المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

الإعراب لا حروف الإعراب. (١) وكان سيبويه والخليل يريان أن إعراب الأفعال الخمسة : يكتبان وتكتبان ويكتبون وتكتبون وتكتبين إنما هو بالنون التالية لحرف اللين أو بعبارة أخرى لضمائر التثنية والجماعة والمخاطبة ، أما هو فكان يرى أن إعرابها بحركات مقدرة على ما قبل تلك الضمائر (٢). وهو أيضا رأى غير دقيق ، لأن نون تلك الأفعال تسقط فى حالتى النصب والجزم ، ومن هنا كانت علما للرفع فى المضارع. وكان سيبويه والخليل يذهبان إلى أن الأسماء الخمسة : أباك وأخواتها معربة بحركات مقدرة فى حروف اللين : الواو والألف والياء ، أما هو فكان يرى أنها معربة بحركات مقدرة على ما قبل تلك الحروف تمشيا مع رأييه السالفين فى إعراب المثنى والجمع والأفعال الخمسة (٣). ومعروف أن ضمائر التثنية والجمع والمخاطبة التى تلحق بالأفعال الخمسة وكذلك ضمير النسوة فى مثل قلن تعرب فواعل فى رأى سيبويه والخليل ، وكان الأخفش يذهب إلى أنها جميعا حروف والفاعل مستتر ، وكأنما الذى دفعه إلى ذلك لغة أكلونى البراغيث ، فقد رأى سيبويه يرتضى أن أحد توجيهيه لتلك اللغة أن الضمير فى أكلونى وما يماثلها حرف كالتاء المؤنثة فى قالت ، وجعلها فى التوجيه الثانى الفاعل والمرفوع بعدها بدلا منها (٤). وكان سيبويه يذهب إلى أن المحذوف فى الأفعال الخمسة فى مثل أتعدانى هو نون الرفع ، أما هو فكان يرى أن المحذوف نون الوقاية لأنها لا تدل على إعراب ، فهى أولى بالحذف (٥). وكان يذهب سيبويه إلى أن العامل فى النعت هو العامل فى المنعوت ، وذهب الأخفش إلى أن العامل فى النعت المنعوت نفسه إذ يعرب بإعرابه (٦). وذهب سيبويه إلى أن المضاف هو عامل الخفض فى المضاف إليه ، وقال الأخفش بل العامل فيه الإضافة المعنوية (٧). وكان سيبويه يرى أن عامل المفعول معه فى مثل «استوى الماء والخشبة» الفعل الذى قبله بتوسط الواو ، وذهب الأخفش إلى أنه منصوب انتصاب الظرف ، لأن أصل

__________________

(١) الرضى ١ / ٢٦ وقابل بالهمع ١ / ٤٧ والإنصاف ص ١٣ وأسرار العربية ص ٥١ والزجاجى ص ١٣٠ ، ١٤١.

(٢) الهمع ١ / ٥١.

(٣) الهمع ١ / ٣٩.

(٤) المغنى ص ٤٠٤ ، ٤١٣ ، والهمع ١ / ٥٧.

(٥) الهمع ١ / ٥٢.

(٦) أسرار العربية ص ٦٦.

(٧) الهمع ٢ / ٤٦.

١٠١

هذا التعبير وما يماثله استوى الماء مع الخشبة فلما حذفت «مع» وكانت منتصبة على الظرفية أقيمت الواو مقامها وانتصب ما بعدها انتصاب «مع» التى وقعت الواو موقعها ، إذ لا يصح انتصاب الحروف ، كما انتصب ما بعد إلا الواقعة موقع غير فى الاستثناء فى مثل قام القوم إلا زيدا ، وكأنما كان الأصل قام القوم غير زيد (١). وكان سيبويه يذهب إلى أن العامل فى الخبر هو المبتدأ وذهب الأخفش إلى أن العامل فيه هو العامل فى المبتدأ وهو الابتداء (٢).

وكان سيبويه يرى ـ وتبعه الجمهور ـ أن جمع المؤنث السالم فى حالة النصب معرب بالكسرة نيابة عن الفتحة وأن الممنوع من الصرف فى حالة الجر معرب بالفتحة نيابة عن الكسرة ، وذهب الأخفش إلى أنهما جميعا فى الحالتين مبنيان (٣). ولا توجد علة واضحة لهذا البناء!. وذهب سيبويه إلى أنه إذا ولى «لولا» ضمير متصل مثل لولاى ولولاك ولولاه كانت جارة ، وذهب الأخفش ـ وتبعه الفراء ـ إلى أن الضمير فى هذه الأمثلة مبتدأ مرفوع ، وكل ما فى الأمر أن العرب أنابت فيها الضمير المخفوض عن الضمير المرفوع أى أنهم أنابوا مثل لولاك عن لو لا أنت. واستدل بأنهم أنابوا علامة الرفع عن علامة الجر فى مثل «ما أنا كأنت». وذهب الأخفش فى قول ثان إلى أن الضمائر فى لولاى ولولاك ولولاه حروف حضور وخطاب وغيبة (٤). وكان سيبويه لا يجيز دخول الواو على خبر كان وأخواتها إذا كان جملة ، وكان الأخفش يجيز ذلك مثل كان محمد ولا حمق عنده وليس شىء إلا وفيه نقص ، وكان ينشد منه قول الشاعر :

ليس شىء إلا وفيه إذا ما

قابلته عين البصير اعتبار

وقول الآخر :

ما كان من بشر إلا وميتته

محتومة لكن الآجال تختلف

__________________

(١) سر صناعة الإعراب لابن جنى (طبعة الحلبى بالقاهرة) ١ / ١٤٤ والإنصاف ص ١١٠ والرضى على الكافية ١ / ١٩٥ والهمع ١ / ٢٢٠.

(٢) الهمع ١ / ٩٤.

(٣) الهمع ١ / ١٩.

(٤) الخصائص ٢ / ١٨٩ وابن يعيش ٣ / ١٢٢ والمغنى ص ٣٠٣.

١٠٢

وأوّل الجمهور ذلك على حذف الخبر (١). وكان سيبويه لا يجيز زيادة الواو فى الكلام ، وكان الأخفش يجيز ذلك وتبعه فيه الكوفيون ، وكان يمثّل لرأيه بقوله تعالى (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) ، (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) وأوّل الجمهور مثل ذلك على أن الواو عاطفة وجواب إذا ولما محذوف. (٢) وكان سيبويه يذهب إلى أن ما فى مثل «ما أحسن السماء» وغيرها من صيغ التعجب نكرة تامة مبتدأ والجملة الفعلية بعدها خبر ، وذهب الأخفش مذهبين فى توجيه «ما» أولهما أنها اسم موصول وما بعدها صلة لا محل لها من الإعراب ، والثانى أنها نكرة موصوفة والجملة بعدها فى موضع رفع نعت لها ، وعليهما خبر المبتدأ محذوف تقديره شىء عظيم ونحوه (٣). ولم يكن سيبويه يجوّز زيادة الباء فى الخبر الموجب مثل زيد بقائم أى زيد قائم وجوّز ذلك الأخفش مستدلا بقوله تعالى : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) وعند الجمهور أن الخبر محذوف تقديره واقع (٤).

