المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

عناصر أجنبية كثيرة أعدت فى سرعة لوصلها بثقافاتها المختلفة ، وأيضا فإنها كانت أقرب من الكوفة إلى مدرسة جنديسابور الفارسية التى كانت تدرس فيها الثقافات اليونانية والفارسية والهندية ، مما جعل جداول من تلك الثقافات تصبّ فيها ، ولذلك كان طبيعيّا أن نجد بها أقدم المترجمين ، ونقصد ماسرجويه الذى عهد إليه عمر بن عبد العزيز بترجمة كتيّب فى الطب ، ولا نلبث أن نلتقى بابن المقفع الذى نشأ بها وتوفى سنة ١٤٣ للهجرة وكان يتقن الفارسية ، ويحذق العربية فترجم إليها أروع ما فى الفارسية من كنوز تاريخية وأدبية ، كما ترجم كليلة ودمنة الهندية منها ، وكذلك منطق أرسططاليس.

وبذلك نفهم السر فى أن عقل البصرة كان أدق وأعمق من عقل الكوفة وكان أكثر استعدادا لوضع العلوم ، إذ سبقتها إلى الاتصال بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليونانى وما وضعه أرسططاليس من المنطق وحدوده وأقيسته. ويمكن أن نلاحظ آثار ذلك فى نشاط المباحث الدينية فى البلدتين ، فقد عنيت الكوفة بالفقه بينما عنيت البصرة بعلم الكلام ، وحقا أشاع أبو حنيفة فى الفقه القياس والرأى أو الاجتهاد ، ولكن من يرجع إلى كتب الفقه الحنفى حتى فى العصور المتأخرة يلاحظ أنه ينقصها دائما شىء من التعميم والتعريف ووضع القواعد الكلية فباب البيع مثلا يفتح ، ولا يصاغ له تعريف محدد ، ولا تذكر له أركان وشروط ، وإنما مسائل متناثرة يتوالى بعضها فى إثر بعض. وهكذا دائما فى الفقه الحنفى يغلب أن يفتح الباب على فروع دون أصول عقلية تضمّ شعبها الكثيرة. بينما علم الكلام يناقش مسائل كلية ، وهى مسائل ميتافيزيقية ، والمسألة تثار فى ضوء تفكير فلسفى معقد ، مما يدل على صلة المتكلمين العميقة بالفلسفة اليونانية ، حتى لنرى الجاحظ يقول : «لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا فى الصناعة يصلح للرياسة حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين فى وزن الذى يحسن من كلام الفلسفة» (١).

فعقل كل من البلدتين كان مختلفا : عقل مصبوغ بالصبغة الفلسفية المنطقية ،

__________________

(١) الحيوان (طبعة الحلبى) ٢ / ١٣٤.

٢١

وعقل لا يرتفع إلى هذه المنزلة إلا فى حدود ضيقة ، لذلك كان طبيعيّا أن لا يصاغ الفقه الحنفى الكوفى صياغة علمية دقيقة ، بينما يصاغ النحو فى أدق صورة علمية ممكنة على نحو ما سنرى فى كتاب سيبويه ، وهى صياغة لم تستطع العصور التالية أن تضيف إليها إلا بعض تعريفات وبعض تسميات ، أما الأصول وأما القواعد والضوابط والأسس فإنها ظلت قائمة كالأطواد الراسخة.

٤

أوائل النحاة

يعدّ ابن أبى إسحق الحضرمى أول النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، ويتبعه فى هذه الأولية المبكرة جيل من تلاميذه فى مقدمتهم عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وتذكر كتب طبقات النحاة طائفة ممن عنوا بالعربية من معاصرى تلاميذه ، لعل أشهرهم حماد (١) بن سلمة بن دينار البصرى ، وكانت رواية الحديث تغلب عليه ، غير أنه كان عالما بالنحو ، ويروى أن يونس بن حبيب تلمذ عليه وكذلك سيبويه ، ولم ترو له كتب النحو أنظارا نحوية ، ولذلك ينبغى أن نخرجه من دائرة النحاة الحقيقيين ، ومثله معاصره الأخفش الأكبر (٢) شيخ يونس وسيبويه جميعا ، وكانت تغلب عليه رواية اللغة وليست له فى النحو آراء موروثة ، وقد أكثر سيبويه من الرواية اللغوية عنه فى كتابه. أما الأربعة الأولون فتتردد أسماؤهم عند النحاة وتتردد لهم آراء تجعلهم خليقين بالوقوف قليلا عندهم ، ونبدأ بابن أبى إسحق الذى يعدّ بحق أستاذ المدرسة البصرية.

__________________

(١) انظر ترجمة حماد فى الزبيدى ص ٤٧ ونزهة الألباء ص ٤٠ ومعجم الأدباء ١٠ / ٢٥٤ والسيرافى ص ٤٢ وإنباه الرواة ١ / ٣٢٩ وتذكرة الحفاظ ١ / ١٨٩ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٢٥٨ وبغية الوعاة ص ٢٤٠.

(٢) انظر ترجمته فى الزبيدى ص ٣٥ ونزهة الألباء ص ٤٣ وإنباه الرواة ٢ / ١٥٧.

٢٢

ابن (١) أبى إسحق

هو عبد الله بن أبى إسحق مولى آل الحضرمى المتوفى سنة ١١٧ للهجرة وفيه يقول ابن سلام : «كان أول من بعج (فتق) النحو ومدّ القياس وشرح العلل». وبذلك يجعله الواضع الأول لعلم النحو ، إذ يجعله أول من اشتق قواعده وأول من طرد فيها القياس ، بحيث يحمل ما لم يسمع عن العرب على ما سمع عنهم ، ويقول أبو الطيب اللغوى : «فرّع عبد الله بن أبى إسحق النحو وقام وتكلم فى الهمز ، حتى عمل فيه كتاب مما أملاه». ويروى أن يونس بن حبيب سأله عن كلمة «السويق» ، وهو الناعم من دقيق الحنطة ، هل ينطقها أحد من العرب «الصويق» بالصاد؟ فأجابه : نعم قبيلة عمرو بن تميم تقولها ، ثم قال له : وما تريد إلى هذا؟ عليك بباب من النحو يطّرد وينقاس. وهو لم يعن بالقياس على قواعد النحو فحسب ، بل عنى أيضا بالتعليل للقواعد تعليلا يمكّن لها فى ذهن تلاميذه. وجعله تمسكه الشديد بتلك القواعد المعللة والقياس عليها قياسا دقيقا بحيث لا يصح الخروج عليها يخطّئ كل من ينحرف فى تعبيره عنها ، وكان لذلك كثير التعرض للفرزدق لما كان يورد فى أشعاره من بعض الشواذ النحوية ، ويذكر الرواة أنه حين سمعه ينشد قوله فى مديحه لبعض بنى مروان :

وعضّ زمان يابن مروان لم يدع

من المال إلا مسحتا أو مجرّف (٢)

اعترضه ، لرفعه قافية البيت وكان حقها النصب لأنها معطوفة ـ كما يتبادر ـ على كلمة «مسحتا» المنصوبة ، أو بعبارة أدق لأن القياس النحوى يحتم ذلك ويوجبه. ويظهر أن الفرزدق قصد إلى الاستئناف حتى لا يحدث فى البيت إقواء يخالف به حركة الرّوىّ فى القصيدة. وسمعه مرة يصف رحلته إلى الشام فى

__________________

(١) راجع ترجمة ابن أبى إسحق فى أبى الطيب اللغوى ص ١٢ والزبيدى ص ٢٥ والسيرافى ص ٢٥ وطبقات فحول الشعراء لابن سلام ص ١٤ ونزهة الألباء ص ١٨ وإنباه الرواة ٢ / ١٠٤ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٤١٠ وتهذيب التهذيب ٥ / ١٤٨ وخرانة الأدب للبغدادى ١ / ١١٥ وبغية الوعاة ص ٢٨٢.

