المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

فى القياس وضبط القواعد النحوية ، ذلك أن البصريين اشترطوا فى الشواهد المستمد منها القياس أن تكون جارية على ألسنة العرب الفصحاء وأن تكون كثيرة بحيث تمثل اللهجة الفصحى وبحيث يمكن أن تستنتج منها القاعدة المطردة. وبذلك أحكموا قواعد النحو وضبطوها ضبطا دقيقا ، بحيث أصبحت علما واضح المعالم بيّن الحدود والفصول. وجعلهم ذلك يرفضون ما شذ على قواعدهم ومقاييسهم لسبب طبيعى ، وهو ما ينبغى للقواعد فى العلوم من اطرادها وبسط سلطانها على الجزئيات المختلفة المندرجة فيها. ولم يقفوا عند حد الرفض أحيانا ، إذ وصفوا بعض ما شذ على قواعدهم مما جرى على ألسنة بعض العرب بأنه غلط ولحن ، وهم لا يقصدون اتهامهم بذلك حسب المدلول الظاهر للكلمتين ، إنما يقصدون أنه شاذ على القياس الموضوع وخارج عليه فلا يلتفت إليه. وتوقف كثير من المعاصرين الذين يخوضون فى المباحث النحوية عند هذين اللفظين وحاولوا الرد على البصريين غير متنبهين لمدلول الكلمتين عندهم ومقصدهم منهما. وكل من يعرف كيف توضع القواعد فى العلوم يدرك دقة البصريين فى وضعهم لقواعد النحو والتمكين لما ينبغى لها من صحة وسلامة وسداد ، بحيث يطّرد سلطانها وينبسط على جميع الألسنة ، وبحيث تصبح هى المتحكمة إزاء جميع العيون وتجاه جميع الأسماع ، وبحيث لا يفسدها شذوذ قد يندّ على بعض الأفواه.

وقد وقف الكوفيون من هذا البناء العلمى المحكم موقفا يدل على نقص فهمهم لما ينبغى للقواعد العلمية من سلامة واطراد ، إذ اعتدّوا بأقوال وأشعار المتحضرين من العرب ، كما اعتدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التى سمعوها على ألسنة الفصحاء ، مما خرج على قواعد البصريين وأقيستهم ومما نعتوه بالخطأ والغلط. ولم يكتفوا بذلك فقد حاولوا أن يقيسوا عليها وقاسوا كثيرا ، مما أحدث اختلاطا وتشويشا فى نحوهم ، لما أدخلوه على القواعد الكلية العامة من قواعد فرعية قد تنقضها نقضا ، مع ما يؤول إليه ذلك من خلل فى القواعد وخلل فى الأذهان ، بحيث لا تستطيع فهم ذلك إلا بأن يعكس عليها مرارا وتكرارا ، لاختلاط القواعد وتضاربها ، وأحسّ ذلك القدماء فى وضوح فقالوا : «لو سمع الكوفيون بيتا واحدا

١٦١

فيه جواز شىء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه» (١) وقالوا : «عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظا فى شعر أو نادر كلام جعلوه بابا أو فصلا» (٢).

ولعلنا بذلك نستطيع أن نفهم السّرّ فى أن نحو المدرسة البصرية هو الذى ظل مسيطرا على المدارس النحوية التالية وعلى جميع الأجيال العربية التى جاءت من بعدهم ، لأن قواعدهم هى القواعد المطردة مع الفصحى ، ونقصد الكثير فيها الذى استخرجت منه تلك القواعد استخراجا مصفّى مروّقا أروع ما يكون الترويق والتصفية.

على أنه ينبغى أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نحّت الشواذ عن قواعدها لم تحذفها ولم تسقطها ، بل أثبتتها ، أو على الأقل أثبتت جمهورها ، نافذة فى كثير منها إلى تأويلها ، حتى تنحّى عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللا يشوبها ، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح فى النطق على أوساط المتعلمين ، إذ قد يظنون الشاذ صحيحا مستقيما ، فينطقون به ويتركون المطّرد فى لغة العرب الفصيحة وتصاريف عباراتهم وألفاظهم. ومن هنا يتضح خطر قواعدهم بالقياس إلى ما زاده الكوفيون من قواعد استنبطوها من الشواذ النادرة ، إذ إن ذلك يعرّض الألسنة للبلبلة ، لما يعترضها من تلك القواعد التى قد تخنق القواعد العامة. وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه بل على كثيرها الأكثر والقاعدة التى لم يرد منها إلا شاهد واحد ، مما قد يؤول إلى اضطراب شديد فى الألسنة.

وكأنما غاب غور هذا العمل وما أرسى به من علم النحو على بعض المعاصرين فإذا هو يطعن على البصريين لذلك الموقف بينما يحمد للكوفيين موقفهم ، مطريا لهم زاعما أنهم كانوا أدق من البصريين فى فقه طبيعة العربية والإحساس بدقائقها التى لا تخضع دائما لمنطق العقل. وهو كلام لا يقوله إلا من لا يعرف كيف توضع القواعد فى العلوم وأنه ينبغى أن يرفع عنها كل ما يعترضها من اضطراب ، بحيث تبسط سلطانها على جميع العناصر والجزئيات بسطا تامّا كاملا. وما

__________________

(١) الاقتراح للسيوطى (طبعة حيدر آباد) ص ٨٤.

(٢) همع الهوامع ١ / ٤٥.

١٦٢

أعرف كتابا يعلّم دقة الحس اللغوى على نحو ما يعلّمها كتاب سيبويه ، بحيث لا أغلو إذا قلت إنه يلقّن قارئه سليقة العربية والحسّ بها حسّا دقيقا مرهفا والشعور بها شعورا رقيقا حادّا.

ونحن نخلص من ذلك كله إلى أن المدرسة الكوفية توسعت فى الرواية وفى القياس توسعا جعل البصرة أصح قياسا منها ، لأنها لم تقس على الشواذ النادرة فى العربية وطلبت فى قواعدها الاطراد والعموم والشمول ، كما جعلها أكثر تحريا منها للرواية عن الأعراب وأكثر تثبتا ، لأنها لم ترو إلا عمن خلصت عربيتهم من شوائب التحضر ، ولم تفسد طبائعهم بل ظلت مصفّاة منقاة ، ولا فسدت ألسنتهم ، بل ظلت تجرى على عرق العروبة الأصيل وإرثها القديم.

والحق أن المدرسة البصرية كانت أدق حسّا من المدرسة الكوفية فى الفقه بدقائق العربية وأسرارها فقد تعمقت ظواهرها وقواعدها النحوية والصرفية تعمقا أتاح لها أن تضع نحوها وضعا سديدا قويما ، بل لقد بلغ من تعمقها أن أخذت تصحح ما ندّ عن بعض الشعراء عن طريق التأويل والتخريج والتحليل الدقيق البصير ، لا على أسس عقلية فحسب ، بل أيضا على أسس سليقية ، مما سال فى فطر عباقرتها من أمثال الخليل واضع العروض وسيبويه مشرّع النحو وصائغ قواعده وقوانينه.

