أضواء على دعاء كميل

المؤلف:

عز الدين بحر العلوم


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

« إن قبلت قبل ما سواها ، وان ردت رد ما سواها » .

وهكذا ما كان في عظم شأنه مثل الصلاة ، ولهذا خصها الدعاء بالتكرار .

« فلك الحمد ( فلك الحجة ) علي في جميع ذلك ، ولا حجة لي فيما جرى علي فيه قضاؤك » .

إختلفت نسخ الدعاء في هذه الفقرة ففي البعض منها جاء : ( فلك الحمد علي ) وفي البعض الآخر : ( فلك الحجة علي ) .

أما المعنى على القراءة الأولى فهو : ان الداعي بعد أن أخذ في تعداد ما صدر منه ، وأن صدور تلك المخالفات كان تبعاً لهوى نفسه ، وعدم تحفظه من تزيين عدوه له أكمل دعاءه بالاعتراف بأن لربه الحمد في جميع ذلك لأن الله كان قادراً لأن يقابله إزاء هذه الذنوب ، والجرائم التي صدرت منه بتعجيل العقاب في الدنيا قبل الآخرة ، وأن يفضحه بين الناس ، ولكنه مع كل ذلك فقد عرف ، وستر عليه . . لذلك لم يجد الداعي إلا أن يعترف بأن لربه الحمد على نعمه المتواصلة ، ويكون قوله بعد هذه الفقرة « ولا حجة لي فيما جرى عليَّ فيه قضاؤك » . يعطي معنى آخر يبدأ به الداعي ليقول : انني فيما أجريته علي من القضاء لا حجة لي لتكون كلمتي مقدمة في مقام الدفاع عن نفسي ، بل أنا المغلوب في كل ذلك لأنني المخدوع من قبل الدنيا ، والشيطان لإِتباعي ، وميولي لشهواتي النفسية ، وحينئذٍ فلا يكون ترابط بين هاتين الفقرتين ( فلك الحمد علي ) و ( لا حجة لي ) الخ .

وأما على القراءة الثانية : فيكون المعنى : أن الداعي بعدما بين

٢٤١
 &

كل ذلك التجأ الى ربه ليقول : إلۤهي إن لك الحجة علي في كل ذلك . لأن المراد بالحجة ( الدليل ، والبرهان ) ويكون ذلك من صغيرات الآية الكريمة والله ولي الذين آمنوا ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (١) .

بل إنما ( فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٢) .

لقد سلح الله البشر بالعقل ، وأرسل اليهم الأنبياء ، والرسل مبشرين ومنذرين . فلم يدعوا حكماً إلا بينوه جزئياً ، أو كلياً ، وبكل ما يتعلق بالإِنسان ، ومن جميع نواحيه العبادية ، والمعاملية ، وهكذا كل ما يتعلق بالأمور الأخروية ، رحمة منه على العباد .

( اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (٣) .

ظلمات الجهل ، وظلمات الظلم ، والتكبر ، والطغيان ، وظلمات الجشع ، والنهب ، وظلمات أخرى تحيط بالإِنسان من كل جوانبه .

بعد كل هذا : فإن لله الحجة البالغة على البشر ، ولا حجة لهم على الله في كل ذلك .

ومع هاتين القراءتين : ( فلك الحمد ) أو ( فلك الحجة ) نرجح أن تكون الثانية هي الأنسب بالسياق الدعائي حيث يكون الداعي قد سلم أمره الى الله معترفاً بان له الحجة عليه ، ولا حجة له على ربه .

__________________

(١) سورة النساء : آية (١٦٥) .

(٢) سورة الأنعام : آية (١٤٩) .

(٣) سورة البقرة : آية (٢٥٧) .

٢٤٢
 &

١٢ ـ وقد أتيتك يا إلۤـهي بعد تقصيري ، وإسرافي على نفسي معتذراً ، نادماً ، منكسراً ، مستقيلاً ، مستغفراً ، منيباً ، مقراً ، مذعناً ، معترفاً ، لا أجد مفراً مما كان مني ، ولا مفزعاً أتوجه اليه في أمري ، غير قبولك عذري ، وإدخالك إياي في سعة رحمتك .