(٢) مسحت ومجرف : مستأصل.

٢٣

قصيدة مدح بها يزيد بن عبد الملك على هذا النمط :

مستقبلين شمال الشام تضربنا

بحاصب كنديف القطن منثور (١)

على عمائمنا يلقى ، وأرحلنا

على زواحف تزجى ، مخّها رير (٢)

فقال له : أسأت إنما هو «مخّها رير» مشيرا بذلك إلى قياس النحو فى هذا التعبير ، لأنه يتألف من مبتدأ وخبر. وما زال ينحى على الفرزدق باللائمة حتى جعل الشطر : «على زواحف نزجيها محاسير». وكانت مراجعته المستمرة له تغضبه ، فهجاه بقصيدة ، يقول فى تضاعيفها هذا البيت :

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكنّ عبد الله مولى مواليا (٣)

وما كاد يسمعه منه حتى قال له : «أخطأت أخطأت ، إنما هو مولى موال» يريد أنه أخطأ فى إجرائه كلمة موال المضافة مجرى الممنوع من الصرف ، إذ جرّها بالفتحة وكان ينبغى أن يصرفها قياسا على ما نطق به العرب فى مثل جوار وغواش إذ يحذفون الياء منونين فى الجر والرفع (٤). وواضح من كل هذه المحاورات بينه وبين الفرزدق مدى احتكامه للقياس وما ينبغى للقاعدة من الاطراد ، بحيث لا يجوز للشاعر مهما كان فصيحا أن يخرج عليها. وكان لا يرى بأسا فى أن يخالف أحيانا جمهور القراء فى بعض قراءاتهم لآى الذكر الحكيم تمسكا بالقياس النحوى ، من ذلك أنه كان يخالفهم فى قراءة آية المائدة : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فقد كانوا يقرءون : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالرفع على الابتداء ، بينما الخبر فعل أمر ، وجعله ذلك يقرؤهما بالنصب (٥) على المفعولية.

وواضح أنه فتح لنحاة البصرة من بعده تلاميذه وغير تلاميذه بمراجعاته للفرزدق أن يخطّئوا الشعراء الفصحاء لا من الإسلاميين مثل الفرزدق فحسب ،

__________________

(١) الشمال : الريح. الحاصب : الريح التى تحمل الحصباء.

(٢) الزواحف : الإبل العجفاء التى أعيت فجرّت خفافها. تزجى : تساق. رير : ذائب.

(٣) كان ابن أبى إسحق مولى آل الحضرمى وكانوا بدورهم موالى لبنى عبد شمس القرشيين.

(٤) الكتاب لسيبويه (طبعة بولاق) ٢ / ٥٨ وانظر خزانة الأدب ١ / ١١٥.

(٥) شواذ القراءات لابن خالويه ص ٣٢.

٢٤

بل أيضا من الجاهليين على نحو ما سنرى عند تلميذه عيسى بن عمر. ولم يؤثر عنه كتاب فى النحو ، وكأنه كان يكتفى بمحاضراته وإملاءاته على تلاميذه ، وكل ما أثر عنه كتاب فى الهمز كما أسلفنا ، ويبدو أنه عالج فيه مسألة رسمها حين توصل وحين تقطع وحين تسهّل وحين تدخل على همزة أخرى وحين تتصل بحروف العلة ، مما يتصل بالدقة فى كتابة الذكر الحكيم إذ كان من القرّاء النابهين فى موطنه.

عيسى (١) بن عمر الثقفى

بصرى من موالى آل خالد بن الوليد ، نزل فى ثقيف فنسب إليها ، وهو أهم تلاميذ ابن أبى إسحق ، وقد مضى على هديه يطرد القياس ويعممه ، ومن أقيسته ما حكاه سيبويه عنه من أنه كان يقيس النصب فى كلمة «يا مطرا» فى قول الأحوص :

سلام الله يا مطرا عليها

وليس عليك يا مطر السّلام

على النصب فى كلمة «يا رجلا» وكأنه يجعل مطرا فى تنوينها ونصبها كالنكرة غير المقصودة (٢). وكان مثل ابن أبى إسحق يطعن على العرب الفصحاء إذا خالفوا القياس ، وكان يصعد فى هذا الطعن حتى العصر الجاهلى ، من ذلك تخطثته النابغة فى قوله :

فبتّ كأنى ساورتنى ضئيلة

من الرّقش فى أنيابها السّم ناقع (٣)

إذ جعل القافية مرفوعة ، وحقها أن تنصب على الحال لأن المبتدأ قبلها

__________________

(١) انظر فى ترجمة عيسى أبا الطيب اللغوى ص ٢١ والزبيدى ص ٣٥ والسيرافى ص ٣١ والفهرست ص ٦٨ ونزهة الألباء ص ٢١ ومعجم الأدباء ١٦ / ١٤٦ وابن الجزرى ١ / ٦١٣ وإنباه الرواة ٢ / ٣٧٤ ومرآة الجنان لليافعى ١ / ٣٠٧ وشذرات الذهب لابن العماد ١ / ٢٢٤ وبغية الوعاة ص ٢٧٠.

(٢) كتاب سيبويه ١ / ٣١٣ وانظر الموشح للمرزبانى ص ٤١.

(٣) ساورتنى : واثبتنى. ضئيلة : دقيقة ، ويريد أفعوانا. الرقش : الأفاعى التى تختلط فى جلدها نقط سوداء وبيضاء. ناقع : قاتل.