وكان سيبويه ـ كما قدمنا ـ يرى أن لات تعمل عمل ليس ويليها إما الاسم مرفوعا وإما الخبر منصوبا وهو دائما الحين مثل (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ومع الرفع يكون الخبر محذوفا ومع النصب يكون اسمها محذوفا ، وذهب الأخفش إلى أنها غير عاملة ، وقال إذا تلاها مرفوع أعرب مبتدأ والخبر محذوف ، وإذا تلاها منصوب أعرب مفعولا به على تقدير فعل محذوف ، وقدّره فى الآية الكريمة : ولات أرى حين مناص (٥). وذهب سيبويه إلى أن عسى فى مثل «عساى وعساك وعساه» أجريت مجرى لعل فى نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها فى جواز اقتران خبرها بأن فى مثل لعل محمدا أن يقوم ، وذهب الأخفش إلى أن عسى فى الأمثلة المذكورة لا تزال عاملة عمل كاد وأخواتها ، أى أنه لا يزال يليها اسمها المرفوع ، وكل ما فى الأمر أنه استعير ضمير النصب لضمير الرفع ، كما استعير له ضمير الجر فى لولاى ولولاه (٦). وكان سيبويه يرى أن كيف ظرف دائما فموضعها عنده النصب ، وكان الأخفش يرى أنها ليست ظرفا ، وإنما هى

__________________

(١) الهمع ١ / ١١٦.

(٢) المغنى ص ٤٠٠ والهمع ٢ / ١٣٠.

(٣) المغنى ص ٣٢٩.

(٤) الهمع ١ / ١٢٧.

(٥) المغنى ص ٢٨١ والهمع ١ / ١٢٦.

(٦) المغنى ص ١٦٤ وابن يعيش ٣ / ١٢٢.

١٠٣

اسم كبقية الأسماء المبنية ، فهى فى موضع رفع فى مثل كيف زيد وفى موضع نصب فى مثل كيف كنت (١). وذهب سيبويه إلى أن كلمة «فاه إلى فىّ» فى قولهم «كلمته فاه إلى فىّ» حال بمعنى مشافهة ، وذهب الأخفش إلى أن الكلمة منصوبة على نزع الخافض وأصلها كلمته من فاه إلى فىّ فحذفت من (٢). وكان سيبويه يذهب إلى أن كى المنصوب بعدها المضارع تنصبه بنفسها ، فهى بمنزلة أن المصدرية معنى وعملا ، وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر دائما وأن المضارع بعدها منصوب بأن مقدرة بدليل ظهورها بعدها فى قول الشاعر :

فقالت أكلّ الناس أصبحت مانحا

لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا (٣)

وكان سيبويه يرى أن مثل دخلت الدار والمسجد منصوب على الظرفية ، تشبيها للمكان المختص وهو الدار والمسجد بالمكان غير المختص ، وذهب الأخفش إل أن الفعل هنا ليس لازما وإنما هو متعد بنفسه ، والدار مفعول به (٤). وكان يعدّ «لا سيما» من أدوات الاستثناء ، والجمهور على أن سىّ اسم لا النافية للجنس مبنى على الفتح ، وما بعدها فى مثل «لا سيما زيد» ، إما مجرور بإضافتها إليه واعتبار ما زائدة ، وإما مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وما موصولة بمعنى الذى والتقدير لا سىّ الذى هو زيد ، وإما منصوب على التمييز (٥). وكان يجيز تقديم الحال على الجملة المكونة من ظرف أو جار ومجرور ومبتدأ مثل قائما فى الدار زيد (٦). وجوّز توكيد متعاطفين إذا اتحد معناهما وإن اختلفا لفظا مثل انطلق عمرو وذهب زيد كلاهما (٧). وكان يعرب الجملة التالية لإلا فى مثل «ما مررت بأحد إلا محمد خير منه» نعتا ، وهى عند الجمهور حال من أحد (٨) ، وذهب إلى أن المنصوب بعد حبذا فى «مثل حبذا محمد رجلا» حال لا تمييز (٩). وكان سيبويه يعرب «أىّ» فى يا أيها الناس منادى مبنى على الضم والناس صفة ،

__________________

(١) المغنى ص ٢٢٦.

(٢) المغنى ص ٥٩٣.

(٣) المغنى ص ١٩٩ والهمع ٢ / ٥.

(٤) الهمع ١ / ٢٠٠.

(٥) الهمع ١ / ٢٣٤.

(٦) الهمع ١ / ٢٤٣.

(٧) الهمع ٢ / ١٢٤.

(٨) المغنى ص ٤٧٧.

(٩) المغنى ص ٥١٥.

١٠٤

وذهب الأخفش بعيدا ، إذ أعرب «أى» اسم موصول وجعل الناس خبرا لمبتدأ محذوف ، والجملة صلة ، والتقدير يا من هم الناس (١). وكان يذهب إلى أن مذ ومنذ فى مثل مذ يوم الخميس برفع يوم ومنذ يومان ظرفان وهما خبران لما بعدهما والجمهور على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر (٢). وكان يرى أن ضمة غير فى مثل «ليس غير» ليست ضمة بناء ، وإنما هى ضمة إعراب ، وكان يعربها اسم ليس والخبر محذوف (٣).

ومن المؤكد أن كثيرا من الصور النحوية فى التعبيرات والصيغ أثارها الأخفش لأول مرة ، ونضرب لذلك مثلا ما ذهب إليه النحاة من أن الأفعال المؤثرة إذا وقعت من الفاعل بنفسه لم يجز أن تتعدى إلى ضميره ، فلا يقال كلمتنى أى كلمت نفسى ولا كلمتك أى كلمت أنت نفسك. وإنما لم يجز ذلك لأن هذه الأفعال المتعدية إنما تقع على غير المتكلم وأما أفعال الإنسان بنفسه فالأصل أن لا تتعدى مثل قام وذهب وخرج وانطلق. واستثنى النحاة من هذه القاعدة باب ظن والفعلين : فقد وعدم ، إذ جاء عن العرب ظننتنى وفقدتنى وعدمتنى ، واستثنى النحاة أيضا فعل ضرب ، تقول : ما ضربنى إلا أنا. وهذا الاستثناء جعل الأخفش يثير صورتين من التعبير فى باب الاشتغال لبيان حق المشغول عنه من النصب والرفع ، وهما : «أزيدا لم يضربه إلا هو» و «أزيد لم يضرب إلا إياه» وحاول أن يضع قاعدة عامة بها ننصب ونرفع ، وهى أننا نحمل المشغول عنه على الضمير الذى يمكن أن نستغنى عنه بذكره ، أما فى المثال الأول فإننا لو جعلنا زيدا مكان الهاء فى قولك «أزيدا لم يضرب إلا هو» استقام الكلام لأن ضمير الفاعل ضمير منفصل ، فكأننا قلنا «أزيد لم يضرب إلا عمرا» ولو حملناه على الضمير المتصل فرفعناه صار تقدير العبارة «أزيد لم يضربه» وهى عبارة فاسدة. وبالمثل «أزيد لم يضرب إلا إياه» ينبغى رفع زيد حملا على ضميره الذى فى يضرب ، لأننا إذا قلنا «ألم يضرب زيد إلا إياه» استقام الكلام ، ولو نصبنا زيدا حملا على إياه ، فقلنا «أزيدا لم يضرب إلا إياه» ثم حذفنا

__________________

(١) المغنى ص ٤٧٠.

