن حمزة كان يقرأ الكلمة بالخفض يريد ومن وراء إسحق بيعقوب ولا يجوز الخفض إلا بإظهار الباء ، وبذلك ردّ قراءته للكلمة مجرورة على نية إعادة الباء (٤). ووقف بإزاء الآية الكريمة : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) وذكر قراءة الأعمش ويحيى بن وثّاب ومن تبعهما مثل حمزة : (بمصرخىّ) بخفض الياء ، وقال : «لعلها من وهم القرّاء طبقة يحيى فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم. ولعله ظن أن الباء فى كلمة (بمصرخىّ) خافضة للحرف كله والياء من المتكلم خارجة من ذلك» (٥). وتلا آية سورة الشعراء (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) وقال : جاء عن الحسن : (الشياطون) وكأنه من غلط الشيخ ظن أنه بمنزلة المسلمين والمسلمون» (٦). أى أنه جمع تكسير لا جمع مذكر سالم ، ولذلك لا يجوز فيه الشياطون بالواو.

وهذه الحروف التى ردّها الفراء إنما هى فيما نشر من كتابه معانى القرآن ،

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٣٧٣.

(٢) معانى القرآن ١ / ٤١٤.

(٣) معانى القرآن ١ / ٤٧٣.

(٤) معانى القرآن ٢ / ٢٢.

(٥) معانى القرآن ٢ / ٧٥ وقد عاد فى نفس الموضع يثبت أن بعض العرب قد يخفض ياء المتكلم فى الجار والمجرور فى مثل كلمة «فىّ».

(٦) معانى القرآن ٢ / ٢٨٥.

٢٢٢

وقد بقى منه نحو جزء لم ينشر ، وأغلب الظن أنه ضمنه حروفا أخرى ردّها على القرّاء منكرا لها أو مقبّحا أو مضعفا. ولا نعلم بصريّا جاء بعده وردّ مثل هذا القدر من القراءات ، بل لقد كان المازنى والمبرد وأضرابهما ممن توقفوا بإزاء بعض القراءات متابعين له مقتدين به. وبذلك يسقط جلّ ما نسبه صاحب الإنصاف إلى البصريين دون الكوفيين من إنكار بعض القراءات. وينبغى أن نعرف أن الفراء ومن تابعه من البصريين لم يكونوا يقصدون إلى الطعن على القرّاء من حيث هو ، إنما كانوا يتثبتون ويتوقفون فى مواضع التوقف حين يعييهم أن يجدوا للقراءة الشاذة على عامة القراء ما يسندها من كلام العرب. وقد تمسكوا تمسكا شديدا بصورة كتابة المصحف ، ولم يدلوا برأى يخالفها بوجه من الوجوه. ونرى الفراء نفسه يتوقف بإزاء الآية : (فَما آتانِيَ اللهُ) ويقول إنه لم يثبت الياء فى (أتانى) لأنها محذوفة من الكتاب. ويذكر أن بعض القراء كان يستجيز زيادة الياء والواو المحذوفتين فى مثل الآية السابقة ومثل : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) فيثبت الياء فى (أتانى) والواو فى (يدعو) وليست فى المصحف ، ويقول إنه لا يأخذ بذلك ، بل يتقيد بالمصحف وكتابته المأثورة ما دام لذلك وجه من كلام العرب ، وما دام هو الذى قرأ به القراء ، ولا يلبث أن يقول : «كان أبو عمرو يقرأ (إن هذين لساحران) أى بدلا من القراءة العامة إن هذان لساحران ولست أجترئ على ذلك وقرأ (فأصّدق وأكون) (أى بدلا من القراءة العامة وأكن) فزاد واوا فى الكتاب ولست أستحب ذلك» (١). ولعل فى هذا ما يشهد شهادة قاطعة بأنه وأمثاله ممن كانوا يردون بعض القراءات التى لا تعدو حروفا معدودة لم يكن دافعهم إلى ذلك الطعن والتنقص ، إنما كان دافعهم الرغبة الشديدة فى التحرى والتثبت.

__________________

(١) معانى القرآن ٢ / ٢٩٣.

٢٢٣

الفصل الرابع

ثعلب وأصحابه

١

ثعلب

هو أبو العباس أحمد (١) بن يحيى ، كان أبوه من موالى بنى شيبان ، ويغلب أن يكون فارسىّ الأصل ، ولد ببغداد سنة ٢٠٠ للهجرة ، وألحقه أبوه منذ نعومة أظفاره بكتّاب تعلم فيه الكتابة ، وحفظ القرآن الكريم وشدا بعض الأشعار ، وما كاد يخطو على عتبة سنته التاسعة حتى أخذ يختلف إلى حلقات العلماء ، وخاصة علماء اللغة والعربية ، حتى إذا اشتد عوده أخذ نفسه بجهد صارم فى التزود باللغة والنحو ، أما النحو فلزم فيه حلقات تلامذة الفرّاء : أبى عبد الله الطّوال ومحمد بن قادم وسلمة بن عاصم ، وعكف على حلقة الأخير حيث كان يملى على الطلاب كتب الفراء ، وكان يؤديها أداء بارعا. وعليه ابتدأ النظر فى حدود الفراء ، وهو فى السادسة عشرة من عمره ، وما إن بلغ الخامسة والعشرين حتى كان قد حفظ كل ما للفراء من كتب. وأما اللغة فلزم فيها حلقات ابن الأعرابى بضع عشرة سنة. ولم يلحق الأصمعى وأبا عبيدة وأبا زيد ، وإنما لحق تلاميذهم ، وأخذ عنهم مادة علمهم اللغوى ، أما الأصمعى فأخذ كتبه عن تلميذه أبى نصر أحمد بن حاتم ، وأخذ كتب أبى عبيدة عن تلميذه الأثرم وكتب أبى زيد عن تلميذه ابن نجدة ، كما أخذ كتب أبى عمرو الشيبانى عن ابنه عمرو.

__________________

(١) انظر فى ترجمة ثعلب أبا الطيب اللغوى ص ٩٥ والزبيدى ص ١٥٥ وتاريخ بغداد ٥ / ٢٠٤ ونزهة الألباء ص ٢٢٨ ومعجم الأدباء ٥ / ١٠٢ وإنباه الرواة ١ / ١٣٨ وابن خلكان وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ١٤٨ وتذكرة الحفاظ ٢ / ٢١٤ وطبقات الحنابلة لأبى يعلى ١ / ٨٣ والفهرست ص ١١٦ وتهذيب الأسماء واللغات ٢ / ٢٧٥ وشذرات الذهب ٢ / ٢٠٧ ومرآة الجنان ٢ / ٢١٩ والنجوم الزاهرة ٣ / ١٣٣ وبغية الوعاة ص ١٧٢.