٢٥

تقدّمه الخبر وهو الجار والمجرور ، وكأن النابغة ألغاهما لتقدمهما وجعل ناقعا الخبر (١). ومن أقيسته فى القراءات أنه كان يقرأ الآية الكريمة : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) بنصب كلمة الطير. وكان يقول هو على النداء كما تقول : «يا زيد والحارث» لما لم يمكن القائل : «ويا الحارث» نصب الكلمة ، لأن يا لا تدخل فى النداء على المعرّف بالألف واللام. ويروى أنه كان يخالف جمهور القرّاء فى قراءة الآية الكريمة : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) إذ كان يقرؤها بنصب أطهر على الحال وجعل هن ضمير فصل. ويبدو أنه كان يتوسّع فى تقدير العوامل المحذوفة ، من ذلك ما رواه سيبويه عنه من أنه كان يلفظ قولهم : «ادخلو الأول فالأوّل» برفع الكلمتين الأخيرتين على تقدير أنهما مرفوعتان بفعل مضارع محذوف تقديره : «ليدخل» (٢). وكأنه لقّن تلميذه الخليل والنحاة من بعده فكرة تقدير العوامل المحذوفة التى عمّموها فى كثير من العبارات. ووضع أصلا مهما يدل على دقة حسّه اللغوى هو اختيار النصب فى الألفاظ التى جاءت عن العرب فى بعض العبارات مرفوعة ومنصوبة (٣) ، وكأنه أحسّ فى وضوح أن العرب تنزع إلى النصب أكثر مما تنزع إلى الرفع لخفته ، فجعل النصب فوق الرفع وعدّه الأساس. وليس ذلك كل ما تحقق للنحو عنده من رقى ، فقد خطا به خطوة كبيرة ، إذ ألف فيه رسائل ومصنفات مختلفة ، اشتهر منها لعصره مصنفان مهمان هما : «الجامع» و «الإكمال» وكأنه جمع مسائل النحو وقواعده فى أولهما ثم رأى إكمال تلك القواعد والمسائل فى الكتاب الثانى. وقد أقام قواعده فى الجامع على الأكثر فى كلام العرب وسمى ما شذّ عن ذلك لغات ، ويقال إن سيبويه لما أحضره ليقرأه على الخليل أنشد تنويها به وبالإكمال :

بطل النّحو جميعا كلّه

غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع

فيهما للناس شمس وقمر

وزعم بعض القدماء أن الجامع هو أصل كتاب سيبويه زاد فيه وحشاه بأقوال الخليل ، ولم يصل إلينا الكتاب لنناقش هذا الزعم ونتبين صحته أو فساده.

__________________

(١) كتاب سيبويه ١ / ٢٦١.

(٢) الكتاب ١ / ١٩٩.

(٣) ابن سلام ص ١٨.

٢٦

وواضح مما قدمنا أن عيسى بن عمر هو الذى مكّن للنحو وقواعده التى اعتمدها تلميذه الخليل ومن تلاه من البصريين سواء فى محاضراته وإملاءاته أو فى مصنفاته. وقد توفى سنة ١٤٩ للهجرة تاركا للخليل جهوده النحوية كى يتم صرح النحو ويكمل تشييده.

أبو عمرو (١) بن العلاء

اسمه كنيته ، وفى بعض الروايات اسمه زبان بن العلاء المازنى التميمى ، ولد سنة ٧٠ للهجرة بمكة ونشأ وعاش بالبصرة حتى توفى بها سنة ١٥٤ للهجرة ، وقد تتلمذ لابن أبى إسحق على نحو ما تتلمذ عيسى بن عمر ، غير أن عيسى قصر عنايته أو كاد على النحو ، أما أبو عمرو فعنى بإقراء الناس القرآن فى المسجد الجامع بالبصرة ، وهو أحد قرّائه السبعة المشهورين ، كما عنى بلغات العرب وغريبها وأشعارها وأيامها ووقائعها ، وفى ذلك يقول الجاحظ عنه : «كان أعلم الناس بالغريب والعربية وبالقرآن والشعر وبأيام العرب وأيام الناس». فهو إلى أن يكون من اللغويين والقراء أقرب منه إلى أن يكون من النحاة ، غير أنه نقلت عنه بعض أنظار نحوية ، جعلتنا نسلكه بين أوائلهم ، وخاصة أن ابن جنى يقول : «كان ممن نظروا فى النحو والتصريف وتدربوا وقاسوا» (٢). ولكن لم يكن هذا هو الجانب الذى شغله ، ولعل ذلك هو السبب فى أن سيبويه لم يرو عنه ولا عن تلاميذه شيئا مهمّا له فى النحو ومسائله ، إنما روى عنه بعض الشواهد اللغوية ، ولم يأخذها عنه مباشرة ، إنما أخذها عن تلميذه يونس بن حبيب ، وكأنه لم يلقه ولم يجلس إليه. وفى أخباره ما يدل على أنه كان يأخذ بالاطراد فى القواعد ويتشدد فى القياس فقد قال له بعض معاصريه : «أخبرنى عما وضعت مما سميته عربية أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال : لا ، فقال له كيف تصنع فيما خالفتك

__________________

(١) انظر فى ترجمة أبى عمرو أبا الطيب اللغوى ص ١٣ والزبيدى ص ٢٨ والسيرافى ص ٢٨ ونزهة الألباء ص ٢٤ ومعجم الأدباء ١١ / ١٥٦ والفهرست ص ٤٨ وابن الجزرى ١ / ٢٨٨ والأنساب الورقة ٥٥٥ وتهذيب التهذيب ١٢ / ١٧٨ ومرآة الجنان ١ / ٣٢٥ وشذرات الذهب ١ / ٢٣٧ وبغية الوعاة ص ٣٦٧.

(٢) الخصائص ١ / ٢٤٩.

٢٧

فيه العرب وهم حجة؟ قال : أعمل على الأكثر ، وأسمّى ما خالفنى لغات». ورويت له فى كتب النحاة بعض آراء نحوية قليلة ، من ذلك أنه كان يقول إن ألف التثنية حرف الإعراب ، ويظهر أن ذلك كان رأى أستاذه ابن أبى إسحق ، وبه أخذ الخليل وسيبويه (١). ومن ذلك أنه كان يرى أن المنصوب فى قولهم : «حبذا محمد رجلا» حال لا تمييز (٢). وكان يترك صرف سبأ فى قوله تعالى. (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) وكأنه جعله اسما للقبيلة (٣). والحق أنه لم يكن نحويّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، إنما كان لغويّا ، وراويا ثقة من رواة الشعر القديم ، إذ كان قد سمع عن العرب وأكثر من السماع.

يونس (٤) بن حبيب

من موالى بنى ضبّة ، وقد لحق ابن أبى إسحق وروى عنه ، إذ ولد سنة ٩٤ للهجرة ، وعاش طويلا ، إذ توفى سنة ١٨٢ ويظهر أنه اختلف إلى حلقات عيسى بن عمر ، وقد لزم أبا عمرو بن العلاء ، ورحل إلى البادية وسمع عن العرب كثيرا ، مما جعله راويا كبيرا من رواة اللغة والغريب ، ولعل ذلك ما جعله يصنف كتابا فى اللغات. وكانت حلقته فى البصرة تغصّ بالطلاب ، وفى مقدمتهم أبو عبيدة اللغوى وسيبويه ، واسمه يتردد فى كتابه ، ولكن غالبا فى شواهد اللغة ، لا فى الآراء النحوية ، فسيبويه ـ على ما يبدو ـ لم يكن يعجب بتلك الآراء ، وكان

__________________

(٢) المغنى لابن هشام (طبعة دار الفكر بدمشق) ص ٥١٥ وكان يذهب إلى أن بنى تميم تهمل ليس مع إلا حملا على ما كقولهم ليس الطيب إلا المسك بالرفع (همع الهوامع) ١ / ١١٥.