(٢) المغنى ص ٣٧٣.

(٣) المغنى ص ١٧٠.

١٠٥

الضمير الذى حملنا زيدا عليه صار التقدير «أزيدا لم يضرب» اضطرب الكلام ولم يحصل المراد منه (١). وتحليل الأخفش لهاتين العبارتين هو الذى ألهم ابن مضاء أن يضع قاعدة عامة لباب الاشتغال تريح الناشئة من معرفة الأحكام المعقدة فى نصب المشغول عنه ورفعه ، وهى تتلخص فى أن الاسم المتقدم إذا عاد عليه ضمير منصوب أو ضمير متصل بمنصوب كان حقه النصب ، وإن عاد عليه ضمير مرفوع أو متصل بمرفوع كان حقه الرفع (٢).

ونستطيع أن نلاحظ من كل ما تقدم أن عقل الأخفش كان عقلا خصبا أمدّه بما لا يكاد يحصى من الآراء الجديدة التى خالف فيها ما سجله سيبويه فى كتابه ، وقد فسح للقياس على الأشعار الشاذة التى لا تطّرد مع قوانين أستاذه النحوية ، كما فسح للقراءات واحتجّ بها مهما خالفت قواعد النحو القياسية عند سيبويه. وعلى نحو ما كان يخالف سيبويه فى كثير من مسائل النحو كان يخالفه فى كثير من مسائل الصرف ، من ذلك أن الجمهور كان يمنع اشتقاق صيغة التعجب من غير الفعل الثلاثى ، وجوزها الأخفش من كل فعل مزيد مثل ما أتقنه وما أخطأه ، كما جوّزها من العاهات ، وتبعه فى ذلك الكسائى مثل ما أعوره (٣). والقياس فى جمع مثل فرزدق حذف الرابع فيقال فرازق ، وكان الأخفش ـ وتبعه الكوفيون ـ يجيز حذف الحرف الثالث ، فيقال فى فرزدق فرادق (٤). وكان سيبويه يذهب فى نسب فعولة مثل حمولة إلى حذف التاء والواو فيقال حملىّ ، وذهب الأخفش إلى النسب إليه على لفظه فيقال حمولى ، لما سمع عن العرب من نسبتهم إلى أزد شنوءة شنوئى (٥). وكان سيبويه ينسب إلى مثل بنت بنوىّ كالنسب إلى مذكرها وهو ابن ، وكان الأخفش يحذف التاء ويبقى ما قبلها على سكونه وما قبل الساكن على حركته ، فيقول فى بنت «بنوى» بكسر الباء وسكون النون (٦). وكان سيبويه ينسب إلى شاه شاهى بإبقاء الألف

__________________

(١) انظر شرح السيرافى على سيبويه (مخطوطة دار الكتب المصرية) المجلد الأول الورقة ٤٢٦ وما بعدها.

(٢) راجع كتاب الرد على النحاة لابن مضاء القرطبى (نشر دار الفكر العربى) ص ٣٠.

(٣) الهمع ٢ / ١٦٦.

(٤) الهمع ٢ / ١٨١.

(٥) الهمع ٢ / ١٩٥.

(٦) الهمع ٢ / ١٩٧.

١٠٦

المبدلة فى شاه ، وكان الأخفش يرد الألف إلى أصلها الواوى فيقول «شوهىّ» (١). وكان الأخفش يخالفه أيضا فى وزن بعض الكلمات المزيدة ، من ذلك أن سيبويه كان يذهب إلى أن وزن هجرع (الطويل) وهبلع (الأكول) فعلل ، وذهب الأخفش إلى أن وزنهما هفعل بزيادة الهاء فيهما قائلا إن الأولى مشتقة من الجرع أى المكان السهل والثانية مشتقة من البلع (٢). وبالمثل كان يخالفه هو وجمهور البصريين فى مسائل من الإبدال والقلب والحذف ، من ذلك بناء أإم ، فالجمهور يبنيها «أيمّ» ، بقلب الهمزة الثانية ياء لمناسبة حركتها ، ومذهبه إبدالها واوا لمناسبة حركة ما قبلها فتقول أوم ، وكان دائما يبدل الهمزة المكسورة بعد ضم واو أو المضمومة بعد الكسرة ياء (٣). ومرّ بنا أن الخليل وسيبويه كانا يريان أن واو اسم المفعول فى مثل مقول ومبيع هى المحذوفة ، فوزن الكلمتين عندهما مفعل ومفعل ، وكان الأخفش يذهب إلى أن عين الصيغة هى المحذوفة ، فوزن الكلمتين عنده مفول (٤). وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن الهاء فى مثل إقامة وإرادة من أقمت وأردت عوض عن ألف إفعال الزائدة ، إذ المصدر منها أصله إقوامة وقلبت الواو ألفا ، وذهب الأخفش إلى أن الهاء عوض من عين إفعال ، فالمحذوف فى صيغة إفعالة ، مثل إرادة ، عينها ، بينما كان يرى سيبويه والخليل أن العين بقيت وقلبت ألفا وحذفت الألف الزائدة ، لأن الزائد هو الأولى بالحذف (٥). وكان الخليل ـ وتبعه سيبويه ـ يرى أن وزن أشياء لفعاء كما مرّ بنا ، ولذلك منعت من الصرف ، وذهب الأخفش إلى أن كلمة شىء جمعت على أشياء كأفعلاء ثم خفّفت فصارت أشياء على وزن أفعاء (٦).

وعلى هذا النحو كان الأخفش كثير الخلاف لسيبويه والقواعد النحوية

__________________

(١) الهمع ٢ / ١٩٦.

(٢) المنصف شرح تصريف المازنى لابن جنى (طبع القاهرة) ١ / ٢٦ والرضى على الشافية ٢ / ٣٨٥ وانظر الكتاب ٢ / ٣٣٥.

(٣) الهمع ٢ / ٢٢٠.

(٤) الخصائص ٢ / ٣٠٥ ، ٣ / ٧٤ والمنصف ١ / ٢٨٧ والمغنى ص ٦٨٦ والأشباه والنظائر للسيوطى ١ / ٤٠.

(٥) الخصائص ٢ / ٣٠٥ والمنصف ١ / ٢٩٣ والمغنى ص ٦٨٦ والأشباه والنظائر للسيوطى ١ / ٤٠ ، ١١٩.

(٦) المنصف ٢ / ٩٤ وما بعدها والإنصاف ص ٣٤٢.

١٠٧

والصرفية المبثوثة فى كتابه ، وهو خلاف بناه كما قلنا آنفا على خصب ملكاته وسعة معرفته بلغات العرب وقراءات الذكر الحكيم وقدرته على النفوذ فى حقائق اللغة التفصيلية إلى كثير من الآراء الطريفة ، حتى ليصبح إمام الخلاف فى النحو والصرف ومسائلهما وحتى ليعدّ فى قوة إلى ظهور لا المدرسة الكوفية وحدها ، بل جميع المدارس التالية.

