المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

وكتاب الاشتقاق وشرح سيبويه وكتاب احتجاج الفرّاء. وما زال يفيد طلابه بعلمه الغزير حتى توفى سنة ٣١٦ للهجرة.

وكتابه الأصول الكبير لم ينشر حتى اليوم ، غير أن المصنفات النحوية التى جاءت بعده احتفظت منه بنصوص ترينا من بعض الوجوه طريقته (١) ، من ذلك ما ذكره عنه ابن جنى من أنه فتح فى هذا الكتاب بابا لما سماه العلة وعلة العلة ، ومثّل فيه برفع الفاعل ، قال : فإذا سئلنا عن علة رفعه قلنا إنه ارتفع بفعله ، فإذا قيل : ولم صار الفاعل مرفوعا؟ فهذا سؤال عن علة العلة. ونحس كأنه استلهم تعليل الزجاج لاشتقاق الأفعال من المصادر وأن المصادر هى الأصل والأفعال فروع منها ، إذ يقول : «لو كانت المصادر مأخوذة من الأفعال جارية عليها لوجب أن لا تختلف كما لا تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين الجارية على أفعال نحو ضارب ومضروب وشاتم ومشتوم ومكرم ومكرم وما أشبه ذلك مما لا ينكسر. ورأينا المصادر مختلفها أكثر مما جاء منها على الفعل كقولنا شرب شربا وشربا ومشربا وشرابا وعدل عن الحق عدلا وعدولا وما أشبه ذلك فعلمنا أنها غير جارية على الأفعال وأن الأفعال ليست بأصولها» (٢). ويعلل لاختلاف صيغ الأفعال باختلاف أزمنتها بقوله : «كان حكم الأفعال أن تأتى كلها بلفظ واحد ، لأنها لمعنى واحد ، غير أنه لما كان الغرض فى صناعتها أن تفيد أزمنتها خولف بين مثلها (أبنيتها) ليكون ذلك دليلا على المراد منها ، فإن أمن اللّبس فيها جاز أن يقع بعضها موقع بعض ، وذلك مع حرف الشرط نحو إن قمت جلست ، لأن الشرط معلوم أنه لا يصح إلا مع الاستقبال ، وكذلك لم يقم أمس ، وجب لدخول لم ما لو لا هى لم يجز ، ولأن المضارع أسبق فى الرتبة من الماضى ، فإذا نفى الأصل كان الفرع أشد انتفاء. وكذلك أيضا حديث الشرط فى نحو إن قمت قمت جئت بلفظ الماضى الواجب تحقيقا للأمر وتثبيتا له ، أى أن هذا وعد موفّى به لا محالة ، كما أن الماضى واجب ثابت لا محالة» (٣).

__________________

(١) فى الأشباه والنظائر للسيوطى مادة وفيرة من هذا الكتاب.

(٢) الزجاجى ص ٥٩.

(٣) الخصائص ٣ / ٣٣١.

١٤١

ويوضح تعليله لمجىء الماضى بدل المضارع فى الشرط بصورة أكثر وضوحا من الصورة السالفة ، إذ يقول : «وقوله : إن قمت قمت يجىء بلفظ الماضى والمعنى معنى المضارع ، وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى ، فجاء بمعنى المضارع المشكوك فى وقوعه بلفظ الماضى المقطوع بكونه حتى كأن هذا قد وقع واستقر ، لا أنه متوقّع مترقّب» (١). وكان يقول إن العامل فى الفعل من الحروف ينبغى أن يختصّ بدخوله عليه من أجل عمله فيه. وعلّل عدم عمل السين فى المضارع فى مثل سيقوم بأنها كالجزء منه لأنها حرف واحد لا يستقلّ بنفسه ، وألحق بها سوف. وكان يشبه الأداة الجازمة للمضارع بالدواء والحركة فى الفعل بالفضلة التى يخرجها الدواء ، وكما أن الدواء إذا أصاب فضلة حذفها وإن لم يصادف فضلة أخذ من نفس الجسم فكذلك الجازم إذا دخل على الفعل إن وجد حركة أخذها وإلا أخذ من نفس الفعل ، وسهل حذف حرف العلة لسكونه ، لأنه بالسكون يضعف فيصير فى حكم الحركة ، فكما أن الحركة تحذف فكذلك حروف مثل يغزو ويرمى ويخشى (٢).

وكان يعنى بالقياس عناية شديدة جعلته يهاجم من يعتدّون بالشواذ والنوادر ، داعيا إلى إسقاطها حتى لا يحدث اضطراب فى المقاييس النحوية والصرفية ، وفى ذلك يقول : «اعلم إنه ربما شذّ شىء من بابه ، فينبغى أن تعلم أن القياس إذا اطّرد فى جميع الباب لم يعن بالحرف الذى يشذّ عنه. وهذا مستعمل فى جميع العلوم ، ولو اعترض بالشاذ على القياس المطرد لبطل أكثر الصناعات والعلوم ، فمتى سمعت حرفا مخالفا لا شك فى خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شذّ ، فإن كان سمع ممن ترضى عربيته فلا بد أن يكون قد حاول به مذهبا أو نحا نحوا من الوجوه أو استهواه أمر غلطه. وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجمع عليه فى كلام ولا نحو ولا فقه ، وإنما يركن إلى هذا ضعفة أهل النحو (يريد الكوفيين) ومن لا حجة معه. وتأويل هذا وما أشبهه فى الإعراب كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القصّاص فى

__________________

(١) الخصائص ٣ / ١٠٥.

(٢) أسرار العربية ص ٣٢٣.