٢٢٤

ورأى أن يضم إلى ذلك زادا من القراءات والحديث النبوى والفقه والشعر والأخبار ، ووجد عند أستاذه سلمة عتادا من قراءات القرّاء ، وصله بما ثقفه من حلقات القراء الآخرين وما قرأه عند الفراء ، مما أتاح له أن يصنف فى القراءات كتابا ، وأن يكون صاحب قراءة يحملها عنه بعض تلاميذه وفى مقدمتهم أبو بكر بن مجاهد. واختلف إلى حلقات المحدّثين ، وخاصة عبيد الله بن عمر القواريرى ، وفى بعض الروايات عنه أنه سمع منه مائة ألف حديث. وطبيعى أن يختلف إلى حلقات أحمد بن حنبل أكبر المحدثين والفقهاء فى عصره ، ويظهر أنه حمل عنه مذهبه الفقهى ، إذ نجد أصحاب كتب التراجم للحنابلة تسلكه بينهم. وثقف كثيرا عن رواة الأخبار والأشعار ، وفى مقدمتهم عمر بن شبة ومحمد بن سلام الجمحى صاحب كتاب طبقات فحول الشعراء ، والزبير بن بكار الرواية الإخبارى.

وبجانب هذه المادة الغزيرة التى رواها شفاها نجده يعكف على قراءة كتاب سيبويه وكتب الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة. وتتردد قراءته للكتاب فى ترجمته ويقال إنه لم يقرأه على العلماء وإنما قرأه بنفسه ، وفى أخباره أنه طلب من أبى حاتم السجستانى أن ينسخ له كتاب المسائل للأخفش فلبّى طلبه. وفى محاورة بينه وبين الرياشى لسنة ٢٣٠ للهجرة ما يدل دلالة واضحة أنه كان قد حذق النحو الكوفى والبصرى جميعا. ويقول ياقوت إنه كان متبحرا فى مذهب البصريين غير أنه لم يكن مستخرجا للقياس ولا طالبا له. وقد بدأ تصنيف الكتب وسنّه لا تتجاوز الثالثة والعشرين ، وسرعان ما أخذ يلقى محاضراته على الطلاب ، وهو فى الخامسة والعشرين ، وظل أكثر من ستين عاما يملى عليهم ، وهم يقصدونه من كل صوب ، لما أتقنه من المعرفة بالغريب ورواية الشعر ومعرفة النحو على مذهب الكوفيين ، بل لقد أصبح إمام هذا النحو وعلمه المفرد فى عصره.

وكان طوال حياته فى بحبوحة من العيش ، إذ أخذ يرعاه بعض ذوى الجاه والثراء ـ كما حدث عن نفسه ـ منذ سنة ٢٢٣ للهجرة ، وممن تولاه برعايته محمد ابن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد وقد اتخذه مؤدبا لابنه طاهر ، وظل

٢٢٥

يرعاه إلى أن توفى ، ولم يلبث الموفق أخو الخليفة المعتمد الذى كان يطلق يده فى أموال الدولة يدبرها حسب مشيئته أن جعل له راتبا سنيّا. وكان ثعلب مقترا على نفسه مما جعله يتوفى لسنة ٢٩١ عن ثروة كبيرة.

وقد صنف مؤلفات كثيرة فى النحو واللغة والقراءات والأمثال ، سقط معظمها من يد الزمن ، ولم يصلنا منها إلا كتابه «المجالس» وهو كتاب نفيس لما يشتمل عليه من النحو واللغة والأخبار ومعانى القرآن والأشعار الغريبة والشاذة والأمثال والأقوال المأثورة ، وكتابه الفصيح وقد طبع مع شرح للهروى وهو كتاب أراد به تقويم ألسنة المبتدئين على نحو ما أراد الفراء بكتابه «البهاء فيما تلحن فيه العامة».

ويقول ابن خلكان إنه ليس فيه زيادات على كتاب الفراء إلا أشياء يسيرة ، ثم كتابه قواعد الشعر وهو رسالة قصيرة يقسم الشعر فيها إلى أمر ونهى وخبر واستخبار ، ويتحدث حديثا قصيرا عن أغراضه ويسلك بينها التشبيه ، وعن بعض ما يجرى فيه من الصور البيانية والبديعية.

ويقول القدماء إنه صنع طائفة من دواوين الشعراء الجاهليين والإسلاميين بينهم الأعشى والنابغتان وطفيل والطّرمّاح ، وقد نشرت له دار الكتب المصرية شرحه لديوان زهير الشاعر الجاهلى المشهور.

وإذا أخذنا نستعرض مجالسه وما نسبته كتب النحو له من آراء وجدناه مطبقا تطبيقا واسعا لآراء الفراء والكسائى وما نهجاه لمدرستهما من أصول وما دار على لسانيهما من مصطلحات وما أخذا به أنفسهما من السماع عن العرب والتوسع فى روايته واستمداد الآراء النحوية منه.

ونبدأ باستعراض المصطلحات الكوفية عنده ، فمن ذلك التقريب ، وهو اسم الإشارة حين يليه مرفوع ومنصوب ، فقد كانوا يشبهونه بكان الناقصة ، ومعروف أنهم كانوا يعربون خبرها حالا كما مر بنا عند الفراء.

ونرى ثعلبا يقول : «هذا تكون مثالا (وهى التى لا يليها مرفوع ومنصوب) وتكون تقريبا ، فإذا كانت مثالا قلت هذا زيد .. وإذا قلت هذا كزيد قائما فهو حال كأنك قلت هذا زيد قائما ولكنك قد قرّبته.

٢٢٦

والتقريب مثل كان» (١) ويقول فى موضع آخر من مجالسه : «تقول هذا الخليفة قائما ، والخليفة قائم ، فتدخل (هذا) وتخرجه فيكون المعنى واحدا ، وكلما رأيت إدخال (هذا) وإخراجه واحدا فهو تقريب مثل قولهم من كان من الناس سعيدا فهذا الصياد شقيّا ، وهو قولك فالصياد شقى ، فتسقط هذا وهو بمعناه» (٢) وواضح أنه يشير بذلك إلى أن دخول اسم الإشارة على عبارة «الصياد شقى» يشبه تماما دخول كان.

