أضواء على دعاء كميل

المؤلف:

عز الدين بحر العلوم


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

والملاحظ على هذه الآيات الكريمة أنها مطلقة تشمل كل مذنب صدر عليه الحكم في يوم القيامة ، ومن هنا نصطدم بمشكلة « الشفاعة » .

فإن القرآن الكريم كما صرحت آياته بعدم التخفيف عن كل مذنب بعد محاسبته كذلك نصت آياته على الاقرار بمبدأ الشفاعة ، وقبول الوساطة ـ على النحو الإِجمالي ـ في التخفيف عن بعض ما يحكم به على المذنبين .

قال تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (١) .

وقال سبحانه : ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (٢) .

وهكذا تتوالى الآيات الكريمة فيقول تعالى :

( لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا ) (٣) .

( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٤) .

( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (٥) .

وأما الأخبار الواردة في الشفاعة ، فهي كثيرة جداً ، وقد ذخرت بها كتب الحديث من كافة المذاهب جاء منها :

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٥٥) .

(٢) يونس : آية (٣) .

(٣) سورة مريم : آية (٨٧) .

(٤) سورة الأنبياء : آية (٢٨) .

(٥) سورة سبأ : آية (٢٣) .

٣٢١
 &

« إن شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي » (١) .

وقوله : « شفاعتي لكل مسلم » (٢) .

وقوله : « اني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة » (٣) .

ولا يسعنا أن نتوسع في النقل لأحاديث الشفاعة وهي ـ كما قلنا ـ من الكثرة بمكان ، ولربما تجاوزت المائة ، وكلها بهذا النحو من البيان الذي عرضنا البعض منها ، ونتعرض الى عرض البعض الآخر في ثنايا البحث .

وإذاً فكيف نجمع بين هذه الآيات الكثيرة ، والأخبار العديدة من جهة ؟ ، وبين الآية في قوله تعالى : ( لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) .

وكذلك ما جاء في الدعاء من قوله : « ولا يخفف عن أهله » من جهة أخرى . ذلك لان الفريق الأول من الآيات ، والروايات يثبت أن للشفيع المكانة في التخفيف عن العذاب والجزاء ، بينما الفريق الثاني يغلق الباب فلا يدع مجالاً لكل تخفيف عما رتب من الجزاء .

ولا بد لنا ، ونحن في صدد الجمع بين هذه الآيات ، والروايات ، والخروج بالحلول لهذه المشكلة من إستعراض الموضوع بشكل من التفصيل فنقول :

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣) لاحظ سنن ابن ماجة : ٢ / (١٤٤١ و ١٤٤٤) ، ومسند أحمد / ٥ / ٣٤٧ .

٣٢٢
 &

الشفاعة تعريفها :

الشفاعة : مصدر شفع . والشفع بالسكون خلاف الوتر . وشفع لي شفاعة ، طلب لي ، وسأل .

فالشفيع : من يطلب الشفاعة ، والتي هي طلب العفو من الله عز وجل الى المذنب . وحيث ينضم الشفيع الى المذنب في الرجاء فمعناه : تقوية جانب من طلبت الشفاعة له ، وبذلك يحصل على ما لم يحصل عليه لو كان وحده (١) .

الحاجة الى الشفاعة :

والشفاعة بهذا المعنى لا مجال لإِنكارها لوجودها بين الناس من القديم بل هي أمر ملازم للسلطة ، والسلطان ، فإن المحكوم عليه مهما كان نوع الحكومة ـ دنيوية ، أو أخروية ـ يتذرع لرفع الحكم عنه ، أو لتخفيفه بمن له المنزلة عند الحاكم من غير فرقٍ بين أن يكون الحاكم هو الله أو من البشر فيكون شفيعاً له في ذلك الأمر .

وجاء الإِسلام ليقر هذا المبدأ ، ولكن بشروط خاصة تظهر لنا من ثنايا البحث .