١٤٢

الفقه» (١) وفى هذا ما يدل على نفاذ بصيرته ، إذ تنبه إلى أن الأساس فى كل قاعدة علمية أن تطّرد ، وأن يحكم على كل ما يخالفها بالشذوذ ، لا أن يتّخذ قاعدة مستقلة كما يصنع ذلك الكوفيون فإن ذلك من شأنه أن يعطّل القواعد النحوية والصرفية ويصيبها بالشلل لمجرد وجود بيت شاذ عليها أو كلام محفوظ بأسانيد ضعيفة. وكأنه كان يرى أنه يكفى أن ينصّ على شذوذه ، وأن لا يحاول أحد تأويله أو تخريجه كما كان يصنع أساتذته البصريون ، ويشبّه صنيعهم بصنيع القصّاص وضعفة أصحاب الحديث فى تصحيح ما يقوم كذبه أو على الأقل شذوذه بالقياس إلى القواعد الفقهية المقررة.

وله آراء نحوية وصرفية كثيرة تداولتها كتب النحو التى جاءت بعده ، منها أنه كان لا يرى ما يراه الجمهور من أن الظرف والجار والمجرور إذا وقعا خبرا أو حالا أو نعتا يتعلقان بمحذوف تقديره مستقر أو استقر ، إذ كان يذهب إلى أنهما قسم مستقل بنفسه يقابل الجملتين الاسمية والفعلية (٢). وكان جمهور البصريين يذهب إلى أن ليس فعل ناقص لاتصالها بالضمائر مثل لست ولستما ولسن ، وذهب ابن السراج إلى أنها حرف لأنها لا تتصرّف ، أى لا يأتى منها المضارع والأمر (٣). ومثلها عسى ، كان يرى أنها حرف لعدم تصرفها كليس ، بينما كان يرى الجمهور أنها فعل لاتصالها بالضمائر مثل عساك وعساه (٤). وكان يصحح جواز تقديم خبر كان ولو كان جملة وكذلك توسطه بينها وبين اسمها ، وكان الجمهور يمنع ذلك ، غير أن ابن السراج كان يحتج بتقدم المعمول للخبر فى قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) وكان يقول : تقديم المعمول يؤذن بتقدم العامل (٥). وكان يجوّز حذف مفعولى ظن وأخواتها ولو لم يكن هناك دليل على حذفهما ، محتجّا بقوله جلّ وعزّ : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أى يعلم وقوله : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ)(٦). وكان الجمهور يرى تعليق ظن وأخواتها عن العمل إذا تقدم المفعولين أداة استفهام أو ما وإن النافيتان

__________________

(١) المزهر ١ / ٢٣٢.

(٢) الهمع ١ / ٩٩.

(٣) المغنى ص ٣٢٥ والهمع ١ / ١٠.

(٤) المغنى ص ١٦٢ والهمع ١ / ١٠.

(٥) الهمع ١ / ١١٨.

(٦) الهمع ١ / ١٥٢.

١٤٣

أولا م الابتداء وأضاف ابن السراج لا النافية فى مثل ظننت لا يقوم زيد (١). ولم يكن الجمهور يصحح استعمال لا مكان ليس فى مثل قولهم قرأت كتابا ليس غير ، بينما ذهب ابن السراج إلى أنها تستخدم مثلها فى هذا الموضع فيقال قرأت كتابا لا غير ، أى أنه لم يكن يشترط فى غير المبنية على الضم أن تكون تالية لليس وحدها دون لا (٢). وكان الجمهور يعرب مثل القرفصاء فى قولهم قعد القرفصاء مفعولا مطلقا ، أما هو فكان يعربه صفة لموصوف محذوف هو المفعول المطلق ، وتقديره عنده قعد القعدة القرفصاء (٣). وذهب الجمهور إلى أن لما فى مثل «لما جاءنى أكرمته» حرف وجود لوجود ، بينما ذهب ابن السراج إلى أنها ظرف بمعنى حين (٤). ومرّ بنا أن الأخفش كان يجوّز العطف على العائد المنصوب المحذوف وتوكيده والبدل منه ، مثل جاءنى الذى ضربت وعمرا ولقيت الذى كلمت نفسه ، وكان ابن السراج يمنع ذلك منعا باتّا (٥). وزاد على ما ذكره سيبويه من أبنية الأسماء وصيغها اثنين وعشرين بناء (٦) ، ونوّه القدماء طويلا بكتابه الذى صنفه فى الاشتقاق ، وفيه يقول السيوطى : «هو أصح ما وضع فى هذا الفن من علوم اللسان» وكان يقول : «من اشتق اللفظ الأعجمى المعرّب من العربى كان كمن ادّعى أن الطير من الحوت» (٧).

__________________

(١) الهمع ١ / ١٥٤.

(٢) الهمع ١ / ٢١٠.

(٣) أسرار العربية ص ١٧٦.

(٤) المغنى ص ٣١٠.

(٥) الهمع ١ / ٩١.

(٦) المزهر ٢ / ٤.

(٧) المزهر ١ / ٢٨٧.

١٤٤

٤

السيرافى (١)

هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان ، ولد بسيراف سنة ٢٨٠ للهجرة ، وكان أبوه مجوسيّا يسمى بهزاد ، فأسلم وتسمى باسم عبد الله. ويظهر أنه دفع ابنه إلى التعلم منذ نعومة أظفاره ، ولم يلبث التلميذ الناشئ أن أكبّ على دروس اللغة والدراسات الدينية ببلدته ، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى خرج إلى عمان وتفقّه على شيوخها ، ثم تحول عنها إلى بغداد ، فدرس اللغة على ابن دريد والنحو على ابن السراج والقراءات على أبى بكر بن مجاهد ، وتعمق فى الفقه تعمقا جعله يختار لتولى منصب القضاء فى الجانب الشرقى لبغداد ، ولم يلبث أن ولى قضاء الجانبين : الشرقى والغربى جميعا ، وهو فى أثناء ذلك يتولى تدريس الفقه الحنفى للطلاب بمسجد الرصافة نحو خمسين عاما. وبلغ من إجلال الناس له أن كانوا يخاطبونه بإمام المسلمين وشيخ الإسلام. وبجانب ذلك كان يعنى بالنحو ويفزع إليه الطلاب فى تفسير عويصه وحل مشاكله ومستغلقاته. وكان يعتنق الاعتزال مما جعله شديد الصلة بالمنطق والمباحث الفلسفية ، وهى صلة سلّحته بقوة الحجة وسلامة البرهان ، مما أضرم فيه نار الجدل ، وجعله يظفر دائما بمناظريه. ومناظرته التى أفحم فيها متى بن يونس مشهورة ، وكان موضوعها النحو والمنطق أيهما أدق فى معرفة صحيح الكلام من سقيمه وسديده من مدخوله ، وكان يدافع فيها عن النحو ، وأغصّه بريقه. وكان يشغف شغفا شديدا بكتاب سيبويه ، فألف عليه شرحه المطول الذى لم يطبع إلى اليوم ، وهو يضمّ فيه آراء خالفيه من البصريين والكوفيين جميعا ،