وبدأ الداعي يلقي بكل ثقله ميمماً رحاب الله ، ومتجهاً اليه بعد أن وجد نفسه مغلوباً ، وقد أغلقت الأبواب في وجهه صفر اليدين من كل حجة يستند عليها ، ويبرر من مواقفه التي خالف بها ربه والحجة في كل ذلك لله عليه .

أي ربٍ فالى من يلجأ المذنبون ، وليس لهم غير رحمتك رحاباً يتذوقون فيه طعم عفوك ، ويتفيئون به ظلال غفرانك .

ويلملم الداعي مرة اخرى أطرافه ، ويحث الخطى مسرعاً ، وبوارق الأمل تلوح له ويرمق السماء بطرف كسير وهو يردد :

« وقد أتيتك يا إلۤهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي » .

ويقول أهل اللغة : أن المقصر هو الذي يقدر على الأمر ، ولكن يقف عنده ، أو ينتهي اليه (١) .

وكلمة التقصير تبين معناها واضحة عند كل أحد فلا داعي الى التعميق فيما يقوله اللغويون في تفسيرها .

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( قصر ) .

٢٤٣
 &

وبهذه الفقرة نرى الدعاء يوجه الداعي الى الاعتراف بالتقصير دائماً إزاء حقوق الله ، وواجباته . فعن الامام موسى بن جعفر « عليه السلام » وهو ينصح بعض ولده قائلاً :

« يا بني عليك بالجد لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله عز وجل ، وطاعته فإن الله لا يعبد حق عبادته » (١) .

ويريد الإِمام « عليه السلام » أن يقول لولده : بأن الشعور بالتقصير يجعل الإِنسان منشدّاً دائماً الى خالقه لا يغفل ، ولا يتوانى عن أداء واجباته ، وترك ما نهي عنه ، وبهذا تكون نفسه في دوامة من العمل نحو تكميل ما تجد لديها من نقص ، ومثل هذا الشخص يكون الاداة الصالحة لبناء مجتمع خيرٍ بعيداً عن الغرور والإِجرام ، يأمن منه كل أحد ، ويسلم منه الناس ، وهذه إحدى العلامات التي تميز الفرد المسلم عن غيره ، فالمسلم من سلم الناس من يده ولسانه .

وبعد التقصير يأتي الاعتراف من الداعي : بالإِسراف على نفسه ، وعدم التورع عن محارم الله ، بل السير حثيثاً في هذا المنطلق حتى رأى من نفسه التجاوز ، وعدم الإِعتدال ، ولذلك جاء ربه ، وقد عرف خطأه وبعد الاعتراف بالاسراف يأتي دور الإِعتذار كنتيجة طبيعية فيردد الداعي : الهي ، وقد أتيتك :

« معتذراً » .

واذا كان الشاعر يقول : « والعذر عند كرام الناس مقبول » .

فكيف بالرب الكريم العطوف على عباده ، فهل يتركهم

__________________

(١) أصول الكافي : باب الاعتراف بالتقصير من كتاب الايمان والكفر حديث (١) .

٢٤٤
 &

يصدرون عنه ، وهم يجرون أذيال الخيبة ، والحرمان .

كلا ، والف كلا . لأن الإِمام أمير المؤمنين « عليه السلام » حدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « إن الله كريم بيده الخيرات يستحي ان يكون عبده المؤمن قد أحسن الظن به ، ثم يخلف ظنه ، ورجاءه » (١) .

وبعد الإِعتذار فقد أتيتك يا رب :

« نادماً » .

والندم كما يقول اللغويون هو : الأسف ، والحزن ، والتوبة . وها هو الداعي يظهر الندامة تائباً يؤكد أنه لا يعود إنساناً يتقمص الشر متبعاً شهواته الجنسية ، بل سيكون بالمستوى اللائق به كإنسان جاء الى ربه معتذراً نادماً على ما صدر منه ولم يكتف الداعي بذلك ، بل خاطب ربه متضرعاً بانه عاد الى حضيرته .

« منكسراً » . علامة الخضوع ، والذلة . وهذا التعبير في الداعي يعطي أنه غير متطاول ، ولا شامخ ، بل هو في غاية الخشوع جاء ليستميح من ربه العطف ، ويستدر منه الغفران ، ولهذا نجد الحديث القدسي يقول : « أنا عند القلوب المنكسرة » .

تلك القلوب التي تطامنت فخرج ما فيها من خيلاء وكبر ، لذلك شعرت بأنها ضعيفة أمام خالقها ، فجاءت اليه منكسرة لأنها علمت : أن الله لا يحب كل ختال فخور .

