أضواء على دعاء كميل

المؤلف:

عز الدين بحر العلوم


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

« أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ، ووحدوك وانت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا الى غيرك » ـ الى أن يقول ـ :

( يا من اذاق احباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متحلقين ) .

والى أن يقول : ( وانت الباديء بالإِحسان قبل توجه العابدين ) .

واذا كان هو الذي أشرق الأنوار في قلوب أوليائه ، وأزال عنها الاغيار فجعلها أوعية طاهرة لحبه فهل يحرقها بالنار ؟

ثم ، وبعد هذا فما الفرق بين وعائين ؟

قلت : ضم حب الله ، وانطوى عليه .

وقلب : اشتمل على حب شريك له ، وتملق اليه .

فان قلنا : بأن كليهما يحفظ من النار فهو مخالف لنص الآية الكريمة : ( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) (١) .

وان قلنا : بتعذيب كليهما ، فهو خلاف الوجدان فكيف يكون قلب المؤمن كقلب المشرك من حيث الجزاء ، والتقدير ؟

ولا بد حينئذٍ من التفصيل ، والتفريق بين القلبين تمييزاً لوعائية حب الله عن حب غيره .

« وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك » .

والداعي بهذه الفقرة يخاطب ربه ، وهو المطلع على السرائر

__________________

(١) سورة النساء : آية (٤٨) .

٢٨١
 &

فيقول له : كيف تعذبني بنارك بعد أن ظهر لك يا رب صدق اعترافي ، وندمي وتوبتي ، والتي ظهرت على ما مر من دعائي لك ، وتوسلي حال كوني خاضعاً لربوبيتك ؟

فليس هو اعترافاً مع عدم خضوع .

أو خضوع من غير اعتراف .

بل هما معاً : اعتراف بالذنب ، وخضوع له باعتباره ربي ، وخالقي .

وبنهاية هذه الفقرات تنتهي هذه المحاورة ، وفيها قدم الداعي كل ما لديه من حججٍ ، ومستمسكات تدعم موقفه الذي تشبث به لحصول المغفرة والعطف من ربه .

وطبيعة مثل هذه المواقف تقضي بانتظار المذنب لما يصدر عليه من حكمٍ . ولكن الداعي خالف في موقفه هذا جميع الأعراف التي تمليها أصول المحاكمات من تقديم المدعى عليه دفاعه ، وانتظاره لنتائج المحاكمة حيث تتلخص بصدور الحكم عليه ، بل انبرى يتطفل ليصدر الحكم بنفسه ، ولهذا نراه يناجي ربه قائلاً :

« هيهات أنت أكرم من أن تضيع من ربيته » .

وهيهات : كلمة معناها البعد ، وقيل : كلمة تبعيد ، وتضييع من أضاع ، وهو الإِتلاف ، والهلكة ، والإِهمال . والمعنى :

هو استبعاد الداعي ان يكون الله وهو الموصوف بالكرم أن يهمل من كان مشمولاً لرعايته ، وعطفه من أول لحظة من لحظات حياته والمراد من تربيته هو ما أسداه عليه من النعم ـ كما تقدم ـ في

٢٨٢
 &

دعاء الإِمام الحسين « عليه السلام » في يوم عرفة ، فهو « سلام الله عليه » ـ بعد أن بين بدء تكوين الإِنسان ، وانتقاله في الأصلاب ، وخروجه الى الدنيا تاماً سوياً ، وانه عطف عليه قلوب الحواظن ، ورزقه من اللبن ما يغذيه ، وسلمه بعد ذلك من الزيادة ، والنقصان . وبعد كل هذا ـ اخذ في بيان تكملة المسيرة الحياتية ، وإعطاء صورة من تربية الله ، ورعايته لهذا المخلوق فقال :

« حتى إذا استهللت ناطقاً بالكلام أتممت عليّ سوابغ الإِنعام ، وربيتني زائداً في كل عام . حتى إذا اكتملت فطرتي ، واعتدلت امرتي أوجبت علي حجتك ، بأن الهمتني معرفتك ، وروعتني بعجائب حكمتك » .