__________________

(١) انظر فى ترجمة السيرافى تاريخ بغداد ٧ / ٣٤١ ونزهة الألباء ص ٣٠٧ ومعجم الأدباء ٨ / ١٤٥ ومعجم البلدان فى سيراف وابن خلكان فى الحسن والفهرست ص ٩٩ واللباب ١ / ٥٨٦ والجواهر المضية فى طبقات الحنفية ١ / ١٩٦ وإنباه الرواة ١ / ٣١٣ وشذرات الذهب ٣ / ٦٥ ومرآة الجنان ٢ / ٣٩٠ والنجوم الزاهرة ٤ / ١٣٣ وبغية الوعاة ص ٢٢١. وسيراف من بلاد فارس على ساحل البحر مما يلى كرمان.

١٤٥

متوقفا دائما للرد على الأخيرين. وألف مصنفا في شرح شواهد سيبويه ومصنفا ثانيا سماه المدخل إلى الكتاب. وترجم لنحاة البصرة في كتابه "أخبار النحاة البصريين". ومن مصنفاته كتاب ألفات الوصل والقطع وكتاب شرح مقصورة ابن دريد وكتاب الإقناع في النحو لم يتمه وكتاب صناعة الشعر والبلاغة وكتاب جزيرة العرب. وما زال يوالي نشاطه في التأليف والتصنيف, حتى توفي سنة ٣٦٨ للهجرة.

وتوجد من شرحه للكتاب نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية، كتبها عبد اللطيف البغدادي العالم الفيلسوف المعروف. وهو لا يتخذ في هذا الشرح منهجا ثابتا ، إذ تارة يتقدم كلام سيبويه بموجز يوضحه، وتاره يبدأ بكلام سيبويه ويأخذ في شرحه وتوضيحه، وإذا كان كلام سيبويه واضحا لم يتعرض لشرحه، ومن أجل ذلك قد يترك فقرات وصفحات في الكتاب دون شرح وتفسير؛ لأنها في رأيه لا تحتاج تفسيرا ولا شرحا. وقد بذل جهدا خصبا في شرح كل ما غمُض أو استغلق في الكتاب. وهو يسوق شرحه في لغة بيّنة واضحة، ويفيض في الشرح عارضا بالتفصيل آراء من خلفوا سيبويه من نحاة البصرة والكوفة، وكثيرا ما يستخدم مع الأولين كلمة: قال أصحابنا ، معلنا بصريته, ودائما يقف معهم مناصرا لهم ضد الكوفيين. واستقر في نفسه إلى أقصى حد أن سيبويه هو الإمام المتبوع وأن كتابه هو العَلم المنصوب، مما جعله يتصدى في مواطن كثيرة للرد على مخالفيه من الكوفيين، ومن البصريين أمثال الأخفش والمبرد. ومر بنا أن المبرد صنف كتابا في شبابه حاول فيه أن يتعقب سيبويه فيما سماه مسائل الغلط, وأن ابن ولاد تصدى له في كتابه "الانتصار" يرد عليه. وكثيرا ما نرى السيرافي يذكر تغليط المبرد لسيبويه، ويعمد إلى نقضه، وقد يقول في أثناء ذلك: وذكر الراد عليه، ويسوق رد ابن ولَّاد دون ذكر اسمه. وهو يخالف نحاة البصرة من أمثال المبرد في قبوله للقراءات الشاذة دون تغليطها على نحو ما صنع ذلك الأخفش من قبله.

وقد اتسع السيرافي في كثرة ما أضافه من شواهد في شرحه للكتاب، كما

١٤٦

اتسع في بيان وجوه الإعراب الممكنة لها ولما يسوقه سيبويه من شواهد ، وأيضا لبعض ما يجري في كلام سيبويه من ألفاظ ، وتبدو الصورة الأخيرة واضحة منذ الخطوات الأولى في الشرح إذ يقف عند لفظة «ما» في أول عنوان بالكتاب وهو «هذا باب علم ما الكلم من العربية» ويذكر لها خمسة عشر وجها من وجوه الإعراب. ونراه دائما يرد كل اعتراض يوجه إلى سيبويه في عباراته ، فمن ذلك قوله في أوائل كتابه : «هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية» وهي عنده ثمانية مجارٍ ويقصد بالمجاري حركات أواخر الكلم، واعترض عليه بعض المتعقبين بأن الحركات تجري والمجاري لا تجري وإنما يُجْرَى فيهن ، وأجاب السيرافي على هذا الاعتراض بجوابين ؛ أولهما : أن أواخر الكلم تنتقل من حركة إلى حركة ، فجعل سيبويه كل حركة مجرى لذلك وجمعها على مجارٍ، وثانيهما : أن مجرى في معنى جرى ، فهو مصدر والمصادر قد تجمع. ولا يلبث السيرافي أن يورد اعتراض المازني على سيبويه، لعده حركات البناء، وهي الفتح والكسر والضم والوقف أو السكون مجاري ؛ لأن الحركات في أواخر المبنيات كالحركات في أوائلها ، والجري إنما يكون لما يحدث في شيء مرة ثم يزول عنه، والمبني لا يزول عن بنائه ، فكان ينبغي أن يقتصر سيبويه على أربعة مجارٍ، وهي حركات الإعراب من الرفع والنصب والجر والجزم ويترك الأربعة الأخرى الخاصة بالبناء. وأجاب السيرافي على هذا الاعتراض بأن أواخر الكلم هي مواضع التغيير، ومن هنا يجوز إطلاق كلمة «مجاري» على حركات البناء، وإن كان بعضا لازما (١).