ولا حاجة لنا للإِستدلال على موضوع الشفاعة ، وإقرارها في الأمور الدنيوية ، وفيما يكون بين البشر في كل مكان يحصل فيه حاكم ، ومحكوم وظالم ، ومظلوم ، فإن تذرع المذنب ، أو من كانت له الحاجة عند الغير الى من له المكانة عند ذلك الغير صاحب النفوذ ، والسلطة أمر لا يقبل الجدل ، والنقاش لان الضعيف

__________________

(١) لسان العرب : مادة / شفع .

٣٢٣
 &

حريص على تقوية جانبه والفرار عما يرتب عليه من جزاء ، أو ما شاكل من الأمور الدنيوية .

نعم : علينا أن نبحث عن الدليل للإِقرار بهذه العملية من جانب الشارع المقدس ، والذي صرحت آيات كتابه المجيد ـ كما بينا ـ بأن المجرمين « لا يخفف عنهم العذاب » ، أو قوله « خالدين في نار جهنم » وغير هذين مما جاء مصرحاً بأن المذنب لا بد له من نيل الجزاء طبقاً لقاعدة العدل والإِنصاف حيث لا يتساوى المذنب مع غيره .

الشفاعة بين الرفض والقبول :

نظراً الى الآيات ، والروايات المتكاثرة ، والتي تنص على مبدأ الشفاعة ، وصلاحية البعض للتشفع في أمر الآخرين نرى الكثير من الفرق الاسلامية تقول بهذا المبدأ ، وتؤمن بان لبعض الذوات ممن لهم المكانة السامية عند الله مثل هذه الصلاحية .

ونستعرض في ضمن البحث لما يعتمد عليه هؤلاء في دعم ما يذهبون اليه في هذا الخصوص .

وفي قبال هؤلاء من ينكر هذه الصلاحيات ، ويذهب الى أن شفيع الانسان عمله . أما التوسل بالصالحين ، ومن لهم المنزلة الكريمة عند الله ، فان ذلك من باب الخروج عن الخط المستقيم الذي ينادي به القرآن الكريم في قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) .

__________________

(١) الحجرات : آية / ١٣ .

٣٢٤
 &

وهكذا ما ورد في كثير من الاحاديث الواردة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أنه : « لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى » (١) .

وغير هذا مما يشعرنا بان العمل هو المقياس في حصول الثواب والعقاب . على ان هناك إشكالات عديدة يتذرع بها القائلون برفض الشفاعة يأتي في مقدمتها :

ان تخفيف العذاب ، أو رفعه عن المذنب بعد الحساب ، والاستحقاق لا يخلو الحال فيه :

فإما أن يكون عدلاً ، أو يكون ظلماً .

فان كان التخفيف عدلاً فلا بد أن يكون الحكم عليه بالعقاب ظلماً ، وهذا لا يجوز نسبته الى الله سبحانه العادل في بريته .

وان كان ظلماً : كان سؤال الشفيع بالتخفيف طلباً للظلم من الله ، وهذا أيضاً لا تصح نسبته الى مثل الانبياء ، والمعصومين ، وهم الصفوة المنزهة من كل عيب ، وذنب . والا لما كان لهم ان يقودوا الأمة ويرشدوا أبناءها الى ما فيه الخير ، والصلاح .

ومن الاشكالات : أن فسح المجال للتشفع في أمر المذنبين مما يفسح المجال لتكرار الجريمة . فان المذنب يجد من وجود الشفيع وسيلة للعود الى ما صدر منه ، وهكذا يذنب ، والشفيع يشفع له . ويلزم من هذا التكرار إضافة لشيوع الجرائم ، وتعددها : الاستهانة بالاحكام الشرعية ، وعدم الحرمة للقوانين ، والانظمة التي يتوخى

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤١١ .

٣٢٥
 &

من ورائها حفظ المجتمع بحفظ أفراده من النزول الى الحضيض . بهذا وأمثاله أشكل القائلون برفض مبدأ الشفاعة .

الرد على القائلين بالرفض :

وبالامكان الرد على هؤلاء القائلين بالرفض بان رفض الشفاعة على نحو رفض هذا المبدأ كلية ، وغلق الباب في وجه كل شفيع أمر تكذبه الآيات ، والروايات المتكاثرة والتي لا مجال للاستهانة بها .