الى أن يقول : « ثم إذا خلقتني من خير الثرى لم ترض لي يا إلۤهي نعمة دون أخرى ، ورزقتني من أنواع المعاش ، وصنوف الرياش بمنك العظيم الأعظم علي ، وإحسانك القديم الي » .

صلوات الله عليك يا أبا الضيم . لقد استعرضت هذه المسيرة ، ودللتنا على نعم الله من بدء تكويننا ، وأياديه الكريمة ، ورعايته ، وكل ذلك تربية من الله لنا ، فللداعي الحق لو طالب ربه في لطفه المستمر ، واستبعاده كل البعد من أن يضيع الله مخلوقه ، وصنيعته ، ومن حباه لطف تربيته . ولئن كانت شفقة الأبوين مضرب الأمثال من ناحية تعلقهما بالولد فيحرصان على حياته ، وعدم إيصال أي اذىً اليه ، فإن شفقة الله على عباده أعظم لأن الإِنسان مخلوق الله ، ومن صنع يده .

٢٨٣
 &

« او تبعد من ادنيته »

أدنيته : قربته ، والقرب من الله من الواضح ليس القرب المكاني لاستحالة ذلك لاستلزامه إشغال الحيز له عز وجل ، وهو محال ، بل القرب هو : المعنوي الناشيء من رضا الله ، وعطفه ، وكرمه نحو المخلوق ، وهذه ، وغيرها كلها علامات قرب الإِنسان من ربه ، وعدم انزجاره منه .

وإذا كان الأمر كذلك ، فهيهات يا رب أن تبعد ، وتطرد من بابك من عطفت عليه ، وخصصته منك بالعناية .

« أو تشرد من آويته » .

شرد القوم : أي مزقهم .

وآوى القوم : أنزلهم في المكان وآويت فلاناً في داري أي : أنزلته فيه (١) والمعنى الذي يقصده الداعي من استبعاده من تشريد الله لعبده المذنب بعد إيوائه له هو أن سبوغ نعمه لعبد وتربيته له ، ورعايته له في مراحل الحياة كلها الطاف تنبيء عن ايواء الله لعبده ، وتقريبه منه ، والسخط عليه بتعذيبه ، معناه : طرده من ساحة رحمته ، وإبعاداً له عن مأواه ، وهذا ما يستبعده العبد .

وعلى صعيد المقارنات ، فالتاريخ يحدثنا عن السمات الحميدة التي يتحلى بها الكثير من البشر ، فإنه إذا آوى أحداً ، وقبله تحت لوائه فمن البعيد ان يطرده من قربه . وإذا كان هذا حال المخلوقين فكيف بخالقهم ، والمنعم عليهم ، وولي الإِفضال بالنسبة لهم ؟

__________________

(١) لاحظ أقرب الموارد ، ولسان العرب في مادة ( أوي ) .

٢٨٤
 &

« أو تسلم الى البلاء من كفيته ورحمته » .

الغم : هو البلاء ، وكفى فلان فلاناً ، أغناه عن غيره (١) .

ويأتي استبعاد الداعي لتسليم الله عبده الى البلاء بعد أن كفاه ، ورحمه تبعاً لمنطوق الآية الكريمة في قوله تعالى :

( أَلَيْسَ اللَّـهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) (٢) .

والآية وان كان سبب نزولها مشركي قريش حيث كانوا يخوفون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من آلهتهم ، ويحذرونه من غضبها ، ويوعدونه بانه إن لم يكف عنها لسانه فسيصيبه منها الأذى ، فجاءت الآية تطمئن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن الله يكفيه من الأذى ، ويكف عنه كل سوء . ولكن إطلاقها يشمل كل مورد ، وكل عبد من عباده . والكفاية أيضاً من كل شيء : أذىً ، ورزقاً ، وعدواً ، وغير ذلك .