٢

قطرب (١)

هو محمد بن المستنير ، بصرى المولد والمربى ، وقد أقبل مبكرا على دراسة اللغة والنحو ، ولزم سيبويه ، ويقال إنه هو الذى سماه قطربا إذ كان يبكّر للأخذ عنه ، حتى كان سيبويه كلما خرج من داره سحرا رآه ببابه فقال له يوما مداعبا : «ما أنت إلا قطرب ليل» فثبتت الكلمة عليه ولصقت به ، والقطرب دويّبة تدبّ ولا تفتر. وليس بين أيدينا ما يدل دلالة قاطعة على أنه تتلمذ للأخفش ، غير ما يروى من أنه أخذ عن جماعة من العلماء البصريين ، ونظن ظنّا أنه أخذ عن الأخفش ، لأنه كما قدمنا كان الطريق إلى كتاب سيبويه بعده ، وعنه حمله العلماء ، وطبيعى أن يحمله عنه قطرب فيمن حملوه ، ما دام قد عنى بالنحو والتقدم فيه ، بل لقد اتخذه حرفة وأداة لتكسبه فى تعليم أبناء الطبقة الممتازة ببغداد. وذاعت شهرته فى ذلك فاتخذه الرشيد مؤدبا لابنه الأمين ، وقرّبه منه أبو دلف العجلى أحد قواد الرشيد والمأمون النابهين واتخذه مؤدبا لأولاده ، وظل يعنى بتأديبهم إلى وفاته سنة ٢٠٦ للهجرة. وله فى النحو والصرف كتب مختلفة ، منها كتاب العلل فى النحو وكتاب الاشتقاق فى

__________________

(١) انظر فى ترجمة قطرب أبا الطيب اللغوى ص ٦٧ والسيرافى ص ٤٩ والزبيدى ص ١٠٦ والفهرست ص ٨٤ ونزهة الألباء ص ٩١ ومعجم الأدباء ١٩ / ٥٢ وابن خلكان فى محمد وتهذيب اللغة للأزهرى ١ / ١٤ وتاريخ بغداد ٣ / ٢٩٨ وإنباه الرواة ٣ / ٢١٩ وشذرات الذهب ٢ / ١٥ ومرآة الجنان ٢ / ٣٠٠ ولسان الميزان لابن حجر ٥ / ٣٧٨ وبغية الوعاة ص ١٠٤.

١٠٨

التصريف ، وصنف بجانب ذلك كتبا متعددة فى اللغة مثل كتاب الأضداد وكتاب خلق الفرس وكتاب خلق الإنسان وكتاب المثلث ، وهو مطبوع ، وكتاب ما خالف فيه الإنسان البهيمة. وكانت له عناية بالذكر الحكيم والحديث النبوى. فألف كتابا فى إعراب القرآن ، وكتابا فى غريب الحديث. وكتابه «الرد على الملحدين فى تشابه القرآن» يدل على صلته بالمعتزلة والمباحث الكلامية.

ولم يصلنا كتاب قطرب فى العلل النحوية ، غير أن الكتب المتأخرة احتفظت ببعض آرائه فيه ، من ذلك تعليله لدخول الإعراب فى الكلام ، وقد مضى يعارض فيه ما ارتآه سيبويه وغيره من النحاة من أنه دخل الكلام فى العربية لبيان الفارق بين المعانى التى يريدها المتكلمون للكلمات إذ تكون فاعلة ومفعولة ومضافة أو مضافا إليها ، يقول (١) :

«لم يعرب الكلام للدلالة على المعانى والفرق بين بعضها وبعض ، لأنا نجد فى كلامهم أسماء متفقة فى الإعراب مختلفة المعانى وأسماء مختلفة فى الإعراب متفقة المعانى ، فمما اتفق إعرابه واختلف معناه قولك إن زيدا أخوك ، ولعل زيدا أخوك ، وكأن زيدا أخوك ، اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك : ما زيد قائما (أى فى لغة الحجازيين) وما زيد قائم (أى فى لغة بنى تميم) اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان ولا مال عندك ولا مال عندك ، وما فى الدار أحد إلا زيد وما فى الدار أحد إلا زيدا. ومثله إن القوم كلّهم ذاهبون وإن القوم كلّهم ذاهبون ، ومثله (إن الأمر كلّه لله) و (إن الأمر كلّه لله) قرئ بالوجهين جميعا ، ومثله ليس زيد بجبان ولا بخيل ، وليس زيد بجبان ولا بخيلا. ومثل هذا كثير جدّا مما اتفق إعرابه واختلف معناه ، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدلّ عليه لا يزول إلا بزواله. وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف ، فلو جعلوا وصله بالسكون

__________________

(١) الزجاجى ص ٧٠

١٠٩

أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل وكانوا يبطئون عند الإدراج ، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام ، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن ومتحركين وساكن ، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة ، لأنهم فى اجتماع الساكنين يبطئون وفى كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب المهلة فى كلامهم ، فجعلوا الحركة عقب الإسكان. وقيل له : فهلا لزموا حركة واحدة؟ فقال : لو فعلوا ذلك لضيّقوا على أنفسهم ، فأرادوا الاتساع فى الحركات وأن لا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة».

وعلى نحو ما علل لاختلاف حركات الإعراب بالاتساع فى الكلام علّل لظاهرة الترادف فى اللغة بنفس العلة ، إذ يقول : «إنما أوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد ليدلوا على اتساعهم فى كلامهم ، كما زاحفوا فى أجزاء الشعر ليدلوا على أن الكلام واسع عندهم وأن مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب» (١).

ولم يكن يعنى بالخلاف على سيبويه والخليل فى آرائهما النحوية والصرفية عناية الأخفش ، ومع ذلك نجد له طائفة من الآراء خالفهما فيها معا أو خالف أستاذه سيبويه وحده ، أو خالف الأخفش. ومن هذه الآراء ما كان يذهب إليه من أن حركات الإعراب المسماة بالرفع والنصب والجر والجزم هى نفسها حركات البناء المسماة بالضم والفتح والكسر والوقف أو السكون ، ولا بأس من إطلاق كل منها على مقابلها فى الحالتين ، فيقال للرفع فى الكلمات المعربة الضم ، ويقال للضم فى الكلمات المبنية الرفع ، وهلم جرا (٢). ومرّ بنا أن الخليل وسيبويه كانا يريان أن إعراب المثنى والجمع المذكر إنما هو بحركات مقدرة فى الألف والواو والياء ، وأن الأخفش كان يرى أن إعرابهما بحركات مقدرة فيما قبل الألف والواو والياء أى على الدال فى مثل الزيدان والزيدين والزيدون والزيدين ، وذهب قطرب إلى إن إعرابهما بنفس هذه الحروف ، إذ مثلها مثل حركات

__________________

(١) المزهر ١ / ٤٠٠.

(٢) الهمع ١ / ٢٠.