وكان السيرافي يتوسع في التعليل توسعا أسعفه فيه عقله الجدلي الخصب، فليس هنا شيء علله النحاة إلا وتذكر عللهم فيه، وتضاف إليها علل جديدة، وما لم يعللوه حاول جاهدا أن يجد له علة أو عللا تسنده من ذلك أن نراه يعلل لعدم جر المضارع كما جر الاسم بسبع علل (٢) ، ويقف عند نصب جمع المذكر السالم بالياء دون الألف، ويذكر لذلك أربع علل، كما يذكر لعدم نصبه بالواو أربع علل أخرى، وأيضا فإنه يذكر لاختيار الألف دون الواو في شرح السيرافي على كتاب سيبويه «مخطوطة دار الكتب المصرية» المجلد الأول الورقة

__________________

(١) شرح السيرافي على كتاب سيبويه «مخطوطة دار الكتب المصرية» المجلد الأول الورقة ١٤ وما بعدها.

(٢) السيرافي ، المجلد الأول الورقة ٢٨.

١٤٧

رفع المثنى ثلاث علل (١). وتتكاثر أمثال هذه العلل الميتافيزيقية فى كل جوانب الشرح.

وينبغى أن نعرف أن وقوفه مع سيبويه لم يمنعه من مخالفته أحيانا والأخذ بآراء غيره أو برأى من عنده ، من ذلك أنه كان يرد رأى سيبويه فى أن كيف ظرف ، ويذهب مذهب الأخفش فى أنها اسم غير ظرف (٢). وكان سيبويه والخليل يريان أن الجزم فى مثل «ائتنى أكرمك» بنفس الطلب لتضمنه معنى إن الشرطية ، وذهب السيرافى إلى أن المضارع مجزوم بالطلب لنيابته مناب الجازم الذى هو الشرط المقدر كما أن النصب بضربا فى قولك «ضربا زيدا» لنيابته عن اضرب لا لتضمنه معناه (٣). ومر بنا أن الخليل وتابعه سيبويه ، كان يرى أن الجزم فى فعل أكن فى قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) للعطف على معنى لو لا أخرتنى أى إن أخرتنى ، وكان السيرافى يذهب إلى أن (أكن) معطوفة على محل (فأصّدّق) (٤). وكان سيبويه يذهب إلى أن خفض خرب فى قولهم : «هذا جحر ضبّ خرب» للجوار لأن الكلمة نعت للجحر وجرّت بملاحظة ما يجاورها ، وقال السيرافى بل هى نعت لضب ، حذفت بقيته ، إذ أصل العبارة هذا جحر ضب خرب الجحر منه ، ثم حذف الضمير فى «منه» للعلم به ، وحوّل الإسناد إلى ضمير الضب ، وخفض الحجر ، كما تقول مررت برجل حسن الوجه ، بالإضافة ، والأصل «حسن الوجه منه» ثم أتى بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر (٥). وهو تأويل فيه تكلف بين. وكان يذهب إلى أن كان الزائدة فى مثل «ما كان أحسن زيدا» تامة وفاعلها المصدر الدالة عليه أى كان الكون (٦). وكان يمنع ـ خلافا للمبرد ـ دخول لام الابتداء بعد إن على معمول خبرها ما دامت قد دخلت على الخبر نفسه (٧). وكان يجعل لفظة الشر فى مثل «إياك والشر» معطوفة على إياك لا معمولة لفعل

__________________

(١) السيرافى ، المجلد الأول الورقة ١٣٠ وما بعدها.

(٢) المغنى ص ٢٢٦ والهمع ١ / ٢١٤.

(٣) المغنى ص ٢٤٩.

(٤) المغنى ص ٥٢٩.

(٥) المغنى ص ٧٦١.

(٦) الهمع ١ / ١٢٠.

(٧) الهمع ١ / ١٣٩.

١٤٨

مضمر على تقدير من قدّر عبارتها إياك باعد من الشر واحذر الشر (١). ولم يكن يجيز فى «غير» المبنية على الضم أن يقال بجانب «ليس غير» فى مثل «قرأت كتابا ليس غير» لم يكن غير (٢). وكان يجيز دخول لام الابتداء على السين فى مثل «لسأقوم» كما تقول لسوف أقوم (٣).

وقد أكثر من تخريجاته لوجوه الإعراب فى الصيغ والعبارات ، من ذلك نصب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) فى الآية الكريمة (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وكان الخليل كما قدمنا يجعلها منصوبة على المدح بتقدير واذكر (الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) وجوّز السيرافى أن تكون مجرورة بالعطف على ما فيكون معناه (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وبالمقيمين الصلاة أى بمذاهبهم وبدينهم (٤). وواضح أنه تخريج بعيد. وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن ليت إذا اتصلت بها «ما» جاز عملها وإلغاؤها ، وإلغاؤها أحسن كقول بعض الشعراء :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد

وواضح أن الشاعر ألغى ليت وجعل هذا مبتدأ ولنا خبرا. وجوّز السيرافى أن تكون ما اسما موصولا بمنزله الذى ، وهذا الحمام خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير ألا ليت الذى هو هذا الحمام لنا (٥) ، وهو تخريج بعيد. وكان المبرد يعرب «من لى إلا أبوك صديقا» من مبتدأ وأبوك خبره وصديقا حال ، وجوّز السيرافى أن تكون من مبتدأ ولى خبره وأبوك بدل من من (٦) ، وهو أيضا تخريج بعيد.