ان الله يكفي عباده ، وهو غني عنهم ، ويرحمهم ، وهو ليس بمحتاج لهم . وإنما صنع ذلك تفضلا منه عليهم . وإذا كان الموضوع يرجع في نهايته الى التفضل من المولى على عباده ، فمن هنا ينشأ استبعاد تسليم الله لعبده المذنب الى البلاء .

ومرة اخرى نقول : أن الداعي يطالب ربه بما قطعه على نفسه من كفاية عباده . وهب أنه أذنب ، وتجاوز ، ولكنه ، وبتوسله قد تاب ، وعاد الى حضيرة الإِيمان فلماذا لا تعود الكفاية ، والرعاية

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( بلي ، وكفي ) .

(٢) سورة الزمر : آية (٣٦) .

٢٨٥
 &

وقد زال السبب الذي دعا بإبعاده ، وطرده ، وقد صرح القرآن الكريم بأن الله ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (١) .

« وليت شعري يا إلۤهي وسيدي ومولاي أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة »

ليت شعري : جملة تستعمل في مقام الحيرة ، والاستفهام ، ومعناها « ليت علمي » أما خبر ليت فمحذوف تقديره حاض ، أو محيط وتقدير مجموع الجملة « ليت علمي حاض » (٢) .

وخرت : أي سقطت ، وجملة « خر ساجداً » يراد بها : انكب على وجهه .

ويوجه الدعاء الداعي بهذه الفقرة الى سلوك طريقة جديدة يبدأ فيها بشكل آخر فتح الحوار الحسابي مع ربه بعرضه ما قام به من تعظيم الله ، من خلال ما أدته جوارحه من شعائر تعظيمية ،كل عضوٍ بما يناسبه من عمل .

وبدءً من الوجه ، وهو مجموع الناصية ، والعينيين ، والخدين ، والأنف والفم . وطبيعي ان ما يناسب الوجه بما فيه الجبهة من اداء حق الله هو السجود له تعالى . ولهذا يطالب الداعي ربه بجزائه على سجوده . ويزيد في روعة الموقف التعبير الذي تحمله عبارة « خرت لعظمتك ساجدة » وقد عرفت ان مصطلح : خرت ساجدة . أي :

__________________

(١) سورة الشورى : آية (٢٥) .

(٢) مجمع البحرين : مادة ( شعر ) .

٢٨٦
 &

انكبت على وجوهها . والانكباب هو السقوط .

وفي انكباب العبد على وجهه ساجداً لربه من الخضوع ، والذلة ما لا يعطيه التعبير بكلمة ( سجد لك وجهي ) فإن السجود هو وضع الجبهة على الأرض . ووضع الجبهة وان كان يحمل بين طياته كل معاني الخضوع ولكنه ـ في نفس الوقت ـ يفقد تلك الرقة التي تحصل من منظر العبد ، وهو يسقط الى الأرض ساجداً ، فإن ذلك يظهر غاية التسليم ، والانقياد .

وللسجود لله تعالى آثاره في تقرب العبد الى ربه لذلك نرى الإِمام الصادق « عليه السلام » يقول :

« أقرب ما يكون العبد الى الله عز وجل وهو ساجد » (١) .

ويأتي هذا القرب من الله نتيجة إعطاء السجود لابرز صورة من صور الخضوع والتذلل حيث يتجرد الإِنسان من كبريائه وغروره ، فيسجد على الأرض ليلامس التراب جبينه ، وهو ينكب على وجهه زيادة في الخضوع .

وتمثل هذه الصورة العبودية الخالصة له عز وجل ، وهي ترمز لتخلي الإِنسان عن اللجوء لغير الله تعالى ، وبالسجود له يعلن العبد بأنه في غاية الخضوع له ، وإيذاناً منه بخلوصه في توحيده وصدق نيته .

بعد كل هذا لا نعجب اذا رأينا الإِمام أبا عبد الله الصادق « عليه السلام » يقول : « إن العبد اذا سجد وقال : يا رب ، يا

__________________

(١) المحجة البيضاء : ١ / ٣٤٦ / باب فضيلة السجود .