١١٠

الإعراب فى مفردها تتغير بتغير مواقع الكلمات وعواملها فى العبارات (١). ومرّ بنا أيضا أن سيبويه كان يرى أن الأسماء الخمسة : أباك وأخواتها معربة بحركات مقدرة فى حروف الواو والألف والياء رفعا ونصبا وجرّا ، وكان الأخفش يرى أنها معربة بحركات مقدرة على ما قبل الواو والألف والياء أسوة برأيه فى المثنى والجمع ، وذهب قطرب ، كما ذهب فى الجمع والمثنى ، إلى أن هذه الأحرف نفسها هى الإعراب ، وكأنها نابت فيها عن الحركات (٢).

ولقطرب وراء ذلك آراء فرعية ، تتداولها كتب النحاة ، منها أن واو العطف تفيد الترتيب ، لأن الترتيب فى اللفظ ، إذا قلت مثلا جاء زيد وعمرو ، يستدعى سببا ، وهو الترتيب فى المجىء (٣). وكان يذهب إلى أنه قد تأتى إن بمعنى قد مستدلا بقوله تعالى : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى)(٤). وذهب فى إعراب لا جرم فى قوله جلّ وعزّ : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) إلى أن لا ردّ لما قبلها ، أى ليس الأمر كما وصفوا. ثم ابتدئ ما بعده ، وجرم فعل لا اسم ، ومعناه وجب ، وما بعده فاعل (٥).

٣

أبو عمر (٦) الجرمىّ

هو صالح بن إسحق ، مولده ومنشؤه بالبصرة ، وقد دأب منذ صغره على الاختلاف إلى حلقات علماء البصرة من النحاة واللغويين. ويقال إنه لم يلق

__________________

(١) الإنصاف ص ١٣ وأسرار العربية ص ٥١ والهمع ١ / ٤٧.

(٢) الهمع ١ / ٣٨.

(٣) المغنى ص ٣٩٢ والهمع ٢ / ١٢٩.

(٤) المغنى ص ٢٢.

(٥) المغنى ص ٢٦٣.

(٦) راجع ترجمته فى أبى الطيب اللغوى ص ٧٥ والسيرافى ص ٧٢ والزبيدى ص ٧٦ ونزهة الألباء ص ١٤٣ والأنساب للسمعانى الورقة ١٢٨ وتاريخ بغداد ٩ / ٣١٣ والفهرست ص ٩٠ ومعجم الأدباء ١٢ / ٥ وإنباه الرواة ٢ / ٨٠ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٣٣٢ وشذرات الذهب ٢ / ٥٧ ومرآة الجنان لليافعى ٢ / ٩٠ وخزانة الأدب للبغدادى ١ / ١٧٨ وبغية الوعاة ص ٢٦٨.

١١١

سيبويه ، غير أنه لزم الأخفش وأخذ عنه كل ما عنده. ويزعم بعض الرواة أنه هو وزميله المازنى خشيا بعد وفاة سيبويه وحمل الأخفش لكتابه أن يدعيه لنفسه ، وكان الجرمى موسرا ، فعرض عليه شيئا من المال ليقرأ هو وصاحبه عليه الكتاب ، وأجابه إلى طلبه ، فأخذا الكتاب عنه وأشاعاه فى الناس. ويقول المبرد : عليه قرأت جماعة النحاة. ويذكر أنه قدم أصبهان مع فيض بن محمد عند منصرفه من الحج ، فأعطاه يوم مقدمه عشرين ألف درهم ، وكان يعطيه كل سنة اثنى عشر ألفا. ونزل بغداد فى أوائل العقد الأول من القرن الثانى للهجرة ، واختلف إليه الطلاب يحاضرهم فى كتاب سيبويه ويملى عليهم بعض مصنفاته ، وظل بها إلى وفاته سنة ٢٢٥ للهجرة. وله فى النحو والصرف كتب مختلفة ، من أهمها كتاب المختصر فى النحو وكتاب الأبنية ، وصنّف فى العروض. وعنى بكتاب سيبويه ، فألف فى غريبه كتابا ، وألف فى شواهده الشعرية كتابا آخر نسب فيه الشواهد التى فاتت سيبويه نسبتها فى الكتاب إلى أصحابها ما عدا خمسين شاهدا لم يقف على قائليها. وكان علماء النحو فى عصره وبعده عصره يتداولون كتبه ، وشرحوا كتابه المختصر مرارا.

وكان الجرمىّ لسنا قوى الحجة ، عالى الصوت فى مناظرته ، ولذلك سمى النّبّاج أى شديد الصياح ، ويقال إنه تعرض للأصمعى فسأله كيف تصغّر مختارا ، فقال الأصمعى مخيتير ، فقال له الجرمى : أخطأت ، إنما هو ، مخيّر لأن التاء فيه زائدة. وحين نزل بغداد ناظر الفرّاء مناظرة دوّت شهرتها فى الأوساط النحوية ، وكان موضوعها ما يراه سيبويه من أن العامل فى المبتدأ هو الابتداء وما يراه الفراء وغيره من الكوفيين من أن العامل فى المبتدأ هو الخبر ، والمناظرة مروية على هذه الصورة (١) :

«اجتمع أبو عمر الجرمى وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ، فقال الفراء للجرمى : أخبرنى عن قولهم : زيد منطلق لم رفعوا زيدا؟ فقال له الجرمى : بالابتداء ،

__________________

(١) راجع فى هذه المناظرة نزهة الألباء ص ١٤٥ وهامش إنباه الرواة ٢ / ٨٣.

١١٢

فقال له الفرّاء : وما معنى الابتداء؟ فقال الجرمى : تعريته من العوامل اللفظية ، قال له الفراء : فأظهره ، فقال : هذا معنى لا يظهر ، يريد أنه عامل معنوى ، قال له الفراء : فمثّله ، قال الجرمى : لا يتمثّل ، قال الفراء : ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثّل. فقال الجرمى : أخبرنى عن قولهم : زيد ضربته بم رفعتم زيدا؟ قال الفراء : بالهاء العائدة على زيد (لأن الخبر عنده إذا لم يكن اسما رفع المبتدأ الضمير المتصل بالفعل). فقال الجرمى : الهاء اسم فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء : نحن لا نبالى من هذا فإنا نجعل كل واحد من المبتدأ والخبر عاملا فى صاحبه فى نحو زيد منطلق. فقال له الجرمى : يجوز أن يكون كذلك فى زيد منطلق ، لأن كل واحد من الاسمين مرفوع فى نفسه ، فجاز أن يرفع الآخر ، وأما الهاء فى ضربته فهى فى محل نصب فكيف ترفع الاسم؟(يريد أن فاقد الشىء لا يعطيه لغيره). فقال الفراء : لم نرفعه به وإنما رفعناه بالعائد (أى الضمير بصفته عائدا عليه لا بصفته منصوبا). فقال له الجرمى : وما العائد؟ فقال الفراء : معنى ، فقال الجرمى : أظهره ، فقال لا يظهر ، فقال له مثّله ، فقال : لا يتمثل. فقال له الجرمى : لقد وقعت فيما فررت منه». وبذلك أسكته.

والجرمى يريد أن الفراء انتهى بعامل المبتدأ فى مثل زيد ضربته إلى أنه عامل معنوى ، وغاية ما هنالك أنه تارة يجعله لفظيّا فى مثل زيد منطلق وتارة يجعله معنويّا كما فى المثال الآنف ، وبذلك يلتقى برأى سيبويه القائل بأن العامل معنوى دائما ، ومن هنا أفحم الفراء وألزمه الحجة.