ويكفى أن نرجع إلى الكتاب ونقرأ فيه تحليلات هذين العلمين البصريين ، لنرى كيف تمثّلا العربية تمثلا رائعا ، وكيف كانا يتذوقان صياغاتها تذوقا بارعا. والكتاب يزخر بملاحظاتهما التى لا تقف عند الإحاطة بالخصائص اللغوية والنحوية ، بل تمتد أيضا إلى الخصائص البيانية والأدبية مع ما يتناثر فى أثناء ذلك من خواطر ما كانت لترد لهما على بال لو لم يكونا قد استوعبا طبيعة اللغة وأتقنا العلم بجواهرها وأعراضها وخفاياها وظواهرها إتقانا يبلغ حد الكمال. وكل من يحاول أن يرفع أحدا من معاصريهما عليهما فى البصر بالعربية وتذوقها والحس بها يكون مجانيا للصواب ، بل متورطا فى خطأ عظيم.

وينبغى أن نعرف أن الكوفيين لم يقفوا بقياسهم عند ما سمعوه ممن فسدت سلائقهم من أعراب المدن أو ما شذّ على ألسنة بعض أعراب البدو ،

١٦٣

فقد استخدموا القياس أحيانا بدون استناد إلى أى سماع ، ونضرب لذلك مثلا قياسهم العطف بلكن فى الإيجاب على العطف ببل فى مثل «قام زيد بل عمرو» فقد طبقوا ذلك على لكن وأجازوا «قام زيد لكن عمرو» بدون أى سماع عن العرب ، يجيز لهم هذا القياس (١).

وربما كان من أهم ما يدل على أنهم كانوا يرفضون السماع أحيانا وبالتالى يرفضون ما يبنى عليه من قواعد وأحكام أنهم رفضوا الاعتداد بما رواه سيبويه فى الكتاب من إعمال أسماء المبالغة فى أقوال العرب الفصحاء وأشعارهم ، فقد روى قولهم فى الاختيار : «أما العسل فأنا شرّاب» بنصب العسل مفعولا به لشراب ، كما روى طائفة من الأشعار ، عملت فيها صيغ فعول ومفعال وفعيل وفعل ، وعلى الرغم من ذلك كان الكسائى والفرّاء ينكران عمل هذه الأسماء محتجين هم وأصحابهم بأنها فرع عن أسماء الأفعال ، وأسماء الأفعال فرع عن الفعل المضارع ، ولذلك ضعف عملها (٢). ومما رفضوا فيه السماع لاسماع أبيات قد تكون شاذة ، بل سماع إحدى القراءات إعمال إن المخففة من الثقيلة النصب ، فقد زعموا أن الثقيلة إنما عملت لشبهها بالفعل الماضى فى بنائها على ثلاثة أحرف وأنها مبنية على الفتح مثله ، فإذا خفّفت زال شبهها به فوجب أن يبطل عملها ، ولم يلتفتوا لاحتجاج البصريين عليهم بقراءة نافع وابن كثير ـ وهى من القراءات السبع ـ : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ)(٣). وكأنما حجبهم التعليل المنطقى الخالص ، سواء فى هذه المسألة أو فى سابقتها ، عن منطق اللغة وتصاريف عباراتها الفصيحة السليمة.

وفى هذا ونحوه ما يردّ أقوى رد على من يزعمون أن الكوفيين كانوا أكثر بصرا بروح اللغة وأدق حسّا وأنهم لم يخضعوا ـ مثل البصريين ـ للمنطق والفلسفة ، فقد كانوا يخضعون بدورهم لهما ، بل ربما زادوا عنهم خضوعا أحيانا على نحو ما تصوّر ذلك المسألتان السالفتان. ومعروف أن الفراء ، وهو الواضع الحقيقى للنحو الكوفى ، كان معتزليّا ومتكلما متفلسفا ، بل قال المترجمون له إنه كان

__________________

(١) المغنى ص ٣٢٤ والهمع ٢ / ١٣٧.

(٢) مجالس ثعلب ص ١٥٠ ، ٢٣٦ وانظر الكتاب ١ / ٥٦.

(٣) الإنصاف : المسألة رقم ٢٤.

١٦٤

يتفلسف فى تصانيفه ويصطنع فيها ألفاظ الفلاسفة. ومن يرجع إلى كتاب الإنصاف فى مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين يجد فيه عتادا غزيرا من الحجج المنطقية العقلية التى أدلى بها الكوفيون فى حوارهم وجدالهم الواسع مع البصريين مما ينقض الزعم السالف نقضا.

ومعنى ذلك أنه ينبغى أن نحذر مبالغات المتشيعين للكوفيين حين يزعمون أنهم كانوا يبنون قياسهم دائما على السماع ، فقد كانوا يجافونه أحيانا ويضربون عنه صفحا مهتدين بالمنطق العقلى الخالص. ومن يرجع إلى كتاب سيبويه يجده مع ما يمتلئ به من حجج منطقية رائعة لا يدلى بقياس ولا قاعدة نحوية عامة دون سماع من أفواه الفصحاء الخصّص وما يخوضون فيه من الشعر والكلام.

٤

المصطلحات وما يتصل بها من العوامل والمعمولات

لعل مما يدل أكبر الدلالة على أن الكوفيين كانوا يقصدون قصدا إلى أن تكون لهم فى النحو مدرسة يستقلون بها أنهم على الرغم من تلمذة أئمتهم الأولين على أيدى البصريين وعكوفهم جميعا على كتاب سيبويه ينهلون منه ويعلّون حاولوا جاهدين أن يميزوا نحوهم بمصطلحات تغاير مصطلحات البصريين والنفوذ إلى آراء خاصة بهم فى بعض العوامل والمعمولات :

ونحن نعرض لأهم مصطلحاتهم التى تداولوها على ألسنتهم وسجّلت فى تصانيفهم وتصانيف من خلفوهم من النحاة ، فمن ذلك اصطلاح «الخلاف» وهو عامل معنوى كانوا يجعلونه علة النصب فى الظرف إذا وقع خبرا فى مثل «محمد أمامك» (١) بينما كان البصريون يجعلون الظرف متعلقا بمحذوف خبر للمبتدأ السابق له. ومن ذلك اصطلاح الصّرف جعله الفراء علة لنصب المفعول معه. مثل «جاء محمد وطلوع الشمس» بينما ذهب جمهور البصريين إلى أنه

__________________

(١) الإنصاف : المسألة رقم ٢٩ والهمع ١ / ٩٨ والرضى ١ / ٨٣ وابن يعيش ١ / ٩١.

١٦٥

منصوب بالفعل الذى قبله بتوسط الواو (١) ، كما جعله علة نصب المضارع بعد واو المعية وفاء السببية وأو فى مثل «لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى» و «ما تأتينا فنتحدث معك» و «لاتنه عن خلق وتأتى مثله» بينما ذهب جمهور البصريين إلى أن المضارع بعد هذه الحروف منصوب بأن مضمرة وجوبا (٢).