٢٨٧
 &

رب ، يا رب . حتى ينقطع نفسه قال له الرب تبارك وتعالى : « لبيك ما حاجتك » (١) .

ولماذا لا يقول الرب لعبده ، وعلى هذه الحالة من التذلل له : « لبيك ما حاجتك » ؟ بعد أن علم من عبده صدق النية ، والانشداد اليه .

لبيك : كلمة يقولها الله لعبده .

والله هو الله ، مالك السموات ، والأرضين ، وهو القادر ، وهو الجبار ، وهو الذي لا يتخلف عن إرادته أي شيء يتنازل الى هذا المخلوق الضعيف الذي يفقد كل حول ، وكل قوة ليقول له : لبيك ، ويمنيه بحاجته . وماذا يريد الداعي بتوسله ، وتضرعه اليس يريد من ربه إبعاد شبح النار عنه اليس يريد منه المغفرة ، والتجاوز ، فهل يحسن بالله أن يرجع عن عطفه ، وتلبيته ليرد عبده في أحرج ساعاته ؟ .

ومن الوجه ينتقل الدعاء بنا الى جارحة أخرى قامت بدورها في اداء ما عليها من حق تجاه الخالق الكبير .

« وعلى ألسنٍ نطقت بتوحيدك صادقة ، وبشكرك مادحة » .

وقد ورد في الحديث عن أهل البيت « عليهم السلام » « اكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحب الى الله عز وجل من

__________________

(١) نفس المصدر السابق : ص (٣٤٧) .

٢٨٨
 &

التهليل والتكبير » (١) .

وفي حديث آخر يقول الإِمام الصادق « عليه السلام » :

« خير العبادة قوله : لا إلۤه إلا الله » (٢) .

وجاء في الحديث عن الإِمام أبي الحسن « عليه السلام » : « من حمد الله على النعمة فقد شكره وكان الحمد أفضل من تلك النعمة » (٣) .

واذا كان للتهليل والشكر ، هذه المنزلة عند الله فكيف يحرق الله لساناً ما انفك عن ترديد صفة توحيده ، وما ترك شكر الله على نعمائه ؟

وبعد هذا فمن المظاهر الخارجية ينتقل الدعاء لتوجيه الداعي الى التشبث بجوارحه الداخلية وكيف أنها كانت تؤدي واجبها على خير ما يرام من اداء حقوق الله إنه يقول .

« وعلى قلوبٍ اعترفت بإلۤهيتك محققة وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة » .

وكيف تسلط النار على قلوبٍ كان شعارها الاعتراف بتوحيدك محققة أي اعترافاً واضحاً لا غبار عليه ، ولا تردد فيه .

وكيف تسلط النار على ضمائر جمعت من الأدلة التي كانت سبباً

__________________

(١ ـ ٢) اصول الكافي :باب التسبيح والتهليل ، والتكبير : حديث (٢ ، ٥) من كتاب الدعاء .

(٣) اصول الكافي في باب التسبيح ، والتهليل ، والتكبير حديث (٣) من كتاب الايمان ، والكفر : باب الشكر .

٢٨٩
 &

للتصديق ، واليقين بك ، فكان من جراء ذلك أنها أصبحت خاشعة لك هذه الضمائر ، وهذه القلوب بعد كل ذلك هل يكون نصيبها منك الاعراض والحرمان ، والتعذيب ؟

ثم ، وبعد كل هذا الخشوع فإن هذا الإِنسان لم يستقر في مكان خاص يعبدك فيه يا رب ، بل تحمل في سبيل عبادتك المشاق من التنقل ليكون في كل مكان يرى له شرف المكانية ليعبدك فيه فهل تسلط النار يا إلۤهي ؟ :

« على جوارح سعت الى أوطان تعبدك طائعة » ؟

وأوطان التعبد هي : المساجد ، والاماكن التي نالت شرفاً بمن ضمته بين أطباقها من أنبياء ، وأوصياء ، وصالحين .