وكان يسمى اسم الفاعل بالفعل الدائم ، يقول : «ولا تجىء عسى إلا مع مستقبل ولا تجىء مع ماض ولا دائم ولا صفة» (٣) ويقول ابن كيسان قال لى ثعلب : «كيف تقول مررت برجل قائم أبوه؟ فأجبته بخفض قائم ورفع الأب ، فقال لى : بأى شىء ترفعه؟ فقلت بقائم ، فقال : أو ليس هو عندكم (يشير إلى أنه بصرى المنزع) اسما وتعيبوننا بتسميته فعلا دائما؟» (٤) وكأنه يريد أن يذكر علة تسميتهم له بفعل دائم ، إذ يعمل فى الأسماء كما تعمل الأفعال.

وكان يصطلح على تسمية الضمير باسم المكنى والكناية ، يقول : «الأعداد لا يكنى عنها ثانية فلا أقول عندى الخمسة الدراهم والستتها وأقول عندى الحسن الوجه الجميله فأكنى عنه» (٥). وكان يتوسع مثل الفراء فيطلق اسم العماد لا على ضمير الفصل فى مثل محمد هو الشاعر وإن محمدا هو الكاتب بل أيضا على ضمير الشان ، فى مثل «إنه قام زيد» و «إنه قامت هند» (٦).

وأكثر فى مجالسه من تسمية النفى باسم الجحد ، من مثل قوله : «كل استفهام يكون معه الجحد يجاب المتكلم به ببلى ولا ، وكل استفهام لا جحد معه فالجواب فيه نعم ، وإنما كره أن يجاب ما فيه جحد بنعم لئلا يكون إقرارا بالجحد من المتكلم» (٧) وهو يريد أن يقول إنك تجيب على مثل أمعك كتاب؟ بنعم أى

__________________

(١) مجالس ثعلب ص ٥٢ وما بعدها.

(٢) المجالس ص ٥٤.

(٣) المجالس ص ٤٥٦ وانظر ص ٤٦٣.

(٤) مجالس العلماء للزجاجى ص ٣١٨.

(٥) المجالس ص ٣٣٢.

(٦) المجالس ص ٦٦١ وقد اعتذر الكسائى فى روايته عن العرب «فإذا هو إياها» بأن هو عماد وإذا كوجدت مع أحد مفعوليه كأنه قال فوجدته هو إياها. انظر الرضى ٢ / ١٠٦.

(٧) المجالس ص ٥٤٢.

٢٢٧

أنه معك ، وأنت حينئذ تقرّ بطرح الاستفهام وحده ، وتجيب على مثل أليس معك كتاب ببلى أى أنه معك كتاب وكأنها خصّصت للرجوع عن الجحد ، ولو أنك قلت نعم فى هذه الحالة لكان معنى ذلك أنه ليس معك كتاب ، لأن نعم تفيد الإقرار فى الجواب بما بعد الاستفهام وبعده الجحود ، وهو عكس الجواب. وقد سمى لا النافية للجنس باسم التبرئة مرارا (١).

وكان يكثر من تسمية الجرّ باسم الخفض مقتديا بالفراء ، وكان يطلق الخفض أيضا على الكسر الذى يقع فى آخر الأفعال المجزومة عند ما تتحرك لالتقاء الساكنين فى مثل لم يذهب الرجل (٢). ودارت على لسانه كلمتا ما يجرى وما لا يجرى فى مقابل كلمتى مصروف وممنوع من الصرف (٣).

وتوسع فى اصطلاح الصفة الذى مر بنا عند الفراء فقد كان يطلقها على الظرف ، وكان يسميه الفراء المحل بينما كان يجعل الصفة خاصة بالجار والمجرور ، أما ثعلب فكان يطلقها عليهما ، يقول فى تعليقه على الآية الكريمة : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) «وقعت الصفة فى موضع الفعل» (٤) يريد وقع الجار والمجرور متقدما على الخبر ويقول : «وإذا أفردوا الصفة رفع (مثل) زيد خلف ، وزيد قدام ، وزيد فوق» (٥) وكلها ظروف.

وكان يسمى التمييز باسم التفسير (٦) ، وسمى البدل ترجمة ، يقول تعليقا على الآية الكريمة : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) : «يومئذ مرافع (خبر) فذلك ، ويوم عسير ترجمة يومئذ» (٧). وسمّى الصفة نعتا. (٨) ولعل فى هذا كله ما يصور مدى استخدامه للمصطلحات التى وضعها الفراء ، وإن كنا نلاحظ أنه لم يأخذ بوجهة نظره فى أن المضارع المنصوب بعد الواو والفاء وأو نصب بالصرف أو الخلاف ، فقد كان يذهب إلى أنها جميعا تنصب المضارع لدلالتها على شرط لأن معنى مثل «هلا تزورنى فأحدثك» : إن تزرنى أحدثك ، فلما نابت عن

__________________

(١) المجالس ص ١٥٨ ، ٤٢٢.

(٢) المجالس ص ٦٢١.

(٣) المجالس ص ١٥٥.

(٤) المجالس ص ٥٣٩.

(٥) المجالس ص ٨٠.

(٦) المجالس ص ٤٩٢.

(٧) المجالس ص ٢٥.

(٨) مجالس العلماء للزجاجى ص ١١٠.

٢٢٨

الشرط ضارعت كى ، فلزمت المستقبل وعملت عملها (١).