ومن ذلك اصطلاح التقريب ، وقد اختصوا به اسم الإشارة «هذا» فى مثل «هذا زيد قائما» وجعلوه من أخوات كان أى أنه يليه اسم وخبر منصوب (٣) ، بينما يعرب البصريون قائما حالا ويجعلون ما قبلها مبتدأ وخبرا.

ومن ذلك اصطلاح الفعل الدائم ويقصدون به اسم الفاعل ، وهو يقابل عندهم الفعل الماضى والفعل المستقبل الشامل لفعلى المضارع والأمر فى اصطلاح البصريين. وكأنما دفعهم إلى ذلك أنهم وجدوه يعمل عمل الفعل كما وجدوا الأخفش الأوسط يجيز عمله معرّفا بالألف واللام ، وغير معرف بدون أى شرط من الشروط التى اشترطها جمهور البصريين ، وهى اعتماده على نفى أو استفهام أو أن يكون نعتا أو خبرا أو حالا فنفذوا من ذلك إلى أنه فعل وسموه فعلا دائما (٤).

ومن ذلك اصطلاح المكنىّ والكناية ويقصدون به الضمير (٥). وكانوا يصطلحون على تسمية ضمير الشان باسم المجهول فى مثل «إنه اليوم حار» (٦) وتسمية ضمير الفصل باسم العماد فى مثل محمد هو الشاعر (٧).

وكانوا لا يطلقون كلمة المفعول إلا على المفعول به ، أما بقية المفاعيل ، وهى المفعول فيه والمفعول المطلق والمفعول لأجله والمفعول معه فكانوا يسمونها أشباه مفاعيل (٨) ، وسموا الظرف «الصفة والمحل» (٩) والبدل «الترجمة» (١٠) والتمييز

__________________

(١) انظر معانى القرآن للفراء ١ / ٣٤ ونسب النحاة إلى الفراء أنه كان يقول بأن المفعول معه منصوب على الخلاف ، انظر الرضى ٢ / ٢٢٤.

(٢) هكذا فى معانى القرآن ١ / ٣٤ ، ٢٣٥ وفى الرضى أن الفراء كان يقول هنا أيضا بالنصب على الخلاف.

(٣) مجالس ثعلب ص ٥٣ ومعانى القرآن للفراء ١ / ١٢ والهمع ١ / ١١٣.

(٤) مجالس ثعلب ص ٤٥٦ ، ٤٦٣ والأشباه والنظائر ٣ / ٢٩.

(٥) ثعلب ص ٣٣٢ وابن يعيش ٣ / ٨٤.

(٦) ابن يعيش ٣ / ١١٤.

(٧) ابن يعيش ٣ / ١١٠ والرضى على الكافية ٢ / ٢٤.

(٨) الهمع ١ / ١٦٥.

(٩) معانى القرآن ١ / ٢ ، ١١٩ ، ٣٧٥ ومجالس ثعلب ص ٨٠.

(١٠) المجالس ص ٢٥.

١٦٦

«التفسير». (١) وسموا لا النافية للجنس فى مثل «لا رجل فى الدار» باسم «لا التبرئة» والصفة فى مثل «محمد الشاعر أقدم» باسم النعت (٢) وكان يطلقه سيبويه كما مر فى ترجمته على عطف البيان ، وأخذ المتأخرون باسمهم كما أخذوا بتسميتهم للعطف بالحروف «عطف النسق» (٣). وسموا حروف النفى باسم حروف الجحد (٤) أى الإنكار ، كما سموا حروف الزيادة مثل إن فى قولك «ما إن أحد رأيته» باسم حروف الصلة والحشو (٥). وسموا المصروف والممنوع من الصرف باسم «ما يجرى وما لا يجرى» (٦). وسموا لام الابتداء فى مثل «لمحمد شاعر» لام القسم زاعمين أن الجملة جواب لقسم مقدر (٧).

وواضح أن هذه المصطلحات ظلت لا تسود فى النحو العربى ، إذا نحن استثنينا اصطلاح النعت وعطف النسق ، لأن نظامه الذى وضعه البصريون هو الذى عمّ بين العلماء والناس فى جميع الأمصار والأعصار ، وهو لم يعمّ عفوا ، إنما عمّ لدقته المنطقية ، وكأن عقول البصريين كانت أكثر خضوعا وإذعانا لسلطان المنطق ، ومناهجه الصارمة ، لما قدمنا فى غير هذا الموضع من صلة البصرة المبكرة بالدراسات المنطقية والفلسفية ، وما هى إلا أن يكبّ بعض عباقرتها على النحو فإذا هم يصوغونه صياغة نهائية ، ملائمين بين قواعده ومقاييسه ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة ، ملاءمة تخلو من أى عوج أو نقص أو انحراف ، وكأنما كان بأيديهم قسطاس مستقيم وضع كل قاعدة نحوية فى موضعها بحيث لا تجوز قاعدة على قاعدة. وارجع إلى مصطلح الخلاف الذى وضعه الكوفيون فستراه يشتمل على صياغات متباعدة ، وأين الظرف الواقع خبرا من المفعول معه ومن الفعل المضارع المنصوب بعد فاء السببية مثلا؟. ومثل هذا الاصطلاح فى اضطرابه اصطلاح التقريب الذى أدخلوا به اسم الإشارة فى كان وأخواتها التى تتصرف تصرف الأفعال. وليست بقية المصطلحات بأكثر من محاولات لمخالفة

__________________

(١) المجالس ص ٤٩٢ وسمى الفراء المفعول لأجله تفسيرا. انظر معانى القرآن ١ / ١٧.

(٢) الهمع ٢ / ١١٦.

(٣) الهمع ٢ / ١٢٨.

(٤) المجالس ص ٤٢٢.

(٥) ابن يعيش ٨ / ١٢٨ والأشباه والنظائر ١ / ٢٠٩.

(٦) المجالس ص ١٥٥.

(٧) الإنصاف : المسألة رقم ٥٨.

١٦٧

مدرسة البصرة فى بعض مصطلحاتها ، ولذلك رفضها نحاة العصور التالية فيما عدا اصطلاح النعت وعطف النسق كما قدمنا ، على أن كلمتى العطف والنعت دارتا عند سيبويه فى حديثه عن التوابع فى الكتاب.

والحق أنها مصطلحات أريد بها أو على الأقل بأكثرها إلى مجرد الخلاف على مدرسة البصرة ، ومما يدل على ذلك أوضح الدلالة موقف هؤلاء النحاة من ألقاب الإعراب والبناء التى وضعتها المدرسة البصرية ، إذ ميزت بين حركات أواخر الكلمات المعربة والمبنية ، فجعلت الرفع والنصب والجر والجزم للمعربة ، وجعلت الضم والفتح والكسر والوقف أو السكون للمبنية ، وفكر الكوفيون طويلا هل يمكن أن يضعوا لهذه الألقاب أسماء جديدة؟ حتى إذا أعياهم ذلك لجئوا إلى قلبها ، فجعلوا ألقاب الإعراب للمبنى من الكلمات وألقاب البناء للمعرب (١) ، وطبعا تلقّى النحاة من حولهم ومن بعدهم ذلك بالرفض الباتّ ، لأنه لا تدعو إليه حاجة ، ولأنه يؤول إلى إفساد ما بأيديهم من كتب النحو البصرى الذى اتخذوه إمامهم ، بل كان أيضا إماما للكوفيين وعلما مرفوعا ، يهتدون به ويستمدون منه مددا لا ينضب معينه.