الم تكن حرمة لهذا السعي ، وهذا القصد ؟

انها جوارح أمّت ، وقصدت بيوتك يا رب ، فكانت ضيوفك فيها ولكل ضيف قرىً وضيافة ، وهل تكون ضيافة الكريم طرد ضيفه عن بابه مهما كان الضيف من توغله في الذنب ؟

فلمن يلتجىء بعد ذلك من طردته يا ملاذ المذنبين ؟

ولمن يأوي هذا المسكين يا ملجأ الهاربين ؟

« وأشارت باستغفارك مذعنة » .

شار العسل استخرجه من محله الخاص به واجتناه (١) .

بهذا تقول كتب اللغة عن هذه الكلمة .

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( شور ) .

٢٩٠
 &

وجاءت في هذه الفقرة من الدعاء ليعلن الداعي عن حالته النفسية بعد أن سعت به جوارحه ، وقادته قدماه الى مواضع التعبد المشرفة ليعبد ربه فيها ، وليشبه انصهاره بالاستغفار ، وطلب العفو منه عز وجل فحلاوة الاستغفار كحلاوة العسل . والإِنسان في كلتا الحالتين يجد لذة في الانهمال للوصول الى الحصول الى مطلوبه .

ولم يجد الداعي غير التشبيه المذكور للوصول الى نفوس العامة من الناس لأن الكل يعرف العسل ، وحلاوته ، فكان مضطراً الى مثل هذا التشبيه ليعطي صورة واضحة يسهل الاطلاع عليها من قبل الجميع ولكن : أين الثريا ، وأين الثرى ؟

فالفرق بين الحلاوتين واضح ، حلاوة الاِستغفار وحلاوة العسل .

حلاوة العسل : يشعر بها الإِنسان من طريق الذائقة يجد فيها الذائق لذة وقتية سرعان ما تزول ، ويكون حالها حال بقية المأكولات والمشروبات ، وقد يحار الآكل والشارب ، أن يصف حالته ، وهو يتذوقها ، أو بعد ذلك لأن اللذائذ الوقتية لا تبقى لتعرف جيداً .

أما حلاوة الاستغفار : فهي حلاوة النفس يجنيها الإِنسان بتضرعه وخضوعه الى الخالق الكبير .

حلاوة الأمل الأخضر ترفرف بوارقه لتطرد الأشباح القاتمة عن نفس المذنب المستجير ، وهو يردد :

« يا أملي ، وبغيتي ، ويا سؤلي ، ومنيتي ، فوعزتك ما أجد

٢٩١
 &

لذنوبي غافراً ، ولا أرى لكسري غيرك جابراً ، وقد خضعت بالانابة اليك وعفوت بالاستكانة لديك ، فإن طردتني عن بابك فبمن الوذ وإن رددتني عن بابك فبمن أعوذ ؟

يا غافر الذنب الكبير ، ويا جابر العظم الكسير .

إلۤهي : إن كان قبح الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك .

إلۤهي : ما أنا بأول من عصاك ، فتبت عليه ، وتعرض لمعروفك فجدت عليه (١) .

أي لذة يجدها الداعي وهو يدفع كفيه الى السماء ليستدر بهما عطف ربه ، ولسانه يردد هذه الفقرات ، ونفسه تتسامى لعلو كرم الله وهو يشعر بتقصيره ، وتضاؤله أمام ربه .

يلجأ الطفل عندما يداهمه الخوف ، أو الجوع الى حضن الأم ليجد من دفء صدرها ما يؤمن له روعه ، ومن ذراعيها ما يحميه من الأشباح المرعبة ، ومن دقات قلبها ما يغفو على ترانيمه المحببة ويستسلم الى إغفائة هادئة في محضن العطف ، والمحبة .

وهكذا يكون حال المذنب الى ربه ، واشباح الذنوب تلاحقه ليجد من لذيذ مناجاته ما ينسبه آلامه النفسية ، ويبدأ يتضرع ، ويستغفر ويريد من الله العفو ليعود إنساناً كاملاً نقي الثوب .