وواضح ما فى هذا الرأى من ضعف فى التعليل ، وعقله من هذه الناحية لم يكن مثل عقل الفراء والكسائى ، فقد كان يهبط عنهما درجات ، ويتضح ذلك فى كثير من آرائه وتعليلاته ، كرأيه فى أن المضارع مرفوع بنفس المضارعة (٢) وكأنه مرفوع بنفسه. ومر أن سيبويه كان يذهب إلى أن الألف والواو والياء فى المثنى وجمع المذكر السالم هى حروف الإعراب نابت عن حركات الرفع والنصب والجر وأن الأخفش ذهب إلى أن إعرابهما إنما هو بحركات مقدرة على ما قبل هذه الحروف ، وذهب الجرمى إلى أن انقلاب الألف فى المثنى والواو فى الجمع ياء مع النصب والجر هو الإعراب أما ثعلب فذهب إلى أن الألف فى المثنى بدل من ضمتى زيد وزيد أن الواو بدل من الضمات الثلاث فى زيد وزيد وزيد وهو توجيه بعيد ولاحظ الزجاجى ما فيه من بعد ، فقال معترضا عليه : «يلزم ثعلبا أن يقال له : كيف صارت الألف بدلا من ضمتين وليست الضمة من حيز الألف ولا تجانسها ، وإذا كانت الواو فى الزيدون بدلا من ثلاث ضمات ، فكيف يجمع إذا جمع مائة نفس؟ هل تصير عنده بدلا من مائة ضمة؟ وكذلك إلى ما زاد» (٣). وكان الكسائى والفراء وهشام يقولون : «الاسم أخف من الفعل ، لأن الاسم يستتر فى الفعل ، والفعل لا يستتر فى الاسم» وحاول أن يأتى بعلة أخرى لهذه الخفة ، فقال : «الأسماء أخف من الأفعال ، لأن الأسماء جوامد لا تتصرف والأفعال تتصرف فهى أثقل منها» (٤) ومعروف أن من الأسماء ما يتصرف وهو المشتقات ، ونفس التعليل ليس متّجها ، لأن المعقول أن يكون المتصرف أخف ، ولذلك تصرف وتحرك فى صور مختلفة. وكان القدماء يلاحظون هذا الجانب فيه وأن تعليلاته ضعيفة ، مع تمثله الواسع للنحو الكوفى ومع روايته الضخمة للغة وشوارد صيغها وألفاظا ، فقالوا عنه إنه كان يقول : «قال الفراء وقال الكسائى فإذا سئل عن الحجة والحقيقة لم يأت بشىء» (٥).

__________________

(١) الهمع ٢ / ١٤.

(٢) الهمع ١ / ١٦٤.

(٣) الإيضاح فى علل النحو للزجاجى ص ١٤١.

(٤) الزجاجى ص ١٠١.

(٥) إنباه الرواة ١ / ١٤٤.

٢٢٩

غير أن ضعف الحجة عند ثعلب ينبغى أن لا يستر عنا قيمته الحقيقية فى تاريخ النحو الكوفى ، فقد شهد له القدماء بأنه كان من معرفته ومعرفة آراء إماميه الكسائى والفراء على ما ليس عليه أحد لا من معاصريه ولا ممن خلفهم ، وقد مضى فى إثرهما يستخدم المصطلحات التى جرت على ألسنتهما ، واضعا السماع نصب عينه ، فهو الحجة القاطعة والبرهان الناصع على القاعدة النحوية ، ونراه يعتد ـ اعتدادهما ـ بأشعار وأقوال الفصحاء المتحضرين مضيفا إلى ذلك مادة لا تكاد تنفد من أشعار الجاهليين والإسلاميين والبدو المعاصرين ، ومستعينا بما رواه الكسائى والفراء فى كتبهما من تلك المادة وقد ظل أحقابا متطاولة يدرسها لطلابه ، وكأنهما كانا علمين منصوبين أمامه ، لا بآرائهما النحوية فقط بل أيضا بكل ما أنشداه من نوادر الأشعار.

ووجدهما لا يعتمدان على الحديث النبوى فى النحو واللغة ، فتبعهما فى ذلك ، كما تبعهما فى الاستشهاد بالقراءات ، ولكنه لم يتوقف عند حروف منها على نحو ما توقف الشيخان ، وكأنه كان يجد فى ذلك حرجا ، ولعل ذلك ما جعله يقول : «إذا اختلف الإعرابان فى القراءات لم أفضّل إعرابا على إعراب ، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى» (١). ومر بنا أن الفراء كان ينكر قراءة ابن عامر (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وأنكر معها البيت الذى استشهد به الأخفش واتهمه ، أما ثعلب فوثقه وأنشده فى مجالسه (٢) ، وبذلك وجه الكوفيين إلى اعتماد مثل ذلك فى تصاريف العبارات (٣).

وقد أخذ نفسه بدعم آراء الكسائى والفراء مستشهدا بما استشهدا به من أشعار ومضيفا إليها عتادا جديدا ، خاصة إذا تناولت مسألة من المسائل التى اختلفا فيها مع البصريين ، من ذلك ما كان يجيزه الكسائى من حذف لام الأمر فى المضارع وبقاء جزمه مع تقدم قل ، وجعل من ذلك قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) أى ليقيموها ، وكان المبرد يذهب إلى أنه لا يصح حذف

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى (طبعة الحلبى) ١ / ٨٣.

(٢) المجالس ص ١٥٢.

(٣) الإنصاف ، المسألة رقم ٦٠.

٢٣٠

هذه اللام حتى فى الشعر ، مخالفا فى ذلك الكسائى وسيبويه (١) والفراء ، ونرى ثعلبا يستشهد لذلك ببيتين استشهد بهما من قبله الفراء ، وهما قول أحد الشعراء :

فلا تستطل منى بقائى ومدّتى

ولكن يكن للخير فيك نصيب

بجزم يكن ، وقول الآخر :

فقلت ادعى وأدع فإن أندى

لصوت أن ينادى داعيان

بجزم أدع وحذف حرف العلة (٢).

ومن ذلك أن الكسائى والفرّاء جعلا من نواصب المضارع «كما» بشرط أن لا يفصل بينها وبينه بفاصل ، ونرى ثعلبا يستشهد على إعمالها بقول عمر بن أبى ربيعة :

وطرفك إما جئتنا فاحفظنّه

كما يحسبوا أن الهوى حيث تصرف

بينما يستشهد على إلغائها لوجود فاصل بينها وبين الفعل بقول عدى بن زيد :

اسمع حديثا كما يوما تحدّثه

عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا

وقد عقب على البيتين بقوله : «زعم أصحابنا أن خ خ كما تنصب ، فإذا حيل بينها رفعت» (٣). والبصريون يذهبون إلى أن «كما» فى بيت ابن أبى ربيعة أصلها «كيما» فحذفت الياء ضرورة ، وقالوا فى البيت رواية ثانية هى «لكى يحسبوا» (٤). وكان الكسائى يذهب إلى عمل أن النصب فى المضارع مع حذفها ، وخرّج على ذلك حذف النون من المضارع فى قراءة من قرأ الآية : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) بحذف النون فى (لا تعبدوا) وقال أصلها بأن لا تعبدوا ، حذفت الباء وأن (٥). وقد حكى ثعلب ذلك عن العرب فى مثل قولهم : «خذ اللص قبل يأخذك» بنصب المضارع ، واستشهد له بقول طرفة :

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ٤٠٨.