وعلى نحو ما حاولوا الخلاف على المدرسة البصرية فى بعض مصطلحاتها النحوية حاولوا الخلاف عليها فى جوانب من العوامل والمعمولات ، من ذلك إعراب المبتدأ والخبر ، فقد ذهب البصريون إلى أن العامل فى المبتدأ الرفع هو الابتداء ، أما الخبر فذهب جمهورهم إلى أنه مرفوع بالمبتدأ ، وقال قوم منهم إنه مرفوع بالابتداء ، مثله فى ذلك مثل المبتدأ. وذهب الكوفيون إلى آن المبتدأ يرفع الخبر ، والخبر يرفع المبتدأ ، فهما مترافعان (٢). وهو رأى واضح الضعف ، لأنه ينتهى بالكوفيين إلى الدور المحال ، كما يؤول إلى أن يرتفع المبتدأ بشىء يجرى على اللسان قبل النطق به. وقد لا يكون الخبر اسما مرفوعا بل يكون فعلا فى مثل «محمد كلمته» وقد ذهبوا فى هذه العبارة إلى أن رافع المبتدأ هو الضمير المنصوب العائد على المبتدأ والمتصل بالفعل ، وهو إبعاد فى تقدير العامل فى المبتدأ ، بل هو تكلف شديد ، ومرّ بنا فى ترجمة الجرمى مناظرته مع الفراء فى مثل هذا

__________________

(١) الرضى على الكافية ١ / ٢١ ، ٢ / ٣ وابن يعيش ١ / ٧٢.

(٢) الإنصاف : المسألة رقم ٥ والهمع ١ / ٩٤ والرضى ١ / ٧٨ وابن يعيش ١ / ٨٤.

١٦٨

التعبير وكيف أسكته وأفحمه.

ومن ذلك إعراب الفعل المضارع المرفوع ، فقد ذهب سيبويه وجمهور البصريين إلى أنه ارتفع بوقوعه موقع الاسم فإن كلمة يقوم فى مثل «زيد يقوم» تقع موقع قائم ، وذهب الأخفش إلى أنه مرفوع لتعريه من العوامل اللفظية. واضطرب الكوفيون فى علة إعرابه والعامل فيه ، فذهب الكسائى إلى أنه يرتفع بحروف المضارعة ، فأقوم مثلا مرفوع بالهمزة ، وواضح أنه يجعل جزءا من أجزاء الفعل عاملا فيه وكأن الشىء يعمل فى نفسه. ولم يرتض هذا الرأى الفرّاء ، فاختار رأى الأخفش ولكنه حاول التغيير والتحريف والتبديل فيه ، فقال إنه مرفوع بتجرده من النواصب والجوازم ، وواضح أنه نفس رأى الأخفش بصيغة جديدة ، ولعل ذلك ما جعل ثعلبا يذهب إلى أنه مرفوع بالمضارعة محاولا بذلك النفوذ إلى رأى جديد (١).

ومن ذلك إعراب الفعلين المضارعين المجزومين فى الجملة الشرطية مثل «من يقم أقم معه» فقد ذهب الخليل وجمهور البصريين إلى أن أداة الشرط هى التى تعمل فى فعل الشرط الجزم ، وهما معا يعملانه فى الجزاء. وذهب الأخفش فى الجزاء إلى أنه مجزوم بفعل الشرط وحده. بينما ذهب الكوفيون إلى أن الجزاء مجزوم بالجوار ، أى لجواره فعل الشرط المجزوم (٢) ، وفاتهم أن فعل الشرط قد يكون ماضيا ولا يتضح فيه الجزم إلا تقديرا.

وكانوا يذهبون إلى أن «إن وأخواتها» تعمل النصب فى اسمها فقط ، أما الخبر فإنها لا تعمل فيه شيئا ، بل هو باق على رفعه قبل دخولها ، بينما ذهب البصريون إلى أنه مرفوع بها ، مثله مثل اسمها (٣) طردا للباب على وتيرة واحدة. وهو أدخل فى القياس وإحكام القواعد.

وكان البصريون وجمهور الكوفيين يرون أن رافع الفاعل هو الفعل ، وذهب

__________________

(١) الهمع ١ / ١٦٤ وانظر الإنصاف : المسألة رقم ٧٤ والرضى ٢ / ٢١٥ وابن يعيش ٧ / ١٢.

(٢) الرضى على الكافية ٢ / ٢٥٤ والهمع ٢ / ٦١ والإنصاف : المسألة رقم ٨٤.

(٣) ابن يعيش ١ / ١٠٢ والرضى ٢ / ٣٤٦ والهمع ١ / ١٣٤.

١٦٩

هشام الضرير من الأخيرين إلى أن رافعه العامل فيه هو الإسناد لا الفعل ، وكأنه نفذ إلى هذا الرأى حين رأى الكسائى يقول إن رافعه كونه داخلا فى وصف فعله (١). وكان الفراء يذهب فى مثل «قام وقعد على» إلى أن عليّا فاعل للفعلين جميعا ، فهما يعملان فيه معا (٢) ، وذهب الكسائى إلى أن الفاعل حذف مع أحد الفعلين ، فعلى فاعل لقام وقعد حذف فاعلها. ويتضح ذلك أكثر فى باب التنازع ، فقد كان يرى أن كلمنى فى مثل «كلمنى وكلمت محمدا» محذوف معها الفاعل لا مضمر (٣). والبصريون يضمرون الفاعل فى الفعل الأول ويرفضون رأى الفراء لأنه يترتب على ذلك إخلال بالقاعدة النحوية العامة التى تجعل لكل فاعل فعلا ، مما قد يحدث تشويشا فى أذهان المتعلمين ، لعدم اطراد القاعدة ، وكذلك يرفضون رأى الكسائى لذلك ولأن الأخذ برأيه يؤول إلى اعتبار الفاعل محذوفا فى مثل زيد قام ، وهو ما لا يقول به نحوى.

ونضرب بعض الأمثلة التى تصور مدى بعد الكوفيين فى التأويل والتقدير شغفا بالخلاف على المدرسة البصرية ، أما المثال الأول فهو الاستثناء بإلا فى مثل قام القوم إلا محمدا فقد كان جمهور البصريين وفى مقدمتهم سيبويه يرون أن ناصب المستثنى هو الفعل قبله بواسطة إلا. وذهب قوم منهم إلى أنه «إلا» نفسها. وذهب الكسائى إلى أنه منصوب بإنّ مقدرة بعد إلا محذوفة الخبر ، فتقدير «قام القوم إلا محمدا» عنده «قام القوم إلا أن محمدا لم يقم». ولا يخفى ما فى هذا التقدير من تمحل بعيد. وذهب الفراء إلى أن إلا مركبة من إنّ ولا ، وحذفت من إن النون الثانية تخفيفا ، وأدغمت الأولى فى لام «لا» بعد شىء من التقديم والتأخير إذ زعم أن أصل العبارة «قام القوم إن محمدا لا قام». وهو تمحل أشد من تمحل أستاذه ، ويظهر فساده فى الاستثناء المفرغ فى مثل ما قام إلا محمد ، فإن كلمة محمد مرفوعة بعد إلا وليست منصوبة (٤). والمثال الثانى المنادى فى مثل «يا محمد» فقد ذهب جمهور البصريين إلى أنه مبنى على الضم فى محل نصب ،

__________________

(١) الهمع ١ / ١٥٩.