ويلح في الدعاء ، وتسيطر عليه هيبة الموقف ، فيغيب في ذات

__________________

(١) فقرات من مناجاة الإِمام علي بن الحسين « عليه السلام » في الصحيفة السجادية / من مناجاة المذنبين .

٢٩٢
 &

الله ويستسلم أخيراً الى غيبوبة حالمة لينتبه ، ويد اللطف تهدهد آماله ، وإذا بنداء السماء يبعث فيه الرجاء .

( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

لذلك يستفسر الداعي من ربه والدهشة تعلوه فكيف يسلط النار على جوارح سعت الى أوطان تعبده طائعة وذاقت حلاوة استغفاره مذعنة ومعتقدة .

« ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم » .

« هكذا » كلمة مؤلفة : من هاء التنبيه ، وكاف التشبيه ، وذا الإِشارية .

أما الظن : فهو ترجيح أحد الطرفين بسبب يقتضي الترجيح والمعنى اللفظي لجملة « ما هكذا الظن بك » : ما كنت أحسب وبها يبدأ الداعي عتاباً رقيقاً مع ربه لعدم توقعه من المولى عز وجل ان يعامله على هذا النحو من المعاملة يخيب داعيه ، ويرد من التجأ اليه متضرعاً تائباً مهما عظم ذنبه .

« ما هكذا الظن بك » ـ وهو في الوقت نفسه ـ عتاب لا يخلو من جرأة ، ولكن الداعي قالها : كلمة يستدر بها عطف ربه بعد أن رأى من الأحاديث الكريمة ما يدفعه الى هذا النحو من العتاب الرقيق المشوب بالتطاول .

__________________

(١) سورة الحجر : آية (٤٩) .

٢٩٣
 &

ان الإِمام الباقر « عليه السلام » ينقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله عن الله تبارك وتعالى :

« لا يتكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنهم لو اجتهدوا ، واتعبوا أنفسهم ، وأعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي ، ورفيع درجاتي العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، والى حسن الظن بي فليطمئنوا ، فإن رحمتي عند ذلك تدركهم ، ومتى يبلغهم رضواني ومغفرتي ، تلبسهم عفوي ، فإني أنا الله الرحمن الرحيم ، وبذلك تسميت » (١) .

وعلى ضوء أمثال هذه الاحاديث يصدر الداعي عتابه الهاديء والدهشة تأخذ عليه مسالك التفكير ، فالحديث المذكور ـ وعلى سبيل المثال ـ اذا لاحظناه بدقة رأيناه ينفي قدرة الغير على اداء حق الله عليه لنعمه المتواصلة ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ لا يدع اليأس يدب الى نفسه ، بل يوجهه الى رحمة الله ، وفضله وحسن الظن به .

« ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، والى حسن الظن بي فليطمئنوا .

إذاً فمسألة عبادة البشر للخالق لا تخضع الى حساب معين لأن الطرف فيها يكون العبد ، ومهما أوتي العبد من فهم فإنه لا يصل الى حقيقة العبادة اللائقة بمقامه عز وجل ، ولكنها وبنهاية المطاف تعود الى رحمته تعالى ، وفضله ، وحسن الظن به .

__________________

(١) اصول الكافي : باب حسن الظن بالله عز وجل / حديث (١) من كتاب الإِيمان ، والكفر .

٢٩٤
 &

والداعي يتشبث بهذه الصفات الحميدة ، والألطاف الجزيلة فيطالبه بها .

ولنا وقفة أخرى مع حديث آخر لنقرأ من خلاله عمق التوكل على الله ، وحسن الظن به .

فقد جاء عن الإِمام محمد الباقر « عليه السلام » عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله :

« والذي لا إلۤه إلا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة ، والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصيره من رجائه والذي لا إلۤه الا هو لا يحسن ظن عبدٌ مؤمن بالله الا كان الله عند ظن عبده المؤمن » (١) .

وعليه فهل يؤخذ على الداعي بعد هذه الاحاديث ، وغيرها مما كان على هذا النحو من البيان ، والتشويق الى حسن الظن بالله أن يهرع الى رحاب الله ليبدأ معه لغة العتاب فيقول مخاطباً ربه :

ما هكذا الظن بك .