كما أن الأخذ بهذا المبدأ من إطار فتح الباب على مصراعيه ، كما يقولون أمر لا مجال للقول به ، بل لا بد من الأخذ به ولكن على شروط خاصة لا بد من خضوع عملية الشفاعة لها . . . فان تكاملت تلك الشروط أخذت هذه العملية سيرها على مجاريها الطبيعية ، وعند عدم التكامل فالنتيجة هي القول بالرفض . ولمعرفة الشروط المطلوبة لا بد من ملاحظة الاركان التي تتقوم بها هذه القضية من جميع أطرافها ليكون البحث في كل منها على انفراد .

والأركان الأساسية لعملية الشفاعة أربعة ، وهي :

١ ـ المشفِع . ( بالكسر ) .

٢ ـ الشفيع .

٣ ـ المشفع له .

٤ ـ المشفع فيه .

١ ـ المشفع :

المشفِع : بالكسر ، وهو : كل من كان الآخرون محتاجين اليه

٣٢٦
 &

سواءً في دفع عقاب ، أو نيل ثواب ، أو حاجة دنيوية ، أو أخروية .

والمشفِع : في موضوع بحثنا هو : الله عز وجل حيث يتوجه اليه المذنبون ، ويرجو فضله المقصرون ، ويطلب من فيض آلائه العابدون .

كل أولئك يتوجهون اليه ليستزيدوا من فضله ، أو ليدفعوا عنهم ما كتب عليهم من جزاء .

٢ ـ الشفيع :

الشفيع : هو الواسطة بين الطرفين للشفاعة في شيء .

وفيما نحن فيه . . هو الواسطة بين العبد وربه ، بشراً كان ذلك الشفيع ، أم غيره عملاً بمنطوق الآية الكريمة :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (١) .

والوسيلة : هي ما يتقرب به الى الغير .

والاقتصار على كون الوسيلة بشراً ، أو عملاً ، او من الملائكة . . . يتنافى ، واطلاق الآية . لان ظاهرها الأمر بطلب الوسيلة ، وهي : ـ كما قلنا ـ كل سبب يتوصل به الى الله تعالى . . بغض النظر عن نوعية السبب .

ومن هذا المنطلق نقول : بتنوع السبب الرابط بين العبد ، وربه في الشفاعة للتخفيف من ذنوبه ، أو لاستجابة مطالبه ، ولو كانت

__________________

(١) سورة المائدة : آية (٣٥) .

٣٢٧
 &

دنيوية .

واذا لاحظنا السبب الرابط ، والذي هو ـ الشفيع ـ في مصطلحنا لامكن تقسيمه الى قسمين :

١ ـ ما يكون من أعمال الانسان ، ونواياه .

٢ ـ ما يكون من مخلوقات الله من البشر ، أو الملائكة .

١ ـ الشفيع من القسم الأول :

تتعرض الآيات والأخبار الى عرض بعض الأعمال التي تكون سبباً في تخفيف الذنوب ، أو محوها عن المذنبين ومن يطلق على ذلك العمل عنوان ( الشفيع ) .

تقول الآية الكريمة :

( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (١) .

المغفرة : على ما صدر من المذنب من مخالفات نتيجة عدم إنصياعه لأوامره ، ونواهيه .

وأما الأجر : فهو في مقابل ما قدمه ذلك الشخص في حياته من القيام بما كلف به من قبل الشارع المقدس من الاحكام الشرعية .

والمغفرة ، والأجر . . . كان السبب في حصولهما الايمان ، والعمل الصالح واذاً : فهذان العاملان يكونان عنوان « الشفيع » في هذا الوعد التي تصرح به الآية بمنطوقها .

__________________

(١) سورة المائدة : آية (٩) .

٣٢٨
 &

إيمان العبد ، وعمله الصالح شفعاً له في محو ما كتب له من عقاب نتيجة قيامه بالمخالفات ، فعنصر الشفاعة برز لنا من خلال هذه الفقره ( لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

وفي آية أخرى نرى الوسيلة للشفاعة تأتي على شكل آخر ففي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١) .