(٢) الهمع ٢ / ١٠٩ والرضى ١ / ٧١.

(٣) الرضى على الكافية ١ / ٨٧ والمغنى ص ٦٧٣ وابن يعيش ١ / ٧٧.

(٤) الرضى ١ / ٢٠٧ وابن يعيش ٢ / ٧٦.

١٧٠

وناصبه فعل مقدر تقديره أدعو وحذف الفعل حذفا لازما لكثرة الاستعمال ولدلالة حرف النداء عليه. وذهب المبرد إلى أنه منصوب بيا لسدّها مسد الفعل. وذهب الكسائى إلى أنه مرفوع لتجرده من العوامل اللفظية ، وفاته أنه مسبوق بيا ، وأنه غير منون. أما الفراء فذهب مذهبا بعيدا ، إذ زعم أن أصل «يا زيد» مثلا : يا زيدا ، ثم اكتفى بيا وحذفت الألف الملحقة به ، فبنى على الضم. وهو بعد واضح فى التقدير (١). والمثال الثالث كلمة حتى حين تجر ما بعدها من الأسماء مثل «قرأت الكتاب حتى الصحيفة الأخيرة منه» فقد جعلها البصريون حرفا جارّا بنفسه ، وأبى الكسائى إلا أن يجعل ما بعدها مجرورا لا بها وإنما بإلى الجارة مضمرة (٢) ، دون حاجة إلى هذا الإضمار والتقدير ، إلا تصور أن الأصل فيها أن يليها الأفعال!. والمثال الرابع «لولا» فى مثل «لولا محمد لجئت» فإن البصريين يعربون الاسم المرفوع بعدها مبتدأ رافعه الابتداء وخبره محذوف ، وذهب الفراء إلى أن لو لا هى التى عملت الرفع فيه وأنها نابت مناب فعل محذوف تقديره يمتنع (٣) ، وليس فى حروفها ولا فى مادتها ما يشير إلى هذا الفعل ، وكأنه أوجد بين الحروف أداة تعمل الرفع فى الأسماء ، وهو إبعاد واضح فى التقدير.

وعلى هذه الشاكلة كان الكوفيون يحاولون النفوذ إلى آراء جديدة فى العوامل والمعمولات ، كما كانوا يحاولون النفوذ إلى بعض المصطلحات التى يخالفون بها ما اصطلح عليه البصريون ، حتى يفترق نحوهم على الأقل بعض الافتراق من نحو البصرة. وبذلك كله وبما سنفصل فيه الحديث عند أعلامهم استطاعوا أن يكونّوا لهم مدرسة نحوية مستقلة ، لا ترقى حقّا إلى منزلة المدرسة البصرية ، ولكنها على كل حال مدرسة بيّنة المعالم واضحة القسمات والملامح.

__________________

(١) الرضى ١ / ١٢٩.

(٢) ابن يعيش ١ / ٧٧ والرضى ٢ / ٢٤١ والإنصاف : المسألة رقم ٨٣.

(٣) ابن يعيش ١ / ٩٥.

١٧١

الفصل الثانى

الكسائى وتلاميذه

١

نشاطه العلمى

هو على (١) بن حمزة ، من أصل فارسى ، ولد بالكوفة فى سنة تسع عشرة ومائة للهجرة ، ونشأ بها ، وأكبّ منذ نشأته على حلقات القرّاء مثل سليمان بن أرقم راوى (٢) قراءة الحسن البصرى ، وأبى بكر شعبة بن عيّاش راوى (٣) قراءة عاصم بن أبى النّجود إمام قرّاء الكوفة فى الجيل السابق للكسائى ، وسفيان ابن عيينة راوى (٤) قراءة عبد الله بن كثير إمام قرّاء مكة. ولزم حلقة حمزة ابن حبيب الزيات المتوفى سنة ١٥٦ للهجرة إمام قراء الكوفيين لعصره ، حتى حذق قراءته ، ويقال إنه لقّب بلقبه الكسائى فى مجالسه ، لأنه كان يلبس كساء أسود ثمينا ، ويقال : بل لقب بذلك لأنه أحرم فى كساء. وكان فطنا ذكيّا ، فرأى أنه لن يبرع فى قراءة الذكر الحكيم إلا إذا عرف إعرابه ، فاختلف إلى حلقات أبى جعفر الرّواسى وإلى كتابه الفيصل ولم يجد عنده ما يريد ، فرحل إلى البادية رحلته الأولى (٥) ، ثم عاد إلى الكوفة. وكأنه رأى أنه لن يحسن العربية إلا إذا استمع إلى معلميها بالبصرة فرحل إليهم ، وأخذ ينتقل بين حلقات عيسى

__________________

(١) انظر فى ترجمة الكسائى أبا الطيب اللغوى ص ٧٤ والزبيدى ص ١٣٨ والفهرست ص ١٠٣ ونزهة الألباء ص ٦٧ ، ٧٥ وتاريخ بغداد ١١ / ٤٠٣ والأنساب الورقة ٤٨٢ ومقدمة تهذيب اللغة للأزهرى ومعجم الأدباء ١٣ / ١٦٨ وإنباه الرواة ٢ / ٢٥٦ واللباب فى الأنساب ٣ / ٤٠ وتاريخ ابن كثير ١١ / ٢٠١ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٥٣٥ ومرآة الجنان ١ / ٤٢١ وشذرات الذهب ١ / ٣٢١ وروضات الجنات ص ٤٧١ والنجوم الزاهرة ٢ / ١٣٠ وبغية الوعاة ص ٣٣٦.

(٢) ابن الجزرى ١ / ٣١٢.

(٣) ابن الجزرى ١ / ٣٢٥.

(٤) ابن الجزرى ١ / ٣٠٨.

(٥) مجالس العلماء للزجاجى (طبع الكويت) ص ٢٦٦.

١٧٢

ابن عمر المتوفى سنة ١٤٩ للهجرة وأبى عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وعكف على حلقة الخليل بن أحمد ، وراعته روايته لأشعار العرب وأقوالهم ، فسأله يوما عن ينابيع هذه الرواية ، فقال له إنها من ملابسة أهل البوادى فى نجد والحجاز وتهامة ، فمضى إليهم فى رحلة ثانية ، ومعه خمس عشرة قنينة حبر ، وظل يكتب ما يسمعه من أفواههم ويدوّنه فى صحفه ، حتى أنفد كل ما حمله من حبر.