(٣) الإنصاف فى مسائل الخلاف لابن الأنبارى (طبعة أوربا) ص ٢٠٧.

(٤) انظر فى ترجمة يونس أبا الطيب اللغوى ص ٢١ والسيرافى ص ٣٣ وابن الأنبارى ص ٤٩ ومعجم الأدباء ٢٠ / ٦٤ وابن الجزرى ٢ / ٤٠٦ وشذرات الذهب ١ / ٣٠١ وبغية الوعاة ص ٤٢٦.

(٤) الخصائص ٣ / ٧٣.

٢٨

الخليل قد استولى عليه ، فلم يكد يترك فيه بقية لغيره وخاصة فى قواعد النحو وأقيسته ، وبذلك غدا يونس فى نحوه وما وضعه من أقيسة أمة وحده ، وتنبه إلى ذلك القدماء ، فقالوا : «كانت ليونس مذاهب وأقيسة تفرد بها». ونحن نسوق طائفة من آرائه التى تخالف آراء سيبويه وأستاذه الخليل ، من ذلك أن الخليل كان يرى أن الزائد فى مثل قطّع هو الحرف الأول ، وكان يونس يرى أنه الحرف الثانى (١). وكان الخليل يرى أن مفعول ننزع محذوف فى الآية الكريمة : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) والتقدير لننزعن الفريق الذين يقال فيهم أيهم أشد ، وقال يونس جملة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) هى المفعول (٢). وكان الخليل وسيبويه يريان أن تصغير قبائل : قبيئل ، وكان يونس يرى أن تصغيرها : قبيّل (٣). وكان سيبويه لا يرد المحذوف فى التصغير فمثل يضع تصغّر على يضيع ، بينما كان يرده يونس فيقول فى تصغير يضع : يويضع (٤). وكان يذهب إلى أن تاء أخت وبنت ليست للتأنيث لأن ما قبلها ساكن صحيح ولأنها لا تبدل فى الوقف هاء (٥) ، كما كان يذهب إلى أن الشاعر فى قوله :

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

أراد : أو أنتم تنزلون ، فعطف الجملة الاسمية على الجملة الشرطية ، وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن ذلك من باب العطف على التوهم (٦). وعلى هذا النحو وقع يونس بعيدا عن تطور نظرية النحو على شاكلة ما انتهت إليه فى الكتاب عند سيبويه ، والنحاة الذين يوضعون بحق فى تطورها هم ابن أبى إسحق وعيسى بن عمر ، ثم الخليل بن أحمد وسيبويه على نحو ما سيتضح ذلك عمّا قليل.

__________________

(١) الخصائص ٢ / ٦١.

(٢) المغنى ص ٨٢.

(٣) المنصف شرح تصريف المازنى لابن جنى ٢ / ٨٥.

(٤) الخصائص ٣ / ٧١.

(٥) شرح التصريح على التوضيح (طبعة عيسى الحلبى) وبهامشه حاشية الشيخ يس العليمى ١ / ٧٤.

(٦) الكتاب ١ / ٤٢٩ والمغنى ص ٧٧٣.

٢٩

الفصل الثانى

الخليل

١

نشاطه العقلى والعلمى

هو الخليل (١) بن أحمد الفراهيدى البصرى ، عربى من أزدعمان ، ولد سنة مائة للهجرة ، وتوفى سنة مائة وخمس وسبعين ، ومنشؤه ومرباه وحياته فى البصرة ، وقد أخذ يختلف منذ نعومة أظفاره إلى حلقات المحدثين والفقهاء وعلماء اللغة والنحو ، وأكبّ إكبابا على حلقات أستاذيه عيسى بن عمر وأبى عمرو بن العلاء ، كما أكبّ على ما نقل من علوم الشعوب المستعربة ، وخاصة العلوم الرياضية ، وكان صديقا لابن المقفع مواطنه ، فقرأ كلّ ما ترجمه وخاصة منطق أرسططاليس ، كما قرأ ما ترجمه غيره من علم الإيقاع الموسيقى عند اليونان ، وحذق هذا العلم حذقا جعله يؤلف فيه كتابا كان الأصل الذى اعتمد عليه إسحق الموصلى فى تأليف كتابه الذى صنفه فى النغم واللحون.

وكان عقل الخليل من العقول الخصبة النادرة ، فهو لا يلم بعلم حتى يلتهمه التهاما ، بل حتى يستوعبه ويتمثله وينفذ منه إلى ما يفتح به أبوابه الموصدة ، وحقّا ما قاله ابن المقفع فيه من أن عقله كان أكثر من علمه ، وهو عقل جعله يتصل بكل علم ويحوز لنفسه منه كل ما يبتغى من ثراء فى التفكير ودقة فى الاستنباط ،

__________________

(١) انظر فى ترجمة الخليل أبا الطيب اللغوى ص ٢٧ والزبيدى ص ٤٣ والسيرافى ص ٣٨ ونزهة الألباء ص ٤٥ والأنساب للسمعانى الورقة ٤٢١ ومعجم الأدباء ١١ / ٧٢ ومقدمة تهذيب اللغة للأزهرى وابن خلكان فى الخليل وإنباه الرواة ١ / ٣٤١ وتهذيب الأسماء واللغات ١ / ١٧٧ وتهذيب التهذيب ٣ / ١٦٣ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٢٧٥ وسرح العيون لابن نباتة (طبعة دار الفكر العربى) ص ٢٦٨ ومرآة الجنان ١ / ٣٦٢ وشذرات الذهب ١ / ٢٧٥ وروضات الجنات ص ٢٧٢ وبغية الوعاة ص ٢٤٣.

٣٠

دقة تذهل كل من يقف على وضعه لعروض الشعر ورفعه لصرح النحو ورسمه المنهج الذى ألّف عليه معجم العين أول معجم فى العربية. ولما أدركته الشهرة لم يستغلها لنفسه وتحقيق ما حققه بعض معاصريه من الثراء العريض ، بل مضى مزدريا للشهرة وما قد يطوى فيها من مجد مادى ، مكتفيا بكفاف العيش ، وفى ذلك يقول النّضر بن شميل أحد تلاميذه : «أقام الخليل فى خصّ من أخصاص البصرة لا يقدر على فلس وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال».