تقوى الله ، والايمان برسوله فتحاً لمن آمن بالله هذه الآفاق .

١ ـ ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ) .

أي يؤتكم نصيبين من رحمته ، وهو ترغيب للعبد في اطمئنانه بحصوله على الرحمة المضاعفة .

٢ ـ ( وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) .

وهو نور الهداية لتسيروا على ضوئه الى ما يحفظكم من الإِنزلاق في الطريق غير الموصلة الى الله ، والى الجنة .

نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده فلا يحجزه عن الوصول الى الحقيقة شيء .

وبعد كل هذا تأتي منحة الله المفضلة :

٣ ـ ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .

حصول المغفرة هو غاية العبد ، وهو مسبب عن تقوى الله

__________________

(١) سورة الحديد : آية (٢٨) .

٣٢٩
 &

والايمان برسوله ، والذي هو من مكملات تقوى الله . وهذان كونا عنوان ( الشفيع ) في حصول هذه المنحة منه سبحانه لعباده الذين آمنوا .

وقد يقال : ان الآية الكريمة بعد ان منحت العبد المؤمن ذلك النور الموعود ليمشي به في طرق الحق ، ويشخص على ضوئه الهدى من الضلال فما معنى « يغفر لكم » وهل بعد الكفلين من الرحمة والنور الذي ينير القلب ؟

والجواب : أن الانسان مهما علت مكانته ، وهذبت نفسه وآمن بالله فهو ليس بمعصوم كالانبياء ، والمرسلين ، والأئمة المكرمين بل هو إنسان ، وعرضة للزلل ، والخطأ ، والتقصير ، ولذلك فهو دائماً فقير الى رحمته ، وهو محتاج الى عطفه ، ولطفه نتيجة ما يصدر منه من ذنب لعدم عصمته ، ومنعته مهما كان متديناً ، ومحافظاً . وقد جاء عن أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قوله في إحدى خطبه « لا شفيع أنجح من التوبة » (١) .

وفي خطبة أخرى قال « صلوات الله عليه » :

« فاجعلوا طاعة الله . . . شفيعاً لدرك طلبتكم » (٢) .

طاعة الله ، والانقياد الكامل : هو الشفيع لما يريده العبد من مولاه من طلباته أعم من كونها طلبات دنيوية ، او أخروية .

والتوبة ، والعود الى ساحة الله من أضمن الشفعاء بشهادة أمير

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣ / ٢٤٢ .

(٢) نهج البلاغة ٢ / ١٩٩ .

٣٣٠
 &

المؤمنين .

وتقول الآية الكريمة :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١) .

وتتعرض بعض الاخبار الى الاستغفار فتفرده في اعتباره الوسيلة لحصول التوبة .

وفي الحقيقة عندما نستعرض هذه الآيات ، والروايات والتي اعتبرت عمل الانسان ، أو طاعته ، أو تقواه ، او توبته او إستغفاره ، أو إيمانه هو الشفيع لما صدر منه من مخالفات . . . نراها تتضمن معنى آخر غير الشفاعة . ذلك هو أنها تدفع بالانسان أن يتكل على نفسه في مواجهة ربه ، والارتباط به لحل جميع مشاكله ، وإجابة طلباته الدنيوية ، والأخروية ومن أقرب الى العبد من ربه اذا جاءه وهو تائب ، ومتقٍ ، ومطيع ؟

إن الله وهو الرحيم بما تشتمل عليه هذه الكلمة من حنو لا يحتاج الى شفيع يكون وسيلة ورابطاً بينه وبين عبده المذنب لو وجد صدقاً في توبته واخلاصاً في إطاعته ، فهو يعلم أن عبده ليس بمعصوم من الزلل والتقصير لذلك نرى الإِمام في كلمته السابقة يقول : « لا شفيع أنجح من التوبة » .

٢ ـ الشفيع من القسم الثاني :

بإجماع الأمة الإِسلامية بكافة مذاهبها أن النبي الأكرم محمدٍ

__________________

(١) سورة النساء : آية (٦٤) .