ورجع إلى مسقط رأسه ، وقد بسط له لسانه وذلّل له منطقه واستقامت فصاحته وعربيته ، وأخذ يستغل ذلك استغلالا حسنا فى قراءته للذكر الحكيم بقراءة أستاذه حمزة الذى كان قد لبّى نداء ربه. فكان يتلو القرآن على الناس من أوله إلى آخره ، والناس من حوله يسمعون ويكتبون مصاحفهم. وذاعت شهرته فطلبه المهدى ليتخذه مؤدبا لابنه هرون الرشيد ، حتى إذا ولى الخلافة بعد أبيه اتخذه مؤدبا لابنيه الأمين والمأمون. وظل مدة يقرئ الناس فى بغداد بقراءة حمزة ، ثم اختار لنفسه قراءة ، صارت إحدى القراءات السبع المتواترة ، وأقرأ بها خلقا كثيرا. وكان يجلس بالمسجد الجامع على مقعد مرتفع ، والناس من حوله يكتبون المصاحف بقراءته وينقطونها ويضبطونها ويرسمون مقاطع الآيات ومبادئها. وكان الرشيد يجله ويوقّره ويفسح له فى مجالسه ، وكثيرا ما كان يتخذه إمامه فى صلواته ورفيقه فى غزواته ومقامه بالرّقّة. ويظهر أنه لم يكفه حينئذ ما أخذه من اللغة وشواردها عن البدو الخلّص فى الجزيرة العربية فقد مضى يكثر من سماعه عن أعراب الحطمة ، وهم عشيرة من بنى عبد القيس نزلت بغداد ، وأقامت بها ، وكأنه لم يكن يجد بأسا فى الأخذ عن هؤلاء الأعراب ، بينما كان البصريون لا يروون اللغة عن أمثالهم من العرب المتحضرين الذين يمكن أن يكون قد دخل الفساد على ألسنتهم ، وسرعان ما ظهر أثر ذلك فى مناظرته (١) لسيبويه حين قدم بغداد على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع ، فقد سبقه إليه تلاميذه : الفراء والأحمر وهشام ابن معاوية الضرير ومحمد بن سعدان ، وسأله الأحمر عن مسائل ، وكلما أجابه بجواب قال له أخطأت يا بصرى. ووافى الكسائى ومعه طائفة من عرب الحطمة ،

__________________

(١) انظر المناظرة فى الزبيدى ص ٦٨ وما بعدها.

١٧٣

فلما جلس قال له : كيف تقول «خرجت فإذا زيد قائم» فنطق بها سيبويه ، فقال له الكسائى : أيجوز : «فإذا زيد قائما» فقال سيبويه : لا ، لأن العرب الفصحاء الذين أخذ عنهم هو وأستاذه الخليل لا ينطقون مثل «قائما» فى هذا المثال ونحوه إلا مرفوعة ، وفى القرآن الكريم (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ * فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) أى على أن ما بعد إذا فى هذه الأمثلة مبتدأ وخبر مرفوعان. وأظهر الكسائى تعجبه من رفضه لنصب كلمة «قائم» وقال : فلنرجع إلى من يحضرنا من العرب ، وكانوا من عرب الحطمة كما ذكرنا ، وسألهم : كيف تقولون : «قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزّنبور فإذا الزنبور إياها» فقال نفر منهم : «فإذا الزنبور هى» وقال آخرون «فإذا الزنبور إياها». ويبالغ رواة هذه المناظرة ، فيقولون إن سيبويه حصر وأفحم ، وفى رأينا أنه لم يفحم ولم يحصر ، لأنه كان لا يعتدّ بما قد يفد على ألسنة مثل هؤلاء العرب المتحضرين ، مما يخالف استخدام الفصحاء ويشذ على القياس المبنى على استعمالهم وما يدور فى ألسنتهم. والمهم أن هذه المناظرة أرست أصلا من أصول المدرسة الكوفية ، وهو الأخذ باللغات الشاذة المخالفة للأقيسة البصرية من جهة وللشائع المتداول على أفواه العرب من جهة ثانية.

ومن المؤكد أن هذه المناظرة أقنعت الكسائى بأن ما بيده من النحو وقواعده قليل وأنه ينبغى أن يتزود من نحاة البصرة وعلمهم الغزير ، وتصادف أن توفّى سيبويه عقب المناظرة ، غير أنه علم أن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة حمل كتابه النفيس عنه ، وأنه يمليه على الطلاب ويدرسه لهم ، وأنه إليه انتهى علم البصرة بالنحو ، ولم تعيه الأسباب فى الاتصال به ورواية الكتاب عنه. ووجده يكثر من الخلاف على صاحبه وعلى الخليل مستضيئا بمعرفته الواسعة بلغات العرب ، فاستقر فى نفسه أن يتابعه فى هذا الاتجاه ، وبذلك أعده الأخفش إعدادا حسنا لكى ينمّى رغبته الملحة فى مخالفة النحو البصرى مخالفة تقوم على الاتساع فى الرواية والقياس ، بل لقد نفذ إلى تأسيس مدرسة نحوية جديدة ، يعينه فى ذلك تلاميذه وخاصة الفراء.

والحق أن الأخفش لم يبعث هذا الاتجاه فى نفسه لأول مرة ، فقد كان

١٧٤

اتجاها قديما فى صدره منذ قعوده للقراءة والتعليم فى الكوفة ، ورأينا آثاره فى مناظرته مع سيبويه ، ولكنا نؤمن بأن الأخفش هو الذى دفعه دفعا فى هذا الاتجاه ، ولم يدفعه وحده ، بل دفع معه تلاميذه ومن خلفوهم على المدرسة الكوفية. ونرى الكسائى ينشط لا فى تأليف كتب تتصل بالقرآن الكريم وقراءاته ومعانيه فحسب ، بل يؤلف أيضا فى النحو كتابين هما مختصر النحو وكتاب الحدود فى النحو. وألف فى أغلاط العامة كتابا سماه «ما نلحن فيه العوام» وهو مطبوع. وما زال يوالى هذا النشاط العلمى حتى خرج مع الرشيد فى مسيره إلى خراسان سنة ١٨٩ للهجرة واعتل علة شديدة لم يلبث أن توفّى منها بقرية رنبويه بالقرب من الرّىّ ، وتوفّى معه الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيبانى ، فحزن الرشيد عليهما حزنا شديدا ، وقال : «دفنّا الفقه والنحو بالرّىّ».