على أن كثرة تخريجاته لوجوه الإعراب جعلته يدلى بطائفة من الآراء الطريفة ، من ذلك أنه كان يرى أن عبارة «مذ يومان» فى قولك : «ما رأيته مذ يومان» فى موضع الحال (٧). وكان يرى أن جملة أفعال الاستثناء مثل ليس ولا يكون وخلا وعدا فى موضع نصب حال ، وجوّز فيها أن تكون مستأنفة (٨). وكان يقول إن

__________________

(١) الهمع ١ / ١٦٩.

(٢) الهمع ١ / ٢٣٢.

(٣) الهمع ٢ / ٧٢.

(٤) تقريرات السيرافى على كتاب سيبويه (طبعة بولاق) ١ / ٢٤٩.

(٥) نفس المصدر ١ / ٢٨٣ وما بعدها.

(٦) نفس المصدر ١ / ٣٧٢.

(٧) المغنى ص ٤٣١.

(٨) المغنى ص ٤٣٢.

١٤٩

ما في مثل «ما خلا» مصدرية، وتقدير الحال في كل هذه الأفعال حين تقول: قام القوم ليس زيدا أو ما خلا زيدا ونحوهما هو : خالين عن زيد (١).

وبالسيرافي تنتهي مدرسة البصرة، وتصل إلى غايتها من تأصيل القواعد ومد الفروع المتشابكة, وكانت تقابلها منذ الكسائي وما ألهمه به الأخفش من الخلاف على سيبويه مدرسة الكوفة. ومن الحق أن مدرسة البصرة هي التي شادت، كما أسلفنا ، بناء النحو الشاهق، وقد تسلمت منها مدرسة الكوفة، ثم المدرسة البغدادية وما خلفها من المدرستين الأندلسية والمصرية هذا البناء كاملا ، ومضت كل مدرسة تحاول أن تدخل على هذا البناء من الإضافات ما يتيح لها أن تكون ذات منهج جديد.

__________________

(١)المغني ص ٧٧٢.

١٥٠

القسم الثاني :

المدرسة الكوفية

١٥١
١٥٢

الفصل الأول

نشأة النحو الكوفى وطوابعه

١

النشأة

تركت الكوفة للبصرة وضع نقط الإعراب فى الذكر الحكيم ووضع نقط الإعجام ، والأنظار النحوية والصرفية الأولى التى تبلورت عند ابن أبى إسحق والتى أقام عليها قانونى القياس والتعليل ، إذ كانت فى شغل عن كل ذلك بالفقه ووضع أصوله ومقاييسه وفتاواه وبالقراءات وروايتها رواية دقيقة ، مما جعلها تحظى بمذهب فقهى هو مذهب أبى حنيفة وبثلاثة من القراء السبعة الذين شاعت قراءاتهم فى العالم العربى ، وهم عاصم وحمزة والكسائى. وعنيت بجانب ذلك عناية واسعة برواية الأشعار القديمة وصنعة دواوين الشعر ، وإن كانت لم تعن بالتحرى والتثبت فيما جمعت من أشعار ، حتى ليقول أبو الطيب اللغوى : «الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله ، وذلك بيّن فى دواوينهم» (١).

وعادة تذكر كتب التراجم أولية للنحو الكوفى مجسّدة فى أبى جعفر الرّواسى ومعاذ الهرّاء. أما الرّواسى فيقول مترجموه (٢) إنه أخذ النحو عن عيسى بن عمر وأبى عمرو بن العلاء ، وعاد إلى الكوفة فتلمذ عليه الكسائى ، وألف لتلاميذه كتابا فى النحو سماه «الفيصل» (٣). وكان يزعم أن كل ما فى كتاب سيبويه من قوله : «وقال الكوفى» إنما يعنيه ، غير أن الكتاب يخلو خلوّا تامّا من هذه

__________________

(١) مراتب النحويين لأبى الطيب اللغوى ص ٧٤.

(٢) انظر فى ترجمته الزبيدى ص ١٣٥ والفهرست ص ١٠٢ ونزهة الألباء ص ٥٤ ومراتب النحويين ص ٢٤.

(٣) انظر رأى الكسائى فيه وأنه كان مختصرا قليل القيمة فى مجالس العلماء للزجاجى (طبع الكويت) ص ٢٦٦ وانظر ص ٢٦٩.

١٥٣

الكلمة وإن كان قد ذكر أهل الكوفة مع بعض القراءات في ثلاثة مواضع (١). ومن المؤكد أنه لم يدل في النحو بآراء ذات قيمة، بدليل أن اسمه لم يدر في كتب النحاة التالية لعصره ، وفيه يقول أبو حاتم : «كان بالكوفة نحوي يقال له : أبو جعفر الرواسي، وهو مطروح العلم ليس بشيء» (٢). وكان يعاصره معاذ (٣) الهراء المتوفى سنة تسعين ومائة، ويظهر أنه اختلف مثل سالفه إلى نحاة البصرة ، فتلقن عنهم النحو والصرف، ثم رجع إلى الكوفة ، وقعد للإملاء، وأخذ عنه فيمن أخذوا الفراء، وكل ما أثر عنه أنه كان يعرض لبعض مسائل التصريف, وأنه سأل يوما بعض مناظريه: «كيف تقول من (تؤزهم أزا) : يا فاعل افعل؟ وصلْها بيا فاعل افعل من (إذا الموءودة سئلت)» (٤). وبنى السيوطي على هذا الخبر أنه واضع علم الصرف، والخبر لا يسنده كتاب وضعه في هذا العلم، وهو لا يعدو معرفته بالتصريف، وكتاب سيبويه زاخر به وبما لا يكاد يحصى من أمثلته وأبنيته، ومنه خلصها المازني ووضع فيها كتابه «التصريف». ومما يؤكد وهم السيوطي فيما ادعاه أنه ليس لمعاذ في كتب التصريف آراء تنسب إليه ذات قيمة، وكأن علمه بالصرف مثل علم الرواسي في النحو كان علما محدودا لا غناء فيه ولا شيء يميزه من علم البصرة.