وعلى هذا النحو كان يزدرى الخليل متاع الحياة الدنيا الذى كان الناس يشغفون به من حوله ، ومتاع واحد هو الذى كان يلتمسه ويسعى إليه ويلحّ فى السعى ، هو المتاع العقلى الذى جعله يتكلف الجهد العنيف الممضّ فى فتح أبواب العلوم اللغوية التى طال على العلماء من قبله ومن حوله قرعها دون أن تنفتح لهم ، حتى إذا مسّتها عصاه السحرية انفتحت أغلاقها وفارقتها طلاسمها ، وذلّت له وانقادت. وأول ما يلاحظ من ذلك اكتشافه علم العروض اكتشافا ليس له سابقة ولا تدانيه لا حقة ، إذ استطاع أن يرسمه بكل أوزانه وحدوده وتفاعليه وتفاريعه ، غير مبق لمن جاءوا بعده شيئا يضيفونه إليه. وهو يحمل فى تضاعيفه ما يشهد بتمثله تمثلا رائعا للنغم وعلم الإيقاع ومواضعه ، كما يحمل ما يشهد بإتقانه لنظريات العلوم الرياضية فى عصره علما وفقها وتحليلا ، وخاصة نظريتى المعادلات ، والتباديل والتوافيق ، فقد اشتق له تفاعيل خاصة ، وأدارها فى دوائر كدوائر المهندسين مستخدما إشارات من النقط والحلقات تصور ما يجرى فى التفعيلات من زحافات ، كما تفسح لأجزائها فى التقدم والتأخر ، بحيث تجمع الأوزان العروضية التى عرفها العرب وما لا يحصى من أوزان جديدة لم يعرفوها ولا ألفوها ، مما أتاح للعباسيين أن ينظموا على أو زان جديدة أهملها أسلافهم ولم يودعوا فيها شيئا من منظوماتهم.

ولم يستغل الخليل نظرية التباديل والتوافيق الرياضية فى وضعه علم العروض فحسب ، فقد استغلها أيضا فى وضع منهج قويم لمعجم العين المشهور ، إذ بناه على تقليب كل الصيغ الأصلية ، بحيث تندرج فيه مع كل كلمة الكلمات الأخرى التى تجمع حروفها وتختلف فى ترتيبها بتقديم بعض منها على بعض ،

٣١

فكتب مثلا يوضع معها : كبت ، وتكب ، وتبك ، وبكت ، وبتك. وبذلك حصر فى المعجم جميع الكلمات التى يمكن أن تقع فى العربية ، مميزا دائما بين ما استعملته العرب منها وما أهملته ولم تنطق به ، على نحو ما ميز فى العروض بين الأوزان المستعملة والأخرى المهملة. ورأى أن يكون ترتيب الكلمات فى المعجم على مخارج الحروف ومواقعها من الجهاز الصوتى وهو الحلق واللسان والفم والشفتان ، بادئا بحرف العين وبه سمّاه. وهو صنيع يلتقى فيه بصنيع الهنود فى ترتيبهم لحروف لغتهم السنسكريتية وربما عرف ذلك من بعض نازلتهم فى موطنه ، وهى فى معجمه مرتبة على هذا النحو (١) :

العين ، الحاء ، الهاء ، الخاء ، الغين ، القاف ، الكاف ، الجيم ، الشين ، الضاد ، الصاد ، السين ، الزاى ، الطاء ، الدال ، التاء ، الظاء ، الذال ، الثاء ، الراء ، اللام ، النون ، الفاء ، الباء ، الميم ، الياء ، الواو ، الألف.

وهو ترتيب أساسه كما ذكرنا آنفا مخارج الحروف ومدارجها ، وهى عنده سبعة عشر مخرجا موزعة على الجوف والحلق وأول الفم ومناطق اللسان وحافته وطرفه والثنايا والشفة السفلى والشفتين. واتهم القدماء مادة هذا المعجم وقالوا إنها ليست من عمله ، وإنما هى من عمل تلميذه الّليث بن رافع باسطين فى ذلك أدلة قوية (٢) ، غير أنهم اتفقوا على أنه هو الذى رسم منهجه له ، لما لاحظوه من التقاء منهجه بمنهج علم العروض الذى رسمه ، وقيام المنهجين جميعا على أساس نظرية التباديل والتوافيق الرياضية.

ويظهر أنه عرف المباحث الصوتية عند الهنود وكانت قد نمت عندهم نموّا واسعا (٣) ، وأضاف على ضوئها مادة صوتية غزيرة نقل منها تلميذه سيبويه فى كتابه نقولا كثيرة ، كما نقلت منها الكتب المتأخرة ، وهى تردّ إلى ثلاثة جوانب ، أولها ذوق أصوات الحروف عن طريق فتح الفم بألف مهموزة يليها الحرف المذاق ساكنا ، فيقال فى الباء أب وفى التاء أت وهلم جرا (٤). وبذلك يتضح صوت الحرف بالوقوف عليه ساكنا والمكث عنده قليلا ، بخلاف ما

__________________

(١) انظر ذلك فى مقدمة لسان العرب.

(٢) المزهر للسيوطى (طبعة الحلبى) ١ / ٧٧ وما بعدها.

(٣) راجع التطور النحوى للغة العربية لبرجشتراسر ص ٥.

(٤) مقدمة لسان العرب.

٣٢

لو وصل بحرف بعده فإننا حينئذ لا نتمكن من إشباع الصوت ، إذ نتهيأ للنطق بصوت الحرف التالى له. وثانى هذه الجوانب وصف الأجراس الصوتية للحروف من همس وجهر وشدة ورخاوة واستعلاء واستفال ، مما يتناثر فى صحف كتاب سيبويه ، وجعله ذلك يقف عند أصوات الحركات وما يداخلها من إمالة وروم وإشمام. والإمالة معروفة ، والروم حركة مختلسة ضعيفة ، أما الإشمام فهو أن تذيق الحرف الضمة أو الكسرة بحيث لا تكاد تسمع وإنما ترى فى حركة الشفة ، فهو أقل من الروم همسا وخفة. وأما الجانب الثالث فهو ما يحدث للصوت فى بنية الكلمة من تغير يفضى إلى القلب أو الحذف أو الإعلال أو الإبدال أو الإدغام ، وقد عرض على هذا الجانب مادة اللغة عرضا تدافعت سيوله وأمواجه تدافعا عند سيبويه. وجعله عمق نظره فى هذه الجوانب الصوتية وخاصة الجانب الثانى يحاول أن يصوغ شكل الأصوات صياغة دقيقة ، مما جعله يدخل على النقط أو الإعجام علامات للروم والإشمام والتشديد والهمزة المتصلة والمنقطعة (١) ، واخترع علامات الضبط التى لا نزال نستعملها إلى اليوم إذ أخذ من حروف المد صورها مصغرة للدلالة عليها ، فالضمة واو صغيرة فى أعلى الحرف لئلا تلتبس بالواو المكتوبة ، والكسرة ياء متصلة تحت الحرف ، والفتحة ألف مبطوحة فوقه (٢). وكان له فى النقط والشكل كتاب اتخذه الأسلاف إمامهم مددا متطاولة من الزمن. وما زال يوالى هذا النشاط العقلى والعلمى حتى توفى سنة ١٧٥ للهجرة.