(٢) راجع المجالس ص ٥٢٤ ومعانى القرآن ١ / ١٥٩ وانظر ١ / ١٣٦ والمغنى ص ٢٤٨.

(٣) المجالس ص ١٥٤.

(٤) الإنصاف : المسألة رقم ٨١.

(٥) المغنى ص ٤٥٢.

٢٣١

ألا أيهذا الزّاجرى أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى

بنصب أحضر وحذف أن ، وإن كان جعل ذلك شاذّا وقال إن القياس الرفع (١). وقد تابع غيره من الكوفيين الكسائىّ وجعلوا ذلك قياسا مطردا (٢). وكان الفراء يذهب إلى أنه يجوز فى أن الناصبة للمضارع أن لا تعمل فيه النصب وأن يرفع بعدها على أن تكون مخففة من أن الثقيلة ، وبذلك وجّه قراءة : (وحسبوا أن لا تكون فتنة) برفع تكون ، وقول الشاعر :

إذا متّ فادفنّى إلى جنب كرمة

تروّى عظامى بعد موتى عروقها

ولا تدفننّى فى الفلاة فإننّى

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها

برفع أذوقها (٣). وتبعه ثعلب فى أنها حينئذ لا تعمل النصب ، بل اتسع بذلك وقال إنها تهمل أحيانا ولا تكون مخففة من الثقيلة ، بل تكون مثل ما المصدرية التى تؤول مع الفعل بمصدر دون أن تعمل فيه ، ومثل لذلك بقول بعض الشعراء :

أن تقرآن على أسماء ويحكما

منى السّلام وأن لا تخبرا أحدا (٤)

وكان الكسائى والفراء يذهبان ـ كما أسلفنا ـ إلى أن أسماء المبالغة مثل فعّال وفعول لا تعمل النصب فيما بعدها لضعفها مخالفين بذلك سيبويه والبصريين ، ويقول ثعلب : «أنت زيدا ضروب» يأباه أصحابنا لأنه لا يتصرف ، ومثله مضراب وضرّاب أيضا وأهل البصرة يجيزونه» (٥).

وذهب الكسائى والفراء جميعا إلى جواز إبطال عمل إنّ إذا بعد عنها اسمها ، ونرى ثعلبا ينشد قول بدوية :

فليت ابن جوّاب من الناس حظّنا

وأن لنا فى النار بعد خلود

ويقول بعقبه : «وأن لنا فى النار بعد خلود» رفع على الاستئناف ، وحكى

__________________

(١) المجالس ص ٣٨٣.

(٢) الإنصاف المسألة رقم ٧٧.

(٣) معانى القرآن ١ / ١٤٦ وانظر ١ / ٢١٣.

(٤) المجالس ص ٣٩ وانظر الخصائص لابن جنى طبع دار الكتب المصرية ١ / ٣٩٠.

(٥) المجالس ص ٢٣٦ وانظر ص ١٥٠.

٢٣٢

الكسائى والفراء جميعا «إن فيك زيد راغب» وقالا : بطلت إن لما تباعدت» (١)

وكان الكسائى يذهب إلى أن إلا فى مثل «ما قام القوم إلا زيد» برفع زيد حرف عطف ، وكأن زيدا فى حقيقته فاعل لقام ، وكأن إلا بمنزلة لا العاطفة فى أن ما بعدها مخالف لما قبلها مثل قام محمد لا على. وقد توقف الفراء بإزاء قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ،) وقال : إن بعض النحويين (يريد الكسائى) ذهب إلى أن «إلا فى هذا الموضع بمنزلة الواو كأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا للذين ظلموا ، وهذا صواب فى التفسير خطأ فى العربية إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها فهنالك تصير بمنزلة الواو كقولك لى على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة ، تريد إلا الثانية أن ترجع على الألف ، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها ؛ فقلت : اللهم إلا مائة ، فالمعنى له علىّ ألف ومائة ، وأن تقول : ذهب الناس إلا أخاك ، اللهم إلا أباك ، فتستثنى الثانى ، تريد إلا أباك وإلا أخاك» (٢). وعرض ثعلب رأى الفراء والكسائى دون أن يفضل أحد الرأيين ، يقول : «ومن التشبيه أيضا أن توضع ألا فى موضع واو العطف كما فى هذا البيت :

أتيت بعبد الله فى القدّ موثقا

فألّا سعيدا ذا الخيانة والغدر

فقد اتفق الكسائى والفراء فى نصب «سعيدا» أنه مفعول لفعل محذوف مثل أتيت ، ثم اختلفا فى جرّه فاستحسنه الكسائى وضعفه الفراء ، قال ثعلب : «ومن خفض (يريد الكسائى) شبه ألا بالنسق والفراء يستقبحه ويجيزه فيعطف خ خ سعيد على عبد الله فى أول الكلام. ولعل وجه قبح العطف عند الفراء أنه قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه» (٣) ويصرح الرضى بأن ثعلبا لم يكن يجيز أن تعرب «زيد» فى مثل «ما قام القوم إلا زيد» بدلا كما يعربها البصريون إذ كان يأخذ برأى الكسائى فى أنها فى مثل هذا التعبير حرف عطف مثل لا (٤).

__________________

(١) المجالس ص ٨٠ وانظر رده على المازنى ص ٣٢٩.

(٢) معانى القرآن ١ / ٨٩ وقارن بصفحة ١٦٦ حيث جعل ما بعد إلا فى مثل ما ذهب الناس إلا زيد مرفوع على الإتباع أو كما يقول البصريون على البدل من الناس.

(٣) المجالس ص ٧٤ وانظر معانى القرآن ١ / ١٩٦.

(٤) الرضى على الكافية ١ / ٢١٤ والإنصاف المسألة رقم ٣٥.