إنما يبدأ النحو الكوفي بدءا حقيقيا بالكسائي وتلميذه الفراء. فهما اللذان رسما صورة هذا النحو ووضعا أسسه وأصوله، وأعداه بحذقهما وفطنتهما لتكون له خواصه التي يستقل بها عن النحو البصري، مرتبين لمقدماته، ومدققين في قواعده، ومتخذين له الأسباب التي ترفع بنيانه.

__________________

(١) كتاب سيبويه للنجدي ص ٩٧.

(٢) مراتب النحويين ص ٢٤.

(٣) انظر في ترجمته: الزبيدي ص ١٣٥, والفهرست ص ١٠٢, ونزهة الألباء ص ٥٢, وإنباه الرواة ٣/ ٢٨٨ وما به من مراجع.

(٤) في الزبيدي جواب المسألة المذكورة: يا آز أزّ بفتح الزاي في الفعل، وإن شئت ضممت الزاي أو كسرتها وقلت: أو زُزْ، فالفتح لأنه أخف الحركات, والكسر لأنه أحق بالتقاء الساكنين، والضم للإتباع. وكذلك في الموءودة تقول: يا وائد إدْ، بكسر الهمزة وسكون الدال مثل: يا واعد عد بكسر العين في الفعل وسكون الدال.

١٥٤

٢

النحو الكوفي يشكل مدرسة مستقلة:

أجمع القدماء على أن نحو الكوفيين يشكل مذهبا مستقلا, أو كما نقول بلغة العصر مدرسة مستقلة سواء منهم أصحاب كتب الطبقات والتراجم مثل ابن النديم في كتابه الفهرست والزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين أو أصحاب كتب المباحث النحوية، إذ نراهم دائما يعرضون في المسائل المختلفة وجهتي النظر المتقابلتين في المدرستين: الكوفية والبصرية. وقد أفرد أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري مجلدا ضخما عرض فيه الخلاف بين المدرستين في إحدى وعشرين ومائة مسألة، وهو إنما عرض أهم ما اختلفتا فيه من مسائل في رأيه, ووراءها مسائل أخرى كثيرة مبثوثة في الكتب النحوية لم ير التوسع بذكرها. ونعجب أن نرى «فايل» ناشر هذا الكتاب لأول مرة, يزعم في مقدمته له أن الكوفة لم تؤسس لنفسها مدرسة نحوية خاصة وأن خلافات نحاتها وخاصة الكسائي والفراء مع الخليل وسيبويه إنما هو امتداد لما سمعاه من أستاذهما البصري يونس بن حبيب الذي نص القدماء على أن له قياسا في النحو خاصا به ومذاهب ينفرد بها. واستدل على ذلك بأن جميع المواضع التي ذكر ابن الأنباري اسمه فيها بكتابه يذكر معه فيها الكوفيين متابعين له في آرائه، وهي لا تعدو أربعة آراء! واستدل أيضا بأن الزمخشري قرن به الكوفيين في خمس مسائل بكتابه المفصل. وهو استدلال واضح الضعف، إذا قسنا ما وقف فيه الكوفيون معه إلى ما وقفوه مع الخليل وسيبويه، فالكتب النحوية إنما تذكر خلافهم لهما ولا تذكر مواضع اتفاقهم معهما ، وهي أكثر من أن يحاط بها. ونفس سيبويه نقل عن يونس في كتابه نحو مائتي رواية تتخللها آراؤه التي كان يتفرد بها دونه ودون أستاذه الخليل.

والحق أننا إذا أردنا أن نبحث بين البصريين عن موجِّه للكسائي والفراء في إنشاء المذهب الكوفي مَثَل توا أمامنا الأخفش الأوسط الذي روى عنه الكسائي

١٥٥

إمام الكوفة الأول كتاب سيبويه ، فهو الذى فتح له وللفراء أبواب الخلاف مع سيبويه والخليل على مصاريعها ، وبذلك أعدّهما للخلاف عليهما وتنمية هذا الخلاف بحيث نفذا إلى مذهبهما النحوى الجديد. وإذا كان قايل لاحظ أن بعض الكتب النحوية ذكرت اتفاق يونس والكوفيين فى مسائل لا تعدو أصابع اليد الواحدة فقد مرّ بنا فى ترجمة الأخفش اتفاق الكسائى والفراء والكوفيين معه فى نحو ثلاثين مسألة. وليس ذلك فحسب ، فإنه هو أيضا الذى ألهم ـ كما مر بنا ـ الكوفيين المتأخرين الاعتداد بالقراءات الشاذة للذكر الحكيم ، مما يجعله بحقّ الموجّه الحقيقى للكوفيين فى إحداث مدرستهم سواء من حيث أخذها بالقراءات الشاذة أو من حيث التوسع فى الرواية والاعتماد على الشواذ فى مخالفة سيبويه وأستاذه الخليل.