__________________

(١) أصول الكافي : باب حسن الظن بالله عز وجل / حديث (٢) .

٢٤٥
 &

ويقول الإِمام أبو عبد الله ( عليه السلام ) إن الله أوحى الى داود ( عليه السلام ) « يا داود كما أن أقرب الناس من الله المتواضعون كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون » (١) .

كل هذا ، وغيره حدا بالداعي أن يترك غروره ، ويأتي ذليلاً ليجد ربه عنده شأنه في ذلك شأن كل قلب منكسر يكون الله عنده . ومع الانكسار يردد الداعي : يا رب جئتك :

« مستقيلاً » .

والإِستقالة : طلب الإِقالة . أما الإِقالة فهي : طلب أحد المتبايعين الفسخ من صاحبه ، وتطلق الإِستقالة ، ويراد بها أن يرفعه من سقوطه ، ومن عثرته (٢) .

وهذا المعنى الثاني : هو الذي يطلبه الداعي من ربه فهو يريد منه عز وجلّ ان يرفعه من عثراته ، وزلاته ، وهو معنى يراد به ان لا يرتب المولى الآثار المترتبة على ما إقترفه من ذنب ، وما صدر منه من منافيات كانت موجبة لسقوطه في المهاوي السحيقة ، وسيأتي في فقرات الدعاء الآتية من قوله : « واقلني عثرتي ، وإغفر زلتي » . ويا رب مع طلب الإِستقالة جئتك :

« منيباً » :

والإِنابة : هي الرجوع ، والعودة الى الشيء مرة بعد أخرى يقال : نابت السباع الى المنهل والنحل تنوب الى الخلايا . والى الله

__________________

(١) أصول الكافي : باب التواضع / حديث (١١) .

(٢) أقرب الموارد : مادة ( قيل ) .

٢٤٦
 &

بمعنى : تاب . وفلان لزم الطاعة لله (١) .

والانابة هنا هي العودة الى الله في كل الأمور لا في البعض دون البعض ، وإلا لما كان الداعي تائباً ، ومخلصاً في اعترافه ، وإعتذاره بأنه عاد الى حرم الله يلتمس منه الصفح ، والتوبة .

فالعودة الى الله معناها : العودة الى الطريق المستقيم ، ومراقبة الله في كل صغيرة ، وكبيرة ، وفي السر والعلانية ، والشعور بان الله مطلع عليه في كل الحركات والسكنات .

يقول اسحق بن عمار : « قال أبو عبد الله « عليه السلام » يا اسحق خف الله كأنك تراه ، وان كنت لا تراه ، فإنه يراك ، فان كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت ، وان كنت تعلم أنه يراك ،ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك » (٢) .

وأخيراً يا إلۤهي لا آخراً فقد أتيتك يا رب :

« مقراً مذعناً معترفاً » .

أما الإِقرار : فهو إثبات الشيء .

والاذعان : هو الإِنقياد يقال : ناقة مذعان أي منقادة .

والإِعتراف : هو الإِقرار ، وأصله إظهار معرفة الذنب وذلك ضد الجحود (٣) .

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة ( نوب ) .

(٢) أصول الكافي : باب الخوف والرجاء من كتاب الايمان والكفر / حديث (٢) .

(٣) لسان العرب ، والمفردات في غريب القرآن المواد التالية : ( قر ) ( ذعن ) ( عرف ) .

٢٤٧
 &

والداعي بهذه الفقرات يثبت على نفسه بأنه مذنب ويبين ان هذا الإِقرار إنما يصدر عن إنقياده بتسجيل ذلك عليه لا بدافع من أحد ، أو بإكراه من الغير عليه .

وحيث كان الإِقرار هو الإِثبات ، إما بالقلب ، وإما باللسان وإما بهما ، فإن ذلك قد يكون هو المنطلق لما ذهب اليه البعض من القول :

بإن الإِقرار : هو القول باللسان .

والإِذعان : هو الاعتقاد بالجنان .

والإِعتراف : هو الإِقرار مع الإِعتقاد (١) .

وعلى هذا يظهر لنا السبب في هذا الجمع بين الإِقرار ، والإِعتراف والإِذعان ليجعل الداعي من إقراره بذنوبه ، وجرائمه إقراراً كاملاً لأنه يقف بين يدي ربٍ مطلع على جميع الخفايا ولا يخفى عليه شيء .

( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ) (٢) .

فلن يمكن إذاً ستر شيء عليه ، ولا إخفاء نيةٍ عنه لاطلاعه على ما في الأرض والسماء ، وما بينهما ، وما فيهما ، وهو بكل شيء عليم .

كل ذلك من صفاته تعالى . والعبد يناجي هذا الرب فكيف يخفي عليه شيئاً ؟

__________________

(١) شرح دعاء كميل للقاضي السبزواري : ١٣٩ .

(٢) سورة آل عمران : آية (٥) .

٢٤٨
 &

« لا أجد مفراً مما كان مني ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري » .

وهذه حقيقة لا بد من الخضوع إليها والاعتراف بها تلك هي :

ان الداعي ، وقد تصور نفسه محاطاً بذنوبه ، وملزماً بها فهي تطوقه وتلتف عليه فلا يجد لنفسه مهرباً من تبعاتها ، ولا ملجأ يلجأ إليه منها إلا أمل واحد قبه يتمكن من انقاذ نفسه من الحساب العسير ، وذلك هو :

« غير قبولك عذري » .

وقد جعل الداعي قبول الله لعذره هو الملجأ ، والمفزع إليه ، وبذلك يحصل له الاطمئنان ، والراحة النفسية .

« وإدخالك إياي في سعة من رحمتك »

وقد عطف الدعاء هذه الجملة على ما سبق من طلبه من قوله :

( قبولك عذري ) فهو يريد من ربه أن يقبل عذره ، وفوق ذلك أن يدخله بعد قبول عذره في سعة رحمته ليكون مشمولاً لألطافه وعواطفه لا أن يقبل عذره فقط ، ويتركه بعد ذلك هملاً ، وقد تجاوز عنه فقط بل قد تجاوز عنه وشمله برحمته ليكون من المنظورين له عز وجل . وبذلك تشمله الهداية ، ويخصه بالتوفيق لمواصلة المسيرة في سبيله ، والأخذ بأحكامه الشرعية على إختلافها .

١٣ ـ اللـهم فاقبل عذري ، وارحم شدة ضري ، وفكني من شد وثاقي . يا رب ارحم ضعف بدني ،

٢٤٩
 &

ورقة جلدي ، ودقة عظمي . يا من بدأ خلقي ، وذكري ، وتربيتي ، وبري ، وتغذيتي . هبني لابتداء كرمك ، وسالف برك بي .

يا إلۤهي ، وسيدي ، وربي أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك ، وبعدما انطوى عليه قلبي من معرفتك ، ولهج به لساني من ذكرك ، واعتقده ضميري من حبك ، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك ؟ هيهات انت اكرم من أن تضيع من ربيته ، أو تبعد من أدنيته أو تشرد من آويته ، أو تسلم الى البلاء من كفيته ، ورحمته . وليت شعري يا سيدي ، وإلۤهي ، ومولاي أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة ، وعلى السنٍ نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة ، وعلى قلوب اعترفت بإلۤهيتك محققة ، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة ، وعلى جوارح سعت الى أوطان تعبدك طائعة ، واشارت بإستغفارك مذعنة . ما هكذا الظن بك ، ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم .

__________________

قد يجد الإِنسان نفسه وحيداً وسط أسلاك شائكة من الآلام الروحية ، والمضايقات النفسية نتيجة قيامه بأعمال مخالفة لما تمليه عليه

٢٥٠
 &

القوانين الشرعية ، ونتيجة تصرفات لا تنسجم مع القوانين التي يتوخى من ورائها صلاح المجتمع .

وحيث يعجز الإِنسان عن الوصول الى حلٍ ينقذه من ذلك ، يتجه الى ربه ليستعطفه بكل الوسائل التي يأمل من ورائها ان يجلب رضاه .

وللإِستعطاف صور عديدة يتفنن الإِنسان في الإِقدام عليها .

فمرة : نراه يقدم عليه بكل عزيز ممن له المكانة السامية عنده .

وأخرى : يتقرب اليه بالصدقات ، والخيرات .

وثالثة : يتملق اليه باللسان ، والالتماس يطلب منه الصفح أو العون .

ورابعة : يتقرب اليه بما يرغب فيه من التوبة ، والعبادة .