٢

إقامته صرح النحو والتصريف

كان عقل الخليل عقلا فذّا ، كلما مسّ شيئا نظّمه واستنبط قوانينه ودقائقه ، وقد سلّط هذا العقل على قوانين العربية فى النحو والتصريف. فإذا هو يكتشفها اكتشافا دقيقا ، وحقّا لم يترك فيها كتابا جامعا ، إنما ترك ، إن

__________________

(١) المحكم فى نقط المصاحف للدانى ص ٦.

(٢) الدانى ص ٧.

٣٣

صحّ ما ذكره المترجمون له ، كتابات فرعية كرسالة له فى معنى الحروف وثانية فى جملة آلات الإعراب ، وثالثة فى العوامل ويظن القفطى أنها منتحلة عليه ، ورابعة لعلها من عمل غيره إذ تسمّى «شرح صرف الخليل». ولكنه إذا كان لم يترك فى النحو والتصريف كتابا كبيرا مأثورا يضم فروعهما وشعبهما الكثيرة فإن تلميذه سيبويه سجّل فى كتابه كثيرا من بحوثه النحوية والصرفية ، حتى كأنه كان موكّلا بأن لا يترك له رأيا مهما يتصل بقواعد العلمين ومسائلهما إلا دوّنه حتى قال القدماء إن كتابه من تصنيفه وتصنيف أستاذه الخليل وعبّروا عن ذلك عبارات مختلفة من مثل قول ثعلب : «الأصول والمسائل فى الكتاب للخليل» ويقول أبو الطيب اللغوى : «عقد سيبويه كتابه بلفظه ولفظ الخليل» ويقول السيرافى : «عامة الحكاية فى كتاب سيبويه عن الخليل أستاذه ، وكل ما قال سيبويه : سألته أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل». وكل من يقرأ الكتاب يحس فى وضوح بما قاله ثعلب من أن الأصول وأمهات المسائل النحوية والصرفية من عمل الخليل ، وكأنه بالقياس إلى سيبويه كان الكنز الذى لا ينفد.

وحقّا سبقت الخليل فى النحو والتصريف خطوات مهمة ، وخاصة عند ابن أبى إسحق وعيسى بن عمر ، ولكن من الحق أيضا أنه هو الذى رفع قواعدهما وأركانهما وشاد صرحهما وبناءهما الضخم ، بما رسم من مصطلحاتهما وضبط من قواعدهما ، وبما شعب من فروعهما ، يهتدى فى ذلك ببصيرته النافذة التى أتاحت له وضع علم العروض وضعا تامّا بحيث لم تستطع الأجيال التالية أن تضيف إلى صنيعه شيئا. وبالمثل تناول علمى النحو والتصريف ساذجين من أسلافه ، وما زال بهما حتى استويا فى صورتهما التى ثبتت على الزمن ، ونستطيع أن نقول فى إجمال إن جمهور ما يصوره سيبويه فى كتابه من أصول النحو والتصريف وقواعدهما إنما هو من صنيع أستاذه. ولا ينكر أحد ما لسيبويه من إكمال فى العلمين وتتميم ، ولكن المهم أن واضع تخطيطهما وراسم لوحتيهما إنما هو الخليل ، يتضح ذلك فى محاوراته التى لا تكاد تنتهى مع تلميذه والتى تدور فيها مصطلحات النحو والصرف وأبوابهما ، من مثل المبتدأ والخبر وكان وإن وأخواتهما والأفعال اللازمة والمتعدية إلى مفعول به واحد أو مفعولين أو مفاعيل ، والفاعل

٣٤

والمفاعيل على اختلاف صورها والحال والتمييز والتوابع والنداء والندبة والاستغاثة والترخيم والممنوع من الصرف ، وتصريف الأفعال والمقصور والممدود والمهموز والمضمرات والمذكر والمؤنث والمعرب والمبنى. وهو الذى سمّى علامات الإعراب فى الأسماء باسم الرفع والنصب والخفض وسمى حركات المبنيات باسم الضم والفتح والكسر أما سكونها فسماه الوقف ، وسمى الكسرة غير المنونة فى مثل مررت بعبد الله باسم الجر ، كما سمى السكون الذى يقع فى أواخر الأفعال المضارعة المجزومة باسم الجزم (١) ، وكان يرى أن الألف والياء والواو فى التثنية وجمع المذكر السالم هى نفس حروف الإعراب (٢) ، كما كان يرى أن أسماء الأفعال مبنية ولا محل لها من الإعراب ، مثلها فى ذلك مثل ضمير الفصل (٣).

وأدته بحوثه الواسعة فى بنية الكلمة وما لحروفها من أصالة وزيادة إلى أن يقسم الكلمات إلى مجردة ومزيدة ، ملاحظا أن المجردة لا تزيد على خمسة ولا تقل عن ثلاثة (٤). ووضع للأبنية المجردة والمزيدة الميزان الصرفى المشهور ، وهو شديد الصلة بميزان تفاعيله فى العروض مما يؤكد أنه هو واضعه ، وقد اتخذ فيه من تفعيلة الصيغة الثلاثية المجردة أصلا هو «فعل» وأضاف إليها لاما فى وزن الرباعى المجرد مثل جعفر فوزنه فعلل ولامين فى وزن الخماسى المجرد مثل سفرجل فوزنه فعلّل ، أما الكلمات المزيدة فلاحظ أن حروف الزيادة فيها عشرة ، وتجمعها حروف كلمة «سألتمونيها» وقد رأى أن تنطق فى الميزان بلفظها ، ليمتاز الأصلى من المزيد ، فمثلا أكرم وزنها أفعل وتفضل وزنها تفعّل واقتطف وزنها افتعل وانكسر وزنها انفعل واستغفر وزنها استفعل ، ومثلا إكرام وزنها إفعال واقتطاف وزنها افتعال وانكسار وزنها انفعال واستغفار وزنها استفعال ومصباح وزنها مفعال. وإليه يرجع الفضل فى وضع قوانين الإعلال والقلب ، ويكفى أن نذكر لذلك ثلاثة أمثلة ، أما أولها فصيغة اسم المفعول من الفعل الأجوف مثل مقول ومبيع فقد كان يرى

__________________

(١) مفاتيح العلوم للخوارزمى (طبعة القاهرة ١٩٣٠) ص ٣٠ وانظر شرح ابن يعيش على المفصل للزمخشرى (طبع القاهرة) ١ / ٧٢.

(٢) الإيضاح فى علل النحو للزجاجى (طبعة القاهرة) ص ١٣٠ ، ١٤١ والإنصاف لابن الأنبارى ص ١٣ وكتابه أسرار العربية (طبع دمشق) ص ٥١.

(٣) المغنى لابن هشام (طبعة دار الفكر بدمشق) ص ٥٥٠.

(٤) الجزء المطبوع من كتاب العين ص ٣.