٣٣١
 &

( صلى الله عليه وآله وسلم ) له صلاحية الشفاعة .

يقول تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١) .

فاستغفار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له حسابه في نظر الله تعالى حتى جعله مقارناً لإِستغفاره ، ولا يعني من يقول بالشفاعة باكثر من ذلك .

أما الأخبار : فإنها من الكثرة بمكان ، وقد صرحت بإنه شافع لأمته .

يقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين ، وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر » (٢) .

وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ان الله أعطاني مسألة فإدخرت مسألتي لشفاعة المؤمنين من أمتي يوم القيامة » (٣) .

وهناك طوائف أخرى من الأخبار توسع دائرة الشفاعة الى غير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بقية الأنبياء ، والمرسلين ، والملائكة ، والصالحين .

قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يشفع النبيون ، والملائكة ، والمؤمنون فيقول الجبار : بقيت شفاعتي » (٤) .

ويقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يشفع يوم القيامة

__________________

(١) سورة النساء : آية (٦٤) .

(٢) سنن الترمذي : ٥ (٢٤٧) .

(٣) امالي الشيخ الطوسي : ص ٣٦ .

(٤) صحيح البخاري : ٩ / ١٦٠ .

٣٣٢
 &

الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » (١) .

كما وأن أهل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشفعون أيضاً فقد قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

« الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ، والامانة ، ونبيكم ، وأهل بيت نبيكم » (٢) .

ويقول الإِمام علي بن أبي طالب : « لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة » (٣) .

الشروط المطلوبة في الشفيع :

فهل كل نبي ، أو مؤمن ، أو ملك له صلاحية الشفاعة للآخرين ، أم لا بد من شروط في البين لا بد أن يخضع الشفيع لها ليكون شافعاً ؟

تقول الآية الكريمة :

( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) (٤) .

من هذا الإِطار تتحدد شخصية الشفيع كل أحدٍ بإمكانه ان يمثل هذا الدور الخطير ، بل من أذن له الرحمن ، ورضي قوله . . . له أن يقوم بهذه المهمة ، من غير فرق بين أن يكون ذلك

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٤٣ ، ومثله في خصال الصدوق / ص (١٥٦) .

(٢) المناقب : ٢ / ١٤ .

(٣) خصال الصدوق : ص / ٦٢٤ .

(٤) سورة طه : آية (١٠٩) .

٣٣٣
 &

الشفيع نبياً ، أو غير نبي من الصالحين كان أو من الصديقين ، أو الشهداء ، وغيرهم ممن كانت له مكانة عظيمة عند الله عز وجل .

وقد تكرر هذا المعنى في آيات آخرى ففي آية الكرسي جاء قوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (١) .

وهكذا الحال في سورة يونس جاءت الآية تقول :

( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (٢) .

وقوله تعالى : ( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (٣) .

وقال عز وجل : ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) (٤) .

فالشفاعة : مشروطة أن تكون بإذن الله لا أنها ترجع الى كل شفيع فيما يريد أن يشفع فيه .

وحينئذٍ فلا يوجد أي تنافٍ بين هذه الآيات حيث تثبت الشفاعة لغير الله بإذنه ، ورضاه ، وبين الآية الكريمة والتي تقول :

( قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) (٥) .

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٥٥) .

(٢) سورة يونس : آية (٣) .

(٣) سورة سبأ : آية (٢٣) .

(٤) سورة النجم : آية (٢٦) .

(٥) سورة الزمر : آية (٤٤) .

٣٣٤
 &

أو قوله عز وجل : ( لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) (١) .

فإن الشفيع اذا كان يشفع بإذن الله ، ورضاه مقيداً بما يمليه الله في قبول شفاعة من يمكن ان يقبله الله ، فإن مثل هذه الشفاعة ستكون لله ، وليست خارجة عن حيازته .

وإذاً فعلى الشفيع أن يتقيد فيمن يشفع له ، وفيما يشفع فيه والا ففي صورة العكس ، فإنه لا ينال رضى الله ، وعندها تكون شفاعة مثل هذا الشخص في مثل أولئك نصيبها الفشل .