وهكذا يبقى العبد المذنب يبحث عن الطرق التي يتوخى من ورائها العطف ليستدر الرحمة من ربه فيصل الى غايته من التجاوز عنه .

والدعاء وان سبق له أن عرض بعض الصور التي يستدر بها الداعي عطف المولى فيما سبق له من الفقرات في الفصول الماضية ، إلا أنه في هذا الفصل الذي نقلناه بكامله أخذ يوجه الداعي الى سلوكية مسلك جديد ، يتوخى من ورائه تحصيل غايته المنشودة من الوصول إلى روح الله ، ورضوانه .

لقد تضمن هذا الفصل ثلاثة مقاطع من صور الإِستعطاف ، وخاتمة يبدأ المقطع الأول من قوله : « يا رب ارحم ضعف بدني » .

٢٥١
 &

ويتضمن هذا المقطع بيان حالات الداعي الجسمية ، والنفسية لربه ، وان هذا المخلوق الضعيف لا يقوى على تحمل الجزاء المترتب على ما صدر منه من مخالفات كان رائده فيها هو الشيطان . لذلك يطلب الرفق من ربه بهذا البدن المكون من لحم ودم وعظم ، وعصب ، وكلها مواد لا تقوى على التعذيب الدنيوي فضلاً عن التعذيب الأخروي .

وأما المقطع الثاني : فيبدأ من قوله : « يا من بدء خلقي ، وذكري ، وتربيتي » . الخ .

وينحو الدعاء في فقرات هذا المقطع الى جلب عطف الله من طريق إستعراض أياديه الكريمة عليه ، وأنه بدأ بالنعم ، والفضل من أول مسيرته الحياتية فكيف يتركه بعد توسطه أمواج هذه الحياة العاتية لا يملك لنفسه أي نفع ، ولا يدفع عنها أي ضرر . فهو يطالبه بإدامة ما عوده عليه من أيادي بيضاء .

أما المقطع الثالث : فيبدأ من قوله : « يا إلۤهي ، وسيدي أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك » . إلى آخر الفصل .

وفي هذه الفقرات من المقطع الثالث يكون الإِستعطاف قد أخذ شكلاً جديداً . فالداعي يستعطف ربه من طريق اجراء المعادلات الحسابية حيث يبدأ بالموازنة بين نواياه وعقائده التي إنطوى عليها قلبه من توحيد الله ، وعدم الشرك به ، وما لهج به لسانه من ذكر الله ، ومدحه ، والثناء عليه ، وغير هذا من تعظيم خالقه ، وبين ذنوبه ، وما قام به من أعمال لم تكن صدرت منه عن عناد ، وسوء قصد ، بل عن هوى النفس ، وغرور يلازم طبيعة الإِنسان ، وعلى الأخص في

٢٥٢
 &

مراحل الشباب ، وعنفوان شهواته الجنسية .

وأخيراً يستنتج من هذه المعادلة : ان الجانب المشرق يرجح على الجوانب المظلمة ، وتكون الآثار المرتبة على مَن عبد الله ، وخضع له مقدمة على تأثير تلك الأعمال القبيحة .

لقد نصب الداعي من نفسه حكماً على نفسه ، وأصدر الحكم لصالحه معتمداً على الصفات التي تحلى بها الله من العفو والكرم ، واللطف ، والحلم والشفقة ، والتي جعلت منه كريماً يطمع كل شقي في كرمه ، وغفرانه ، ورعايته .

ومع المقاطع الثلاثة في هذا الفصل :

« اللهم فاقبل عذري وارحم شدة ضري وفكني من شد وثاقي »

والضر : هو : ضد النفع ، وسوء الحال ، والشدة (١) .

وجاء في بعض المصادر اللغوية : أن الضر بالفتح شائع في كل ضرر ، وبالضم خاص بما في النفس كمرض ، وهزال . (٢) .

أما الوثاق : فهو ما يشد به من قيدٍ ، أو حبل ، أو نحوهما (٣) .

ويصور الداعي في هذه الفقرات نفسه وقد أوثقته الذنوب كالحبل الذي يشد الانسان لذلك يطلب بتوسله هذا من ربه ان يقبل عذره ، ويرحم سوء حاله ، ويخلصه من المشاكل التي جعلته مكتوفاً ، وموثوقاً بها .

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣) أقرب الموارد : مادة : ضرر ، ووثق .