ثم يردفها بالجملة الثانية :

« ولا اخبرنا بفضلك عنك يا كريم » .

ومن هذا المخبر عن فضل الله لعباده ؟

فإن كان بشراً لكان في التوقف في النقل مجال واسع لأنه بشر واحتمال التحريف يأتي بحقه . ولكنه القرآن الكريم تتوالى آياته

__________________

(١) اصول الكافي : باب حسن الظن بالله / حديث (٢) .

٢٩٥
 &

لتحيط الإِنسان بهالة من نور رحمته ولتبشره بنداء الخالق الكريم .

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (١) .

( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (٢) .

( وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٣) .

( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٤) .

١٤ ـ يا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها ، وما يجري فيها من المكاره على أهلها . على أن ذلك بلاء ، ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه قصير مدته فكيف احتمالي لبلاء الاۤخرة ، وجليل وقوع المكاره فيها ، وهو بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه ، ولا يخفف عن أهله لأنه لا يكون الا عن غضبك ، وانتقامك ، وسخطك . وهذا ما لا تقوم له السمـوات والأرض . يا سيدي فكيف بي وأنا

__________________

(١) سورة الزمر : آية (٥٣) .

(٢) سورة النساء : آية (١١٠) .

(٣) سورة الأنفال : آية (٣٣) .

(٤) سورة النساء : آية (٤٨) .

٢٩٦
 &

عبدك الضعيـف الـذليـل الحقيـر المسكيـن المستكين .

يتكفل الدعاء في هذا الفصل بالنظرة الأولية ببيان أن طاقات الإِنسان البدنية محدودة لأنها لا تخرج عن تشكيلة كاملة من اللحم ، والدم ، والعصب ، والعظم . وهذه المجموعة من الأعضاء ، والاجزاء لا قدرة لها على مقاومة ما يطرأ على البدن من العوارض الخارجية كالأمراض ، وما تتعقبها من آلام ، وجوع ، وعطش ، وبرودة ، وحرارة ، وما تخلفها هذه العوامل من تأثيرات على الإِنسان .

فهو إذاً ضعيف ، وعاجز عن تحمل هذه العوارض فكيف سيقف صامداً ، ويواجه ما سيلاقيه في الآخرة من العذاب المؤقت أو الدائم تبعاً لحجم الذنب الذي صدر منه .

والدعاء ـ كما قلنا ـ بنظرته الأولية يتناول هذه الجهة فيوجه الداعي الى عرض عدم المقاومة هذه على ربه ، والتماس رحمته لتشمل هذا البدن الضعيف غير القادر على تحمل بلاء الآخرة بأبعاده المختلفة عن بلاء الدنيا كماً ، وكيفاً .

أما بالنظرة التفصيلية فنرى الدعاء في هذا الفصل يتعرض الى ما يواجه الإِنسان من بلاء ، وشبهه فيقسمه الى قسمين :

دنيوي ، وأخروي .

بدأ ببيان القسم الأول بقوله : « يا رب وانت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا » ، وينتهي الى قوله : « قصير مدته » .

أما القسم الثاني : فيبدأ من قوله : « فكيف احتمالي لبلاء

٢٩٧
 &

الآخرة » .

لينتهي الى قوله : « وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض » .

أما القسم الأول : وهو البلاء الدنيوي فقد تناوله الدعاء فقسمه الى ثلاثة اقسام :

قسم : أطلق عليه اسم ( البلاء ) .

وقسم آخر : اطلق عليه اسم ( العقوبة ) .

أما القسم الثالث : فقد عبر عنه باسم ( المكاره ) .

وتستوحي هذه الأقسام الثلاثة من عبارة الدعاء القائلة « يا رب وانت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا ، وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها » .

ثم ومن ثنايا الفقرة القائلة : « ولا يخفف عن أهله » الواردة بعد قوله : « وهو بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه » .

تظهر لنا الحقيقة التالية :

وهي : أن ما يكتب على الإِنسان من جزاء عقابي نتيجة إرتكابه المخالفات في دار الدنيا ، وإن كان الله قد ترك موضوع مغفرته لنفسه حسب ما نصت عليه الآية الكريمة .

من ( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ) .

ولكن ذلك إنما يجري ما لم يكن يصدر عليه الحكم ، ويذهب الى الجحيم أي في دار الدنيا حيث يكون العبد في وضع قابل للتوبة ، والرجوع الى حضيرة الإِيمان .

٢٩٨
 &

وهكذا قبل يوم الحساب إذ ربما تكون الحسنات تتغلب على سيئاته بواسطة ما قدمه من حسنات ، أو ما يصل اليه من الغير لو كان ذلك الغير قد استغابه ، أو كان الشخص مقتولاً ، أو قد حصل أجر الشهيد نتيجة موته بغرق ، أو حرق ، وما شاكل مما هو منصوص عليه في الشريعة . أما لو انتهت عملية المحاسبة في يوم القيامة وكان ( والعياذ بالله ) ممن جزاؤه جهنم ، ونفذ عليه الحكم فإن باب المغفرة يغلق في وجهه من قبل الله تعالى .

كما سنوضح ذلك عندما نصل الى تناول هذه الفقرة على الخصوص بالبحث . والآن من الإِجمال والعرض لما يحتويه الفصل من هذه الفهرسة الى التفصيل في مطالعات الفقرات .

« يا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا » .

البلاء في اللغة : هو الغم الذي يبلي الجسم .

وبهذه الفقرة يبدأ الداعي في بيان عدم قدرته على تحمل ما يطرأ على بدنه من عوارض في هذه الدنيا أولاً من بلائها ، وهو القسم الأول فإنه اعتبار كونه إنساناً يكون عرضة لكل ما يطرأ عليه من انحرافات مزاجية ، فإن الجسم بما يشتمل عليه من الأجهزة يسير منتظماً على وفق نظام دقيق مرتب ، وطريقة خاصة ، يؤدي كل عضوٍ وظيفته الموكولة اليه فيحافظ البدن عندها على الصحة ، ويكون معافىً من كل سوء .

أما إذا عرض لبعض تلك الأجهزة مرض من الأمراض فإن

٢٩٩
 &

عدم قيام ذلك العضو باداء وظيفة يوجب انحراف صحة ذلك الشخص ويسبب له آلاماً وانزعاجات تختلف بحسب الشدة والضعف تبعاً لنوعية المرض الطاريء او الحوادث الطارئة على الجسم من جراء الخدوش أو الكسور وغيرها .

ومهما حاول الإِنسان من المحافظة على صحته فإن الأمراض لا مفر منها وعلى الأقل ما يلازم الحالات الطارئة من المصادفات الخارجية والتي تلازمه نتيجة تقدمه في السن من ضعف وهزال وغيرهما وكل ذلك من الابتلاءات الدنيوية التي يحسن الإِنسان من جرائها بالآلام تورثه الغم ، والذي هو : البلاء وهو ـ في الوقت نفسه ـ ضعيف لا يتحمل معاناتها .

« وعقوباتها »

وهذا هو القسم الثاني من انواع الابتلائات ، والذي اطلق عليه الدعاء اسم العقوبة .

والعقوبات الدنيوية فإنها تلاحق الإِنسان نتيجة مخالفاته لقضايا نهي عنها في الشريعة ، ولكنه لم يرتدع عن ذلك فيكون الابتلاء بها من قبيل التأديب ، أو ما يطلق عليه من الآثار الوضعية الدنيوية المترتبة على إيجاد ما نهي عن القيام به حفاظاً على وحدة النظام . ولنا على ذلك أحاديث كثيرة تصرح بهذا النوع من العقاب الدنيوي إلا أن الملاحظ على تلك الأخبار أن العقوبة التي يستحقها الفاعل على نحوين :

عقوبة : تخص مرتكب الذنب بالذات .

٣٠٠