٣ ـ المشفع له :

ويراد بهذا العنوان من تكون الشفاعة لصالحه .

وهل تكون الشفاعة لكل أحد ، ومهما كان نوع ذنبه ، والجرم الذي صدر منه أم لا بد من تحديد ذلك ؟

من خلال الآية الكريمة يتضح لنا من هو المشفع له ؟

يقول تعالى : ( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٢) .

ومن هذا الإِطار القرآني تبلورت لنا شخصية من يصح أن يشفع له . ذلك لأن الآية قسمت المذنب الى قسمين : مشرك ، وغير مشرك .

أما المشرك : فإن الله أخذ على نفسه عهداً أن لا يغفر له ،

__________________

(١) سورة الأنعام : آية (٥١) .

(٢) سورة النساء : آية (١١٦) .

٣٣٥
 &

وإطلاق الآية يقتضي عدم المغفرة له في الدارين : الدنيا ، والآخرة ما لم تحصل منه التوبة في الدنيا .

أما غير المشرك : فهل كل من كان غير مشرك تشمله المغفرة ، أم هناك تفصيل بين هؤلاء من هذا القسم ؟

ويظهر لنا الجواب من الخبر التالي :

عن محمد بن أبي عمير قال : « سمعت موسى بن جعفر « عليه السلام » .

يقول : لا يخلد الله في النار إلا أهل الكبر ، والجحود ، وأهل الضلال والشرك . ومن إجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر قال تبارك وتعالى : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ) . قال : فقلت له : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالشفاعة لمن تجب من المذنبين ؟ قال : حدثني أبي عن آبائه عن علي « عليه السلام » قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل .

قال ابن أبي عمير : فقلت له : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر ؟ والله تعالى ذكره يقول :

( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (١) .

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية (٢٨) .

٣٣٦
 &

ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى فقال : يا أبا أحمد ، ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلا ساءه ذلك ، وندم عليه ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كفى بالندم توبة ، وقال « عليه السلام » : من سرته حسنته ، وساءته سيئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه ، فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً ، والله تعالى ذكره يقول :

( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) .

فقلت له : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكيف لا يكون مؤمناً من لم يندم على ذنب يرتكبه ؟

فقال : يا أبا أحمد ، ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي ، وهو يعلم أنه سيعاقب عليها إلا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة ، ومن لم يندم عليها كان مصراً ، والمصر لا يغفر له لانه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا كبيرة مع الإِستغفار ، ولا صغيرة مع الإِصرار ، وأما قول الله عز وجل : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) .

فإنهم لا يشفعون الا لمن ارتضى الله دينه ، والدين الاقرار بالجزاء على الحسنات ، والسيئات . فمن إرتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة » (١) .

وقد نقلنا الحديث بطوله لإِشتماله على تحديد أبعاد من تكون

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ .

٣٣٧
 &

الشفاعة لصالحه من المذنبين بشكل واضح حيث تبين لنا أن من يسمح في الشفاعة لهم هم : أهل الكبائر من أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

وفي مقام تعريف الكبائر يقال : أن الذنوب التي يطلق عليها إسم الكبيرة هي : ما أوعد عليها النار من : شرب الخمر ، والزنا والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك كما جاء في الخبر عن الإِمام الصادق « عليه السلام » وقيل غير ذلك حيث يشمل ما نهى الله عنه (١) .

٤ ـ المشفع فيه :

من الواضح أن حدود الشفاعة لا تتعدى ما يعود الى العباد في مخالفاتهم لله عز وجل ، وتخفيف الذنوب عنهم بالنسبة لما يترتب عليها من جزاء . وهكذا فيما يعود لأمور المعاش ، والأرزاق ، وما شاكل .

أما في غير ذلك من الأمور التي تتعدى حدود البشر كالتدخل في الأمور الكونية ، فإن ذلك لا معنى لإِعطاء المجال الشفاعة فيه فإن أمر ذلك يعود الى الله تعالى ، وهو الذي يتصرف فيه كيف يشاء .