٢٥٣
 &

فمنه يطلب العون ، واليه تمد الأيدي ، والى ساحته تؤم قوافل المذنبين .

« يا رب ارحم ضعف بدني »

وبدأ الداعي يستعطف الخالق ليرحم ضعف بدنه هذا البدن الضعيف من أول تكوينه ، ومن أول لحظة يبدأ فيها خلاياً منوية تبدأ مسيرتها من صلب الرجل لتستقر في وعاء الرحم ، ومن ثم يتدرج ليكون جنيناً ، ويتطور ليخرج الى عالم الوجود ، ويعيش فيقضي دور الطفولة ، وهكذا ليطوي دور الشباب ، بعد كل هذا يمر دور الشيخوخة ، وهو في كل هذه المراحل ، والأدوار ضعيف لا يقوى على شيء .

يقول تعالى : ( اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ) (١) .

ان الآية الكريمة يدل منطوقها تقسيم مراحل الإِنسان الى ثلاثة :

ذكرت انه ضعيف في مرحلتين ، وهما مبدأه ، وشيخوخته . ووصفته بالقوة في المرحلة المتوسطة بين المبدأ والشيخوخة ، وهي : مرحلة الشباب ، وعنفوان الصحة ، وهيجان الغرائز الجنسية .

ولكنا ومع هذا الوصف القرآني بالإِمكان أن نقول :

بأن الإِنسان ضعيف في جميع أدواره ، ومراحله حتى في فترة شبابه والتي اطلق القرآن عليها ( صفة القوة ) ، وذلك لأن القوة في لسان

__________________

(١) سورة الروم : آية (٥٤) .

٢٥٤
 &

الآية الكريمة هي القوة نظراً للمرحلتين : المبدأ ، والمنتهى . فالإِنسان بالنسبة الى طفولته ، وشيخوخته يختلف عن دور شبابه فإنه قوي في هذه الفترة ، وفي كامل نشاطه إلا أنه : وهو في هذه الحالة ضعيف لا يقوى على الوقوف أمام الغرائز النفسية ، والميول الشهوانية .

وهو في هذه المرحلة كبقية مراحل حياته عرضة للامراض ، والنكبات المؤلمة تدميه الشوكة ، وتزعجه الذبابة ، فهو ضعيف أمام كل هذا وغيره من العوارض . فهو اذا ضعيف رغم جبروته ، وتكبره .

ولا منافاة بين أن يكون هذا البدن ضعيفاً من هذه الجهات ، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ متناسق الأعضاء ، والاجزاء في كل أعصابه وخلاياه يسير بدقة متناهية من حيث التنظيم الجسمي . فإن التناسق ، والإِتقان ، والدقة في الهيكل شيء ، وضعف البنيّة الجسدية شيء آخر ـ وعلى سبيل المثال ـ فإنا نشاهد بعض الساعات الصغيرة الحجم منتظمة العمل دقيقة الضبط ، ولكنها عرضة لكل طارئة ، ولربما يؤثر الملقط الصغير على بعض أجزائها لو اراد المصلح ان يمسكه بقوة ، ولا ينافي ذلك أن يقال : أنها ساعة قوية ، ومتينة .

والداعي بتوسله الى ربه أن يرحم ضعف بدنه ينظر الى هذه الجهة من عدم قدرة بدنه في الوقوف أمام الأعراض ، والأمراض ولأزمات النفسية . وهو بعد كل هذا هيكل مركب من لحمٍ ودم وعظم . وكل هذه لا تتحمل الحرق بالنار نتيجة ما إقترفه الداعي من ذنب .

ولم يكتف الداعي من التوسل الى ربه بضعف بدنه ، بل عرض صفة أخرى من أجزائه الجسدية ، والتي لا تقوى هي أيضاً امام ما سيحل

٢٥٥
 &

بها من عذاب متوقع بعد ارتكاب الذنوب وقد عبر عنها بقوله :

« ورقة جلدي » .