٢٣٣

ونراه يقف فى صف الكسائى ضد الفراء فى جواز حذف الفعل مع الوقت حين يكون قريبا ، يقول : «وحكى الكسائى ؛ نزلنا المنزل الذى البارحة والمنزل الذى اليوم والمنزل الذى أمس ، فيقولون فى كل وقت شاهدوه من قرب ويحذفون الفعل معه ، كأنهم يقولون نزلنا المنزل الذى نزلنا أمس ، والذى نزلناه اليوم ، اكتفوا بالوقت من الفعل إذ كان الوقت يدل على الفعل ، وهو قريب ، ولا يقولون الذى يوم الخميس ولا الذى يوم الجمعة ، وكذا يقولون لا كاليوم رجلا (بتقدير لقينا رجلا) ولا كالعشية رجلا ولا كالساعة رجلا ، فيحذفون مع الأوقات التى هم فيها ، وأباه الفراء مع العلم وهو جائز .. وكل ما كان فيه الوقت فجائز أن يحذف الفعل معه ، لأن الوقت القريب يدل على فعل لقربه» ومثل ثعلب لذلك من الشعر بقول جرير :

يا صاحبىّ دنا الصباح فسيرا

لا كالعشيّة زائرا ومزورا

أى لا أرى كالعشية زائرا ومزورا (١).

على أن وقوف ثعلب مع الكسائى فى هذه المسألة لا يعنى أنه لم يكن يعتمد على الفراء كل الاعتماد ، فقد رأيناه يستظهر جملة المصطلحات النحوية التى وضعها لنحاة الكوفة. ولا أبالغ إذا قلت إن ثعلبا لم يترك بيتا شاذّا فى معانى القرآن للفراء إلا أنشده فى كتبه ، ونفس مجالسه تغص بالأبيات التى اقتبسها من هذا الكتاب. وهو يبدو فى كثير من كتاباته كأنه شارح لما أجمله الفراء من آراء نحوية ، ونضرب لذلك مثلا : أننا نجد الفراء فى الآية الكريمة : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) يدلى برأيين : أن تكون «ماذا» كلمة واحدة بمعنى أى شىء وهى لذلك تكون مفعولا به لينفقون لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إذ له الصدارة وإنما يعمل فيه ما بعده ، أو تكون ذا بمعنى الذى أى ما الذى ينفقون ، وإذن تكون خبرا لما وينفقون صلتها ، ويسند هذا الرأى بأن العرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذى ، فيقولون : «ومن ذا يقول ذاك» فى معنى «من الذى يقول ذاك». ثم يقف عند (قُلِ الْعَفْوَ) فيقول : «وجه الكلام فيه النصب ،

__________________

(١) المجالس ص ٣٢١ وما بعدها.

٢٣٤

يريد قل ينفقون العفو» (١). وكأنه أبطل أن تكون «ماذا» مبتدأ وخبرا لأنه على تقدير معناها : «ما الذى ينفقون» تكون الإجابة الذى ينفقون العفو ، وتكون العفو خبرا لمبتدأ محذوف. ويوضح ذلك ثعلب ، فيقول : «وإنما اختار الفراء النصب لأن معنى ما ذا عندنا (أى عند الكوفيين) حرف (أى لفظ) واحد كثر فى الكلام ، فكأنه قال ما ينفقون ، فلذلك اختير النصب ، ومن جعل ذا بمعنى الذى رفع» (٢).

ودائما نحس أنه يجرى على ما أنهجه الفراء ، ولذلك كان اسمه يتردد فى مجالسه متخذا منه أدلته على ما يذهب إليه من آراء ، من ذلك أن سيبويه والبصريين كانوا يذهبون إلى أن «أى» تكون دائما وصلة لنداء ما فيه أل مثل يا أيها الرجل ، وردّ ثعلب عليهم هذا الرأى مستدلا بما قاله الفراء من أن «الدليل على أنه ليس كما قالوا أنه يقال خ خ يا أيهذا أقبل فيسقط الثانى (أى ما فيه أل مثل الرجل) الذى زعم أنه وصف لازم» (٣). وكان الفراء يذهب كما مر بنا فى الفصل السابق إلى أن نعم وبئس اسمان مخالفا بذلك البصريين والكسائى ، وتبعه ثعلب محتجا بما نقل عن العرب من دخول حرف الخفض عليها ، إذ بشّر أعرابى بمولودة فقال : والله ما هى بنعم المولودة ، يقول ثعلب : فأدخلوا على نعم وبئس حرف الخفض ، ودخول حرف الخفض يدل على أنهما اسمان لأن حروف الخفض لا تدخل إلا على الأسماء (٤). وقد يذهب ثعلب إلى بعض الآراء التى يظن أنها من اجتهاده ، وهى فى الواقع مستمدة من كلام الفراء ، من ذلك ما يتردد فى كتب النحاة من أنه كان يقول بأن اللام الناصبة للمضارع إنما تنصبه لقيامها مقام أن الناصبة له ، أو بعبارة أخرى لنيابتها عن أن (٥) ، بينما كان الفراء يذهب إلى أن اللام تنصب المضارع بنفسها لا بأن مضمرة كما ذهب البصريون ، وثعلب فى الواقع إنما استمد رأيه من فول الفراء تعليقا على قوله تعالى : (يُرِيدُ

__________________

(١) معانى القرآن ص ١٣٨.

(٢) اللسان ١٩ / ٣٠٧.

(٣) المجالس ص ٥٢ وراجع الكتاب ١ / ٣٠٦.

(٤) الإنصاف ، المسألة رقم ١٤.

(٥) المغنى ص ٢٣١ والهمع ٢ / ٧ وابن يعيش ٨ / ٢٠ حيث نص على أن حتى عنده أيضا تعمل لنيابتها عن أن.

٢٣٥

اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (وقال فى موضع آخر : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) والعرب نجعل اللام على معنى كى فى موضع أن فى أردت وأمرت ، فتقول أردت أن تذهب وأردت لتذهب وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم» (١) وقال فى موضع آخر تعقيبا على قوله عز شأنه : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) : «هو فى معنى ما كان هذا القرآن ليفترى ومثله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أى ما كان ينبغى لهم أن ينفروا» (٢).

وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعدو آراء الفراء والكسائى وما فهمه من كتاباتهما ، فقد كان يجتهد أحيانا. ومرّ بنا أنه لم يكن يأخذ برأى الفراء فى أن المضارع ينصب بعد واو المعية وفاء السببية وأو التى بمعنى حتى أو إلى على الصرف ، إنما ينصب لما يداخل هذه الحروف من معنى الشرط ، وكأنه لم يكن يعجب بفكرة الصرف التى كان يذهب إليها الفراء وكذلك لم يكن يعجب بفكرته فى أن الظرف حين يقع خبرا فى مثل محمد عندك منصوب على الخلاف ، وأراد أن يتوسط بينه وبين البصريين الذين يذهبون إلى أن مثل عندك السالفة ينصب بفعل مقدر ، تقديره استقر ، أو بتقدير اسم فاعل تقديره مستقر ، فذهب إلى أن مثل عندك ينصب بفعل مقدر ولكنه غير مطلوب ، فقد اكتفى بالظرف عنه ، فبقى منصوبا على ما كان عليه مع الفعل (٣). ومن اجتهاداته إضافته على أخوات كاد فعلى نشب (٤) وقام (٥) ، بينما ذهب إلى أن عسى حرف وليست فعلا (٦) ، وكان يذهب إلى أن لفظة الاسم مشتقة من الوسم ، ولذلك كان يقول : «الاسم سمة توضع على الشىء يعرف بها» وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو (٧). وربما اختار بعض آراء البصريين وآثرها على بعض آراء مدرسته ، فقد كان يذهب مذهبهم فى أن إذن يجوز إلغاؤها ورفع المضارع بعدها مع اجتماع الشروط الموجبة للنصب (٨) ، وكان يقف مع البصريين فى تجويزهم

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٢٦١.

(٢) معانى القرآن ١ / ٤٦٤.

(٣) الإنصاف ، المسألة رقم ٢٩.

(٤) المجالس ص ٢١٢ ، ٤١٧.

(٥) الهمع ١ / ١٢٨.

(٦) المغنى ص ١٦٢.

(٧) الإنصاف ، المسألة الأولى.

(٨) الهمع ٢ / ٧.

٢٣٦

مثل «ما طعامك أكل إلا زيد» بينما كان الكسائى يمنع مثل هذا التعبير ، لتقدم المفعول به ، بينما الفاعل محذوف ، إذ كان لا يعرب «زيد» فاعلا كما يعربه البصريون ، ولذلك كان يأبى مثل هذه الصيغة (١).

ولعل فى كل ما قدمنا ما يوضح منزلة ثعلب فى النحو الكوفى ، فقد مضى يطبقه ويصدر عنه فى كل ملاحظاته النحوية إلا أشياء طفيفة أدّاه إليها اجتهاده وكأنما كان يحمل راية هذا النحو فى عصره ، مستقصيا استقصاء دقيقا لكل ما قاله إماماه : الكسائى والفراء وكل ما أنشداه من أشعار مع الدفاع الشديد عنهما أمام البصريين ، دفاعا أساسه الاحتكام إلى السماع والرواية والإحاطة بالشاذ والنادر من اللغة وتصاريفها على ألسنة العرب.

٢

أصحاب ثعلب

اشتهر من تلاميذ ثعلب كثيرون فى مقدمتهم أبو موسى سليمان بن محمد المعروف بالحامض (٢) ، وهو المقدم من أصحابه إذ جلس مجلسه بعد موته ، وكان يتعصب على البصريين ، وصبّ عنايته على قراءته للناس كتب أستاذه ثعلب كما كان يقرأ كتب الفراء وخاصة كتابه «الإدغام» وألف مختصرا فى النحو ، وما زال يوالى التدريس حتى توفى سنة ٣٠٥ للهجرة.

ومن أصحاب ثعلب غلامه أبو عمر الزاهد محمد (٣) بن عبد الواحد ، وكان حافظا مكثرا من اللغة وفيها ألف كتابه «الياقوت» وظل يزيد فى نسخته حتى

__________________

(١) الإنصاف ، المسألة رقم ٢١.

(٢) انظر فى ترجمة أبى موسى الحامض الزبيدى ص ١٧٠ ونزهة الألباء ص ١٤١ والفهرست ص ٧٩ وتاريخ بغداد ٩ / ٦١ ومعجم الأدباء ١١ / ٢٥٣ والأنساب الورقة ١٥٢ وإنباه الرواة ٢ / ٢١ وبغية الوعاة ص ٢٦٢.

(٣) راجع فى ترجمة أبى عمر غلام ثعلب نزهة الألباء ص ٢٧٦ وتاريخ بغداد ٢ / ٣٥٦ والفهرست ص ٧٦ ومعجم الأدباء ١٨ / ٢٢٦ والأنساب للسمعانى الورقة ٤١٣ وتذكرة الحفاظ ٣ / ٨٤ وإنباه الرواة ٣ / ١٧١ واللباب فى الأنساب ٢ / ١٨٣ وبغية الوعاة ص ٦٩.

٢٣٧

كانت آخر عرضاته له سنة ٣٣١ للهجرة ، وله وراءه مصنفات لغوية كثيرة منها شرح كتاب أستاذه «الفصيح» وكتاب فائت معجم العين وكتاب فائت الجمهرة والرد على ابن دريد ، وقد توفى سنة ٣٤٥ للهجرة

ولا يقل عن هذين الصاحبين أو التلميذين تأثرا بثعلب واقتداء بمباحثه تلميذه أبو بكر محمد بن الحسن المقرئ النحوى العطار المعروف باسم ابن مقسم (١) ، وكان يعنى بدراسة النحو الكوفى وله فيه بعض المصنفات غير أنه ركز نشاطه فى القراءات فألف فيها كتبا ومصنفات مختلفة ، منها كتاب السبعة الكبير. وقد تأخرت وفاته حتى سنة ٣٥٤ للهجرة.

وكل هؤلاء التلاميذ لا تدور لهم آراء فى كتب النحو ، وكأنما كانوا امتدادا لمباحث ثعلب اللغوية ، وقد اتسع بها ابن مقسم فى الاحتجاج للقراءات السبعة وكان يقصر عليها نشاطه ، وربما كان أنبه تلاميذ ثعلب فى المباحث النحوية أبو بكر بن الأنبارى ، ولذلك نخصه بكلمة مفردة.

أبو بكر بن الأنبارى

هو أبو بكر محمد (٢) بن القاسم بن محمد بن بشار الأنبارى ، ولد سنة ٢٧١ للهجرة ، وأكبّ منذ نشأته على حلقات العلماء فى عصره ، وخاصة حلقة ثعلب ، وكانت له حافظة قوية ، حتى قالوا إنه كان يحفظ من شواهد القرآن ثلاثمائة ألف بيت. وصنّف كتبا كثيرة فى علوم القرآن وغريب الحديث والمشكل والوقف والابتداء ، كما صنف فى اللغة والنحو كتاب الأضداد وهو منشور ، وكتاب المقصور والممدود ، وكتاب المذكر والمؤنث ، وكتابى الكافى والموضح فى النحو.