٣٥

أن واو مفعول الزائدة هى المحذوفة من الصيغتين لأن الزائد أولى بالإعلال من الأصلى ، وبذلك يكون وزن الكلمتين عنده «مفعل» و «مفعل» بينما يذهب بعض النحاة الذين خلفوه إلى أن عين صيغة اسم المفعول هى المحذوفة ، وأن وزنهما لذلك «مفول» (١). والمثال الثانى صيغة اسم الفاعل من الفعل الأجوف المهموز مثل جاء من جاء ، وكان يرى أنه حدث فى الصيغة قلب ، إذ قدّمت ياء لفظة جائى على الهمزة ، وذلك أن اسم الفاعل من الفعل الأجوف الثلاثى تقلب عينه همزة مثل سائل ، فلو لم تقدّم الياء لأدى ذلك إلى انقلابها همزة وأن تجتمع همزتان فى كلمة واحدة وهو شىء تكرهه العرب فى لغتها ، ومن أجل ذلك قدّر حدوث قلب فى الصيغة ، فأصبحت : «جايىء» جائى ، وأعدّها ذلك لأن تعلّ إعلال كلمة قاض ، فأصبحت «جاء» ودعم رأيه فى هذا الإعلال والقلب بقياس كلمة جاء على كلمة شاك فى قول طريف بن تميم العنبرى :

فتعرّفونى أننى أنا ذاكم

شاك سلاحى فى الحوادث معلم

فإنه قدم الكاف على الهمزة فى الصيغة الأصلية لكلمة «شاك» إذ أصلها «شائك» فأصبحت «شاكىء» ثم أعلّها فأصبحت «شاك» ووزنها إذن «فالع» لا فاعل (٢). أما المثال الثالث فكلمة «أشياء» فإنّها جاءت عن العرب ممنوعة من الصرف مع أنها جمع شىء ، وصيغة جمعها وهى أفعال لا تمنع من الصرف ، ومن أجل ذلك ذهب الخليل إلى أنه حدث فيها قلب ، وأنها ليست على وزن أفعال ، كما يتبادر ، فقد جمعت «شيئاء» على وزن فعلاء الممنوع من الصرف مثل خضراء بعلّة ألف التأنيث الممدودة ، والكلمة إذن اسم جمع لا جمع ، وحدث فيها قلب مكانى إذ قدمت الهمزة الأولى التى هى لام الكلمة على فائها ، وبذلك أصبح وزنها «لفعاء» لا فعلاء وظلت ممنوعة من الصرف. واستدلّ الخليل على رأيه بأن الكلمة تجمع على «أشاوى» كما

__________________

(١) الخصائص ٢ / ٦٦ والمنصف شرح تصريف المازنى لابن جنى (طبعة مطبعة مصطفى الحلبى) ١ / ٢٨٧ والأشباه والنظائر للسيوطى (طبعة حيدر آباد) ١ / ٤٠.

(٢) المنصف ٢ / ٥٢ وانظر الكتاب ٢ / ١٢٩ ، ٣٧٨.

٣٦

تجمع صحراء على صحارى ، وأصلها عنده «أشايا» فأبدلت الياء واوا (١).

وعلى هذا النحو من التحليل للقلب والإعلال فى هذه الأمثلة كان الخليل يحلل تحليلا واسعا عبارات اللغة ، كما كان يحلل أدواتها وصيغها اللفظية تحليلا جعله يلتفت فيها إلى النحت وأن من الممكن أن تكون الكلمة استخلصت من كلمتين ، من ذلك اسم الفعل «هلمّ» فإنه ذهب إلى أنه مركب من «ها» للتنبيه وفعل «لمّ» أى لمّ بنا ، ثم كثر استعمال الصيغة فحذفت الألف من «ها» تخفيفا لأن اللام بعدها وإن كانت متحركة فإنها فى حكم الساكنة ، وكأنها حذفت لالتقاء الساكنين فصارت «هلم» (٢). ومن ذلك تحليله للفظة «مهما» الشرطية فقد كان يرى أن أصلها «ما» ثم دخلت عليها «ما» التى تدخل على أخواتها الشرطيات مثل أينما ، واستقبح التكرار فى «ماما» فأبدلت الألف الأولى هاء لأنها من مخرجها ، وحسن اللفاظ بها (٣). ومن ذلك «لن» الناصبة للمضارع ، فأصلها عنده : «لا أن» فحذفت الهمزة تخفيفا لكثرة دوران الصيغة فى الكلام على نحو حذفها فى مثل : خذ وكل ومر وسل» ثم حذفت الألف لسكونها وسكون النون بعدها ، أو بعبارة أخرى حذفت لالتقاء الساكنين (٤). ومن ذلك تحليله لكلمة «ليس» فأصلها عنده : لا أيس ، فطرحت الهمزة وألصقت اللام بالياء (٥) ومن ذلك كلمة إذن فأصلها عنده إذ أن (٦).

وكان يمتاز بحسّ لغوى دقيق جعله يفقه أسرار العربية ودقائقها فى العبارات والألفاظ فقها لعل أحدا من معاصريه لم يبلغه ، ويتوقف سيبويه مرار لينقل عنه مثل «إن هذه العبارة أو هذه الظاهرة تكرهها العرب» أو إن «هذه الصيغة جيدة فى لسانهم ، أو إنهم يميلون إلى هذا الأداء رغبة فى التخفيف». ومن أروع الجوانب التى يتضح فيها ذوقه اللغوى المرهف أحاديثه الكثيرة التى نقلها عنه سيبويه فى الإدغام والإعلال ومواضع قلب الواو ياء والياء واوا. ومما يصور مدى حسه اللغوى الحاد ملاحظته حكاية العرب لصوت الجندب بقولهم : «صرّ» وحكايتهم لصوت

__________________

(١) الكتاب ٢ / ٣٧٩ والمنصف ٢ / ٩٤.

(٢) الخصائص ٣ / ٣٥.

(٣) الكتاب ١ / ٤٣٣.

(٤) الكتاب ١ / ٤٠٧ والخصائص ٣ / ١٥١.

(٥) انظر مادة ليس فى لسان العرب.

(٦) همع الهوامع للسيوطى (طبعة الخانجى) ٢ / ٦.

٣٧

البازى بقولهم : «صرصر» فقد قال إنهم توهموا فى صوت الجندب استطالة ومدّا فقالوا صرّ بينما توهمو فى صوت البازى تقطيعا ، فقالوا «صرصر» (١). وسنرى فيما يلى أمثلة كثيرة تصور حسه اللغوى المصفّى وملكاته العقلية التى لا يكاد يفوتها شىء.