والجلد : أحد أعضاء الجسم العامة . وهو يؤدي عدداً من الوظائف الحيوية . فهو يقوم بدور الحاجز الواقي من الجراثيم ، وهو بمثابة درعٍ يحمي الأنسجة الرقيقة الحساسة التي تقع تحته من الإِصابات الميكانيكية ، وغيرها . وهو يؤدي عمل العازل للحرارة ، والبرودة . ويعين على طرح الفضلات من داخل الجسم الى خارجه على شكل ( عرق ) . وهو يدرأ التعرض الزائد للأشعة فوق البنفسجية الشمسية ، وذلك بما ينتجه من خضابٍ واقٍ . وهو بما يحويه من متلقيات الإِحساس يتيح للجسم ان يحس بالالم ، والبرد ، والحرارة ، واللمس ، والضغط .

تركيب الجلد : ويتركب الجلد من جزئين جوهريين ، وهما :

١ ـ البشرة ، او الطبقة الخارجية .

٢ ـ الأدمة ، أو الطبقة الداخلية .

١ ـ البشرة : وهي أقل غلظة من الأدمة ، وتتكون من بضع طبقات تختلف أنواع خلاياها .

أما عدد خلايا البشرة : فيختلف بإختلاف مواضع الجسم ، وهو على أعظم ما يكون في راحتي اليدين ، وأخمص القدمين حيث يكون الجلد على أغلظه .

٢ ـ الأدمة : وتقع تحت البشرة ، وهي الطبقة الثخينة من الجلد وتتكون من نسيج ضامٍ يحتوي على أوعية دموية ، وأعصاب .

٢٥٦
 &

وللأدمة بروزات في داخل البشرة تتكون منها نتؤات تسمى ( الحليمات ) وفي هذه الحليمات تنتهي الأعصاب التي تمتد خلال الأدمة ، وعن طريق هذه الأعصاب يحدث الشعور بمختلف الإِحساسات الجلدية مثل : اللمس ، والألم ، والضغط ، والحرارة والبرودة (١) .

هذا الجلد المكون من أنسجة ، وأوعية دموية . وهو مجموعة أعصاب رقيقة يحق للداعي ان يتوسل الى ربه في عدم تعريضه للحرق بالنار وللداعي الحق في أن يضج في التوسل الى الله تعالى في أن يرحم رقة جلده بعد ما رأى الله عز وجل يخبر عن مجازات المذنبين في الآية الكريمة : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (٢) .

كلما نضجت جلودهم . . . بدلناهم جلوداً غيرها ، وهكذا تستمر عملية التعذيب تبعاً لعظم الذنب ، وحجم الجريمة .

وهكذا وقبل أن ننتقل الى الفقرة التالية يحسن بنا التطرق الى مشكلة تبديل الجلد بعد نضجه حسبما جاء في منطوق الآية . فما معنى تعذيب الجلد الجديد مع أنه ليس هو الجلد الذي كان حين العصيان إن هذا الجلد لم يكن موجوداً حين عصى البدن ، وصدر منه الذنب فما ذنبه ليحترق ، وليأتي غيره ، ويحترق بعد احتراق هذا ، وهكذا إذاً فلنستمع الى محاورة جرت بين الإِمام الصادق « عليه السلام » وإبن أبي العوجاء في هذا الموضوع .

__________________

(١) لاحظ الموسوعة الطبية الحديثة : مادة جلد / جزء (٥) ص (٦٦٤) .

(٢) سورة النساء : آية (٥٦) .

٢٥٧
 &

يقول حفص بن غياث القاضي : « كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد « عليه السلام » لما قدمه المنصور ، فأتاه ابن أبي العوجاء ، وكان ملحداً فقال ما تقول في هذه الآية : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير ؟ قال أبو عبد الله : ويحك هي هي ، وهي غيرها . قال : أعقلني هذا القول . فقال له : أرأيت لو أن رجلاً عمد الى لبنة ، فكسرها ثم صب عليها الماء ، وجبلها ، ثم ردها الى هيئتها الأولى الم تكن هي هي ، وهي غيرها . فقال بلى : أمتع الله بك (١) .

ويمكن جواب الإِشكال في هذه العبارة : ( هي هي ، وهي غيرها ) في وقت واحد .

ويتصدى الشيخ ابو جعفر الطوسي ( رحمه الله ) وهو من أكابر فقهاء الإِمامية المتقدمين لتفسير مثل هذه العبارة فيقول :

« ان الله يجددها بأن يردها الى الحالة التي كانت عليها غير محترقة كما يقال : جئتني بغير ذلك الوجه ، وكذلك إذا جعل قميصه قباءً جاز أن يقال : جاء بغير ذلك اللباس ، أو غير خاتمه ، فصاغه خاتماً آخر جاز أن يقال : هذا غير ذلك الخاتم » (٢) .