وتدور فى الكتب النحوية طائفة من آراء الجرمى تدل على دقة فكره وغوصه على المعانى ، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن إعراب المثنى والجمع المذكر ليس لفظيّا وإنما هو معنوى ببقاء الألف فى المثنى والواو فى الجمع رفعا وانقلابهما إلى الياء نصبا وجرّا ، وبذلك أنكر الإعراب الظاهر عند سيبويه والمقدر عند الأخفش على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع (١). وذهب المذهب نفسه فى

__________________

(١) الإنصاف ص ١٣ وأسرار العربية ص ٥٢ والزجاجى ص ١٤١ والهمع ١ / ٤٨.

١١٣

إعراب الأسماء الخمسة ، إذ قال إن إعرابها إنما هو بالتغير والانقلاب من الواو إلى الألف والياء فى حالتى النصب والجر وبعدم هذا الانقلاب فى حالة الرفع (١). وسيبويه والجمهور على أن اسم لا النافية للجنس إذا كان مفردا ركّب معها وبنى على الفتح مثل لا رجل ، وذهب الجرمى إلى أنه معرب وحذف منه التنوين تخفيفا (٢). وكان يرى أن المفعول لأجله لا يكون إلا نكرة ، وإذا جاء مضافا كانت الإضافة على نية الانفصال فمثل ادخاره فى قول بعض الشعراء : «وأغفر عوراء الكريم ادّخاره» تقديرها ادخارا له (٣) ، وكذلك إذا جاءت معه أداة التعريف مثل قول أحد الشعراء : «لا أقعد الجبن عن الهيجاء» كانت زائدة أى جبنا (٤). وكان يذهب إلى أن الفاء العاطفة لا تفيد ترتيبا فى المطر والأماكن مستدلا على ذلك بقول امرئ القيس فى مطلع معلقته :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل (٥)

وكان سيبويه يذهب إلى أن الفعل المضارع بعد أو ينتصب بأن مضمرة ، وذهب الجرمى إلى أنه ينتصب بأو نفسها (٦). وكذلك كان يمنع تقدير أن مع المضارع المنصوب بعد فاء السببية وواو المعية ، على نحو ما ذهب إلى ذلك سيبويه ، قائلا : إنهما تنصبان المضارع بأنفسهما دون حاجة إلى تقدير (٧). ولعل فى ذلك ما يدل على أنه كان يأبى التعقيد فى النحو وكثرة التقديرات ، ومما يؤكد ذلك عنده أنه كان يمنع التنازع فى الأفعال التى تتعدى إلى مفعولين أو ثلاثة ، ذاهبا إلى أنه ينبغى أن يقتصر فى الباب على السماع والقياس عليه دون الإتيان بصور معقدة لم يرد لها مثيل عن العرب (٨) ، فإن فى ذلك تكلفا وإيغالا فى تمرينات لا تفيد فى تعلم العربية ، وإن كان النحاة لم يستمعوا إلى رأيه فقد مضوا يطبقون الباب فى ظن وأخواتها وأعلم وأخواتها ، مما كان سببا فى أن يحمل عليهم ابن مضاء ، فى كتابه الرد على النحاة ، حملة شعواء.

__________________

(١) الهمع ١ / ٣٩.

(٢) الهمع ١ / ١٤٦.

(٣) أسرار العربية ص ١٨٨.

(٤) الهمع ١ / ١٩٤.

(٥) الهمع ٢ / ١٣١.

(٦) الهمع ٢ / ١٠.

(٧) الإنصاف ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٨) الهمع ٢ / ١١١.

١١٤

وللجرمى بجانب ذلك بعض آراء صرفية خالف فيها سيبويه ، منها أن سيبويه كان يرى أن وزن «كلتا» فعلى مثل ذفرى ، وذهب الجرمى إلى أن التاء فيها زائدة وأن وزنها لذلك فعتل (١). وكان سيبويه يذهب كما أسلفنا ، إلى أن كلمة اطمأنّ مقلوبة عن طأمن ، وذهب الجرمى إلى العكس وأن كلمة طأمن هى المقلوبة عن طمأن (٢). ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل على دقة عقله وسعة ذهنه.

٤

أبو عثمان (٣) المازنى

هو بكر بن محمد بن بقية من بنى مازن الشيبانيين ، من أهل البصرة ، بها مولده ومرباه ، وأكبّ منذ صباه على حلقات النحاة واللغويين البصريين كما أكبّ على حلقات المتكلمين ، ولزم الأخفش ، وأخذ عنه كتاب سيبويه ، حتى إذا توفّى هو والجرمى أصبح علم البصرة المفرد فى النحو والتصريف. ويقال إنه ورد بغداد فى عهد المعتصم وأخذ عنه كثيرون ، وعاد إلى موطنه ، وحدث أن جارية بصرية بيعت للواثق فغنّته يوما :

أظليم إنّ مصابكم رجلا

أهدى السّلام إليكم ظلم

فردّ بعض الحاضرين ـ وهو التّوّزى العالم اللغوى المعروف ـ عليها نصبها رجلا ، وظنّ أنه خبر إن ، وإنما هو مفعول به للمصدر «مصابكم» أى إصابتكم ، وظلم فى آخر البيت خبر إن. فقالت الجارية : لا أقبل هذا ولا أغيّره ، وقد قرأته بهذه الصورة على أعلم الناس بالبصرة أبى عثمان المازنى ، فأمر الواثق بإحضاره ،

__________________

(١) الخصائص ١ / ٢٠٣ وسر صناعة الإعراب ١ / ١٦٨.

(٢) الخصائص ٢ / ٧٤ والمنصف ٢ / ١٠٤.

(٣) انظر فى ترجمة المازنى أبا الطيب اللغوى ص ٧٧ والسيرافى ص ٧٤ والزبيدى ص ٩٢ ونزهة الألباء ص ١٨٢ وتاريخ بغداد ٧ / ٩٣ والأنساب الورقة ٥٠٠ وابن خلكان فى بكر ومعجم الأدباء ٧ / ١٠٧ وإنباه الرواة ١ / ٢٤٦ والفهرست ص ٩٠ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ١٧٩ وشذرات الذهب ٢ / ١١٣ وبغية الوعاة ص ٢٠٢.

١١٥

فلما دخل عليه «بسرّ من رأى» أمر بإحضار التّوزى وكان قد قال ، كما أسلفنا آنفا ، إن رجلا خبر إن. فقال له المازنى : كيف تقول «إن ضربك زيدا ظلم» فقال التوزّى : حسبى ، وأدرك خطأه. وانصرف المازنى إلى البصرة وكتب الواثق إلى عاملها أن يرسم له مائة دينار كل شهر. واتصلت أسباب المازنى بعد الواثق بالمتوكل ، ونال جوائزه. ويجمع القدماء على أنه كان أعظم النحاة فى عصره ، وقد عاش يدرس لطلابه كتاب سيبويه ، وصنّف حوله تعليقات وشروحا ، منها تفاسير كتاب سيبويه والديباج فى جوامع كتاب سيبويه. وألف فى علل النحو كتابا ، وخصّ التصريف بكتاب شرحه ابن جنى سماه المنصف ، وقد طبع بالقاهرة. ومن مصنفاته كتاب ما يلحن فيه العامة وكتاب الألف واللام وكتاب العروض وكتاب القوافى. واختلف فى سنة وفاته والراجح أنها كانت سنة ٢٤٩ للهجرة.