على أن التدخل في تلك الأمور خارج عن الحدود المرسومة للبشر وللأنبياء ، والمرسلين لخضوع كل ذلك الى أسباب جعلها الله وفق نظم دقيقة تأخذ مجراها الطبيعي لإِدارة هذا الكون بسماواته وأرضيته .

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ٢٨٦ / الطبعة الحديثة .

٣٣٨
 &

نعم : قد يكون من باب إظهار المعجزة لأحد الأنبياء ، أو المرسلين أن يطلب ذلك النبي شيئاً خارق العادة لإِثبات نبوته ، وصحة دعواه ، ولكن ذلك لا يتعلق بموضوع الشفاعة ، والوساطة بمفهومها الذي هو موضوع بحثنا ، وفيما نحن فيه .

الخلاصة :

وإذاً وبعد هذه الجولة عرفنا أن أصل الشفاعة ، والأخذ بها كمبدأ معترفٍ به من قبل الشريعة الإِسلامية أمر مفروغ من البحث فيه ، ولكن الخلاف في الإِطار الذي تؤطر به الشفاعة من حيث الشفيع ، والموضوع الذي يشفع فيه . مضافاً الى انفراد الشفيع بما يقدم عليه ، أو معرفته برضا الله على ذلك الإِقدام .

ولكل مذهب رأيه في هذه المواضيع ينبع من النصوص التي يستند عليها عندما يقول بشيء من الرأي في جانب من الجوانب المذكورة ـ فمثلاً ـ نرى المعتزلة والخوارج يخالفون بقية الفرق الإِسلامية في قبول الشفاعة بمعناها الواسع الذي يقول به الباقون .

فهم يقصرون الشفاعة بحق المطيعين أما غيرهم فلا يستحقون الشفاعة وينشأ هذا القول من رأيهم في من يرتكب الكبيرة ، فإن مرتكبي الكبائر لا يرونهم مرحومين ويعفى عنهم بل هم مخلدون في النار . لذلك لا تنفع الشفاعة لمن كان مرتكب الكبيرة عند هؤلاء والآن : وبعد كل هذا تبين لنا أنه لا منافاة بين ما بينه الدعاء .

في الفقرة موضوعة البحث « ولا يخفف عن أهله » ، وبين الإِعتراف بوجود الشفاعة من قبل من كانت له المنزلة السامية عند الله فلا يخفف عن أهله اذا كانوا ممن لا يرضى الله بالتدخل في

٣٣٩
 &

التشفع لهم ، ويشفع لهم اذا كانت ذنوبهم ليست بتلك الدرجة من الشدة التي تغلق باب الشفاعة في وجوههم .

فالداعي عندما يتخوف من ذنوبه يخشى أن يرد الله شفعاءه لو تشفعوا له لتهوله من ذلك الموقف الرهيب ، وله الحق فيما يتصوره من عدم التخفيف بعد صدور الحكم عليه ، فكيف يتحمل كل ذلك وهو محروم من الشفاعة لعظم جرمه ، أو لتخيله بعظم ما أقدم عليه من المخالفة ، وهو يعلم أن عدم التخفيف عن المذنبين مسبب عما يلي :

« لانه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك » .

الغضب : ضد الرضا : قال إبن عرفة : الغضب : من المخلوقين شيء يداخل قلوبهم ، وأما غضب الله ، فهو إنكاره على من عصاه فيعاقبه .

والانتقام : هو العقاب .

والسخط : هو ضد الرضا ، وقيل : هو لا يكون إلا من الكبراء ، والعظماء دون الاكفاء ، والنظراء (١) .

وبالإِمكان القول : هو تقارب هذه الألفاظ من حيث المعنى ، والمقصود هو أن عدم التخفيف لا يكون إلا من عدم رضا الله عز وجل على عبده لمخالفته لما أمر به ، وإقدامه على ما نهاه عنه .

« وهذا ما لا تقوم له السموات ، والأرض فكيف بي ،

__________________

(١) لاحظ لسان العرب : مادة ( غضب ، ونقم ، وسخط ) .

٣٤٠