٢

تأسيسه للمدرسة الكوفية

لا ريب فى أن الكسائى يعدّ إمام مدرسة الكوفة ، فهو الذى وضع رسومها ووطّأ منهجها ، وفيه يقول أبو الطيب اللغوى «كان عالم أهل الكوفة وإمامهم ، إليه ينتهون بعلمهم ، وعليه يعوّلون فى روايتهم» وينبغى أن لا نلتفت إلى ما يقوله أبو حاتم بدافع العصبية للبصرة إذ يزعم أنه «لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب ، ولو لا أن الكسائى دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئا ، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل إلا حكايات عن الأعراب مطروحة ، لأنه كان يلقّنهم ما يريد ، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن وهو قدوتهم وإليه يرجعون». وكأن أبا حاتم نقض بنهاية كلامه طعنه فى الكسائى ، وهو قد طعنه فى خلقه وأنه كان يلقّن الأعراب ما يريد من نحو شاذ ، وهو طعن لا يعبأ به ، إذ كان معروفا بالثقة والأمانة والصدق فيما يروى ، وعنه حمل معاصروه ومن تلاهم إحدى القراءات السبع الوثيقة ، أما أن علمه ليس منظّما ، وأنه يفتقر إلى الحجج والعلل فقد يكون ذلك صحيحا إذا قسناه إلى

١٧٥

سيبويه ، ولكن من المؤكد أنه تلقن عنه وعن الخليل وعيسى بن عمر معرفة العلل والأقيسة ، بل لقد كان يؤمن بأن النحو إنما هو ضروب من القياس وما يطوى فيه من علل وحجج تشدّه وتقيم أوده ، حتى ليقول :

إنما النحو قياس يتّبع

وبه فى كل أمر ينتفع

وحقّا إنه توسع فى القياس ، فلم يقف به عند المستعمل الشائع على الألسنة ولا عند أعراب البدو بل مدّه ليشمل ما ينطق به العرب المتحضرون ممن يمكن أن يكون قد دخل اللحن على ألسنتهم فى رأى البصريين ، ولعله من أجل ذلك ألف كتابه فى لحن العوامّ ليدل على أنه كان يفرق بين لغات العرب وبين هذا اللحن. وأهم من ذلك أنه مدّ النحو ليشمل الشاذ النادر من تلك اللغات مما لم يكن سيبويه والخليل يحفلان به ، ولا يريان له قدرا ، لسبب طبيعى تحدثنا عنه فى الفصل الماضى ، وهو أنهما كانا يريدان أن يضعا فى صورة حازمة صارمة قوانين النحو ، بحيث لا يعتريها الاضطراب والخلل ، وبحيث تطّرد ولا تتأرجح بين موازين مختلفة.

وأكبر الظن أن الذى دفع الكسائى إلى هذا الموقف من نحوهما وأن يفسح فى العربية للغات الشاذة النادرة أنه كان ـ كما عرفنا ـ من القرّاء للذكر الحكيم ، وكانت تجرى فى قراءاته حروف تشذ على قواعد النحو البصرى ، فخشى أن يظنّ بهذه الحروف أنها غير جائزة وأنها لا تجرى على العربية السليمة ، وربما خشى اندثارها ، وهى جميعا مرويّة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير أن منها ما هو متواتر وهو القراءات السبع ومنها ما هو غير متواتر ، وهو ما وراءها من قراءات ، وجميعها صحيح ، وينبغى أن نتوسع فى قواعد النحو والصرف حتى تشمله. ومرّ بنا أن سيبويه والخليل جميعا لم يوهّنا من قراءة ، بل قال سيبويه إن القراءة سنّة ، يريد أنه لا يصح التعرض لها بتصويب أو تخطئة ، وكأنما تنبه الأخفش للقضية ، فوجّه ـ كما لاحظنا فى ترجمته ـ ما اصطدم من بعض القراءات بقواعد مدرسته ، وهو اصطدام فى الظاهر ، لأن سيبويه احتفظ فى كتابه بمادة وفيرة من الأشعار والأقوال الشاذة على مقاييسه ، يريد أن ينصّ على أنها جرت على ألسنة بعض الأعراب الفصحاء ولكنها لا تجرى على القواعد

١٧٦

الكلية العامة للنحو ، كما تصوّره هو وأستاذه ، أو بعبارة أدق ، يريد أن يبعدها عن ألسنة الناس ، حتى تستقيم لألسنتهم عربيتهم فى أفصح هيئة ممكنة.

غير أن الكسائى ـ فيما يظهر لنا ـ رأى أن يعاد النظر فى هذا التأصيل العام لقواعد النحو وأن يفسح فيها للقراءات واللغات الشاذة ، وبذلك خرج إلى صورة جديدة من النحو ، صورة لا تتفق والمناهج الدقيقة فى وضع العلوم التى تقتضى فى قواعدها الاطراد والتعميم والشمول ، ولكنها على كل حال فتحت الأبواب لا للاحتفاظ بالحروف الشاذة فى قراءات الذكر الحكيم فهذه كانت ستحتفظ بها الأجيال العربية لتعلقها بالدين الحنيف ، وإنما للاحتفاظ بشواذ اللغات واللهجات وصونها وحمايتها من الضياع. ولا أظننا فى حاجة إلى أن نبدئ ونعيد فى أن البصريين عنوا بهذه الشواذ وتسجيلها ، ولكنها عناية من باب آخر ، إذ أرادوا أن يوضحوا الهجنة فى استخدامها وأن يحصّنوا قواعدهم وألسنة الناس منها. وبذلك تعاون الطرفان المتعارضان على إثباتها ، مع اختلاف الغاية.

ونبدأ بما وقف عنده الكسائى من بعض حروف فى القراءات ، فمن ذلك الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فقد لاحظ أن كلمة (وَالصَّابِئُونَ) عطفت بالرفع على اسم إن المنصوب قبل تمام الخبر ، وهو (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فوضع قاعدة عامة : أنه يجوز العطف على موضع إن واسمها ، وموضعهما الابتداء وهو مرفوع ، قبل مجىء الخبر ، فيقال إن محمدا وعلى مسافران. ومنع ذلك البصريون ، وأجابوا عن الآية جوابين : أحدهما أن خبر إن محذوف تقديره مأجورون أو آمنون أو فرحون ، والصابئون مبتدأ وما بعده خبره ، واستشهدو لذلك بقول بعض الشعراء :

خليلىّ هل طبّ فإنى وأنتما

ـ وإن لم تبوحا بالهوى ـ دنفان

أى فإنى دنف كما تدل على ذلك بقية العبارة. والجواب الثانى أن الخبر المذكور فى الآية خبر إن ، أما (الصَّابِئُونَ) فخبرها محذوف ، تقديره كذلك ، واستشهدوا لهذا الجواب بقول ضابئ بن الحارث البرجمىّ :

١٧٧

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنى وقيّار بها لغريب

فغريب خبر إن بدليل دخول لام التوكيد عليه وخبر «قيار» محذوف ، تقديره كذلك. وكأنما أحسّ الفراء تلميذ الكسائى أن البصريين مصيبون فى موقفهم لعدم جريان ذلك على ألسنة العرب ، فرأى أن يتوقف عند نص الآية وأن يخصّص القاعدة بما يماثلها ، فقال إنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إن ، وهو الاسم المبنى مثل الذين فى الآية وضمير المتكلم فى بيت ضابئ (١).