وكان المازنى فطنا ذكيّا ومناظرا ألمعيّا ، وعقد له الواثق والمتوكل مناظرات بينه وبين علماء عصره ظهر فيها فضله وخصب عقله وقوة ذهنه وملكاته ، مما جعله يفحم مناظريه دائما بالحجج القاطعة ، ويقال إن الواثق جمع بينه وبين جماعة من نحاة الكوفة ، فبادرهم سائلا : ما تقولون فى قول الله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) لم لم يقل بغية وهى صفة لمؤنث؟ فأجابوا إجابات غير مرضية ، ولما عيّوا بالإجابة قال : لو كانت «بغىّ» على تقدير فعيل بمعنى فاعلة للحقتها الهاء مثل كريمة وظريفة ولو كانت بمعنى مفعولة منعت الهاء مثل امرأة قتيل وكفّ خضيب. غير أن «بغى» ليست على وزن فعيل ، وإنما هى على وزن فعول ، والهاء لا تلحقه إذا كان وصفا لمؤنث مثل امرأة شكور ، وأصل بغى بغوى قلبت الواو ياء ، وأدغمت فى الياء ، فصارت ياء ثقيلة مثل سيد وميت. وطلب إليه المتوكل أن يتناقش مع ابن السكيت فى مسألة ، فسأله المازنى ما وزن (نكتل) الواردة فى سورة يوسف ، فأجاب ابن السكيت وزنها نفعل ، وراجعه فقال نفتعل ، ولما رأى المازنى خطأه البيّن قال له إن أصلها نكتال من كال ، وحذفت العين أو الألف لسكون الجزم ، فأصبحت نكتل على وزن نفتل.

وله آراء طريفة كثيرة يتناقلها النحاة ، نسوق منها رأيه الذى استضاء فيه بأستاذه الأخفش ، إذ كان يذهب مثله إلى أن ألف الاثنين فى قاما وواو الجماعة

١١٦

فى قاموا ليستا فاعلين وإنما هما علامتان دالتان على الفاعل المستتر ، تؤذنان بالتثنية والجمع (١). وذهب مثل أستاذه نفس المذهب فى الألف والواو والياء فى المثنى وجمع المذكر السالم إذ كان يرى أن هذه الحروف ليست حروف الإعراب إنما هى دالة عليه (٢). وكان يذهب مذهب أستاذه فى إذا الفجائية وأنها حرف ، غير أنه كان يضيف أن الفاء قبلها فى مثل «خرجت فإذا محمد بالباب» زائدة ، بينما كان يرى الزيادى معاصره أنها دخلت على حدّ دخولها فى جواب الشرط ، ورأى المازنى أكثر دقة لأن إذا والفاء جميعا تقعان فى جواب الشرط ، وتغنى كل منهما عن الأخرى ، مثل (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) وإذا كان الموضع يشبه موضع جواب الشرط كما قال الزيادى فالأحرى أن تكون الفاء زائدة ، لأن إذا تغنى عنها (٣). وكان مثل زميله الجرمى يجيز تقديم التمييز على عامله فى مثل تصبب زيد عرقا لمجيئه فى قول الشاعر : «وما كاد نفسا بالفراق تطيب» (٤) ، إذ قدم الشاعر نفسا على تطيب. وكان سيبويه يحتم الرفع فى مثل الرجل التالى لأى فى النداء فى قولك يا أيها الرجل لأن كلمة الرجل هى المقصودة بالنداء وإنما جاءت أى واسطة بينها وبين حرف النداء لأنها معرفة بالألف واللام ، وذهب المازنى إلى أنه يجوز فيها النصب كما جاز فى نعت المنادى المفرد فى مثل يا زيد الظريف (٥). وكان ينكر النكرة غير المقصودة فى النداء فى مثل يا رجلا خذ بيدى يقولها الأعمى (٦).

ومن آرائه أن كلمة «مثل ما» فى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) إنما هى اسم واحد بنيت فيه مثل على الفتح وهى مع ما فى موضع رفع نعت لحق وهما مضافان إلى أن وما بعدها (٧). وكان يذهب إلى أن بعض أسماء الأفعال

__________________

(١) انظر المغنى ٢ / ٢٤٤ ، ٣٠٥ ، ٣٧٠ ٣٧٣ ، ٤٠٤ ، ٤١٠ وانظر ص ٤١٣ حيث ينص ابن هشام على أنه كان يرى أن ياء المخاطبة فى تقومين وقومى حرف تأنيث والفاعل مستتر وكذلك كان يرى أن نون النسوة فى مثل قمن حرف تأنيث والفاعل مستكن أو مستتر. وانظر الرضى على الكافية ٢ / ٨.

(٢) الزجاجى ص ١٣٠ ، ١٤١ والرضى على الكافية ١ / ٢٦ ، ٢ / ٨.

(٣) الخصائص ٣ / ٣٢٠ وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٦٢ وما بعدها والمغنى ص ١٨٠.

(٤) أسرار العربية ص ١٩٦ والهمع ١ / ٢٥٢.

(٥) اسرار العربية ص ٢٢٩.

(٦) الهمع ١ / ١٧٣.

(٧) الخصائص ٢ / ١٨٢.

١١٧

منصوبة بأفعال مضمرة ، على أنها مفعولات مطلقة ، فهيهات وشتان مثلا مفعولان مطلقان لفعل محذوف والتقدير بعد ، وكأن معناهما بعدا (١).

وذهب إلى وجوب بناء جمع المؤنث السالم على الفتح مع لا النافية للجنس مثل لا مطيعات لك بفتح التاء (٢). وكان يرى أن الواو والياء والألف فى الأسماء الخمسة : أبيك وأخواتها نشأت عن إشباع الحركات السابقة لها ، وإذن فإعرابها إنما هو بتلك الحركات ، فمثل جاء أبوك تعرب أبوك فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة والواو إشباع (٣) ، وهو رأى طريف. وكان يذهب إلى أن المضارع حين يجزم لا يكون معربا ، بل يكون مبنيّا ، إذ إعرابه قائم ـ كما قال سيبويه ـ على وقوعه موقع الاسم ، ولما كان الاسم يمتنع وقوعه فى موضع جزمه فقد ذهبت عنه علة الإعراب وعاد إلى الأصل فى الفعل وهو البناء ، فهو فى نحو لم تقم وإن تقم أقم مثل الأمر مبنى على السكون لا مجزوم (٤).

وكان سيبويه يذهب إلى أن مثل إياك وإياه «إيا» فيه ضمير والكاف والهاء وما يماثلها لواحق ، وكان المازنى يذهب مذهب الخليل فى أن إيا اسم مضمر والكاف والهاء ضمائر مضافة إليها (٥). واختلف النحاة فى أل فى مثل أفلح المتقى ربه فمنهم من جعلها اسم موصول ، وذهب الأخفش إلى أنها حرف تعريف ، أما المازنى فقال إنها موصول حرفى ، ويضعف رأيه أنها لا تؤوّل بمصدر (٦).