__________________

(١) انظر فى ترجمة ابن مقسم الفهرست ص ٣٣ وتاريخ بغداد ٢ / ٢٠٦ ونزهة الألباء ص ٢٨٨ ومعجم الأدباء ١٨ / ١٥٠ وإنباه الرواة ٣ / ١٠٠ وطبقات القراء لابن الجزرى ٢ / ١٢٣ وميزان الاعتدال للذهبى ٢ / ١٦٦ وبغية الوعاة ص ٣٦.

(٢) راجع فى ترجمة أبى بكر بن الأنبارى الزبيدى ص ١٧١ والفهرست ص ٧٥ ونزهة الألباء ص ٢٦٤ ومعجم الأدباء ١٨ / ٣٠٦ وإنباه الرواة ٣ / ٢٠١ وطبقات القراء ٢ / ٣٣٠ وتاريخ بغداد ٣ / ١٨١ والأنساب الورقة ٤٩ وابن خلكان ١ / ٥٠٢ وشذرات الذهب ٢ / ٣١٥ ومرآة الجنان ٢ / ٢٩٤ والنجوم الزاهرة ٣ / ٢٦٩ وروضات الجنات ص ٦٠٨ وبغية الوعاة ص ٩١.

٢٣٨

ونراه يعنى بتعليم الناشئة صور أساليب العربية فى بعض أقاصيص ، كان يرويها. وصنع عدة دواوين قديمة ، فى مقدمتها ديوان الأعشى والنابغة وزهير والراعى. ومن أهم آثاره شرحه للمفضليات ، وهو منشور ، ويكتظ بمعارفه الواسعة فى اللغة والأشعار وأيام العرب. ولم يمتد عمره طويلا ، فقد توفى سنة ٣٢٨ للهجرة.

ومن يرجع إلى كتاب الإيضاح فى علل النحو للزجاجى لا يشك فى أنه كان أحد من دعموا النحو الكوفى بالعلل المنطقية دعما لم يتوافر لأستاذه ثعلب ، وكأنما كان عقله أكثر منطقية وأقدر على التعليل والبرهنة والإدلاء بالحجج البينة ، على نحو ما يتضح فى تعليله لاشتقاق المصدر من الفعل ، إذ يقول : «الدليل على أن المصادر بعد الأفعال وأنها مأخوذه منها أن المصادر تكون توكيدا للأفعال كقولك ضرب زيد ضربا وخرج خروجا وقعد قعودا وما أشبه ذلك ، ولا خلاف فى أن المصادر ههنا توكيد للأفعال ، والتوكيد تابع للمؤكّد ثان بعده ، والمؤكّد سابق له ، فدلّ ذلك على أن المصدر تابع للفعل مأخوذ منه وأن الفعل هو الأصل الذى أخذ منه» (١). ونرى الزجاجى يذكره فى مواضع مختلفة حين يتحدث عن علل الكوفيين (٢) ، مما يجعلنا نؤمن بأنه كان فى مقدمة من توسعوا فيها وحاولوا إحكامها إحكاما دقيقا.

ولأبى بكر بن الأنبارى آراء مختلفة تدور فى كتب النحاة ، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن «إلى» قد ترد اسما فيقال : «انصرفت من إليك» كما يقال «غدوت من عليك» (٣). وكان يجعل من معانى «كأن» الشك مثل : «كأنك بالشتاء مقبل» أى أظنه مقبلا (٤). وذهب إلى أن «بين الظرفية» قد تقع شرطية إذا جاءت فى أول الكلام مثل «بينما أنصفتنى ظلمتنى» (٥). ومعروف أن «كلا» تضاف دائما إلى اثنين أو إلى ضمير الاثنين مثل كلا محمد وعلى وكلاهما ، وذهب ابن الأنبارى إلى جواز إضافتها إلى المفرد بشرط تكرارها ، فتقول : «كلاى

__________________

(١) الإيضاح فى علل النحو للزجاجى ص ٦٠ وما بعدها.

(٢) الزجاجى ص ٧٩ ، ٨٠ ، ١٣٢.

(٣) المغنى لابن هشام ص ١٥٧.

(٤) المغنى ص ٢٠٩.

(٥) همع الهوامع ١ / ٢١١.

٢٣٩

وكلاك محسنان» (١). وكان يجيز فى تابع المنادى العلم إذا كان مضافا الرفع ، فتقول : يا زيد ذو المعرفة ويا محمد أبو عمرو ويا تميم كلّكم بالرفع ، والجمهور لا يجيز سوى النصب (٢).

٣

كوفيون متأخرون

لم تنحسر ظلال المدرسة الكوفية بعد أبى بكر بن الأنبارى ، فقد ظلت تنقبض ، وتمتد فى الحين بعد الحين. وكان مما هيّأ لامتدادها أحيانا أن المدرسة البغدادية التى خلفتها عنى الأولون منها لا بالمزج بين آرائها والآراء الكوفية فحسب ، بل أيضا بتوجيه آرائها وفتق العلل التى تؤيدها على نحو ما سنرى فى غير هذا الموضع. وظل الخالفون لهذه المدرسة يستظهرون تلك الآراء ، ويجلبون منها إلى مصنفاتهم بعض دررها. وكان من أهم ما أتاح لهذه المدرسة أن تعيش فى ذاكرة الأجيال التالية أن المتنبى أكبر شعراء العربية عنى ـ كما صورنا ذلك فى كتاب الفن ومذاهبه فى الشعر العربى ـ بالتصنع للغات الشاذة فى التراكيب ، مما جرّه فى شعره إلى الاحتذاء على أكثر ما روته المدرسة الكوفية منها ، حتى ليقول ابن يعيش إنه «كان يميل كثيرا إلى مذهب الكوفيين (٣)» ويكفى أن نذكر هنا بعض أمثلة تصوّر تشيعه لهم ، من ذلك الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وكان البصريون يمنعون ذلك منعا باتّا (٤) ، يقول :

حملت إليه من ثنائى حديقة

سقاها الحجى سقى الرياض السحائب

فقد فصل بين السقى والسحائب بالمفعول به للسقى وهو الرياض. ومثال ثان هو استخدامه التفضيل فى الألوان مثل قوله فى الشيب :

ابعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود فى عينى من الظّلم

__________________

(١) المغنى ص ٢٢٣.

(٢) الرضى على الكافية ١ / ١٣٧.

(٣) ابن يعيش ٢ / ١٦.

(٤) انظر الإنصاف ، المسألة رقم ٦٠.

٢٤٠