أما ما زعمه قايل من أن الكوفة لم تكن لها مدرسة نحوية خاصة فقد بنى زعمه فيه على كثرة الخلافات بين أئمتها على نحو ما سيلقانا بين الكسائى وتلميذه الفراء ، وكأنها لا تؤلف جبهة علمية موحدة ، إنما كل ما هناك اتجاه للخلاف على البصرة تمادوا فيه. وهو دليل منقوض ، فقد كان نحاة الكوفة يكوّنون جبهة طالما تناظر أفرادها مع أفراد جبهة البصرة ، وأكثر ابن جنى وغيره من ذكر آرائها ، بل لقد أفرد لها العلماء المصنفات على نحو ما مر بنا آنفا عند أبى البركات ابن الأنبارى فى كتابه الإنصاف. على أن قايل نفسه يعود فيثبت للفراء مذهبا فى النحو خالف به الكسائى ومعاصريه ، وليس هذا المذهب إلا مذهب المدرسة الكوفية التى أنكرها ، تكامل تشكّله عنده. أما أنه خالف أستاذه الكسائى فى بعض المسائل فهذا من حقه ، على نحو ما خالف سيبويه أستاذه الخليل ، وعلى نحو ما خالفهما معا تلميذهما الأخفش فى كثير من المسائل ، وهم جميعا أئمة المدرسة البصرية. وسنرى فى غير هذا الموضع أن الفراء يقوم فى الكوفة مقام سيبويه فى البصرة ، فهو الذى أعطى المدرسة الكوفية تشكّلها النهائى إلا بعض إضافات زادها الكوفيون بعده وفى مقدمتهم ثعلب.

وغلا بعض المعاصرين فى كتاب له عن الفرّاء فأخرجه من المدرسة الكوفية وجعله إمام المدرسة البغدادية التى تكونت بعده بنحو مائة عام والتى أقامت

١٥٦

مذهبها النحوى على عمد الانتخاب من آراء المدرستين الكوفية والبصرية. وإنما أوقعه فى ذلك أنه رأى الفراء يتأثر المدرسة البصرية فى بعض آرائه ومنازعه (١) ، كأن يعمد أحيانا فى الإعراب إلى تقدير العوامل المحذوفة ، أو يرفض بعض اللغات الشاذة ، أو يأخذ بالقياس وضبط القواعد ، أو يخطئ شاعرا فى تعبير. وكل ما رواه من ذلك ليس فيه شىء انتخبه الفراء من آراء المدرسة البصرية وأقوال أئمتها النحويين ، وإنما هو فيه يدلى بآرائه الخاصة. وأبعد فى الغلو فقال إنه تأثر البصريين فى تخطئة بعض القراءات متورطا فى ذلك مع بعض الباحثين ، ورأينا فى ترجمة الأخفش كيف كان يوجّه القراءات التى لا تجرى على مقاييس مدرسته ، وليس فى كتاب سيبويه تخطئة واحدة لقراءة من القراءات مع كثرة ما استشهد به منها وقد صرّح بقبولها جميعا مهما كانت شاذة على مقاييسه ، إذ قال إن «القراءة لا تخالف ، لأنها سنّة» (٢).

ويظهر أن الكسائى هو الذى بدأ تخطئة القراء إذ نرى الفرّاء يتوقف فى كتابه معانى القرآن مرارا ليقول إن الكسائى كان لا يجيز القراءة بهذا الحرف أو ذاك ، يقول تعليقا على قراءة يكون بالرفع والنصب فى قوله تعالى فى سورة النحل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله جل وعز فى سورة يس : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : بالنصب «لأنها مردودة (أى معطوفة) على فعل قد نصب بأن ، وأكثر القراء على رفعهما ، والرفع صواب ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله (فى سورة النحل) إذا أردنا أن نقول له كن ، فقد تمّ الكلام ، ثم قال : فيكون ما أراد الله. وإنه لأحبّ الوجهين إلىّ ، وإن كان الكسائى لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النسق (أى العطف على الفعل المنصوب بأن)» (٣). وكأن الفراء هنا يخطّىء أستاذه ويصحح القراءة ، وسنرى فى ترجمته أنه أنكر عدّة قراءات. ومن هنا كنا نؤمن بأنه هو وأستاذه اللذان فتحا للبصريين التالين لهما تخطئة بعض القراءات من أمثال

__________________

(١) كتاب أبى زكريا الفراء ومذهبه فى النحو واللغة ص ٣٧٧ وما بعدها.

(٢) ابن الجزرى ١ / ٦٠٣.

(٣) معانى القرآن للفراء (طبعة دار الكتب المصرية) ١ / ٧٥.

١٥٧

المازني والمبرد والزجاج، بينما أغلق الكوفيون الذين خلفوهما هذا الباب، بل لقد مضوا يتوسعون في الاحتجاج بالقراءات الشاذة مقتدين بالأخفش. ولعل في ذلك ما يسقط التهمة التي اتهم بها بعض المعاصرين نحاة البصرة عامة ، إذ زعموا أنهم كانوا يطعنون على القراءات ، كما زعموا أن الكوفيين عامة كانوا يقبلونها ويحتجون بها. وسنرى أن الفراء الكوفي هو الذي بدأ بقوة تخطئة القراء. وينبغي أن نعرف أن حروفا معدودة هي التي وقف عندها الكسائي والفراء ومن تلاهما من البصريين بحيث يكون من الإسراف أن يقال : إنهم كانوا يخطِّئون القراء ، إنما الذي ينبغي أن يقال: إنهم وقفوا عند بعض حروف في قراءات القرآن الكريم ، رغبة منهم في التحري الدقيق للفظ الذكر الحكيم ونطقه.

على كل حال ليس الفراء بصريا ولا بغداديا ، إنما هو كوفي، بل إن المدرسة الكوفية في النحو لم يتم تشكلها إلا به وبآرائه ومقاييسه وما اعتمده من تفسير لبعض الظواهر اللغوية وما وضعه من مصطلحات نحوية خالف بها مصطلحات البصريين ، مما يجعله الإمام الحقيقي لهذه المدرسة. وحقا سبقه فيها أستاذه الكسائي، ولكن لم يكن له دقة عقله وغور ذهنه، بحيث يرسي قواعد المدرسة ويرفع أركانها. وإذا أخذنا نحقق هذه القواعد والأركان وجدنا ثلاثة طوابع كبيرة تشيع فيها هي: طابع الاتساع في الرواية، بحيث تفتح جميع الدروب والمسالك للأشعار واللغات الشاذة، وطابع الاتساع في القياس بحيث يقاس على الشاذ والنادر دون تقيد بندرته وشذوذه، ثم طابع المخالفة في بعض المصطلحات النحوية وما يتصل بها من العوامل.