وعناية المازنى بالنحو ومسائله لا تقاس فى شىء إلى عنايته بالتصريف ، وقد ألف فيه كتابا وسمه بهذا الاسم ، شرحه ابن جنى كما أسلفنا ، وهو كتاب نفيس جمع فيه موضوعات التصريف المتناثرة فى كتاب سيبويه ونظّمها لأول مرة وصاغها صياغة علمية متقنة إلى أبعد حدود الإتقان ، ونراه يقول بعد إيراده كثيرا من أمثلة (أبنية) الأسماء والأفعال المجردة والمزيدة : «إنما كتبت لك فى صدر هذا الكتاب هذه الأمثلة (الأبنية) لتعلم كيف مذاهب العرب فيما بنت

__________________

(١) الهمع ١ / ١٧.

(٢) الخصائص ٣ / ٣٠٥ والهمع ١ / ١٤٦.

(٣) الإنصاف ص ٦ والهمع ١ / ٣٨.

(٤) الزجاجى ص ٩٤ والإنصاف ص ٢٥٠ وأسرار العربية ص ٣٣٧.

(٥) الهمع ١ / ٦١.

(٦) الهمع ١ / ٨٤.

١١٨

من الأسماء والأفعال ، فإذا سئلت عن مسألة فانظر هل بنت العرب على مثالها فإن كانت بنت فابن مثل ما بنت ... وسأصنع لك من كل شىء من هذا الباب رسما تقيس عليه ما كان مثله» (١) ودائما يقول. «ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب» (٢).

وفى رأينا أنه هو الذى فتح باب التمارين غير العملية فى الصرف على مصاريعه ، كأن يقال : ابن من ضرب على مثال جعفر ، فيقال ضربب ، أو ابن منها على مثال قمطر فيقال ضرب (٣) ، أو ابن منها على مثال سفرجل فيقال ضربّب ، وتقول من علم على نفس الوزن علمّم ومن ظرف ظرفّف (٤).

وكان يتشدّد فى الأخذ بالقياس ويردّ ما لا يطّرد معه من لغة العرب ومن بعض القراءات للذكر الحكيم ، ومن خير ما يصور ذلك عنده ردّه لقراءة نافع معايش بالهمز فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فقد كان يقرأ معايش معائش بالهمز ، والقياس فيها الياء. ونراه يعرض لتلك القراءة على هدى ما أثاره فيها الفراء على نحو ما سنصور ذلك فى الفصل الخاص به ، يقول : «فأما قراءة من قرأ من أهل المدينة معائش بالهمز فهى خطأ فلا يلتفت إليها ، وإنما أخذت عن نافع بن أبى نعيم ولم يكن يدرى ما العربية (علم النحو) وله أحرف يقرؤها لحنا نحوا من هذا ، وقد قالت العرب : مصائب ، فهمزوا وهو غلط .. وكأنهم توهموا أن مصيبة على مثال فعيلة ، فهمزوها حين جمعوها كما همزوا جمع سفينة سفائن ، وإنما مصيبة مفعلة من أصاب يصيب وأصلها مصوبة ، فألقوا حركة الواو على الصاد ، فانكسرت الصاد وبعدها واو ساكنة ، فأبدلت ياء للكسرة قبلها ، وأكثر العرب يقول مصاوب فيجىء بها على القياس» (٥). وإنما منع أن تجمع معيشة على معائش بالهمز لأن حرف اللين عين الكلمة إذ هى من عاش ، وحرف اللين إنما يقلب همزة إذا كان مزيدا على حروف الكلمة مثل رسالة ورسائل وعجوز

__________________

(١) المنصف ١ / ٩٥.

(٢) الخصائص ١ / ٣٥٧.

(٣) المنصف ١ / ١٧٣.

(٤) المنصف ١ / ١٧٥.

(٥) المنصف ١ / ٣٠٧.

١١٩

وعجائز وصحيفة وصحائف.

وخالف سيبويه فى كثير من مسائل التصريف عن بصيرة إذ كان يقول : «إذا قال العالم قولا متقدما فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج لخلافه إن وجد إلى ذلك سبيلا» (١). ونحن نعرض بعض خلافاته مع سيبويه وأستاذه الخليل. من ذلك أن الخليل كان يرى أن وزن دلامص أى الأملس البراق على مثال فعامل بزيادة الميم على حروفها الأصلية لقول العرب : دليص ودلاص ، وذهب المازنى إلى أن وزنها فعالل أى أن الميم أصلية فى بنائها ، وزكّى ابن جنى رأى الخليل لمجىء دليص بمعناها عن العرب (٢). وكان الخليل يرى أن خطايا وما يماثلها قلبت لامها فى مفردها وهى الهمزة فى خطيئة موضع الياء ، إذ كانت فى أصل جمعها خطايىء فقلبت الهمزة فى خطيئة موضع الياء ، إذ كانت فى أصل جمعها خطايىء فقلبت الهمزة فى موضع الياء ، فصارت خطائى ، فأبدلت الكسرة فتحة وأعلّت الياء فقلبت ألفا وقلبت الهمزة التى تطرفت ياء فصارت خطايا على وزن فعالى. وذهب المازنى إلى أن خطايا وما يشاكلها مثل رزايا على وزن فعائل ، لأنك تهمز ياءها فى المفرد حين تجمعها كما تهمز ياء قبيلة وسفينة فتقول قبائل وسفائن ، كذلك تقول خطائئ بهمزتين ، وتقلب الثانية ياء فتصير خطائى ، ثم تبدل مكان الياء ألفا فتصبح خطاءا ، والهمزة قريبة المخرج من الألف ، فكأنك جمعت بين ثلاث ألفات ، مما جعلهم يبدلون الهمزة ياء ، وبذلك صارت خطايا (٣). وذهب الخليل إلى أن حذف عين الفعل «استحيى» بحيث أصبح استحى إنما هو لالتقاء الساكنين فى مثل استحييت ، ورأى المازنى أنها لو حذفت لهذه العلة لوجب رجوعها حين تحرّك اللام بالضمة ويزول سكونها ، فتصبح يستحىّ ، وفى رأيه أن عين استحيى إنما حذفت تخفيفا لكثرة الاستعمال (٤). وكان سيبويه يرى أن صيغة فعلّل الخماسية لا تكون إلا صفة ، وذهب المازنى إلى أنها تكون صفة واسما (٥). وذهب سيبويه إلى أن كلمة أشدّه فى قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) جمع شدّة كنعمة وأنعم ، وذهب المازنى إلى أنها اسم جمع لا واحد له (٦). وكان سيبويه يرى أن لا يردّ المحذوف

__________________

(١) الخصائص ١ / ١٩٧.

(٢) المنصف ١ / ١٥١.

(٣) المنصف ٢ / ٥٤ ـ ٥٧.

(٤) المنصف ٢ / ٢٠١.

(٥) المنصف ١ / ٣٠ وقابل بالكتاب ٢ / ٣٤١

(٦) الخصائص ١ / ٨٦.

١٢٠