ولنأخذ مثال الخاتم ، ونطبق عليه قول الإِمام « عليه السلام » .

فباعتبار المادة وهي الفضة ـ مثلاً ـ فهو هو ، لعدم طرو مادة أخرى عليه ، وهو غيره بإعتبار اختلاف الصياغة . وكذلك الحال في الجلود ،

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن : ج (٤) ص (٤٠٩) نقلا عن مجالس الشيخ .

(٢) تفسير التبيان : ٣ / ٣٣٠ / المطبعة العلمية في النجف الاشرف .

٢٥٨
 &

فإن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة .

فبدن الإِنسان كأجزاء بدنه باقٍ على وحدته ما دام الإِنسان هو الإِنسان ، وان تغير البدن بأي تغيير حدث فيه (١) .

وقد إختار هذا الوجه : الزجاج ، والبلخي ، وأبو علي الجبائي ، وقال عنه الشيخ الطوسي : « أنه هو المعتمد » (٢) .

« ودقة عظمي » .

والعظم : هو النسيج الصلب الذي يكون الجزء الأكبر من الهيكل البشري ويتكون الجهاز الهيكلي للإِنسان : من مائتين ، وستة من العظام المستقلة يربط بعضها الى بعض عند المفاصل ( أربطة ) ، وتدفعها الى الحركة ( عضلات ) ، وتثبتها في العظام ( أوتار ) .

تركيب العظم : وليس العظم متجانساً في بنيانه ، وتركيبه ، بل يتكون من عدد من الطبقات من مواد مختلفة .

الطبقة الأولى : ويطلق عليها إسم ( السمحاق ) ، وهو كما تعرفه الموسوعات الطبيّة : غشاء ليفي ضامٍ يستر سطح العظم ما عدا نهايته ، وينطبق عليه إنطباقاً تاماً ، وهو شديد الإِلتصاق ، ويشتد التصاقه بالسطوح العظيمة غير المنتظمة التي تكثر فيها التعرجات والنتؤات ، والشوامخ ، والقنازع .

والسمحاق غني بالأوعية الدموية ، وفي طبقته العميقة خلاياً نشيطة بإمكانها أن تولد المادة العظمية .

__________________

(١) لاحظ تفسير الميزان : ٤ / ٤٠٩ ـ ٤١٠ .

(٢) تفسير التبيان : ٣ / ٣٣٠ / المطبعة العلمية في النجف الاشرف .

٢٥٩
 &

الطبقة الثانية : النسيج العظمي ويوجد فيه ما يلي :

أ ـ أقنية دقيقة : يختلف قطرها موازية لمحور العظم ، ومتصلة فيما بينها ، وتشتمل على الياف عصبية رقيقة ، واوعية دموية تنفذ اليها من الثقب المغذية للعظم .

ب ـ المادة العظمية : وتتشكل من صفيحات عظمية ملتصقة على بعضها بصورة مختلفة ، وفي وسط هذه الصفيحات الخلايا العظمية ، وتسمى مصورات العظم ، وهي خالية من الغشاء ، ولها كثير من الإِستطالات الهيولية تربط فيما بينها ، وتفرز المواد الخلالية العظمية اللازمة لها من الدم .

ج ـ النسيج الإِسفنجي : ويتشكل من حجبٍ دقيقة عظمية تحدد أجوافاً منتظمة يملؤها النقي الأحمر « المخ الأحمر » خلاياه مشبعة بخضاب الدم « هيمو غلوبين » .

د ـ النسيج الغضروفي : ويستر رأس العظم ، وهو نسيج أبيض لامع مرن يتشكل من خلايا مدورة كبيرة ، وتسمى « مصورات الغضروف » تجتمع اثنان منها ، أو أربع تحيط بها محفظة ، وتظل أمداً طويلاً محتفظة بخاصة النمو ، والإِنقسام ، وتحدث مادة خلالية تتألف من ( ٢ ـ ٣ ٪ ) من مواد معدنية ، ومادة أجنبية ، وإذا ما غليت انقلبت الى الجلاتين .

الطبقة الثالثة : النقي « مخ العظم » .

ويوجد في وسط العظام الطويلة قناة يملأها ( النقي ) وهو مادة صفراء في جسم العظم .

٢٦٠