٣

العوامل والمعمولات

كل من يقرأ كتاب سيبويه يرى رأى العين أن الخليل هو الذى ثبّت أصول نظرية العوامل ومدّ فروعها وأحكمها إحكاما بحيث أخذت صورتها التى ثبتت على مرّ العصور ، فقد أرسى قواعدها العامة ذاهبا إلى أنه لا بد مع كل رفع لكلمة أو نصب أو خفض أو جزم من عامل يعمل فى الأسماء والأفعال المعربة ومثلهما الأسماء المبنية. والعامل عادة لفظى مثل المبتدأ وعمله فى الخبر الرفع ، والفعل وعمله فى الفاعل الرفع وفى المفعولات النصب. وقد يكون العامل معنويّا على نحو ما نصّ تلميذه سيبويه فى باب المبتدأ إذ جعله معمولا للابتداء. ومن العوامل أدوات وحروف ، منها ما يجزم الفعل وهو لم وإن وأخواتهما ومنها ما ينصبه أو ينصب بعده وهو أن ولن وبابهما. ومنها ما ينصب ما بعده ويرفعه كالفعل وهو إنّ وأنّ ولكن وكأن وليت ولعل ، يقول سيبويه : «زعم الخليل أن هذه الحروف عملت عملين : الرفع والنصب كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت كان أخاك زيد ، إلا أنه ليس لك أن تقول «كأن أخوك عبد الله» تريد كأن عبد الله أخوك لأنها لا تتصرف تصرف الأفعال ولا يضمر فيها المرفوع كما يضمر فى كان ، ومن ثمّ فرّقوا بينهما كما فرّقوا بين ليس وما فلم يجروها مجراها ، ولكن قيل هى بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال» (٢). وقال إذا دخلت ما على إنّ هى وأخواتها كفّت عن العمل أو ألغى عملها ما عدا ليت فإنه يجوز معها الإلغاء والعمل إذا وليتها ما (٣). وفى ذلك ما يؤكد أنه صاحب فكرة الإلغاء والإعمال فى العوامل لا فى باب إنّ وحده ، بل أيضا فى باب ظن وأخواتها وغيره من الأبواب. وهو الذى فتح مباحث حروف الجر الزائدة التى تعمل عملا لفظيّا فيما بعدها ،

__________________

(١) الخصائص ٢ / ١٥٢.

(٢) الكتاب ١ / ٢٨٠.

(٣) الكتاب ١ / ٢٨٢ وما بعدها.

٣٨

بينما ينبغى ملاحظة موقعه من الإعراب بالنسبة للعوامل التى تطلبه يقول فى قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إنما هو كفى الله بالرفع ولكنك لما أدخلت الباء عملت(١). وكان يذهب إلى أنّ «إن» الجازمة تجزم جواب الشرط كما تجزم فعله وكان يقول إنها هى أم الباب الخاص بأدوات الجزاء الجازمة لأنها لا تخرج عن بابها بينما غيرها يفارق الباب مثل «من» فهى تأتى شرطية وتأتى استفهامية مثلا. ومعروف أن جواب الشرط إما أن يكون فعلا ، وإذن لا يحتاج إلى رابط يربطه بما قبله ، وإما أن يكون جملة اسمية وحينئذ لا بد له من الفاء ، ولاحظ أن إذا الفجائية قد تسد مسدّها فى الربط على شاكلة قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)(٢). وعرض سيبويه لما انجزم بالأمر فى مثل : «ائتنى آتك» وبالنهى فى مثل : «لا تفعل يكن خيرا لك» وبالاستفهام فى مثل : «ألا تأتينى أحدثك» وبالتمنى فى مثل : «ألا ماء أشربه» وبالعرض فى مثل : «ألا تنزل تصب خيرا» ثم نقل عن الخليل أن كل هذه الصيغ فيها معنى إن الشرطية لأن القائل إذا قال «ائتنى آتك» فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك ، وهكذا الصيغ التالية. وجعل من ذلك قوله عزوجل : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) فلما انقضت الآية قال : (يَغْفِرْ لَكُمْ) بجزم المضارع (٣). وهو صاحب فكرة تأويل المضارع المنصوب بأن مضمرة أو ظاهرة وإعرابه حسب مواقعه من العوامل ، فمثل : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) تقديره : وأمرنا للإسلام (٤).

والعوامل عنده تعمل ظاهرة ومحذوفة ، وكثيرا ما يحذف المبتدأ العامل فى الخبر ، طلبا للإيجاز. ويكثر سيبويه من توجيه الخليل لبعض المرفوعات على أن مبتدأها محذوف ، مثل مررت به المسكين أى هو المسكين ، ومثل إنه ـ المسكين ـ أحمق ، أى هو المسكين أيضا (٥). ومواضع حذف الفعل الناصب

__________________

(١) الكتاب ١ / ٤٨.

(٢) الكتاب ١ / ٤٣٥.

(٣) الكتاب ١ / ٤٤٩.

(٤) المغنى لابن هشام ص ٢٣٨.

(٥) الكتاب ١ / ٢٥٥.

٣٩

للمفعول كثيرة ، منها ما يجوز فيه الحذف والإضمار لقيام القرينة ، ومنه عنده قول الشاعر :

ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة تبيت (١)

إذ جعل تقديره : ألا تروننى رجلا هذه صفته ، فحذف الفعل مدلولا عليه بالمعنى(٢). وقد يحذف وجوبا على نحو ما هو معروف فى التحذير والاختصاص ويجعل من مواضعه المدح كما فى الاختصاص ، وكذلك الذم ، إذ نراه يعرض للآية الكريمة : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فقد جاءت كلمة (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالنصب ، ولو كانت معطوفة على ما قبلها لكان حقها الرفع ، ويقول الخليل إنها منصوبة بفعل محذوف قصدا للثناء والتعظيم كأنه قيل : اذكر أهل ذاك واذكر المقيمين ، ويقول : وهذا شبيه بقولهم (أى فى الاختصاص) إنا بنى فلان نفعل كذا ، لأنهم لا يريدون أن يخبروا من لا يدرى بأنهم من بنى فلان وإنما يذكرون ذلك افتخارا ، ويعلّق على قول أمية بن أبى عائذ :

ويأوى إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السّعالى

فيقول إنه نصب شعثا بإضمار فعل لا يصح إظهاره لأن ما قبله دلّ عليه ، فوجب حذفه على ما يجرى عليه تعبيرهم فى الذم والمدح (٣). ويقف بإزاء الآية الكريمة : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) ويقول إن خيرا مفعول به لفعل محذوف وجوبا لجريان التعبير مجرى المثل ، كأنه قيل : ائتوا خيرا لكم ، ويستطرد لقول القائل : «انته يا فلان أمرا قاصدا» ويقول إن أمرا مفعول به لفعل محذوف على تقدير : وائت أمرا قاصدا (٤). وعلى نحو ما يحذف الفعل مع المفعول يحذف مع المصادر كثيرا مثل مرحبا وأهلا كأنه بدل من رحبت بلادك وأهلت ، وحين مثل بذلك قال إنه بمنزلة رجل رأيته سدّد سهما فقلت القرطاس أى أصبت القرطاس(٥).

__________________

(١) محصلة هنا : تحصل الخير لصاحبها.

(٢) الكتاب ١ / ٣٥٩.

(٣) الكتاب ١ / ٢٤٩ وما بعدها.

(٤) الكتاب ١ / ١٤٣.

(٥) الكتاب ١ / ١٤٨.

٤٠