وينبغي أن يستقر في الأذهان أن المدرسة الكوفية لا تباين المدرسة البصرية في الأركان العامة للنحو ، فقد بنت نحوها على ما أحكمته البصرة من تلك الأركان، التي ظلت إلى اليوم راسخة في النحو العربي، غير أنها مع اعتمادها لتلك الأركان استطاعت أن تشق لنفسها مذهبا نحويا جديدا ، له طوابعه وله أسسه ومبادئه.

وإذن فمن الخطأ أن يرى معاصرٌ الكسائيَّ أو الفراء يتأثر بالنحو البصري، فيظن أنهما ليسا كوفيين وأنهما مقدمة المذهب البغدادي أو المدرسة البغدادية، فإن هذا التأثر عندهما وعند جميع أئمة الكوفة شيء طبيعي، ومعروف أن

١٥٨

الكسائي تتلمذ للخليل بن أحمد وأنه قرأ كتاب سيبويه على الأخفش، وقد رحل الفراء إلى البصرة وتتلمذ على يونس بن حبيب وأكب على كتاب سيبويه يقرؤه ويدرسه، كما أكب عليه جميع أئمة الكوفة من بعده.

ومعنى ذلك أن الصلة بين المدرسة الكوفية والمدرسة البصرية في النحو ظلت قائمة على مدار الزمن, وأن من الطبيعي أن نجد دائما عند نحاة الكوفة تأثرات مختلفة بالمذهب البصري، ولكنهم مع ذلك استطاعوا أن يتبينوا شخصياتهم إزاءه، وأن ينفذوا إلى مذهب مستقل بهم، له طوابعه وخصائصه التي تفرده عن المذهب البصري إفرادا متميزا واضحا.

٣

الاتساع ف الرواة والقياس

لعل أهم ما يميز المدرسة الكوفية من المدرسة البصرية اتساعها في رواية الأشعار وعبارات اللغة عن جميع العرب بدويهم وحضريهم ، بينما كانت المدرسة البصرية تتشدد تشدداً جعل أئمتها لا يثبتون في كتبهم النحوية إلا ما سمعوه من العرب الفصحاء الذين سلمت فصاحتهم من شوائب التحضر وآفاته ، وهم سكان بوادي نجد والحجاز وتهامة من قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه وعليهم اتّكل في الغريب وفي الاعراب والتصريف ، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكّان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الاُمم الذين حولهم» (١).

وليس معنى ذلك أن أئمة الكوفة لم يكونوا يرحلون إلى هذه القبائل الفصيحة ، فقد كانوا يكثرون من الرحلة إليها ، على نحو ما يحدثنا الرواة عن الكسائي ، فقد قالوا إنه خرج إلى نجد وتهامة والحجاز ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ (٢). ولكن معناه أن الكوفيين وفي

__________________

(١) المزهر للسيوطي (طبعة الحلبي) ١ / ٢١١.

(٢) إنباه الرواة ٢ / ٢٥٨.

١٥٩

مقدمتهم إمامهم الكسائى كانوا لا يكتفون بما يأخذون عن فصحاء الأعراب ، إذ كانوا يأخذون عمّن سكن من العرب فى حواضر العراق ، وكثير منهم كان البصريون لا يأخذون عنهم ولا عن قبائلهم المقيمة فى مواطنها الأصلية مثل تغلب وبكر لمخالطتهما الفرس ومثل عبد القيس النازلة فى البحرين لمخالطتها الفرس والهند (١).

وقد حمل البصريون على الكوفيين حملات شعواء حين وجدوهم يتسعون فى الرواية على هذه الشاكلة ، وخصّوا الكسائى بكثير من هذه الحملات ، قائلين «إنه كان يسمع الشاذ الذى لا يجوز ، من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات ، فيجعل ذلك أصلا ، ويقيس عليه حتى أفسد النحو» (٢). وقالوا إنه لقى عشيرة من بنى عبد القيس تسمى الحطمة كانت نازلة ببغداد ، فأخذ عنها كثيرا من الخطأ واللحن (٣) ، مما اتضح أثره فى مناظرته المشهورة لسيبويه ، فإن سيبويه تمسك فيها بما سمعه عن العرب الفصحاء فى مثل : «قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزّنبور فإذا هو هى» حتى إذا قال الكسائى إنه يجوز «فإذا هو إياها» أنكر ذلك إنكارا شديدا. وسرعان ما استعان عليه الكسائى بأعراب عشيرة الحطمة ، فأيّدوه ، وتأييدهم لا قيمة له فى رأى سيبويه ومدرسته ، لأنهم ليسوا من الفصحاء المتبدين فى قيعان نجد وتهامة والحجاز ، ممن يؤخذ عن لسانهم النحو واللغة.

وكان ذلك بدءا لخلاف واسع بين المدرستين ، فالبصرة تتشدد فى فصاحة العربى الذى تأخذ عنه اللغة والشعر ، والكوفة تتساهل ، فتأخذ عن الأعراب الذين قطنوا حواضر العراق ، مما جعل بعض البصريين يفخر على الكوفيين بقوله : «نحن نأخذ اللغة عن حرشة (أكلة) الضّباب وأكلة اليرابيع (أى البدو الخلّص) وأنتم تأخذونها عن أكله الشواريز (٤) وباعة الكواميخ (٥) (أى عرب المدن)».

ولم تقف المسألة عند حد الاتساع فى الرواية ، بل امتدت إلى الاتساع

__________________

(١) المزهر ١ / ٢١٢.

(٢) معجم الأدباء ١٣ / ١٨٣.

(٣) معجم الأدباء ١٣ / ١٨٢ وإنباه الرواة ٢ / ٢٧٤.

(٤) الشواريز : جمع شيراز ، وهو اللبن الرائب المصفى.

(٥) الكواميخ : جمع كامخ وهو مخلل يشهىّ الطعام.

١٦٠