ومن ذلك الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) فى قراءة سعيد بن جبير بنصب كلمة (عبادا) مما جعل الكسائى يضع قاعدة عامة ، وهى أن إن النافية إذا دخلت على الجملة الاسمية عملت عمل ليس ، فرفعت الاسم ونصبت الخبر. وهى ـ فى رأى سيبويه ـ لا تعمل بل تهمل دائما ، وكأن قراءة سعيد بن جبير فى رأيه شاذة فذة لا يصح أن تتّخذ منها قاعدة. ولعل من الطريف أن نعرف أن الفراء كان يتابع سيبويه فى رأيه ، بينما كان يتابع المبرد البصرى الكسائى فيما ارتآه من عملها (٢). وفى ذلك ما يشهد بأن مدار الاختلاف بين المدرستين الكوفية والبصرية وأئمتهما لم يكن يراد به إلى المناقضة ، وإنما كان يراد به إلى تبين وجه الصواب فى إخلاص ، ولذلك كثر بينهم الالتقاء فى الآراء وأن يتابع الكوفى البصريين والبصرى الكوفيين ، وكأنهم جميعا أغصان من دوحة واحدة.

ومن ذلك الآية الكريمة : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) فقد لاحظ أن اسم الفاعل (باسط) مع أنه بمعنى الماضى فى الآية ، لأنه يحكى قصة أهل الكهف ، عمل النصب فى كلمة ذراعيه ، فوضع قاعدة عامة ، هى أنه يعمل النصب بمعنى الماضى وبمعنى الحال والاستقبال ، بينما كان يمنع البصريون عمله النصب فيما بعده على المفعولية وهو بمعنى الماضى ، وتأولوا (باسط) فى الآية على حكاية الحال الماضية ،

__________________

(١) الإنصاف : المسألة رقم ٢٣ والمغنى ص ٥٢٧ والهمع ٢ / ١٤٤ وأسرار العربية ص ١٥٢.

(٢) ابن يعيش ٨ / ١١٣ والرضى ١ / ٢٤٩ والمغنى ص ١٩ والهمع ١ / ١٢٤

١٧٨

بدليل حكايتها بالمضارع فى الفعل السابق : (وَنُقَلِّبُهُمْ) وكأن التقدير : وكلبهم يبسط ذراعيه. غير أن الكسائى تمسك بالآية واتخذ منها قاعدة كلية مجوزا مثل «زيد معط عمرا أمس درهما». وتابعه فى ذلك تلميذه هشام بينما ظل الفراء مع جمهور البصريين لا يجيز إعمال اسم الفاعل فى المفعول به إذا كان بمعنى الماضى (١).

ومن ذلك الآية الكريمة : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) فقد رأى المضارع فيها محذوف النون ، فقال إنها حذفت على تقدير لام الأمر ، واتخذ من ذلك قاعدة عامة ، هى حذف لام الأمر من المضارع بشرط تقدم «قل» عليه كما فى الآية ، بينما كان البصريون يرون أن الفعل المضارع مجزوم فى جواب الأمر مثله فى نحو «ائتنى أمك» (٢).

وعلى نحو ما كان يتخذ من بعض الحروف فى القراءات قواعد يخالف فيها سيبويه والخليل كان يصنع ذلك تلقاء الأقوال والأشعار الخارجة على مقاييسهما ، بل لقد وجد فيها مادة أوسع وأغزر ، فمن ذلك أنه رأى بعض العرب يقول : «لا عبد الله فى الدار». بإعمال لا عمل إنّ ونصب عبد الله ، ومعنى العبارة أن أحدا من الناس لا يوجد فى الدار ، لاستعمال عبد الله هنا فى أى رجل كان ، غير أنه قاس على عبد الله بقية الأعلام منتهيا إلى قاعدة عامة ، هى أن لا النافية للجنس يجوز أن يليها العلم فيقال : «لا زيد فى الدار». وواضح ما فى قياسه من خطأ ، ولذلك رفض تلميذه الفراء قاعدته ، لأن لا النافية للجنس تتطلب أن يكون اسمها نكرة أو كالنكرة حتى تفيد النفى العام الشامل كما لاحظ البصريون. ولعل فى ذلك ما يلفت إلى أن الكسائى كانت تفلت منه أحيانا العلة السديدة التى توجب القاعدة النحوية ، وكأنه لم يكن يسبر الشواهد التى يشتق منها أحكامه النحوية دائما سبرا دقيقا (٣).

ومن ذلك أن البصريين منعوا تقديم المستثنى فى أول الكلام موجبا كان أو

__________________

(١) المغنى ص ٧٧٠ ، والهمع للسيوطى ٢ / ٩٥.

(٢) المغنى ص ٢٤٨ وانظر الكتاب ١ / ٤٥٢.

(٣) الهمع ١ / ١٤٥.

١٧٩

منفيّا ، فلا يقال «إلا زيدا قام القوم» ولا «إلا زيدا ما أكل أحد طعاما» ولا «ما ـ إلا زيدا ـ قام القوم» وسمع الكسائى :

خلا الله لا أرجو سواك وإنما

أعدّ عيالى شعبة من عيالكا

فلم يلتفت إلى أن ذلك ضرورة شعرية دفعت الشاعر إلى المخالفة المنطقية لترتيب الكلام ، فسوّغه لا فى «خلا» وحدها بل أيضا مع «إلا» ، بحجة أنها الأصل فى الباب وخلا فرع لها ، والأصل أولى بما يجوز فى الفرع ، وبذلك وضع قاعدة عامة هى جواز تقديم المستثنى فى أول الكلام سواء أكان موجبا أم منفيّا (١). ورأى الأخفش يجيز تأخير المعمول للفعل إذا كان ظرفا أو جارّا ومجرورا وتقدم المستثنى عليه لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) فقد تأخر الجار والمجرور (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) وتقدم المستثنى (إِلَّا رِجالاً) ووقع له فى بعض الشعر : «فما زادنى إلا غراما كلامها» بتوسط المستثنى بين الفعل والفاعل ، فوضع قاعدة عامة ، خالف بها جمهور البصريين ، وهى أنه يجوز تقديم المستثنى على المعمول للفعل مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا (٢). وذهب سيبويه والبصريون وجمهور الكوفيين إلى أن «خلا» إذا تقدمتها ما المصدرية تعيّن نصب المستثنى بعدها ، وجوّز الكسائى فيه الجرّ على أن تكون ما زائدة فتقول «قام القوم ما خلا محمدا بالنصب» وما خلا محمد بالجر. وعلق ابن هشام على ذلك فى المغنى بأن القياس يمنع ذلك لأن «ما» لا تزاد قبل الجار والمجرور ، إنما تزاد بعد حرف الجر مثل (عَمَّا قَلِيلٍ) (فَبِما رَحْمَةٍ) وقال : إن احتج بالسماع فهو من الشذوذ الذى لا يصح القياس عليه (٣). وربما كان أغرب ما ذهب إليه الكسائى من أحكام فى باب الاستثناء أنه جوّز فى مثل «ما قام إلا محمد» نصب محمد على الاستثناء ، مستدلا بقول بعض الشعراء :

لم يبق إلا المجد والقصائدا

غيرك يابن الأكرمين والدا

بنصب المجد وغيرك. وردّ عليه جمهور النحاة بأن غيرك هى الفاعل وفتحتها

__________________

(١) الإنصاف : المسألة رقم ٣٦ والهمع ١ / ٢٢٦.

(٢) الهمع ١ / ٢٣٠.

(٣) المغنى ص ١٤٢ وانظر الهمع ١ / ٢٣٣.

١٨٠